أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٩

(لِباساً) : أي ساترا بظلامه وسواده.

(وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) : أي وقتا للمعاش كسبا وأكلا.

(شِداداً) : أي قوية محكمة الواحدة شديدة والجمع شداد.

(سِراجاً وَهَّاجاً) : أي ضوء الشمس وهاجا وقادا.

(الْمُعْصِراتِ) : أي السحابات التي حان لها أن تمطر كالجارية المعصر التي دنا وقت حيضها.

(ثَجَّاجاً) : أي صبابا.

(وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) : أي بساتين ملتفة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) أي عن أي شيء يتساءل رجال قريش فيسأل بعضهم بعضا إنهم يتساءلون (عَنِ (١) النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) إنه ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوحيد والنبوة والبعث الآخر. قال تعالى ردعا لهم وتخويفا (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) (٢) عند نزع أرواحهم عاقبة تكذيبهم لرسولنا وإنكارهم لتوحيدنا ولقائنا ، (ثُمَّ كَلَّا (٣) سَيَعْلَمُونَ) يوم يبعثون من قبورهم ويحشرون إلى نار جهنم حين لا ينفعهم علم ولا يجديهم إيمان. وقوله تعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) الآيات فذكر تعالى من مظاهر القدرة والعلم والرحمة والحكمة ما يوجب الإيمان به وبتوحيده ورسوله ولقائه لو كان القوم يعقلون فقال (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ (٤) مِهاداً) أي فراشا ووطاء للحياة عليها؟ وهل يتم هذا بدون علم وقدرة (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) تثبت الأرض بها فيأمنون على حياتهم من الميدان وسقوط كل بناء (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) الخلق مظهر من مظاهر القدرة والعلم وكونهم أزواجا مظهر (٥) من مظاهر الحكمة والرحمة (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي راحة لأبدانكم. (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) ساترا بظلامه. (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) للعيش كسبا له وتمتعا به. (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) وهي السموات

__________________

(١) (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) متعلق بمحذوف تقديره يتساءلون عن النبأ العظيم وهو الخبر الكبير وهو البعث بعد الموت إذ العرب فيه ما بين مصدق ومكذب ، ويدل عليه السياق.

(٢) (كَلَّا) حرف ردع ومعمول سيعلمون محذوف تقديره «سيعلمون» بما فيه تكذيبهم بالبعث والنبوة والتوحيد.

(٣) (كَلَّا) هنا بمعنى حقا سيعلمون صحة ما هم به مكذبوه وله منكرون.

(٤) هذا الاستئناف المبدوء باستفهام تقريري جاء لعرض مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وهي موجبات إيمان به وبلقائه ونبوة رسوله وعبادته وحده دون سواه.

(٥) الزوج : هو مكرر الواحد وشاع إطلاق الزوج على كل من الذكر والأنثى فالرجل زوج لأنثاه والمرأة زوج لزوجها.

٥٠١

السبع الشديدة القوية البناء لا تفنى ولا تزول إلى أن يأذن هو سبحانه وتعالى بزوالها ، (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) هو الشمس المشرقة المضيئة. (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) أي السحابات التي حان لها أن تمطر تشبيها لها بالجارية المعصر التي قاربت الحيض (ماءً ثَجَّاجاً) صبابا وابلا ، وذلك (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) الحب كالبر والذرة لطعامكم ، والنبات كالكلأ والعشب لحيواناتكم ، وجنات أي بساتين ملتفة الأشجار غناء بالثمار المختلف الألوان ، والطعوم كل هذه المذكورات مفتقرة إلى قدرة لا يعجزها شيء وعلم أحاط بكل شيء وحكمة لا يخلو منها شيء ورحمة تعم كل شيء والله وحده ذو القدرة والعلم والحكمة والرحمة فكيف ينكر توحيده ويكذب رسوله ، ويستبعد بعثه للناس يوم القيامة لحسابهم ومجازاتهم على أعمالهم في هذه الدار وهي مختلفة منها الصالح ومنها الفاسد هل من الحكمة في شيء أن يظلم الظالمون ويفسد المفسدون ، ويعدل العادلون ويصلح المصلحون ويموتون سواء ولا يكون هناك حياة أخرى يجزي فيها المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه اللهم لا لا إنه لا بد من حياة أخرى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة الإلهية في كل الآيات من قوله ألم نجعل الأرض مهادا إلى قوله وجنات ألفافا.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء والنبوة والتوحيد وهي التي اختلف الناس فيها ما بين مثبت وناف ، ومصدق ومكذب.

٣ ـ سيحصل العلم الكامل بهذه المختلف فيها بين الناس عند نزع الروح ساعة الموت ، ولكن لا فائدة من العلم ساعتها إذ قضي الأمر وانتهى الخلاف.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا

٥٠٢

لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))

شرح الكلمات :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) : أي الفصل بين الخلائق ليجزي كل امرىء بما كسب.

(كانَ مِيقاتاً) : أي ذا وقت محدد معين لدى الله عزوجل فلا يتقدم ولا يتأخر.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) : أي يوم ينفخ اسرافيل في الصور.

(فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) : أي تأتون أيها الناس جماعات جماعات إلى ساحة فصل القضاء.

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ) : أي لنزول الملائكة.

(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) : أي ذهب بها من أماكنها.

(فَكانَتْ سَراباً) : أي مثل السراب فيتراءى ماء وهو ليس بماء فكذلك الجبال.

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) : أي راصدة لهم مرصدة للظالمين مرجعا يرجعون إليها.

(لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) : أي دهورا لا نهاية لها.

(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) : أي نوما ولا شرابا مما يشرب تلذذا به إذ شرابهم الحميم.

(وَغَسَّاقاً) : أي ما يسيل من صديد أهل النار ، جوزوا به عقوبة لهم.

(جَزاءً وِفاقاً) : إذ لا ذنب أعظم من الكفر ، ولا عذاب أعظم من النار.

(كِذَّاباً) : أي تكذيبا.

(فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) : أي فوق عذابكم الذي أنتم فيه.

