أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٩

(وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) : أي تصدقوا بفضول أموالكم طيبة بها نفوسكم فذلك القرض الحسن.

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) : أي من نوافل العبادة من صلاة وصدقة وصيام وحج وغيرها.

معنى الآيات :

يخبر تعالى رسوله بأنه يعلم ما يقومه من الليل هو وطائفة من أصحابه وأنهم يقومون أحيانا أدنى من ثلثي الليل أي أقل ويقومون أحيانا النصف والثلث ، كما في أول السورة هذا معنى قوله تعالى (إِنَ (١) رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ، وقوله (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي يحصي ساعاتهما فيعلم ما مضى من الليل وما بقى من ساعاته ، وقوله (عَلِمَ أَنْ لَنْ (٢) تُحْصُوهُ) أي لن تطيقوا ضبط ساعاته فيشق عليكم قيام أكثره تحريا منكم لما هو المطلوب. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) لذلك وبهذا نسخ قيام الليل الواجب وبقى المستحب يؤدى ولو بركعتين في أي جزء من الليل وكونهما بعد صلاة العشاء أفضل وقوله تعالى (فَاقْرَؤُا (٣) ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي صلوا من الليل ما تيسر اطلق لفظ القرآن وهو يريد الصلاة لأن القرآن هو الجزء المقصود من صلاة الليل ، وقوله (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فذكر فيه تعالى ثلاثة أعذار لهم وهي المرض ، والضرب في الأرض (٤) للتجارة والجهاد في سبيل الله وكلها يشق معها قيام الليل فرحمة بالمؤمنين نسخ الله تعالى هذا الحكم الشاق بقوله (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) (٥) ، كرره تأكيدا لنسخ قيام الليل الذي كان واجبا وأصبح بهذه الآية مندوبا. وقوله (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أي المفروضتين. وقوله (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي انفقوا في سبيل الله الذي هو الجهاد فإن الحسنة فيه بسبعمائة (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) من نوافل الصلاة والصدقات والحج وسائر العبادات تجدوه عند الله يوم القيامة (هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً). وقوله (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من كل ما يفرط منكم من تقصير في جنب الله تعالى (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لمن تاب وبرحمه فلا يؤاخذه بذنب قد تاب منه.

__________________

(١) هذا هو النصف الأخير من سورة المزمل الذي نزل بالمدينة أما النصف الأول فقد نزل بمكة .. افتتاح الكلام بهذه الجملة إن ربك يعلم .. الخ مشعر بالثناء عليه لوفائه بحق القيام الذي أمر به في أول السورة.

(٢) هذه الجملة هي المقصودة من الكلام السابق لها إذ كان تمهيدا لها.

(٣) أطلق القرآن وأراد الصلاة كقوله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فأطلق الصلاة وأراد القراءة وهنا أطلق القراءة وأراد الصلاة تجوزا.

(٤) قال طاووس : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله.

(٥) من هذه الآية أخذ مالك وأحمد والشافعي أن أقل ما يجزء في الصلاة قراءة الفاتحة كاملة ، ولا تصح صلاة بدونها للأحاديث الواردة في ذلك وهذا بالنسبة للأمام والمنفرد. وهذا عند القدرة على قراءتها وحفظها فإن عجز سبح وركع أي قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر.

٤٦١

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يقومونه من الليل تهجدا.

٢ ـ نسخ واجب قيام الليل وبقاء استحبابه وندبه. (١)

٣ ـ وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.

٤ ـ الترغيب في التطوع من سائر العبادات.

٥ ـ وجوب الاستغفار عند الذنب وندبه واستحبابه في سائر الأوقات لما يحصل من التقصير.

سورة المدثر

مكية وآياتها ست وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا (٢) الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠))

شرح الكلمات :

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) : أي يا أيها المدثر أي المتلفف في ثيابه وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(قُمْ فَأَنْذِرْ) : أي خوف أهل مكة النار إن لم يؤمنوا ويوحدوا.

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) : أي عظم ربك من إشراك المشركين.

(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) : أي طهر ثيابك من النجاسات.

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) : أي أدم هجرانك للأوثان.

__________________

(١) ورد في فضل قيام الليل أحاديث صحاح كثيرة منها قول عبد الله بن عمرو قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا عبد الله لا تكن كفلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل وحديث عبد الله بن عمر وفيه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل.

(٢) في هذا النداء ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله ، وعبر عنه بصفته ، ولم يقل يا محمد أو يا فلان ليستشعر اللين والعطف من ربه.

٤٦٢

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) : أي لا تمنن على ربك ما تقوم به من أعمال لأجله طاعة له.

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) : أي نفخ في الصور النفخة الثانية.

معنى الآيات :

قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (١) أي المتلفف في ثيابه والمراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم روى الزهري (٢) قال فتر الوحي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فترة فحزن حزنا فجعل يعدو شواهق رؤوس الجبال ليتردى منها فكلما أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل عليه‌السلام فيقول إنك نبي الله فيسكن جأشه وتسكن نفسه ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدث عن ذلك فقال بينما أنا أمشي يوما إذ رأيت الملك الذي كان يأتيني بحراء على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت إلى خديجة فقلت زملوني فزملناه أي فدثرناه فأنزل الله (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال الزهري فأول شيء أنزل عليه أقرا باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. وعليه فهذا النداء الإلهي كان بعد فترة الوحي الأولى ناداه ملقبا له بهذا اللقب الجميل تكريما وتلطفا معه ليقوم بأعباء الدعوة وما أشد ثقلها ، ومن يقدر عليها إنها أعباء ثقيلة اللهم لقد أعنت عليها رسولك فأعني على قدر ما أقوم به منها ، وإن كان ما أقوم به منها لا يساوي جمرة من لظى ولا قطرة من ماء السماء. (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) في ثيابه يا محمد رسولنا (قُمْ فَأَنْذِرْ) لم يبق لك مجال للنوم والراحة فأنذر قومك في مكة وكل الثقلين من وراء مكة أنذرهم عذاب النار المترتب على الكفر والشرك بالواحد القهار (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي وربك فعظمه تعظيما يليق بجلاله وكماله فإنه الأكبر الذي لا أكبر منه والعظيم الذي لا أعظم منه فأعلن عن ذلك بلسانك قائلا الله أكبر وبحالك فلا تذل إلا له ولا ترغب إلا فيه وكبره بأعمالك فلا تأت منها إلا ما أذن لك فيه أو أمرك به (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي طهر ثيابك من النجاسات مخالفا بذلك ما عليه قومك ؛ إذ يجرون ثيابهم ولا يتنزهون من أبوالهم (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي والأصنام التي يعبدها قومك فاهجرها فلا تقربها ودم على هجرانها على دعوتك أجرا ، (وَلا تَمْنُنْ) عطاء أعطيته لغيرك (تَسْتَكْثِرُ) به ما عندك إن ذاك مناف لأجمل الأخلاق وكريم السجايا وسامي الآداب. (وَلِرَبِّكَ) وحده دون سواه (فَاصْبِرْ) على كل ما تلقاه في سبيل إبلاغ رسالتك ونشر دعوتك دعوة الخير والكمال هذا الذي أدب به الله رسول الله في فاتحة دعوته. ثم نزل بعد (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) والناقور البوق الذي ينفخ فيه اسرافيل والنقر يحدث صوتا

__________________

(١) هذا يسمى بهدية الثواب وهي جائزة للأمة محرمة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآية. ولا تمنن تستكثر.

(٢) روى أحمد عن ابن عباس في قوله تعالى (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ ، فقال : أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا.

٤٦٣

والصوت هو صوت البوق والمراد به النفخة الثانية نفخة البعث والجزاء (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) صعب شديد لا يحتمل ولا يطاق (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (١) فذكر به من تدعوهم فإن التذكير به نافع إن شاء الله ، ولذا كان من أعظم أركان العقيدة التي إن تمكنت من النفس تهيأ صاحبها لحمل كل ثقيل ولإنفاق كل غال ورخيص ولفراق الأهل والدار الإيمان بالله واليوم الآخر إذ هما محور العقيدة وعليهما مدار الإصلاح والهداية.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الجد طابع المسلم ، فلا كسل ولا خمول ولا لهو ولا لعب ومن فارق هذه فليتهم نفسه في إسلامه.

٢ ـ وجوب تعظيم أسمائه وصفاته وتعظيم كلامه وكتابه ، وتعظيم شعائره تعظيم ما عظم.

٣ ـ وجوب الطهارة للمؤمن بدنا وثوبا ومسجدا. أكلا وشربا وفراشا ونفسا وروحا.

٤ ـ حرمة العجب فلا يعجب المؤمن بعمله ولا يزكي به نفسه ولو صام الدهر ، وأنفق الصخرة وجاهد الدهر.

٥ ـ وجوب الصبر على الطاعات فعلا وعلى المعاصي تركا وعلى البلاء تسليما ورضا.

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠))

__________________

(١) في الآية دليل على أن حال المؤمنين في عرصات القيامة غير حال الكافرين في الشدة والبلاء.

٤٦٤

شرح الكلمات :

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) : أي اتركني ومن خلقته وحيدا منفردا بلا مال ولا ولد فأنا أكفيكه.

(وَبَنِينَ شُهُوداً) : أي يشهدون المحافل وتسمع شهادتهم وأغلب الوقت حاضرون ولا يغيبون.

(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) : أي بسطت له في العيش والعمر والولد والجاه حتى كان يلقب بريحانة قريش.

(عَنِيداً) : أي معاندا وهو الوليد بن المغيرة المخزومي.

(سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) : أي سأكلفه يوم القيامة صعود جبل من نار كلما صعد فيه هوى في النار أبدا.

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) : أي فيما يقول في القرآن الذي سمعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقدر في نفسه ذلك.

(ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) : أي تروى في ذلك ثم عبس أي قبض ما بين عينيه ثم بسر أي كلح وجهه.

(ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) : أي عن الإيمان واستكبر عن اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(سِحْرٌ يُؤْثَرُ) : أي ينقل من السحرة كمسيلمة وغيره.

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) : سأدخله جهنم وسقر اسم لها يدخله فيها لإحراقه بنارها.

(لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) : أي لا تترك شيئا من اللحم ولا العصب إلا أهلكته ثم يعود كما كان لإدامة العذاب.

(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) : أي محرقة مسودة لظاهر جلد الإنسان وهو بشرته والجمع بشر.

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) : أي ملكا وهم خزنتها.

معنى الآيات :

لقد تحمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبء الدعوة وأمر بالصبر وشرع صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إنذار قومه وبدأت المعركة كأحر وأشد ما تكون إذ أعلم قومه وهم من هم أنه لا إله إلا الله وأنه هو رسول الله فتصدى له طاغية من أعظم الطغاة ساد الوادي مالا وولدا وجاها عريضا حتى لقب بريحانة قريش هذا هو الوليد بن المغيرة صاحب عشرة رجال من صلبه وآلاف الدنانير من الذهب فلما أرهب رسول الله وأخافه قال له ربه تبارك وتعالى (ذَرْنِي) أي دعني والذي خلقته (وَحِيداً) (١) فريدا بلا مال ولا ولد ،

__________________

(١) عن ابن عباس : كان الوليد يقول أنا الوحيد بن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي المغيرة نظير.

