أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٩

ويفعلون من الباطل والشر والفساد وقوله (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) والجواب وإن قالوا تقوله فإن قولهم لم ينبع من عقولهم ولم يصدر من أحلامهم بل عن كفرهم وتكذيبهم (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) ، والدليل على صحة ذلك تحدى الله تعالى لهم بالإتيان بحديث مثله وعجزهم عن ذلك فلذا هم لا يعتقدون ولا يرون أن الرسول تقول القرآن من عنده ، وإنما لما لم يؤمنوا به لا بد أن يقولوا كلمة يدفعون بها عن أنفسهم فقالوا تقوله فقال تعالى (بَلْ لا (١) يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) أي مثل القرآن (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في قولهم إن الرسول تقوله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب التذكير والوعظ والارشاد على أهل العلم بالكتاب والسنة لأنهم خلفاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أمته.

٢ ـ ذم الكهانة بل حرمتها لأنها من أعمال الشياطين ، والكاهن من يقول بالغيب.

٣ ـ ذم الطغيان فانه منبع كل شر ومصدر كل فتنة وضلال.

٤ ـ حرمة الكذب مطلقا وعلى الله ورسوله بخاصة لما ينشأ عنه من فساد الدين والدنيا.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣))

__________________

(١) (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) أي : علة لقولهم (تَقَوَّلَهُ) إذ هم يعرفون تمام المعرفة أنه ليس من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما مما يوحى إليه من الله تعالى وإنما قالوا : تقوّله لعدم إيمانهم ، ثم تحداهم الحق تعالى بقوله (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في دعواهم أنه تقوّله أي : فليتقوّلوا مثله!!

١٨١

شرح الكلمات :

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟) : أي من غير خالق خلقهم وهذا باطل.

(أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ؟) : أي لأنفسهم وهذا محال إذ الشيء لا يسبق وجوده.

(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟) : أي لم يخلقوهما لأن العجز عن خلق أنفسهم دال على عجزهم عن خلق غيرهم.

(بَلْ لا يُوقِنُونَ) : أي أن الله خلقهم وخلق السموات والأرض كما يقولون إذ لو كانوا موقنين لما عبدوا غير الله ولآمنوا برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) : أي من الرزق والنبوة وغيرهما فيخصوا من شاءوا بذلك من الناس.

(أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) : أي المتسلطون الغالبون فيتصرفون كيف شاءوا.

(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) : أي ألهم مرقى الى السماء يرقون فيه فيسمعون كلام الملائكة فيأتون به ويعارضون الرسول في كلامه.

فليأتوا بسلطان مبين : أي بحجة بينة تدل على صدقه وليس لهم في ذلك كله شيء.

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ)؟ : أي أله تعالى البنات ولكم البنون إن أقوالكم كلها من هذا النوع لا واقع لها أبدا إنها افتراءات.

أم تسئلهم أيها الرسول أجرا : أي على إبلاغ دعوتك.

(فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) : أي فهم من فداحة الغرم مغتمون ومتعبون فكرهوا ما تقول لذلك.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) : أي علم الغيب فهم يكتبون منه لينازعوك ويجادلوك به.

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) : أي مكرا وخديعة بك وبالدين.

(فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) : أي فالكافرون هم المكيدون المغلوبون.

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) : أي ألهم معبود غير الله والجواب : لا.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) : أي تنزه الله عما يشركون به من أصنام وأوثان.

١٨٢

معنى الآيات :

بعد أن أمر تعالى رسوله بالتذكير وأنه أهل لذلك لما أفاض عليه من الكمالات وما وهبه من المؤهلات. أخذ تعالى يلقن رسوله الحجج فيذكر له باطلهم موبخا إياهم به ثم يدمغه بالحق في أسلوب قرآني عجيب لا يقدر عليه الا الله سبحانه وتعالى. ومنه قوله : (أَمْ خُلِقُوا (١) مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي أخلقوا من غير خالق (أَمْ هُمُ (٢) الْخالِقُونَ) والجواب لم يخلقوا من غير خالق ، ولا هم خلقوا أنفسهم إذ الأول باطل فما هناك شيء موجود وجد بغير موجد؟! والثاني محال ؛ إن المخلوق لا يوجد قبل أن يخلق فكيف يخلقون أنفسهم وهم لم يخلقوا بعد؟! ويدل على جهلهم وعمي قلوبهم ما رواه البخاري عن جبير بن مطعم أنه ذكر أنه لما قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وقعة بدر في شأن فداء الأسرى سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور قال فلما بلغ في القراءة عند هذه الآية (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) كاد قلبي يطير. سمعها وهو مشرك فكانت سببا في إسلامه فلو فتح القوم قلوبهم للقرآن لأنارها واسلموا في أقصر مدة.