معنى الآيات :

بعد أن ذكر تعالى آيات قدرته على البعث والجزاء الذي أنكره المشركون واختلفوا فيه ذكر في هذه الآيات عرضا وافيا للبعث الآخر وما يجري فيه ، وبدأ بذكر الأحداث للانقلاب الكوني ، ثم ذكر جزاء الطاغين تفصيلا فقال عزوجل (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي بين الخلائق (كانَ مِيقاتاً) (١) لما أعد الله للمكذبين بلقائه الكافرين بتوحيده المنكرين لرسالة نبيه فيه ، يجزيهم الجزاء الأوفى ، ثم ذكر تعالى أحداثا تسبقه فقال (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي يوم ينفخ إسرافيل نفخة البعث وهي الثانية (فَتَأْتُونَ) أيها الناس (أَفْواجاً) أي جماعات. (وَفُتِحَتِ السَّماءُ) أي انشقت (فَكانَتْ أَبْواباً) لنزول الملائكة منها (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) هباء منبثا كالسراب في نظر الرائي. وقوله تعالى

__________________

(١) قال القرطبي : أي وقتا مجمعا للأولين والآخرين لما وعد الله من الجزاء وسمي بيوم الفصل لأن الله تعالى يفصل فيه بين الخلائق.

٥٠٣

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) (١) أي إنه بعد الحساب يأتي الجزاء وها هي ذي جهنم قد أرصدت واعدت فهي مرصاد ، مرصاد لمن؟ (لِلطَّاغِينَ) المتجاوزين الحد الذي حدد لهم وهو أن يؤمنوا بربهم ويعبدوه وحده ويتقربوا إليه بفعل محابه وترك مكارهه فتجاوزوا ذلك إلى الكفر بربهم والإشراك به وتكذيب رسوله وفعل مكارهه وترك محابه هؤلاء هم الطاغون الذي أرصدت لهم جهنم فكانت لهم مرصادا ومرجعا ومآبا (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) (٢) أي دهورا ، (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) (٣) أي نوما لأن النوم يسمى البرد في لغة بعض العرب ، (وَلا شَراباً) ذا لذة (إِلَّا حَمِيماً) وهو الماء الحار (وَغَسَّاقاً) وهو ما يسيل من صديد أهل النار (جَزاءً وِفاقاً) أي موافقا لذنوبهم لأنه لا أعظم من الكفر ذنبا ولا من النار عذابا ثم ذكر تعالى مقتضى هذا العذاب فقال (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) أي ما كانوا يؤمنون بالحساب ولا بالجزاء ولا يخافون من ذلك (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) أي بآياته وحججه تكذيبا زائدا. وقوله تعالى (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) إذ كانت الملائكة تكتب أعمالهم وتحصيها عليهم فهم يتلقون جزاءهم العادل ويقال لهم توبيخا وتبكيتا وهم في أشد العذاب وأمره (فَذُوقُوا (٤) فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) فيعظم عندهم الكرب ويستحكم من نفوسهم اليأس. وهذا جزاء من تنكر لعقله فكفر بربه وآمن بالشيطان وعبد الهوى. والعياذ بالله تعالى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بالطغيان وبيان جزاء الظالمين.

٢ ـ التنديد بالتكذيب بالبعث والمكذبين به.

٣ ـ أعمال العباد مؤمنهم وكافرهم كلها محصاة عليها ويجزون بها.

٤ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر آثارها.

٥ ـ أبدية العذاب في الدار الآخرة وعدم امكان نهايته.

__________________

(١) قال الحسن : إن على النار رصدا لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه فمن جاء بجواز جاز ومن لم يجيء بجواز حبس والمرصاد : المكان للرصد أي الرقابة.

(٢) قال القرطبي : أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب وهي لا تنقطع كلما مضى حقب جاء حقب والحقب بضمتين والأحقاب الدهور والحقبة بالكسرة السنة والجمع حقب قال الشاعر :

كنا كندماني جذيمة حقبا

من الدهر حتى قيل لنا يتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالك

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

والحقب بالضم والسكون ثمانون سنة.

(٣) من شواهد البرد بمعنى النوم قول العرب منع البرد البرد. أي منع البرد النوم ومنه قول الشاعر :

ولو شئت حرمت النساء سواكم

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

(٤) قال أبو برزة سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشد آية في القرآن؟ فقال : قوله تعالى : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً).

٥٠٤

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

شرح الكلمات :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) : أي الذين اتقوا الشرك والمعاصي خوفا من ربهم وعذابه.

(مَفازاً) : أي مكان فوز ونجاة وهو الجنة.

(حَدائِقَ وَأَعْناباً) : أي بساتين وأعنابا.

(وَكَواعِبَ) : أي شابات تكعبت ثديهن الواحدة كاعب والجمع كواعب.

(أَتْراباً) : أي في سن واحدة وأتراب جمع واحده ترب.

(وَكَأْساً دِهاقاً) : أي خمرا كأسها ملأى بها.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها) : أي في الجنة لغوا أي باطلا ولا كذبا من القول.

(عَطاءً حِساباً) : أي عطاء كثيرا كافيا يقال أعطاني فأحسبني.

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) : ملك عظيم يقوم وحده صفا والملائكة صفا وحدهم.

(مَآباً) : أي مرجعا سليما وذلك بالإيمان والتقوى إذ بهما تكون النجاة.

(ما قَدَّمَتْ يَداهُ) : أي ما أسلفه في الدنيا من خير وشر.

(يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) : أي حتى لا أعذب وذلك يوم يقول الله تعالى للبهائم كوني ترابا وذلك بعد الاقتصاص لها من بعضها بعضا.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء المستلزمة لعقيدة التوحيد والنبوة بعد أن