٤٦٥

(وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) واسعا تمده به الزراعة والتجارة فصلا بعد فصل ويوما بعد يوم ، (وَبَنِينَ شُهُوداً) لا يغيبون كما يغيب الذين يطلبون العيش كما أنهم لمكانتهم يستشهدون فيشهدون فهم شهود على غيرهم. ويشهدون المحافل وغيرها. (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) (١) أي بسطت له في العيش والعمر والولد والجاه العريض في ديار قومه ، (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي أن أزيده من المذكور في الآيات (كَلَّا) أي لن أزيده بعد اليوم ، وعلل تعالى لمنعه الزيادة بقوله : (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا) «القرآنية» (عَنِيداً) أي (٢) معاندا يحاول ابطالها بعد رفضه لها. (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي سأكلفه عذابا شاقا لا قبل له به وذلك جبل (٣) من نار في جهنم يكلف صعوده كلما صعد سقط وذلك أبدا. وعلل أيضا لهذا العذاب الذي أعده له وأوعده به فقال تعالى (إِنَّهُ فَكَّرَ) أي فيما يقول في القرآن لما طلبت منه قريش أن يقول فيه ما يراه من صلاح أو فساد. (وَقَدَّرَ) في نفسه (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) أي لعن كيف قدر ذلك التقدير الذي هو قوله (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ). (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) فلعنه الله لعنتين تلازمانه واحدة في الدنيا والأخرى في الآخرة وقوله تعالى عنه (ثُمَّ نَظَرَ) أي تروى (ثُمَّ عَبَسَ) أي قطب فقبض ما بين عينيه (وَبَسَرَ) أي كلح وجهه فاسود. (فَقالَ) اللعين نتيجة تفكير وتقدير ونظر (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي ما هذا القرآن إلا سحر ينقل عن السحرة في اليمن ونجد والحجاز (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أي ما هذا الذي يتلوه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) قال (٤) تعالى موعدا إياه على قولته الكافرة الفاجرة (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأدخله نار سقر يصطلي بنارها ، ثم عظم تعالى من شأن سقر فقال (٥) (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) أي أي شيء يدريك ما هي وما شأنها فإنها عظيمة (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي لا تبقي لحما ولا تذر عصبا بل تأتي على الكل (لَوَّاحَةٌ (٦) لِلْبَشَرِ) أي تحرق الجلود وتسودها. والبشر جمع بشرة الجلدة ومن ذلك سمي الآدميون بشرا لأن بشرتهم مكشوفة ليست مستورة بوبر ولا صوف ولا شعر ولا ريش. وقوله تعالى (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أي على سقر ملائكة يقال لهم الخزنة عدتهم تسعة عشر ملكا لقد كان لنزول هذه الآية سبب معروف وهو أن قريشا اتهمت الوليد بأنه صبا أي مال إلى دين محمد فسمع ذلك منهم فأنكر وحلف لهم فطلبوا إليه إن كان صادقا أن

__________________

(١) قال القرطبي : التمهيد عند العرب التوطئة والتهيئة : ومنه مهد الصبي.

(٢) يقال عند يعند كضرب يضرب أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند.

(٣) رواه الترمذي. وقال فيه غريب.

(٤) قال السدي يعنون أنه من قول سيار عبد لبني الحضرمي كان يجالس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك.

(٥) ما استفهامية أي أي شيء يدريك وما سقر ما استفهامية مبتدأ وسقر خبره.

(٦) البشر جمع بشرة ومعنى لواحة مغيرة للون البشر بالسواد يقال لاحه الحر أو البرد أو المرض إذا غيره قال الشاعر :

تقول ما لاحك يا مسافر

يا بنة عمي لاحنى الهواجر

٤٦٦

يقول في القرآن كلمة يصرف بها العرب عن محمد وما يقوله ويدعو إليه فذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي ويقرأ في صلاته فاستمع إليه ففكر وقدر كما أخبر تعالى عنه في هذه الآيات وقال قولته الفاجرة الكافرة. إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر بعد أن وصف القرآن وصفا دقيقا بقوله وو الله إن لقوله لحلاوة وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو ولا يعلى أي عليه فقالوا والله لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه فقال دعوني حتى افكر ففكر وقال ما تقدم فنزلت هذه الآيات (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) إلى قوله (تِسْعَةَ عَشَرَ).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ المال والبنون والجاه من عوامل الطغيان إلا أن يسلم الله عبده من فتنتها.

٢ ـ من أكفر الناس من يعاند في آيات الله يريد صرف الناس عنها وإبطال هدايتها.

٣ ـ بيان ما ظفر به طاغية قريش الوليد بن المغيرة من لعنة وعذاب شديد.

٤ ـ تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية.

٥ ـ تقرير البعث والجزاء.

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧))

شرح الكلمات :

(أَصْحابَ النَّارِ) : أي خزنتها مالك وثمانية عشر معه.

(إِلَّا مَلائِكَةً) : أي لم نجعلهم بشرا ولا جنا حتى لا يرحموهم بحكم

٤٦٧

الجنس.

(وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ) : أي كونهم تسعة عشر.

(إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : أي ليستخفوا بهم كما قال أبو الأشدين الجمحي فيزدادوا ضلالا.

(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) : أي ليحصل اليقين لأهل التوراة والإنجيل بموافقة القرآن لكتابيهما التوراة والإنجيل.

(وَلا يَرْتابَ) : أي ولا يشك أهل الكتاب والمؤمنون في حقيقة ذلك.

(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي مرض النفاق.

(ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) : أي أي شيء أراد الله بهذا العدد الغريب استنكارا منهم.

(كَذلِكَ) : أي مثل اضلال منكر هذا العدد وهدى مصدقه يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.

(وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) : أي وما النار إلا ذكرى للبشر يتذكرون بها.

(إِذْ أَدْبَرَ) : أي ولى ومضى.

(إِذا أَسْفَرَ) : أي أضاء وظهر.

(إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) : أي جهنم لإحدى البلايا العظام.

(نَذِيراً لِلْبَشَرِ) : أي عذاب جهنم نذير لبني آدم.

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) : أي أيها الناس.

(أَنْ يَتَقَدَّمَ) : أي بالطاعة.