وقوله تعالى : (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ (٣) وَالْأَرْضَ) والجواب : لا ، إذ العاجز عن خلق ذبابة فما دون عن خلق السموات والأرض وما فيهما أعجز. وقوله تعالى (بَلْ لا يُوقِنُونَ) أن الله هو الذي خلقهم وخلق السموات والأرض فقولهم عند سؤال من خلقهم : الله ، وعن خلق السموات والأرض : الله لم يكن عن يقين إذ لو كان عن يقين منهم لما عبدوا الأصنام ولما أنكروا البعث ولما كذبوا بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله تعالى (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) أي من الأرزاق والخيرات والفواضل والفضائل فيخصوا من شاءوا منها ويحرموا من شاءوا والجواب ليس لهم ذلك فلم إذا ينكرون على الله ما أتى رسوله من الكمال والإفضال؟ (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي الغالبون القاهرون المتسلطون فيتصرفون كيف شاءوا في الملك؟ والجواب : لا ، إذا فلم هذا التحكم الفاسد. وقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ (٤) فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي ألهم مرقى

__________________

(١) هذا إضراب انتقالي إلى ابطال نوع آخر من شبهتهم في إنكار البعث إذ السورة مكية ، والغالب على هذه السورة معالجة عقيدة البعث الآخر والاستفهام المقدر بعد (أَمْ) تقريري.

(٢) الاستفهام المقدر هنا إنكاري.

(٣) الاستفهام تقريري ، وبل المقدرة قبل الاستفهام للانتقال وهكذا يورد. قولهم مقررا لهم ثم يكر عليه فيبطله في جميع هذه الجمل المبدوءة ب أم المنقطعة.

(٤) السلم : المصعد ، وجمعه سلالم قال الشاعر :

ومن هاب أسباب المنية يلقها

ولو رام أسباب السماء بسلّم

وقال آخر :

لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا

يبنى له في السموات السلاليم

أحجاء البلاد : أرجاؤها ونواحيها.

١٨٣

يرقون فيه إلى السماء فيستمعون الى الملائكة فيسمعون منهم ما يمكنهم ان ينازعوا فيه رسولنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليأت مستمعهم بحجة واضحة ظاهرة على دعواه ومن أين له ذلك وقد حجبت الشياطين والجن عن ذلك فكيف بغير الجن والشياطين.

وقوله : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) أي لله تعالى البنات ولكم البنون إن جميع ما تقولونه من هذا النوع هو كذب ساقط بارد ، وافتراء ممقوت ممجوج إن نسبتهم البنات لله كافية في رد كل ما يقولون ومبطلة لكل ما يدعون فإنهم كذبة مفترون لا يتورعون عن قول ما تحيله العقول ، وتتنزه عنه الفهوم. وقوله : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي أتسألهم يا رسولنا عما تبلغهم عنا أجرا فهم لذلك مغتمون ومتعبون فلا يستطيعون الإيمان بك ولا يقدرون على الأخذ عنك.

وقوله : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ (١) يَكْتُبُونَ) أي أعندهم علم الغيب فهم منهمكون في كتابته لينازعوك فيما عندك ويحاجوك بما عندهم ، والجواب من أين لهم ذلك ، وقوله : (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) أي أيريدون بك وبدينك كيدا ؛ ليقتلوك ويبطلوا دينك (فَالَّذِينَ كَفَرُوا (٢) هُمُ الْمَكِيدُونَ) ولست أنت ولا دينك. ولم يمض عن نزول هذه الآيات طويل زمن حتى هلك أولئك الكائدون ونصر الله رسوله وأعز دينه والحمد لله رب العالمين.

وقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) أي ألهم (٣) إله أي معبود غير الله يعبدونه والحال أنه لا إله إلا الله (سُبْحانَ) (٤) (اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه الله وتقدس عما يشركونه به من أصنام وأوثان لا تسمع ولا تبصر فضلا عن أن تضر أو تنفع.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد بذكر دلائله.

٢ ـ تقرير النبوة المحمديّة.

٣ ـ تسفيه أحلام المشركين.

٤ ـ عدم مشروعية أخذ أجر على إبلاغ الدعوة.

٥ ـ لا يعلم الغيب إلا الله.

__________________

(١) حاصل معنى هذا : أنهم لا قبل لهم بإنكار ما جحدوه من البعث والوعيد والنبوة ولا بإثبات ما أثبتوه من الشرك وما وصفوا به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صفات مستحيلة الوقوع.

(٢) لم يمض يسير زمن حتى هلك رؤساء الشرك في بدر مصداق قوله تعالى : (هُمُ الْمَكِيدُونَ) كقوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

(٣) الاستفهام إنكاري.

(٤) نزّه تعالى نفسه أن يكون له شريك كما زعم المشركون وادعوا باطلا فأبطل بذلك كل دعاويهم في تأليه غيره تعالى من الأصنام والشياطين.

١٨٤

٦ ـ صدق القرآن في أخباره آية أنه وحي الله وكلامه صدقا وحقا إنه لم يمض إلا قليل من الوقت أي خمسة عشر عاما حتى ظهر مصداق قول الله تعالى فالذين كفروا هم المكيدون.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

شرح الكلمات :

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) : أي وإن ير هؤلاء المشركون قطعة من السماء تسقط عليهم.

(يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) : أي يقولوا في القطعة سحاب متراكم يمطرنا ولا يؤمنوا.

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) : أي فاتركهم إذا يجاحدون ويعاندون حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون وهو يوم موتهم.

(يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) : أي اتركهم الى ما ينتظرهم من العذاب ما داموا مصرين على الكفر وذلك يوم لا يغنى عنهم مكرهم بك شيئا من الإغناء.

(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) : أي وإن لهؤلاء المشركين الظلمة عذابا في الدنيا دون

١٨٥

عذاب يوم القيامة وهو عذاب القحط سبع سنين وعذاب القتل في بدر.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : أي أن العذاب نازل بهم في الدنيا قبل يوم القيامة.

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) : أي بإمهالهم ولا يضق صدرك بكفرهم وعنادهم وعدم تعجيل العذاب لهم.

(فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) : أي بمرأى منا نراك ونحفظك من كيدهم لك ومكرهم بك.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) : أي واستعن على الصبر بالتسبيح الذي هو الصلوات الخمس والذكر بعدها والضراعة والدعاء صباح مساء.

معنى الآيات :

يذكر تعالى من عناد المشركين أنهم لو رأوا العذاب نازلا من السماء في صورة قطعة كبيرة من السماء ككوكب مثلا لما أذعنوا ولا آمنوا بل قالوا في ذلك العذاب (سَحابٌ مَرْكُومٌ) الآن يسقى ديارنا فنرتوي وترتوي أراضينا وبهائمنا. إذا فلما كان الأمر هكذا (فَذَرْهُمْ) (١) يا رسولنا في عنادهم وكفرهم (حَتَّى يُلاقُوا) وجها لوجه (يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) أي يموتون (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ (٢) شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ، فيذهب كيدهم ولا يجدون له أي أثر بحيث لا يغنى عنهم أدنى إغناء من العذاب النازل بهم ولا يجدون من ينصرهم ، وذلك يوم القيامة.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أنفسهم أي بالكفر والتكذيب والشرك والمعاصى (عَذاباً دُونَ) (٣) (ذلِكَ) المذكور من عذاب يوم القيامة وهو ما أصابهم به من سني القحط والمجاعة وما أنزله بهم من هزيمة في بدر حيث قتل صناديدهم وذلوا وأهينوا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك ، ولو علموا لما أصروا على العناد والكفر.