٥٠٥

ذكر تعالى حال الطغاة الفجار وبين مصيرهم غاية البيان ثنى بذكر المتقين الأبرار وبين مصيرهم وأنه جنات تجري من تحتها الأنهار فقال وقوله الحق وخبره الصدق (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ (١) مَفازاً) أي مكان فوز ونجاح وبينه بقوله (حَدائِقَ) (٢) أي بساتين (وَأَعْناباً وَكَواعِبَ) جمع كاعب الفتاة ينكعب ثديها أي يستدير ويرتفع كالكعب وذلك عند بلوغها وقوله في وصفهن (أَتْراباً) جمع ترب أي في سن واحدة دون الثلاثين سنة (وَكَأْساً (٣) دِهاقاً) أي كأس خمر ملأى (لا يَسْمَعُونَ) أي في الجنة (لَغْواً وَلا كِذَّاباً) لا قولا باطلا ولا كذبا. وقوله تعالى (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) أي جزاهم ربهم بذلك فجعله عطاء كافيا و (٤) وصف الجبار نفسه تعليما وتذكيرا فأبدل من قوله من ربك : قوله (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) أي مالكهما والمتصرف فيهما (الرَّحْمنِ) رحمان الدنيا والآخرة ورحيمها (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) ملك عظيم لا يقادر قدره وحده صفا (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) هنا لا يملك أحد من الخلق من الرحمن خطابا وقوله (لا يَتَكَلَّمُونَ) بين يديه (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ (٥) الرَّحْمنُ وَقالَ) قولا (صَواباً) وفي الصحيح أن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أول من يكلم الله عزوجل في الموقف حيث يأتي تحت العرش فيخر ساجدا فلا يزال ساجدا يحمد الله تعالى بمحامد يلهمها ساعتئذ فيقول له الرب تعالى ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع وقوله تعالى (ذلِكَ (٦) الْيَوْمُ الْحَقُ) الذي لامرية فيه ولا شك وهو يوم الفصل وبناء عليه (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) أي مرجعا إليه بالإيمان والطاعة. وقوله تعالى (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) أي خوفناكم عذابا قريبا جدا يبتدىء بالموت ولا ينتهي أبدا ، وذلك (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من خير أو شر أي يرى جزاء عمله عيانا إن كان عمله خيرا جزي بمثله وإن كان شرا جزي بمثله. (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) إنه لما يرى البهائم بعد القصاص لها صارت ترابا يتمنى الكافر وهو في عذابه أن لو كان ترابا مثل البهائم ولو لا العذاب وشدته ودوامه لما تمنى أن يكون ترابا أبدا.

__________________

(١) المتقون هم الذين اتقوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه فحافظوا بذلك على زكاة نفوسهم فاستوجبوا لذلك الجنات واستحقوها فاللام للمتقين هي لام الاستحقاق.

(٢) (حَدائِقَ) بدل بعض من كل والحدائق جمع ، حديقة ، البستان : المحاط بجدار.

(٣) دهاقا بمعنى ملأى وهذا من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول فالدهاق كالدهق مصدر وأريد به المدهوق أي المملوء.

(٤) كافيا : تفسير كلمة حسابا إذ من أعطي ما يكفيه يقول حسبي.

(٥) الإذن اسم للكلام الذي يفيد إباحة فعل أو قول للمأذون ، وهو مشتق من أذن له إذا استمع إليه. نحو : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ).

(٦) هذه الجملة كالفذلكة لما تقدم من وعد ووعيد وإنذار وتبشير سيق مساق التنويه بيوم الفصل الذي هو اليوم الحق الثابت قطعا.

٥٠٦

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان كرامة المتقين وفضل التقوى.

٢ ـ وصف جميل لنعيم الجنة.

٣ ـ ذم الكذب واللغو وأهلهما.

٤ ـ بيان شدة الموقف وصعوبة المقام فيه.

٥ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٦ ـ الترغيب في العمل الصالح واجتناب العمل السيء الفاسد.

سورة النازعات

مكية وآياتها ست وأربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤))

شرح الكلمات :

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) : أي الملائكة تنزع أرواح الفجار والكفار عند الموت بشدة.

(وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) : أي الملائكة تنشط أرواح المؤمنين الصالحين نشطا أي تسلها برفق.

(وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) : أي الملائكة تسبح من السماء بأمر الله أي تنزل به إلى الأرض.

(فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) : أي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة.

(فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) : أي الملائكة تدبر أمر الدنيا أي تنزل بتدبيره من لدن الله المدبر الحكيم.

٥٠٧

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) : أي النفخة الأولى نفخة الفناء التي يتزلزل كل شيء معها.

(تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) : أي النفخة الثانية.

(واجِفَةٌ) : أي خائفة قلقة.

(أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) : أي أنرد بعد الموت إلى الحياة إذ (١) الحافرة اسم لأول الأمر.

(تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) : أي رجعة إلى الحياة خاسرة.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) : أي نفخة واحدة.

(فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) : أي بوجه الأرض أحياء سميت ساهرة لأن من عليها بها يسهر ولا ينام.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالنَّازِعاتِ (٢) غَرْقاً) الآيات هذا قسم عظيم أقسم تعالى به على أنه لا بد من البعث والجزاء حيث كان المشركون ينكرون ذلك حتى لا يقفوا عند حد في سلوكهم فيواصلوا كفرهم وفسادهم جريا وراء شهواتهم كل أيامهم وطيلة حياتهم كما قال تعالى (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) فأقسم تعالى بخمسة أشياء وهي النازعات والناشطات والسابحات والسابقات والمدبرات ، ورجح أنهم أصناف من الملائكة وجائز أن يكون غير (٣) ذلك ولا حرج إذ العبرة بكونه تعالى قد أقسم ببعض مخلوقاته على أن البعث حق ثابت وواقع لا محالة ، وتقدير جواب القسم بلتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم إذ هو معهود في كثير من الإقسام في القرآن كقوله تعالى من سورة التغابن (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وسيتم ذلك البعث والجزاء (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) (٤) التي هي النفخة الأولى التي ترجف فيها العوالم كلها ويفنى فيها كل شيء ، ثم (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) وهي النفخة الثانية وهي نفخة البعث من القبور أحياء وأن بين النفختين

__________________

(١) يقال : رجع فلان إلى حافرته أي في طريقه التي جاء فيها فحفرها برجليه وهو يمشي قال الشاعر :

أحافرة على صلع وشيب

معاذ الله من سفه وعار

أي أرجع إلى حالة الشباب بعد الصلع والشيب ، والشاهد في إنكاره الرجوع إلى حياته الأولى.

(٢) (النَّازِعاتِ) جمع نازعة وهي الجماعة من الملائكة والنزع هو اخراج الروح من الجسد مشبه بنزع الدلو من البئر. ولذا يقول فلان في حالة النزع للمحتضر وغرقا اسم مصدر عدل عن المصدر الذي هو إغراقا لمناسبة سبحا ونشطا وسبقا في الآيات ومعناه الإغراق في نزع الروح من أقصى الجسد.