(أَوْ يَتَأَخَّرَ) : أي بالمعصية.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) هذه الآية نزلت ردا على أبي الأشدين كلدة الجمحي الذي قال لما سمع قول الله تعالى (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) قال لقريش ساخرا مستهزئا أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنين ، ومرة قال أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة. فأنزل الله تعالى قوله (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي لم نجعلهم بشرا ولا جنا حتى لا يرحموا أهل النار بخلاف لو

٤٦٨

كانوا بشرا قد يرحمون بني جنسهم ولو كانوا جنا فكذلك ، ولذا جعلهم من الملائكة فلا تناسب بينهم وبين الإنس والجن والمراد بأصحاب النار خزنتها وهم مالك وثمانية عشر هؤلاء رؤساء في جهنم أما من عداهم فلا تتسع لهم العبارة ولا حتى الرقم الحسابي وكيف وقد قال تعالى (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) ، وقوله (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ) (١) أي كونهم تسعة عشر (إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ (٢) كَفَرُوا) ليزدادوا ضلالا وكفرا وقد تم هذا فإن أبا جهل كأبي الأشدين قد فتنا بهذا العدد وازدادا ضلالا وكفرا بما قالا ، وقوله تعالى (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي أخبرنا عن عددهم وأنه تسعة عشر ليستيقن (٣) الذين أوتوا الكتاب (٤) لموافقة القرآن لما عندهم في كتابهم. (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) فوق إيمانهم عند ما يرون أن التوراة موافقة للقرآن الكريم كشاهد له ، وقوله (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي حتى لا يقعوا في ريب وشك في يوم من الأيام لما اكتسبوا من المناعة بتضافر الكتابين على حقيقة واحدة. وقوله (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي وما جعلنا عدتهم تسعة عشر إلا ليقول الذين في قلوبهم مرض وهو النفاق والشك والكافرون الكفر الظاهر من قريش وغيرهم ماذا أراد الله بهذا مثلا أي أي شيء أراده الله بهذا الخبر الغريب غرابة الأمثال قالوا هذا استنكارا وتكذيبا. فهذه جملة علل ذكرها تعالى لإخباره عن زبانية جهنم ثم قال وقوله الحق (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي مثل اضلال منكر هذا العدد وهدى مصدقه يضل الله من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته. وقوله تعالى (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ (٥) رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) هذا جواب أبي جهل القائل أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر استخفافا وتكذيبا فأخبر تعالى أن له جنودا لا يعلم عددها ولا قوتها إلا هو وقد ورد أن لأحدهم مثل قوة الثقلين يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمي بهم في النار ويرمي الجبل عليهم ، ولا عجب وأربعة ملائكة يحملون العرش الذي هو أكبر من السموات والأرضين فسبحان الخلاق العليم سبحان الله العزيز الرحيم سبحان الله ذي الجبروت والملكوت. وقوله تعالى (وَما هِيَ) (٦) أي جهنم (إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي تذكرة يذكرون بها عظمة الله

__________________

(١) تقدير الكلام : ما جعلنا ذكر عدتهم لعلة وغرض إلا لغرض فتنة الذين كفروا.

(٢) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن فتنة بمعنى ضلالة للذين كفروا يريد أبا جهل وذويه ، وقيل إلا عذابا كقوله تعالى (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ).

(٣) قوله ليستيقن الذين أوتوا الكتاب. علة ثانية لفعل وما جعلنا والاستيقان قوة اليقين والمراد من الاستيقان قوة اليقين.

(٤) أوتوا الكتاب هم اليهود. فقد روى الترمذي بسنده إلى جابر بن عبد الله قال قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب رسول الله صلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ قالوا : لا ندري حتى نسأل.

(٥) هذه الجملة كلمة جامعة لإبطال التخرصات التي يتخرصها المبطلون الضالون وإضافة الرب إلى ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إضافة تشريف وفيها الإيماء بنصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلك الجنود التي هم جنود ربه عزوجل.

(٦) جائز أن يكون الضمير (وَما هِيَ) عائد إلى عدة الملائكة التسعة عشرة وجائز أن يكون عائدا إلى الآيات القرآنية أو إلى سقر أو إلى جنود ربك وهذا من الاعجاز القرآني وأن الكلمة الواحدة تدل على ما لا يدل عليه عشرات الكلمات.

٤٦٩

ويخافون بها عقابه. وقوله (كَلَّا (١) وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) أي كلا أي ليس القول كما يقول من زعم من المشركين أنه يكفي أصحابه المشركين خزنة جهنم حتى يجهضهم عنها. (وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) ولى ذاهبا (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) أي أضاء وأقبل (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) أي أقسم تعالى بالقمر والليل إذا أدبر والصبح إذا أسفر على أن جهنم (٢) لإحدى الكبر أي البلايا العظام (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) أي بني آدم ، وقال نذيرا ولم يقل نذيرة وهي جهنم لأنها بمعنى العذاب أي عذابها نذير للبشر. وقوله (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ) في طاعة الله ورسوله حتى يبلغ الدرجات العلا ، ومن شاء أن يتأخر في معصية الله ورسوله حتى ينزل الدركات السفلى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان الحكمة من جعل عدد الزبانية تسعة عشر والإخبار عنهم بذلك.

٢ ـ موافقة التوراة والإنجيل للقرآن من شأنها أن تزيد إيمان المؤمنين من الفريقين.

٣ ـ في النار من الزبانية ما لا يعلم عددهم إلا الله تعالى خالقهم.

٤ ـ جهنم نذير للبشر أي عذابها نذير للبشر لمن شاء أن يتقدم بالطاعة أو يتأخر بالمعصية.

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ

__________________

(١) حرف ردع وإبطال والغالب أنها تقع بعد كلام من متكلم واحد ومتكلم وسامع فتفيد الردع عما تضمنه الكلام السابق ذهب ابن جرير إلى أنها هنا للردع وإبطال ما زعمه المشركون من القدرة على الزبانية كما في التفسير. وعليه فالوقف عليه مستحسن ومنهم من جعلها افتتاح كلام نحو ألا وعليه فالوقف لا يحسن عليها بل على القمر.

(٢) القول بأنها سقر أقرب من جهنم لتقدم ذكر سقر بلفظها والأمر واسع.

٤٧٠

كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

شرح الكلمات :

(كُلُّ نَفْسٍ) : أي مأمورة منهية.

(رَهِينَةٌ) : أي مرهونه مأخوذة بعملها في جهنم.

(إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) : أي المؤمنين فهم ناجون من النار وهم في جنات النعيم يتساءلون عن المجرمين.

(وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) : أي بخلا بما آتاهم الله.

(وَكُنَّا نَخُوضُ) : أي في الباطل وفيما يكره الله تعالى مع الخائضين.

(نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) : بيوم المجازاة والثواب ولا نصدق بثواب ولا عقاب.

(حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) : أي الموت.

(عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) : أي الموعظة منصرفين لا يسمعونها ولا يقبلون عليها.

(حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) : أي كأنهم حمر وحشية مستنفرة.

(فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) : أي هربت من أسد أشد الهرب.

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) : أي ليس هناك قصور في الأدلة والحجج التي قدمت لهم بل يريد كل واحد منهم.

(أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) : أي يصبح وعند رأسه كتاب من الله رب العالمين إلى فلان آمن بنبينا محمد واتبعه.

(إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) : أي عظة وعبرة.

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) : أي قرأه واتعظ به.

(هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) : أي هو أهل لأن يتقي لعظمة سلطانه وأليم عقابه.

(وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) : أي وأهل لأن يغفر للتائبين من عباده والموحدين.

٤٧١

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ) أي يوم القيامة (رَهِينَةٌ) بمعنى مرهونة محبوسة أي كل نفس مأمورة منهية بمعنى مكلفة بخلاف نفوس غير المكلفين من أطفال ومجانين وقوله (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فإنهم قد فك رهنهم وهم في جنات النعيم (يَتَساءَلُونَ) فيما بينهم عن أصحاب الجحيم وكيف حالهم ثم يتصلون بهم وهم في جنات النعيم والمجرمون في سواء الجحيم ، ويتم الاتصال برؤية الشخص وسماع كلامه وفي الصناعات الحديثة اليوم ما جعل هذا امرا معقولا فيقولون لهم (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) أي أدخلكم في سقر فأجابوهم قائلين (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ). فذكروا لهم أعظم الجرائم وهي ترك الصلاة ومنع الزكاة والتخوض مع أهل الباطل في كل شر وفساد والتكذيب بيوم القيامة وانه لا حساب ولا جزاء أي لا ثواب ولا عقاب وأنهم مع هذه الجرائم الموجبة للسلوك في سقر لم يتوبوا منها حتى أتاهم اليقين الذي هو الموت فإن من مات دخل الدار الآخرة من عتبتها وهي القبر فلذا قالوا حتى أتانا اليقين أي الموت. وقد يقال ألم يكن هناك شفعاء من الملائكة والأنبياء والعلماء والشهداء يشفعون؟ والجواب هو في قوله تعالى (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي لم تكن لهم شفاعة لأنهم ملاحدة مجرمون. وقوله تعالى (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) أي فما لهؤلاء المشركين المكذبين بالبعث والجزاء عن التذكرة التي يذكرون بها في آيات هذه السورة وغيرها معرضين إنه أمر عجيب أي شيء يجعلهم يعرضون عنها هاربين منها فارين (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ) وحشية (مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي فرت هاربة أشد الهرب من أسد من أسود الصحراء الطاغية إن فرارهم من هذه الدعوة وإعراضهم عنها ليس عن قصور في أدلتها وضعف في حجتها بل يريد كل واحد منهم أن يؤتى كتابا من الله يأمره فيه بالإيمان واتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا هو العناد والمكابرة وصاحبهما غير مستعد للإيمان بحال من الأحوال. وهذه الآية كقوله تعالى : (حَتَّى (١) تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) هذا معنى قوله تعالى (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً). وقوله تعالى (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي ليس الأمر كما يقولون ويدعون بل إن علة إعراضهم الحقيقية هي عدم خوفهم من عذاب الله يوم القيامة. وقوله تعالى (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي ألا إن هذا القرآن تذكرة (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي قرأه فاتعظ به فآمن بالله

__________________

(١) الآية من سورة الإسراء وهي (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) إذ روي أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان ونؤمر فيه باتباعك.

٤٧٢

واتقاه فإنه ينجو ويسعد في جوار مولاه ومن لم يشأ ذلك فحسبه سقر وما أدراك ما سقر. وقوله تعالى (وَما يَذْكُرُونَ (١) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي ما يذكر من يذكر إلا بمشيئة الله فلا بد من الافتقار إلى الله وطلب توفيقه في ذلك إذ لا استقلال لأحد عن الله ولا غنى بأحد عن الله بل الكل مفتقر إليه ومشيئته تابعة لمشيئته وقوله (هُوَ) (٢) (أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) لقد (٣) صح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر هذه الآية فقال قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ نكاك كل نفس مرهونة بكسبها هو الإيمان والتقوى.

٢ ـ بيان أكبر الجرائم وهي ترك الصلاة ومنع الزكاة والخوض في الباطل وعدم التصديق بالحساب والجزاء.

٣ ـ لا شفاعة يوم القيامة لمن مات وهو يشرك بالله شيئا.

٤ ـ مرد الانحراف في الإنسان إلى ضعف إيمانه بالبعث والجزاء.

٥ ـ الله جل جلاله هو ذو الأهلية الحقة لأمرين عظيمين التقوى فلا يتقى على الحقيقة إلا هو والمغفرة فلا يغفر الذنوب إلا هو اللهم اغفر ذنوبنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

سورة القيمة

مكية وآياتها أربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى

__________________

(١) قرأ نافع وما تذكرون بالتاء على الالتفات ، وقرأ حفص (وَما يَذْكُرُونَ) بالياء على الغيبة.

(٢) تعريف جزيء الجملة مفيد للقصر أي الله وحده المتأهل للتقوى والمغفرة لا سواه.

(٣) الحديث رواه الترمذي وقال فيه حسن غريب ونصه : قال الله تعالى (أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها. فأنا أهل أن أغفر له).

٤٧٣

قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥))

شرح الكلمات :

(لا) : أي ليس الأمر كما يدعي المشركون من أنه لا بعث ولا جزاء.

(أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) : أي الذي كذب به المكذبون.

(وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) : أي لتبعثن ولتحاسبن ولتعاقبن أيها المكذبون الضالون.

(اللَّوَّامَةِ) : أي التي إن أحسنت لامت عن عدم الزيادة وإن أساءت لامت عن عدم التقصير.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) : أي الكافر الملحد.

(أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) : أي ألا نجمع عظامه لنحييه للبعث والجزاء.

(بَلى قادِرِينَ) : أي بلى نجمعها حال كوننا قادرين مع جمعها على تسوية بنانه.

(عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) : أي نجعل أصابعه كخف البعير أو حافر الفرس فلا يقدر على العمل الذي يقدر عليه الآن مع تفرقة أصابعه. كما نحن قادرون على جمع تلك العظام الدقيقة عظام البنان وردها كما كانت كما نحن قادرون على تسوية تلك الخطوط الدقيقة في الأصابع والتي تختلف بين إنسان وإنسان اختلاف الوجوه والأصوات واللهجات.

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ) : أي بإنكاره البعث والجزاء.

(لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) : أي ليواصل فجوره زمانه كله ولذلك أنكر البعث.

(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) : أي يسأل سؤال استنكار واستهزاء واستخفاف.

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) : أي دهش وتحير لما رأى ما كان به يكذب.

(وَخَسَفَ الْقَمَرُ) : أي أظلم بذهاب ضوئه.

٤٧٤

(وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) : أي ذهب ضوءهما وذلك في بداية الانقلاب الكوني الذي تنتهي فيه هذه الحياة.

(أَيْنَ الْمَفَرُّ) : أي إلى أين الفرار.

(كَلَّا) : ردع له عن طلب الفرار.

(لا وَزَرَ) : أي لا ملجأ يتحصن به.

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) : أي هو شاهد على نفسه حيث تنطق جوارحه بعمله.

(وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) : أي فلا بد من جزائه ولو ألقى معاذيره.

معنى الآيات :

قوله تعالى (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (١) أي ما الأمر كما تقولون أيها المنكرون للبعث والجزاء أقسم بيوم القيامة الذي تنكرون و (بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) التي ستحاسب وتجرى لا محالة لتبعثن (٢) ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير. وقوله تعالى (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) أي بعد موته وفنائه وتفرق أجزائه في الأرض ، والمراد من الإنسان هنا الكافر الملحد قطعا (بَلى قادِرِينَ عَلى (٣) أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) أي بلى نجمعها حال كوننا قادرين على ذلك وعلى ما هو أعظم وهو تسوية بنانه أي أصابعه بأن نجعلها كخف البعير أو حوافر الحمير ، فيصبح يتناول الطعام بفمه كالكلب والبغل والحمار. وقوله (بَلْ (٤) يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ (٥) أَمامَهُ) أي ما يجهل الإنسان قدرة خالقه على إعادة خلقه ولكنه يريد أن يواصل فجوره مستقبله كله فلا يتوب من ذنوبه ولا يؤوب من معاصيه لأن شهواته مستحكمة فيه ، وقوله تعالى (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟) يخبر تعالى عن المنكر للبعث من أجل مواصلة الفجور من زنا وشرب خمور بأنه يقول أيان يوم القيامة استبعادا واستنكارا

__________________

(١) في (لا) هنا توجيهان الأول ما آثره ابن جرير وهو ما اخترناه في التفسير ، وأنها نافية لدعوى سابقة ابطالا لها والكلام بعدها مستأنف. والثاني أنها أي (لا) أنها حرف نفي أدخل على (أُقْسِمُ) لقصد المبالغة في تحقيق حرمة المقسم به بحيث يوهم السامع أن المتكلم يهم أن يقسم ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول لا أقسم به ولا أقسم بأعز منه عندي ، والمراد تأكيد القسم ووجه ثالث وهي أنها مزيدة لتقوية الكلام.

(٢) لتبعثن هو جواب القسم.

(٣) بلى حرف إبطال للنفي أي بل نجمعها أي العظام المتفرقة حال كوننا قادرين على ذلك وعلى ما هو أعظم وهو تسوية بنانه.

(٤) بل هنا للإضراب الانتقالي من تقريره حقيقة إلى أخرى أعجب وأغرب وهي الكشف عن سر إنكار الملاحدة للبعث وهو مواصلتهم الفجور عن كل خلق ودين ومروءة وأدب لانهزامهم لشهواتهم البهيمية.

(٥) اللام في ليفجر هي اللام التي يكثر وقوعها بعد مادتي الأمر والإرادة نحو وأمرت لأعدل بينكم ويريد الله ليبين لكم ، وقول كثير :

أريد لأنسى حبها فكأنما

تمثل لي ليلي بكل مكان.

وينصب الفعل بعدها بأن مضمرة وهل هي للتعليل أو زائدة خلاف.

٤٧٥

وتسويفا للتوبة فبين تعالى له وقت مجيئه بقوله (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) (١) أي عند الموت بأن تحير واندهش (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أي أظلم وذهب ضوءه ، (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي ذهب ضوءهما وذلك في بداية الانقلاب الكوني الذي تنتهي فيه هذه الحياة (يَقُولُ الْإِنْسانُ) الكافر (يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟) أي إلى أين الفرار يا ترى؟ قال تعالى (كَلَّا) أي لا فرار اليوم من قبضة الجبار أيها الإنسان الكافر (لا وَزَرَ) أي لا حصن ولا ملتجأ وإنما (إِلى رَبِّكَ) اليوم (الْمُسْتَقَرُّ) أي الانتهاء والاستقرار إما إلى جنة وإما إلى نار وقوله تعالى (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي يوم تقوم الساعة يخبر الإنسان من قبل ربه تعالى بما قدم من أعماله في حياته الخير والشر سواء وبما أخر بعد موته من سنة حسنة سنها أو سيئة كذلك وقوله تعالى (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) أي عند ما يتقدم الإنسان للاستنطاق فيخبر بما قدم وأخر هناك يحاول أن يتنصل من بعض ذنوبه فتنطق جوارحه ويختم على لسانه فيتخذ من جوارحه شهود عليه فتلك البصيرة (٢) ولو ألقى معاذيره (٣) واعتذر ولا يقبل منه ذلك لكونه شاهدا على نفسه بجوارحه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ بيان إفضال الله على العبد في خلقه وتركيب أعضائه.