وقوله تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) وقضائه بتأخير العذاب عن هؤلاء المشركين ، ولا تخف ولا تحزن (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي بمرأى منا نراك ونحفظك ، وجمع لفظ العين على أعين مراعاة لنون العظمة وهو المضاف إليه «بأعيننا».

وقوله (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي قل سبحان الله وبحمده (حِينَ تَقُومُ) (٤) من نومك ومن مجلسك

__________________

(١) يقال في مثل هذا : هو منسوخ بآية السيف.

(٢) هو ما كانوا يكيدون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يمكرون به.

(٣) جائز أن يكون عذاب القبر.

(٤) شاهده ما رواه الترمذي بإسناد حسن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك ، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذاك).

١٨٦

(وَمِنَ اللَّيْلِ) ايضا (فَسَبِّحْهُ) بصلاة المغرب والعشاء والتهجد وكذا (إِدْبارَ النُّجُومِ) أي بعد طلوع الفجر فسبح بصلاة الصبح وغيرها.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عناد كفار قريش ومكابرتهم فى الحق ومجاحدتهم فيه.

٢ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهى للدعاة بعده أيضا.

٣ ـ تقرير وخامة عاقبة الظلم في الدنيا قبل الآخرة.

٤ ـ وجوب الصبر على قضاء الرب وعدم الجزع.

٥ ـ مشروعية التسبيح عند القيام (١) من النوم بنحو : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير والحمد لله الذى أحيانى بعدما أماتنى وإليه النشور.

سورة النجم

مكية

وآياتها ثنتان وستون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ

__________________

(١) يرى ابن مسعود رضي الله عنه أن قوله : (حِينَ تَقُومُ) شامل لكل قيام يقومه من أي مكان.

١٨٧

نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨))

شرح الكلمات :

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) : أي والثريا إذا غابت بعد طلوعها.

(ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) : أي ما ضل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طريق الهدى.

(وَما غَوى) : أي وما لابس الغى وهو جهل من اعتقاد فاسد.

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) : أي عن هوى نفسه أي ما يقوله عن الله تعالى لم يصدر فيه عن هوى نفسه.

(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) : أي ما هو إلا وحى إلهى يوحى إليه.

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) : أي علمه ملك شديد القوى وهو جبريل عليه‌السلام.

(ذُو مِرَّةٍ) : أي لسلامة فى جسمه وعقله فكان بذلك ذا قوة شديدة.

(فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) : أي استقر وهو بأفق الشمس عند مطلعها على صورته التى خلقه الله عليها فرآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان بجياد قدسد الأفق الى المغرب وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي طلب من جبريل أن يريه نفسه فى صورته التي خلقه الله عليها.

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) : أي وقرب منه فتدلى أى زاد فى القرب.

(فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) : أي فكان فى القرب قاب قوسين أي مقدار قوسين.

(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) : أي فأوحى الله تعالى إلى عبده جبريل ما أوحاه جبريل الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) : أي ما كذب فؤاد النبي ما رأى ببصره من صورة جبريل عليه‌السلام.

(أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) : أي أفاتجادلونه أيها المشركون على ما يرى من صورة جبريل.

١٨٨

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) : أي على صورته مرة أخرى وذلك فى السماء ليلة أسرى به.

(عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) : وهي شجرة نبق عن يمين العرش لا يتجاوزها أحد من الملائكة.

(عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) : أي تأوى إليها الملائكة وأرواح الشهداء والمتقين أولياء الله.

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) : أي من نور الله تعالى ما يغشى.

(ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) : أي ما مال بصر محمد يمينا ولا شمالا ، ولا ارتفع عن الحد الذي حدد له.