(٣) إذ يرى بعضهم أنها النجوم ويرى بعضهم أنها جماعات الخيل الغازية ، والرماة أو الفرسان إلا أن الراجح أنها الملائكة ، فالنازعات الملائكة تنزع أرواح الكافرين والنشاطات تنشط أرواح المؤمنين نشطا تأخذها بسرعة كما ينشط العقال من يد البعير والسابحات تسبح بأرواح المؤمنين ترفعها إلى الملكوت الأعلى ، فالسابقات الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء ، فالمدبرات ، الملائكة تقوم بتدبير ما أسند الله إليها كقبض الأرواح ، وإنزال الأمطار وإرسال الرياح ، ونفخ الأرواح إلى غير ذلك.

(٤) إطلاق الراجفة والرادفة على الصيحة إطلاق سائغ وهو إطلاق على مسببة الراجفة وهي الصيحة والرادفة التي جاءت بعدها وهي الصيحة الثانية.

٥٠٨

أربعين سنة كما ذكر ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح وقوله تعالى (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي خائفة قلقة (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) أي أبصار أصحاب تلك القلوب خاشعة أي ذليلة خائفة. وقوله تعالى (يَقُولُونَ) أي منكرو البعث (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) أي أنرد بعد الموت إلى الحياة من جديد كما كنا أول مرة ، (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) أي بالية مفتتة وقولهم هذا استبعاد منهم للبعث وانكار له ، وقالوا (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) يعنون أنهم إذا عادوا إلى الحياة مرة أخرى فإن هذه العودة تكون خاسرة وهي بالنسبة إليهم كذلك إذ سيخسرون فيها كل شيء حتى أنفسهم كما قال تعالى قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين. وقوله تعالى (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي صيحة واحدة وهي نفخة اسرافيل الثانية نفخة البعث (فَإِذا هُمْ) أولئك المكذبون وغيرهم من سائر الخلق (بِالسَّاهِرَةِ) أي وجه الأرض وقيل فيها الساهرة لأن من عليها يومئذ لا ينامون بل يسهرون أبدا فرد تعالى بهذا على منكري البعث الآخر وقرره عزوجل بما لا مزيد عليه إعذارا وإنذارا ولا يهلك على الله إلا هالك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الله تعالى يقسم بما يشاء من مخلوقاته بخلاف العبد لا يجوز له أن يقسم بغير ربه تعالى.

٢ ـ بيان أن روح المؤمن تنزع عند الموت نزعا سريعا لا يجد من الألم ما يجده الكافر.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بالإقسام عليها وذكر كيفية وقوعها.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦))

٥٠٩

شرح الكلمات :

(مُوسى) : أي موسى بن عمران عليه‌السلام.

(بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) : أي بالواد الطاهر المبارك المسمى بطوى.

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) : أي بأن اذهب إلى فرعون.

(إِنَّهُ طَغى) : أي تجاوز حده كعبد إلى ادعاء الربوبية والألوهية.

(إِلى أَنْ تَزَكَّى) : أي تسلم فتطهر من رجس الشرك والكفر بالإسلام لله تعالى.

(وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) : أي أرشدك إلى معرفة ربك الحق فتخشاه وتطيعه فتنجو من عذابه.

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) : أي العصا واليد إذ هي من أكبر الآيات الدالة على صدق موسى.

(ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) : أي بعد ما كذب وعصى رجع يجمع جموعه ويحشر جنوده لحرب موسى وقال كلمة الكفر أنا ربكم الأعلى فلا طاعة إلا لي.

(فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) : أي عذبه تعالى عذاب الآخرة وهو قوله أنا ربكم الأعلى وعذاب الأولى وهي قوله ما علمت لكم من إله غيري.

معنى الآيات :

قوله تعالى (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) الآيات .. المقصود من هذه الآيات تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يعاني من تكذيب قومه له ولما جاء به من التوحيد والشرع فقص تعالى عليه طرفا من قصة موسى مع فرعون تخفيفا عليه ، وتهديدا لقومه بعقوبة تنزل بهم كعقوبة فرعون الذي كان أشد منهم بطشا وقد أهلكه الله فأغرقه وجنده .. فقال تعالى (هَلْ أَتاكَ) (١) يا رسولنا (حَدِيثُ مُوسى) بن عمران ، (إِذْ (٢) ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي بالواد المطهر المبارك المسمى طوى ناده فأعلمه أولا أنه لا إله إلا هو وأمره بعبادته ، ثم أمره بأن يذهب إلى فرعون الوليد بن الريان ملك القبط بمصر فقال له (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي عتا وتكبر وظلم فأفحش في الظلم والفساد. وعلمه ما يقول له إذا انتهى إليه (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) (٣) أي إلى أن تسلم فتزكو روحك وتطهر بالإسلام (وَأَهْدِيَكَ (٤) إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) أي وأرشدك إلى ربك وأعرفك به فتخشى أي عقابه فتترك الظلم والطغيان قال تعالى (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) والتي هي اليد والعصا ، (فَكَذَّبَ) فرعون موسى في دعوته (وَعَصى) ربه

__________________

(١) هل الاستفهام هنا صوري المراد به تشويق السامع إلى الخبر ولذا استعمل فيه هل التي هي بمعنى قد للتحقيق أي قد أتاك حديث موسى العجيب فاستمع.

(٢) (إِذْ) اسم زمان بدل اشتمال من حديث موسى.

(٣) قرأ نافع تزكى بتشديد الزاي وقرأ حفص بتخفيفها فمن شددها أدغم فيها إحدى تائي تتزكى ومن خفف حذف احدى التائين لأن أصل الفعل تتزكى بتائين.

(٤) الهداية : الدلالة على الطريق الموصل إلى المطلوب إذا سلكه المرء وصل إلى مرغوبه.