٣ ـ معجزة قرآنية اثبتها العلم الصناعي الحديث وهي عدم تسوية خطوط الأصابع.

٤ ـ فكما خالف تعالى بين الإنسان والإنسان وبين صوت وصوت فرق بين خطوط الأصابع فلذا استعملت في الإمضاءات وقبلت في الشهادات.

٥ ـ تقرير مبدأ أن المؤمن يثاب على ما أخر من سنة حسنة يعمل بها بعده كما يأثم بترك السنة السيئة يعمل بها كذلك بعده.

__________________

(١) قرأ نافع برق البصر بفتح الراء ومعناه لمع من شدة شخوصه فهو لا يطرف وقرأ (بَرِقَ) بكسر الراء ومعناه دهش وتحير. وهذا عند موت الإنسان.

(٢) البصيرة جائز أن يراد بها الملكان بقرينة. ولو ألقى معاذيره أي لو أرخى ستوره إذ الستر بلغة اليمن المعذار وجائز أن يكون المراد بها الإنسان نفسه أي حجة على نفسه وما في التفسير أولى بمعناها.

(٣) المعاذير اسم جمع معذرة وليس جمعا ، لأن معذرة حقه أن يجمع على معاذر كمقبرة ومقابر ، والمراد من معاذر الإنسان : ما يعتذر به كقولهم : ما جاءنا من بشير ولا نذير وقولهم (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) وقولهم (هؤُلاءِ أَضَلُّونا) وقولهم والله ربنا ما كنا مشركين.

٤٧٦

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥))

شرح الكلمات :

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) : أي لا تحرك بالقرآن لسانك قبل فراغ جبريل منه.

(لِتَعْجَلَ بِهِ) : أي مخافة أن يتفلت منك.

(إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) : أي في صدرك

(وَقُرْآنَهُ) : أي قراءتك له بحيث نجريه على لسانك.

(فَإِذا قَرَأْناهُ) : أي قرأه جبريل عليك.

(فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) : أي استمع قراءته.

(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) : أي لك بتفهيمك ما يشكل عليك من معانيه.

(كَلَّا) : أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لا بعث ولا جزاء.

(تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) : أي الدنيا فيعملون لها.

(وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) : أم ويتركون الآخرة فلا يعملون لها.

(ناضِرَةٌ) : أي حسنة مضيئة.

(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) : أي إلى الله تعالى ربها ناظرة بحيث لا تحجب عنه تعالى.

(باسِرَةٌ) : أي كالحة مسودة عابسة.

(تَظُنُ) : أي توقن.

(أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) : أي داهية عظيمة تكسر فقار الظهر.

معنى الآيات :

لما ندد تعالى بالمعرضين عن القرآن المكذبين به وبالبعث والجزاء ذكر في هذه الآيات المقبلين على القرآن المسارعين إلى تلقيه فكانت المناسبة بين هذه الآيات وسابقاتها المقابلة بالتضاد.

٤٧٧

فقال تعالى مؤدبا رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تُحَرِّكْ بِهِ) (١) أي بالقرآن (لِسانَكَ) قبل فراغ جبريل من قراءته عليك. إذ كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على القرآن يخاف أن يتفلت منه شيء فأكرمه ربه بالتخفيف عليه وطمأنه أن لا بفقد منه شيئا فقال له (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) مخافة أن يتفلت منك (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) أي في صدرك (وَقُرْآنَهُ) على لسانك حيث نسهل ذلك ونجريه على لسانك ، (فَإِذا قَرَأْناهُ) أي قرأه جبريل عليك (فَاتَّبِعْ) له ثم اقرأه كما قرأه واعمل بشرائعه وأحكامه. وقوله تعالى (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (٢) أي إنا نبين لك ما يشكل عليك من معانيه حتى تعمل بكل ما طلب منك أن تعمل به. وقوله تعالى (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) عاد السياق الكريم إلى تقرير عقيدة البعث والجزاء والتي عليها وعلى الإيمان بالله مدار الإصلاح والتهذيب فقال (كَلَّا) (٣) أي ليس كما تدعون من عدم إمكان البعث والجزاء لأنكم تعملون أن القادر على إيجادكم اليوم وإعدامكم غدا قادر على إيجادكم مرة أخرى ، ولكن الذي جعلكم تكذبون بالبعث والجزاء هو حبكم للحياة للعاجلة أي للدنيا وما فيها من لذات وشهوات ، وترككم للآخرة أي للحياة الآخرة لأنها تكلفكم الصلاة والصيام والجهاد ، والتخلي عن كثير من اللذات والشهوات. بعد أن كشف عن نفسيات المكذبين توبيخا لهم وتقريعا عرض على أنظارهم منظرا حيا وصورة ناطقة لما يتجاهلونه من شأن الآخرة فقال (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ تقوم القيامة (ناضِرَةٌ) أي حسنة (٤) مضيئة مشرقة لأن أرواح أصحابها كانت في الدنيا مشرقة بنور الإيمان وصالح الأعمال (إِلى (٥) رَبِّها ناظِرَةٌ) سعيدة بلقاء ربها مكرمة بالنظر إليه وهي في جواره (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) أي كالحة مسودة عابسة وذلك لأن أرواح أصحابها كانت في الدنيا تعيش على ظلمة الكفر وعفن الذنوب ودخان المعاصي فانطبعت النفس على الوجه فهي باسرة حالكة عابسة (تَظُنُ) أي توقن أي الوجوه والمراد أصحابها (أَنْ يُفْعَلَ (٦) بِها فاقِرَةٌ) أي داهية عظيمة تكسر فقار

__________________

(١) روى الترمذي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه يريد ان يحفظه فأنزل الله تعالى (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) فكان يحرك شفتيه ، وحرك سفيان شفتيه. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

(٢) أي تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام وكيفيات العبادات وجائز أن يبين له الوعد والوعيد بتحقيقهما.