(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) : أي رأى جبريل في صورته ورأى رفرفا أخضر سد أفق السماء.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالنَّجْمِ) (١) إلى قوله (مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) يقرر به تعالى نبوة محمد عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أقسم بالنجم إذا هوى وهو نجم الثريا إذا غاب في الأفق على أنه ما ضل محمد صاحب قريش الذي صاحبته منذ ولادته ولم يغب عنها ولم تغب عنه مدة تزيد على الأربعين سنة فهى صحبة كاملة (ما ضَلَ) عن طريق الهدى وهم يعرفون هذا ، (وَما غَوى) (٢) أيضا أية غواية وما لابسه جهل في قول ولا عمل فغوى به. (وَما يَنْطِقُ) بالقرآن وغيره مما يقوله ويدعو إليه عن هوى (٣) نفسه كما قد يقع من غيره من البشر (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أي ما هو أي الذي ينطق به ويدعو إليه ويعمله إلا وحى يوحى إليه. (عَلَّمَهُ) إياه ملك (شَدِيدُ الْقُوى (٤) ذُو مِرَّةٍ) أي سلامة عقل وبدن فكان بذلك قويا روحيا وعقليا وذاتيا وهو جبريل عليه‌السلام وقوله : (فَاسْتَوى) أي جبريل (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) ومعنى استوى استقر (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) أي تدلى فدنا أي قرب شيئا فشيئا حتى كان من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قابَ قَوْسَيْنِ) أي قدر قوسين والقوس معروف آلة للرمي (أَوْ أَدْنى) أي من قاب قوسين (٥).

__________________

(١) أصل النجم : الطلوع والظهور يقال : نجم السّن : إذا طلع ، ونجم السر إذا ظهر وأطلق النجم بالغلبة على الثريا. الهوي : السقوط يقال : هوى يهوي هويا كمضى يمضي مضيا. وهوى يهوي هويا : إذا خسر للسجود ، ومن الحب يقال : هوى يهوى هوى كرضي يرضى رضا : إذا أحب.

(٢) الغيّ : ضد الرشد ، والغواية مثله : وهو فساد الرأي وتعاطي الإنسان الباطل من الأقوال والأفعال مما لا خير فيه البتة.

(٣) الهوى : ميل النفس إلى ما تحبّه أو تحبّ أن تفعله دون اقتضاء العقل السليم الحكيم له وفعله : هوى يهوى كرضي يرضى هوى.

(٤) (شَدِيدُ الْقُوى) صفة لموصوف محذوف أي : علّمه ملك شديد القوى هو جبريل اجماعا ، والمرة : تطلق على قوة الذات وعلى متانة العقل معا ، وعليهما كان جبريل عليه‌السلام.

(٥) أي : مقدار قوسين.

١٨٩

وقوله تعالى (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) (١) أي فأوحى الله تعالى إلى جبريل ما أوحى إلى نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) أي ما كذب فؤاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآه محمد ببصره وهو جبريل في صورته التي خلقه الله تعالى عليها ذات الستمائة جناح طول الجناح ما بين المشرق والمغرب. وقوله تعالى : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) هذا خطاب للمشركين المنكرين لرؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينكر تعالى ذلك عليهم بقوله (أَفَتُمارُونَهُ) أي تجادلونه وتغالبونه أيها المشركون على ما يرى ببصره. (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) (٢) أي مرة أخرى (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) (٣) وذلك ليلة أسرى به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووصفت هذه السدرة (٤) وهي شجرة النبق بأن أوراقها كآذان الفيلة وأن ثمرها كغلال هجر قال فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشيها تغيّرت فما أحد من خلق الله تعالى يقدر أن ينعتها من حسنها ، وسميت سدرة المنتهى لانتهاء علم كل عالم من الخلق إليها أو لكونها عن يمين العرش لا يتجاوزها أحد من الملائكة. وقوله (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) أي الجنة التى تأوى إليها الملائكة وأرواح الشهداء ، والمتقين أولياء الله تعالى.

وقوله تعالى : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) (٥) أي من نور الله تعالى ، والملائكة من حب الله مثل الغربان حين تقفز على الشجر كذا روى ابن جرير الطبرى. وقوله (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) أي ما مال بصر محمد يمينا ولا شمالا ولا ارتفع فوق الحد الذي حدد له. (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ (٦) رَبِّهِ الْكُبْرى) أي رأى جبريل في خلقه الذي يكون فيه في السماء ورأى رفرفا أخضر قد سد الأفق ورأى من عجائب خلق الله ومظاهر قدرته وعلمه ما لا سبيل إلى إدراكه والحديث عنه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة لمحمد وإثباتها بمالا مجال للشك والجدال فيه.