٥١٠

فلم يستجب له ولم يطعه فيما أمره به ودعاه إليه من الإيمان برسالة موسى وإرسال بني إسرائيل معه بعد الإسلام لله ظاهرا وباطنا. (ثُمَّ أَدْبَرَ) فرعون أي عن دعوة الحق رافضا لها (يَسْعى) في الباطل والشر (فَحَشَرَ) رجاله وجنده (فَنادى) أي ناداهم ليعدهم إلى حرب موسى (فَقالَ : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) يعني أنه لا رب فوقه ، (فَأَخَذَهُ اللهُ) أي عذبه (نَكالَ) أي (١) عذاب (الْآخِرَةِ) أي الكلمة وهي قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ونكال الأولى وهي قوله (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وبين الكلمتين الخبيثتين أربعون سنة فالأولى قالها في بداية الدعوة حيث ادعى أنه بحث واستقصى في البحث واجتهد وأنه بعد كل ذلك الاجتهاد لم يعلم أن للناس من قومه من إله سواه. وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ (٢) يَخْشى) أي فيما قص تعالى من خبر موسى وفرعون (لَعِبْرَةً) أي عظة لمن يخشى الله وعذاب الدار الآخرة فيؤمن ويتقي أي فيزداد إيمانا وتقوى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الداعي إلى الله تعالى وحمله على الصبر في دعوته حتى ينتهي بها إلى غاياتها.

٢ ـ اثبات مناجاة موسى لربه تعالى وأنه كلمه ربه كفاحا بلا واسطة.

٣ ـ تقرير أن لا تزكية للنفس البشرية إلا بالإسلام أي بالعمل بشرائعه.

٤ ـ لا تحصل الخشية من الله للعبد إلا بعد معرفة الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء.

٥ ـ وجود المعجزات لا يستلزم الإيمان فقد رأى فرعون أعظم الآيات كالعصا واليد وما آمن.

٦ ـ التنديد والوعيد الشديد لمن يدعي الربوبية والألوهية فيأمر الناس بعبادته.

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣))

__________________

(١) النكل القيد قال تعالى (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) جمع نكل ويطلق النكال على العذاب والهروب منه وأخذ منه فعل نكل تنكيلا أي عذبه تعذيبا فنكال الأولى أي عذاب الأولى ونكال الآخرة عذاب الآخرة كما هو مبين في التفسير.

(٢) (لِمَنْ يَخْشى) : أي يخشى الله تعالى وهو المؤمن التقي إذ مثله النفسي هو الذي يجد العظة والعبرة فيما يعرض عليه من أحداث فاصلة أما الكافر فأنى له أن يسمع حتى يبصر؟

٥١١

شرح الكلمات :

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ)؟ : أي أشد خلقا.

(رَفَعَ سَمْكَها) : أي غلظها وارتفاعها.

(فَسَوَّاها) : أي جعلها مستوية سطحا واحدا ما فيها نتوء ولا انخفاض.

(وَأَغْطَشَ لَيْلَها) : أي أظلمه جعله مظلما.

(وَأَخْرَجَ ضُحاها) : أي ضوءها ونهارها.

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) : أي بعد أن خلق الأرض خلق السماء ثم دحا الأرض أي بسطها وأخرج منها ماءها ومرعاها.

(وَالْجِبالَ أَرْساها) : أي أثبتها على سطح الأرض لتثبت ولا تميد بأهلها.

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) : أي اخرج من الأرض ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم وهي المواشي من الحيوان.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ (١) خَلْقاً) الآيات .. سيقت هذه الآيات الكريمة لتقرير عقيدة البعث والجزاء بايراد أكبر دليل عقلي لا يرده العاقل ابدا وهو أن السماء في خلقها وما خلق الله فيها ، وأن الأرض في خلقها وما خلق الله فيها أشد خلقا وأقوى وأعظم من خلق الإنسان بعد موته فالبشرية كلها لا يساوي حجمها حجم كوكب واحد من كواكب السماء ولا سلسلة واحدة من سلاسل الجبال في الأرض فضلا عن السماء والأرض. إذا فالذي قدر على خلق السماء وما فيها والأرض وما فيها قادر قطعا ومن باب أولى على خلق الإنسان مرة أخرى وقد خلقه أولا فإعادة خلقه بإحيائه بعد موته أيسر وأسهل وأمكن من خلقه أولا على غير مثال سبق ، ولا صورة تقدمت ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون لأنهم لا يفكرون وهذا عرض الآيات قوله تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أيها المنكرون للبعث المكذبون به (أَمِ السَّماءُ) (٢) والجواب الذي لا شك فيه هو أن السماء أشد خلقا منهم وبيان ذلك فيما يلي :

١ ـ (بَناها) فهي سقف للأرض مرفوعة فوقها مسواة فلا انفطار فيها ولا ارتفاع لبعض وانخفاضا لبعض آخر بل هي كالزجاجة في سمتها واعتدالها في خلقها.

__________________

(١) الاستفهام تقريري أي الجاؤهم إلى الإقرار والإعتراف بأن خلق السماء أعظم من خلقهم إذا كيف ينكرون البعث والحياة الثانية.

(٢) المراد بالسماء السماء الدنيا المشاهدة للناس ، وإن كان لفظ السماء يطلق إطلاق أسماء الأجناس الدالة على أكثر من واحد والبناء للسماء وهو خلقها في صورة بناء رفيع.

٥١٢

٢ ـ (رَفَعَ سَمْكَها) (١) فإن غلظها مقدر بمسيرة خمسمائة عام.

٣ ـ (أَغْطَشَ لَيْلَها) فجعله مظلما.

٤ ـ (وَأَخْرَجَ ضُحاها) فجعل نهارها مضيئا. هذه هي السماء.

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد (٢) أن خلقها أولا وقبل السماء عاد إليها فدحاها بأن بسطها للأنام

و (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها) ففجر فيها عيونها وأخرج منها مرعى وهو ما يرعى من سائر الحبوب والثمار والنبات والأشجار منفعة للإنسان ولحيوانه المفتقر إليه في ركوبه (٣) وطعامه وشرابه وما ذكر تعالى من مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة في الأرض لا يقل عما ذكر في السماء إن لم يكن أعظم فكيف إذا ينكر الإنسان على ربه أن يعيده حيا بعد إماتته له ليحاسبه وليجزيه إنه بدل أن ينكر يجب عليه أن يشكر ، ولكن الإنسان ظلوم كفار.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ بيان إفضال الله تعالى على الإنسان وإنعامه عليه.

٣ ـ مشروعية الاستدلال بالكبير على الصغير وبالكثير على القليل وهو مما يعلم بداهة وبالضرورة إلا أن الغفلة أكبر صارف وأقوى حايل فلا بد من إزالتها أولا.

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى

__________________

(١) السمك يفتح السين وتسكين الميم الرفع في الفضاء ، وهو مصدر سمك إذا رفع والسمك محرك السين والميم الحوت المعروف واحده سمكة كبقرة.