(٣) كلا حرف ردع إبطال وفي التفسير بيان ما أبطل بها.

(٤) وشاهد هذا الحديث : نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها.

(٥) نفى المعتزلة والخوارج وعامة الفرق الضالة نفوا رؤية الله تعالى في الدار الآخرة وردوا بذلك الكتاب والسنة فهذه الآية صريحة في جواز النظر إلى وجه الله تعالى وآية المطففين. (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) فغيرهم من أهل الإيمان وصالح الأعمال غير محجوبين ، ومن السنة حديث البخاري وغيره (إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) فافعلوا (متفق عليه) وأحاديث أخرى ويكفي إجماع أهل السنة والجماعة.

(٦) الفقرة بكسر الفاء وتفتح والجمع فقر وفقار وفقر وفقرات خرزات الظهر.

٤٧٨

الظهر منها وهي القاؤه في (سَقَرَ وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) ، فاذكروا هذا يا بشر!!

(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

شرح الكلمات :

(إِذا بَلَغَتِ) : أي النفس.

(التَّراقِيَ) : جمع ترقوة أي عظام الحلق.

(وَقِيلَ مَنْ راقٍ) : أي وقال من حوله من عواده أو ممرضيه هل هناك من يرقيه ليشفى؟

(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) : أي أيقن انه الفراق للدنيا لبلوغ الروح الحلقوم.

(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) : أي التقت احدى ساقيه بالأخرى أو التفت شدة فراق الدنيا بشدة اقبال الآخرة وما فيها من أهوال.

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) : أي إذا بلغت الروح الحلقوم تساق إلى ربها وخالقها لتلقى جزاءها.

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) : أي الإنسان الذي يحسب أن لن يجمع الله عظامه ما صدق ولا صلى.

(وَلكِنْ كَذَّبَ) : أي بالقرآن.

(وَتَوَلَّى) : أي عن الإيمان.

(يَتَمَطَّى) : أي يتبختر في مشيته إعجابا بنفسه.

(أَوْلى لَكَ) : أي وليك المكروه أيها المعجب بنفسه المكذب بلقاء ربه.

(فَأَوْلى) : أي فهو أولى بك.

(ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) : أي وليك المكروه مرة ثانية فأولى فهو أولى بك أيضا.

(أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) : أي مهملا لا يكلف في الدنيا ولا يحاسب ويجزى في الآخرة.

٤٧٩

تمنى : أي تصب في الرحم.

(فَخَلَقَ فَسَوَّى) : أي خلق الله منها الإنسان فسواه بتعديل أعضائه.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقوله تعالى (كَلَّا) أي ليس الأمر كما تحسب أيها الإنسان أن الله لا يجمع عظامك ولا يحييك ولا يجزيك انظر إليك وانت على فراش الموت إلى أين يكون مساقك (إِذا بَلَغَتِ) روحك (التَّراقِيَ) (١) من عظام حلقك وقال عوادك وممرضوك هل (مَنْ راقٍ) يرقيك أو طبيب يداويك وأيقنت (أَنَّهُ الْفِراقُ) لدنياك وأهلك وذويك ، (وَالْتَفَّتِ) ساقك اليمني باليسرى (٢) وشدة فراقك الدنيا بشدة اقبالك على الآخرة هنا انظر إلى أين يذهب بك أما جسمك فإلى مقره في الأرض تواريك ، وأما روحك فإلى ربك ليحكم فيك. وقد كذبت بآياته وكفرت بالائه. فلا صدقت ولا صليت ، ولكن كذبت وتوليت كان هذا نصيبك من دينك ، وأما دنياك ، فقد كنت تتمطى استكبارا وتتبختر اعجابا. إذا (أَوْلى (٣) لَكَ فَأَوْلى) أي وليك الهلاك في الدنيا (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي وليك العذاب في الأخرى وعودة إلى تقريعك وتوبيخك يا من كفرت ربك وتنكرت لأصلك اسمع ما يقال لك أحسبت أنك تترك سدى ، تعيش سبهللا ، لا تؤمر ولا تنهى ، لا يؤخذ منك ولا تعطي كلا ألم تك قبل كفرك وجحودك نطفة قطرة ماء من مني تمنى قل بلى أو أولى لك فأولى ، ثم كنت علقة فخلقك الله جل جلاله منها فسوى خلقك بتعديل أعضائك فجعل من نوعك الذكر والأنثى. قل لي بربك هل تنكر ذلك فإن قلت لا. قلنا أليس الله بقادر على أن يحيى الموتى؟ سبحانك اللهم بلى (٤).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الرقية إذا كانت بالقرآن أو الكلم الطيب.

٢ ـ التنويه بشأن الزكاة والصلاة فرائض ونوافل.

__________________

(١) التراقي جمع ترقوة وهي العظام المكتفة لنقرة النحر موضع الحشرجة قال دريد بن الصمة

ورب عظيمة دافعت عنهم

وقد بلغت نفوسهم التراقي

(٢) أي التفت شدة فراقك الدنيا بشدة إقبالك على الآخرة هذا أحد وجهين في تفسير الآية وفي التفسير كلا الوجهين إلا أن في هذا خفاء فأوضحته هنا.

(٣) ما هناك حاجة إلى أن يقال هذا في أبي جهل إذ هو خطاب لكل إنسان كافر مشرك ضال وسواء كان قد مضى أهو حاضر اليوم أو يأتي غدا إذ لفظ الإنسان في قوله تعالى (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) لفظ عام.

(٤) لقد استمالني الأسلوب الأدبي فأخذت أخاطب الإنسان الهالك مقرعا موبخا بما تضمنته الآيات؟؟؟ فهم مدلولها للاتعاظ والاهتداء بهديها ، فإن لم يك هذا مرضيا عندك فاعف عني واغفر لي. آمين.

٤٨٠