(٢) اختلف في أيها خلق الله تعالى أولا الأرض أم السماء والراجح أنها الأرض أولا لقوله (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ ..). إلى قوله (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) الآية من سورة فصلت. وطريق الجمع كما في التفسير خلق الأرض أولا ثم السموات ثم عاد إلى الأرض فدحاها بمعنى أخرج منها ماءها ومرعاها أي أعدها إعدادا خاصا لحياة الإنسان والحيوان وهو المراد من قوله دحاها إذ الدحو البسط والتسوية والترتيب.

(٣) إذ هو المراد من قوله تعالى هي الآية (وَلِأَنْعامِكُمْ) التي هي الإبل والبقر والغنم فالإبل يركب ظهرها ، ويشرب لبنها ويؤكل لحمها.

٥١٣

(٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

شرح الكلمات :

(الطَّامَّةُ الْكُبْرى) : أي النفخة الثانية وأصل الطامة الداهية التي تعلو على كل داهية.

(ما سَعى) : أي ما عمل في الدنيا من خير وشر.

(فَأَمَّا مَنْ طَغى) : أي كفر وظلم.

(وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) : أي باتباع الشهوات.

(فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) : أي النار مأواه.

(مَقامَ رَبِّهِ) : أي قيامه بين يديه ليسأله عما قدم وأخر.

(وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) : أي المردى المهلك باتباع الشهوات.

(فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) : أي مأواه الذي يأوي إليه بعد الحساب.

(عَنِ السَّاعَةِ) : أي القيامة للحساب والجزاء.

(أَيَّانَ مُرْساها) : أي أي متى وقوعها وقيامها.

(فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) : أي في أي شيء من ذكراها أي ليس عندك علمها حتى تذكرها.

(إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) : أي منتهى علمها إلى الله وحده فلا يعلمها سواه.

(لَمْ يَلْبَثُوا) : أي في قبورهم.

(إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) : أي عشية يوم أو ضحى تلك العشية.

معنى الآيات :

بعد أن بين تعالى مظاهر قدرته في حياة الناس وما خلق لهم فيها تدليلا على البعث والجزاء وذكر في هذه الآيات مظاهر قدرته في معادهم تدليلا على قدرته على بعثهم بعد موتهم ومحاسبتهم ومجازاتهم فقال عز من قائل (فَإِذا) (١) (جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) أي القيامة وسميت بالطامة الكبرى لأنها تطم على (٢) كل شيء ولا يعظمها شيء لا ريح عاد ولا صيحة ثمود ولا رجفة يوم الظلة. (يَوْمَ

__________________

(١) فالفاء للتفريع عما تقدم إن تقدم مظاهر قدرته في الكون والحياة تدليلا على قدرته على البعث والجزاء ففرع عنه بيان أحوال البعث وما يجري فيه تقريرا له ووقوفا بالمنكرين له على مصيرهم فيه مبالغة في طلب هدايتهم وإقامة الحجة عليهم.

(٢) أصل الطامة الحادثة التي تطم أي تلو وتغلب أمثالها من الأحداث الجسام والمراد بها هنا القيامة ، قال سفيان الطامة هي الساعة التي يسلم فيها أهل النار للزبانية قال الشاعر :

إن بعض الحب يعمي ويصم

وكذاك البغض أدهى وأطم

٥١٤

يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) من خير أو شر لأنه أيقن انه محاسب ومجزي بعمله. (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) أي أبرزها فظهرت لمن يراها لا يخفيها شيء. والناس بعد ذلك مؤمن وكافر والطريق طريقان طريق جنة وطريق نار. (فَأَمَّا مَنْ طَغى) أي عتا عن أمر ربه فعصاه ولم يطعه بأداء فرائضه واجتناب نواهيه. (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) على الآخرة فعمل للدنيا وصرف كل جهده وطاقته لها ، ولم يعمل للآخرة فما صام ولا صلى ولا تصدق ولا زكى (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) أي مأواه ومستقره ومثواه شرابه الحميم وطعامه الزقوم (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) وهو الوقوف بين يديه لمساءلته ومجازاته فأدى الفرائض واجتنب النواهي ، (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) أي نفسه عن هواها فلم يجبها في هوى يبغضه الله ولم يطعها في شيء حرمه الله (فَإِنَّ الْجَنَّةَ) دار السلام والأبرار والمتقين الأخيار هي مأواه ولنعم المأوى هي حيث العيون الجارية والسرر المرفوعة والأكواب الموضوعة والنمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة والكواعب العرب الأتراب ولقاء الأحباب (١). وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) أي يسألك يا رسولنا المنكرون للبعث عن الساعة أي قيامها ومتى رسوها وثبوتها وهي كالسفينة سائرة ليل نهار متى ترسو؟ (فِيمَ) (٢) أي في أي شيء (أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي ليس عندك علمها فتذكرها لهم (إِلى رَبِّكَ) وحده علم وقت مجيئها وساعة رسوها لتنقل الناس من دنياهم إلى آخرتهم ، وبذلك تنتهي رحلتهم ويستقر قرارهم. وينتهي ليلهم ونهارهم. وقوله تعالى (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي ليس إليك يا رسولنا علمها ولا منتهى أمر ما إنما أنت مهمتك غير ما يطلب منك إنها انذار من يخشى الساعة ويخاف حلولها لإيمانه بها وبما يكون فيها من تعيم وجحيم أما من لا يؤمن بها فهو لا يخافها وسؤاله عنها سؤال استهزاء ، فلا تحفل بهم ولا تهتم لهم فإنهم يوم يرونها كأن لم يلبثوا في دنياهم هذه وقبورهم (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أي عشية يوم أو ضحى تلك العشية لما يستقبلون من أهوال الموقف وفظائع العذاب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوالها وصفاتها.

٢ ـ الناس يوم القيامة مؤمن تقي في الجنة ، وكافر وفاجر في النار.

٣ ـ بيان استئثار الله تعالى بعلم الغيب والساعة.

٤ ـ بيان أي الشدائد ينسى بعضها بعضا فإن عذاب القبر يهون أمام عذاب النار.

__________________

(١) كل ما ذكر من قولنا العيون إلى لقاء الأحباب هو من القرآن. يروى أن بلالا وهو في سياقة الموت يغمى عليه فإذا أفاق ووجد امرأته تبكي : يقول لها لا تبكي : غدا ألقى الأحبه محمدا وصحبه.

(٢) اسم استفهام أريد به الإنكار مشوبا بالتعجب من إلحاح المشركين على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعين لهم وقتها.

٥١٥

سورة عبس

مكية وآياتها ثنتان وأربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦))

شرح الكلمات :

(عَبَسَ) : أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعنى كلح وجهه وتغير.

(وَتَوَلَّى) : أي أعرض.

(أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) : أي لأجل أن جاء عبد الله بن أم مكتوم فقطعه عما هو مشغول به من دعوة بعض أشراف قريش للإسلام.

(لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) : أم يتطهر من الذنوب.

(أَوْ يَذَّكَّرُ) : أي يتعظ.

(فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) : أي الموعظة.

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) : عن الإيمان والعلم والدين بالمال والجاه.

(فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) : أي تقبل عليه وتتصدى له.

(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) : أي ليس عليك بأس في عدم تزكيته نفسه بالإسلام.

(يَسْعى) : أي في طلب الخير من العلم والهدى.

(فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) : أي تشاغل.

(كَلَّا) : أي لا تعد لمثل ذلك.

(إِنَّها تَذْكِرَةٌ) : أي الآيات عظة للخلق.

٥١٦

(مُكَرَّمَةٍ) : أي عند الله.

(مَرْفُوعَةٍ) : أي في السماء.

(مُطَهَّرَةٍ) : أي منزهة عن مس الشياطين.

(بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) : كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ.

(كِرامٍ بَرَرَةٍ) : مطيعين لله وهم الملائكة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) (٢) هذا عتاب لطيف يعاتب به الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالذي عبس بمعنى قطب وجهه وأعرض هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأعمى الذي لأجله عبس رسول الله وأعرض عنه هو عبد الله بن أم مكتوم الأعمى أحد المهاجرين ابن خال خديجة بنت خوليد أم المؤمنين. وسبب هذا العتاب الكريم أن رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في مكة يوما ومعه صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف يدعوهم إلى الإسلام مجتهدا معهم يرغبهم ويرهبهم طمعا في إسلامهم فجاء عبد الله بن أم مكتوم ينادي يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله وكرر ذلك مرارا فانزعج لذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعه لحديثه مع القوم فعبس وتولى عنه لا يجيبه ، وما إن عاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى منزله حتى نزلت هذه الآيات (عَبَسَ وَتَوَلَّى) أي قطب وأعرض (أَنْ (٣) جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ) أي وما يعلمك أنه (يَزَّكَّى) (٤) بما يطلب من القرآن والسنة أي يريد زكاة نفسه وتطهير روحه بما يتعلمه منك ، (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى). أي وما يعلمك لعله بندائه لك وطلبه منك أن يتذكر بما يسمع منك فيتعظ به وتنفعه الذكرى منك. وقوله تعالى (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) أي عن الإيمان والإسلام وما عندك من العلم بالله والمعرفة استغنى بماله وشرفه في قومه (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) (٥) أي تتعرض له مقبلا عليه (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أي وأي شيء يلحقك من الأذى إن لم يتزك ذاك المستغنى عنك بشرفه وماله. وكرر تعالى العتاب بالكلمات العذاب (٦) فقال (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ

__________________

(١) (عَبَسَ) : أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعنى عبس قطب ما بين عينيه كراهية لما نابه وحصل له مما أزعجه.

(٢) انظر مضمون هذه الآية في قوله تعالى (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ.). الآية وأخرى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) الآية. الأولى من سورة الأنعام والثانية من الكهف.

(٣) (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) : مجرور بحرف جر محذوف وهو اللام أي لأن جاءه وهذا الحذف مطرد وأصل التركيب لأجل مجيء الأعمى له.

(٤) (يَزَّكَّى) أصلها يتزكى أي يطلب التزكية لنفسه فأدغمت التاء في الزاي فصارت يزكى.

(٥) قرأ نافع تصدى بتشديد الصاد والدال معا ، وقرأ حفص بتخفيف الصاد ، فمن شدد أدغم إحدى التائين في الصاد ومن خفف حذفها.

(٦) العذاب : جمع عذبه بمعنى الحلوة الطيبة إذ كل حلو طيب هو عذب.

٥١٧

يَخْشى) جاءك مسرعا يجري وراءك يناديك بأحب الأسماء إليك يا رسول الله والحال انه يخشى الله تعالى ويخاف عقابه فلذا هو يطلب ما يزكي به نفسه ليقيها العقاب والعذاب (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (١) أي تتشاغل بغيره (كَلَّا) أي لا تفعل مثل هذا مرة أخرى. وقوله تعالى (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) أي هذه الآيات وما تحمل من عتاب حبيب إلى حبيب موعظة (فَمَنْ شاءَ) من عباد الله (ذَكَرَهُ) أي ذكر هذا الوحي والتنزيل (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) مكرمة عند الله تعالى مرفوعة في السماء مطهرة منزهة عن مس الشياطين لها (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ) أي مطيعين لله صادقين هم الملائكة كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ وما أقرب هذا الوصف من مؤمن كريم النفس طاهر الروح يحفظ كتاب الله ويعمل به بيده مصحف يقرأه ويرتل كلام الله فيه وقد جاء في الصحيح (٢) أن هذا العبد الذي وصفت مع السفرة الكرام البررة. اللهم اجعلني منهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه أشرف مقام وأسماه دل على ذلك أسلوب عتاب الله تعالى له حيث خاطبه في أسلوب شخص غائب حتى لا يواجهه بالخطاب فيؤلمه فتلطف معه ، ثم أقبل عليه بعد أن أزال الوحشة يخاطبه وما يدريك.

٢ ـ إثبات ما جاء في الخبر أدبني ربي فأحسن تأديبي فقد دلت الآيات عليه.

٣ ـ بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتأديب ربه له مستوى لم يبلغه سواه ، فقد كان إذ جاءه ابن أم مكتوم يوسع له في المجلس ويجلسه إلى جنبه ويقول له مرحبا بالذي عاتبني ربي (٣) من اجله وولاه على المدنية مرات ، وكان مؤذنا له في رمضان.

٤ ـ استحالة كتمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشيء من الوحي فقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لو كان للرسول أن يكتم شيئا من وحي الله لكتم عتاب الله تعالى له في عبس وتولى.

__________________

(١) (تَلَهَّى) : أصلها تتلهى حذفت إحدى التائين تخفيفا ، وتلهى تطلب التلهي أو حصل له وهو الانشغال بشيء وترك الآخر.

(٢) في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة ، ومثل الذي يقرأه وهو يتعاهده وهو عليه شاق شديد فله أجران.

(٣) قال الثوري فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويقول : هل من حاجة؟ واستخلفه بالمدينة مرتين في غزوتين غزاهما قال أنس فرأيته يوم القادسية راكبا وعليه درع وراية سوداء.

٥١٨

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢))

شرح الكلمات :

(قُتِلَ الْإِنْسانُ) : لعن الإنسان الكافر.

(١) (ما أَكْفَرَهُ) : أي ما حمله على الكفر؟.

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) : من نطفة خلقه.

(فَقَدَّرَهُ) : أي من نطفة إلى علقة إلى مضغة فبشر سوي.

(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) : أي سبيل الخروج من بطن امه.

(إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) : أي إذا شاء إحياءه أحياه.

(كَلَّا) : حقا أو ليس الأمر كما يدعي الإنسان أنه أدى ما عليه من الحقوق.

(لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) : أي ما كلفه به من الطاعات والواجبات في نفسه وماله.

(إِلى طَعامِهِ) : أي كيف قدر ودبر له.

(حَبًّا وَعِنَباً) : أي الحب الحنطة والشعير والعنب هو المعروف.

(وَقَضْباً) : أي القت الرطب وسمي قضبا لأنه يقضب أي يقطع مرة بعد مرة.

(وَحَدائِقَ غُلْباً) : أي كثيرة الأشجار والواحدة غلباء كحمراء كثيفة الشجر.

(وَفاكِهَةً وَأَبًّا) : أي ما يتفكه به من سائر الفواكه والأب التبن وما ترعاه البهائم.

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) : أي ما تقدم ذكره منفعة لكم ولأنعامكم التي هي الإبل والبقر والغنم.

__________________

(١) جائز أن تكون ما تعجبية إذ من عادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا فيه قاتله الله ما أحسنه أو ما أقبحه أو ما أجرأه مثلا.

أي أعجبوا لخلقه من نطفة مع كفره بربه.

٥١٩

معنى الآيات :

بعدما عاتب الرب تبارك وتعالى رسوله على انشغاله بأولئك الكفرة المشركين وإعراضه عن ابن أم مكتوم الأعمى فكان أولئك المشركون هم السبب في إعراض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ابن أم مكتوم وفي عتاب الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستوجبوا لذلك لعنة الله تعالى عليهم لكفرهم وكبريائهم جرد الله تعالى شخصا منهم غير معلوم والمراد كل كافر متكبر مثلهم فقال (قُتِلَ الْإِنْسانُ) أي الكافر (ما أَكْفَرَهُ) أي ما حمله على الكفر والكبر. فلينظر (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ربه الذي يكفر به؟ إنه خلقه (مِنْ نُطْفَةٍ) قذرة (خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أي أطوارا نطفة فعلقة فمضغة. أمن كان هذا حاله يليق به أن يكفر ويتكبر ويستغني عن الله؟ فلينظر إلى مبدئه ومنتهاه وما بينهما مبدأه نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة. وهو بينهما حامل عذرة. كيف يكفر وكيف يتكبر؟ وقوله تعالى (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) فلو لا أن الله تعالى يسر له طريق الخروج من بطن أمه والله ما خرج. (ثُمَّ أَماتَهُ) بدون استشارته ولا أخذ رأيه (فَأَقْبَرَهُ) (١) هيأ له من يقبره وإلا لأنتن وتعفن وأكلته الكلاب ، (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢) كَلَّا) (٣). أما يصحو هذا المغرور أما يفيق هذا المخدوع. (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) فما له لا يقضي ما أمره ربه من الإيمان به وطاعته (فَلْيَنْظُرِ) هذا (الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) (٤) الذي حياته متوقفة عليه كيف يتم له بتقدير الله تعالى وتدبيره لعله يذكر فيشكر (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) كالبر والشعير والذرة وسائر الحبوب المقتاتة (وَعِنَباً) يأكله رطبا ويابسا (وَقَضْباً) وهو القت الرطب يقضب أي يقطع مرة بعد مرة وهو علف البهائم ، (وَزَيْتُوناً) يأكله حبا ويدهن به زيتا (وَنَخْلاً) يأكله ثمرة بسرا ورطبا وتمرا (وَحَدائِقَ غُلْباً) أي بساتين ملتفة الأشجار كثيرتها الواحدة غلباء (٥) (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) الفاكهة لكم والأب علف لدوابكم (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي هذه المذكورات بعضها متاعا لكم أي منافع تتمتعون بها وبعضها لأنعامكم وهو القضب والأب منفعة لها تعيش عليها فبأي وجه تكفر ربك يا أيها الإنسان الكافر؟

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وهي مقتضية للإيمان به وبآياته ورسوله ولقائه.

__________________

(١) يقال قبره إذا دفنه وأقبره إذا هيأ له من يقبره.

(٢) أنشره ونشره بمعنى واحد أي أحياه بعد موته وسيشاء ذلك فينشره يوم القيامة للحساب والجزاء.

(٣) لأهل العلم في حقيقة (كَلَّا) هذه كلام طويل واختلاف كبير والراجح أنها كما هي الغالب فيها أنها للردع أي ردع له على كفره واستمرار غفلته وإعراضه وجهله وعدم علمه ، وجملة لما يقض بيانية أي بيان علة كفره وعناده وهي انه لم يقض ما أمر به من النظر والتأمل ولو فعل ذلك لعرف واهتدى ، ومن هنا أمره أن ينظر إلى طعامه.

(٤) هناك لطيفة تستشف من هذه الآية وهي أن طعام الإنسان كالمثل للدنيا في مبدئها ومنتهاها فإن طعامه وإن ملحه وفلفله فإنه يصير إلى عذرة منتنة.

(٥) يقال للأسد الأغلب لأنه مصمت العنق لا يلتفت إلا جمعا.

٥٢٠