٢ ـ تنزيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القول بالهوى أو صدور شيء من أفعاله أو أقواله من اتباع الهوى.

٣ ـ وصف جبريل عليه‌السلام.

٤ ـ إثبات رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل وعلى صورته التي يكون في السماء عليها مرتين.

٥ ـ تقرير حادثة الإسراء والمعراج وإثباتها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦ ـ بيان حقيقة سدرة المنتهى.

__________________

(١) (ما أَوْحى) إبهام من أجل التفخيم أي : أوحى إليه شيئا عظيما.

(٢) (نَزْلَةً) على وزن فعلة من النزول دال على المرة أي : رآه إذ نزل إليه مرة أخرى.

(٣) السدر شجر معروف صحراوي فيه ثلاث ميزات : ظل ظليل وثمر لذيذ ورائحة ذكية.

(٤) هذا الوصف رواه مسلم في صحيحه.

(٥) في قوله (ما يَغْشى) من التفخيم ما فيه.

(٦) جملة : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ) تذييل أي : رأى آيات أخرى غير سدرة المنتهى وجنة المأوى وما غشي السدرة من البهجة والجلال والآيات : دلائل عظمة الله تعالى.

١٩٠

(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦))

شرح الكلمات :

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) : أي أخبروني عن أصنامكم التى اشتققتم لها أسماء من أسماء الله وأنثتموها.

(وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (١) : وجعلتموها بنات لله ، افتراء على الله وكذبا عليه.

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) : أي أتزعمون أن لكم الذكر الذي ترضونه لأنفسكم ولله الأنثى التي لا ترضونها لأنفسكم.

(تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) : أي قسمتكم هذه إذا قسمة ضيزى أي جائرة غير عادلة ناقصة غير تامة.

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) : أي ما اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى إلا أسماء لا حقيقة لها.

(أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) : أي سميتموها بها أنتم وآباؤكم.

(ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) : أي لم ينزل الله تعالى وحيا يأذن في عبادتها.

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) : أي ما يتبع المشركون في عبادة أصنامهم إلا الظن والخرص والكذب.

__________________

(١) هدمها خالد بن الوليد بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما شرع في هدمها قال لها :

يا عزّ كفرانك لا سبحانك

إني رأيت الله قد أهانك

١٩١

(وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) : أي وما يتبعون الا ما تهواه نفوسهم وما تميل إليه شهواتهم.

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) : أي بل اللإنسان ما تمنّى والجواب لا ليس له كل ما يتمنى.

(فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) : أي إن الآخرة والأولى كلاهما لله يهب منهما ما يشاء لمن يشاء.

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ) : أي وكثير من الملائكة في السموات.

(لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) : أي لو أرادوا أن يشفعوا لأحد حتى يكون الله قد أذن لهم ورضى للمسموح له بالشفاعة.

معنى الآيات :

بعد أن ذكر تعالى مظاهر قدرته وعظمته وعلمه وحكمته في الملكوت الأعلى جبريل وسدرة المنتهى وما غشاها من نور الله وما أرى رسوله من الآيات الكبرى ، خاطب المشركين بقوله (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ) (١) (وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) أي أعميتم فرأيتم هذه الأصنام أهلا لأن تسوّى بمن له ملكوت السموات والأرض وعبدتموها معه على حقارتها ودناءتها ، وأزددتم عمى فاشتقتتم لها من أسماء الله تعالى أسماء فمن العزيز اشتققتم العزى ومن الله اشتققتم اللات ، وجعلتموها بنات لله افتراء على الله بزعمكم أنها تشفع لكم عند الله. أخبرونى (أَلَكُمُ الذَّكَرُ) (٢) لأنكم تحبون الذكران وترضون بهم لأنفسكم ، (وَلَهُ الْأُنْثى) لأنكم تكرهونها ولا ترضون بها لأنفسكم ، إذا كان الأمر على ما رأيتم فإنها (قِسْمَةٌ ضِيزى) (٣) أي جائرة غير عادلة وناقصة غير تامة فكيف ترضونها لمن عبدتم الأصنام من أجل التوسل بها إليه ليقضى حوائجكم؟ (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ). إن أصنامكم أيها المشركون لا تعدو كونها أسماء لآلهة لا وجود لها ولا حقيقة في عالم الواقع إذ لا إله إلا الله ، أما اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فلم تكن آلهة تحيى وتميت وتعطى وتمنع وتضر وتنفع. إن هي أي ما هي إلا (أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ

__________________

(١) انتقل الكلام من تقرير النبوة المحمدية إلى تقرير الإلهية الربانية ، واللات أصله : لات فأدخلوا عليه ال فصار اللات ، وهي صنم لثقيف كانت قريش والعرب يعبدونه ، وقيل : هو وصف لرجل كان يلت السوق للحجاج ثم صنع له صنم تمثالا وألهته ثقيف وقريش وجمهور العرب والعزى اسم مشتق من العز وهي فعلى ككبرى : صنم عليه بناء كان بوادي نخلة فوق (ذات عرق) ميقات أهل العراق قريبا من الطائف ومناة : صنم كان لخزاعة كان بالمشلل حذو قديد بين مكة والمدينة وكان الأوس والخزرج يهلون منه ويطوفون به كالسعي بين الصفا والمروة.

(٢) تقديم الجار والمجرور في (أَلَكُمُ الذَّكَرُ) للاهتمام بالاختصاص.

(٣) (ضِيزى) اسم كدفلي وشعرى ، وهو مشتق من ضاز يضيز ضيزا : إذا ظلم وتعدى وبخس وانتقص. قال الشاعر :

ضازت بنو أسد بحكمهم

إذ يجعلون الرأس كالذنب

١٩٢

سُلْطانٍ) أي لم ينزل بها وحيا يأذن بعبادتها. وهنا التفت الجبار جل جلاله في الخطاب عنهم وقال (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي إن هؤلاء المشركين ما يتبعون في عبادة هذه الأصنام إلّا الظن ، فلا يقين لهم في صحة عبادتها. كما يتبعون في عبادتها (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أي هوى أنفسهم (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) فبيّن لهم الصراط السوى فأعرضوا عنه وهو الحق من ربهم. وتعلقوا بالأمانى الكاذبة وأن أصنامهم تشفع لهم ، (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) (١) والجواب ليس له ما تمنى ، إذ (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) يعطى منها ما يشاء ويمنع ما يشاءوكم (٢) (مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ) لا يعدون كثرة (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) من الإغناء ولو قلّ (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ) أن يشفع من الملائكة وغيرهم ، (وَيَرْضى) عن المشفوع له ، وإلّا فلا شافع ولا شفاعة تنفع عند الله الملك الحق المبين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بالشرك والمشركين وتسفيه أحلامهم لعبادتهم اسماء لا مسميات لها فى الخارج إذ تسمية حجرا إلها لن تجعله إلها.

٢ ـ بيان أن المشركين في كل زمان ومكان ما يتبعون في عبادة غير الله إلا أهواءهم.

٣ ـ بيان أن الانسان لا يعطى بأمانيه ، ولكن بعمله وصدقه وجده فيه.

٤ ـ بيان أن الدنيا كالآخرة لله فلا ينبغي أن يطلب شيء منها إلا من الله مالكها.

٥ ـ كل شفاعة ترجى فهى لا تحقق شيئا الا بتوفر شرطين الأول أن يأذن الله للشافع فى الشفاعة والثانى أن يكون الله قد رضي للمشفوع له بالشفاعة والخلاصة هى : الإذن للشافع والرضا عن المشفوع.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠))

__________________

(١) الاستفهام المقدر بعد أم إنكاري المقصود منه إبطال حصول الإنسان على ما يتمناه.

(٢) هذه الجملة تأكيد لإبطال حصول الإنسان على ما يتمناه وإبطال لاعتقاد المشركين في أن آلهتهم تشفع لهم عند الله عزوجل.

١٩٣

شرح الكلمات

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) : أي إن الذين لا يؤمنون بالبعث والحياة الآخرة.

(لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) : أي ليطلقون على الملائكة أسماء الإناث إذ قالوا بنات الله.

(وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) : أي وليس لهم بذلك علم من كتاب ولا هدى من نبي ولا عقل سوى

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) (١) : أي في تسميتهم الملائكة إناثا إلا مجرد الظن ، والظن لا تقوم به حجة ولا يعطى به حق.

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) : أي القرآن وعبادتنا.

(وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) : ولم يرد من قوله ولا عمله إلا ما يحقق رغائبه من الدنيا.

(ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) : أي ذلك الطلب للدنيا نهاية علمهم إذ آثروا الدنيا على الآخرة.

معنى الآيات :

لما ندد تعالى بالمشركين الذين جعلوا من الأصنام والأوهام والأمانى آلهة وجادلوا دونها وجالدوا ذكر ما هو علة ذلك التخبط والضلال فقال : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) دار السعادة الحقة أو الشقاء (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) فلو آمنوا بالآخرة لما سموا الملائكة بنات الله لأن المؤمن بالآخرة يحاسب نفسه على كل قول وعمل له تبعة يخشى أن يؤخذ بها بخلاف الذي لا يؤمن بالآخرة فإنه يقول ويفعل ما يشاء لعدم شعوره بالمسئولية والتبعة التى قد يؤخذ بها فيهلك ويخشى كل شيء وهو تعليل سليم حكيم.

وقوله تعالى : (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ (٢) عِلْمٍ) أي ليس لهم في ادعائهم أن الملائكة بنات الله أي علم يعتد به (إِنْ يَتَّبِعُونَ) فيه (إِلَّا الظَّنَ) والظن أكذب الحديث ، (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) وبناء على هذا أمر الله تعالى رسوله أن يعرض عمن تولى منهم عن الحق بعد معرفته وعن الهدى بعد مشاهدته فقال تعالى (فَأَعْرِضْ (٣) عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) أي القرآن والإيمان والتوحيد والطاعة ، (وَلَمْ يُرِدْ) بقوله وعمله واعتقاده (إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) إذ هو لا يؤمن بالآخرة فلذا هو قد كيّف حياته بحسب

__________________

(١) حذّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القول بالظن وكذا العمل به ففي الصحيح قال (إيّاكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)!!

(٢) نفي العلم عنهم حجة قاطعة على ادعائهم لأنّ ما لا يثبت بالعلم النقلي أو العقلي لا تقوم به حجة ولا يثبت به شيء وقد وبّخهم تعالى في قوله : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ)؟

(٣) قيل نزلت هذه الآية فى النضر بن الحارث ، والوليد بن المغيرة ، والآية نزلت قبل الأمر بالجهاد.

١٩٤

الدنيا فكل تفكيره في الدنيا ، وكل عمله لها فيصبح بذلك أشبه بالآلة منه بالحيوان. وتصبح الحياة معه عقيمة الفائدة فلذا يجب الإعراض عنه وتركه إلى أن يأذن الله فيه بشيء.

وقوله تعالى (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ (١) مِنَ الْعِلْمِ) أي هذا الطلب للدنيا هو ما انتهى إليه علمهم فلذا هم آثروها عن الآخرة التي لم يعلموا عنها شيئا.

وقوله تعالى في خطاب رسوله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَ (٢) عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) أي إن ربك أيها الرسول هو أعلم منك ومن غيرك بمن ضل عن سبيله قدرا وأزلا فضل في الحياة الدنيا أيضا ، وهو أعلم بمن اهتدى ، قضاء وقدرا وواقعا في الحياة الدنيا وسيجزى كلا بما عمل من خير أو شر فلا تأس يا رسولنا ولا تحزن وفوّض الأمر إلينا فإنا عالمون ومجازون كل عامل بما عمل في دار الجزاء.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ أكثر الأمراض مردها إلى قلب لا يؤمن بالآخرة.

٢ ـ أكثر الفساد في الأرض هو نتيجة الجهل وعدم العلم اليقيني.

٣ ـ التحذير من الماديين فإنهم شر وخطر وواجب الإعراض عنهم لأنهم شر الخليقة.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢))

__________________

(١) قال الفراء : صغّرهم وازدرى بهم أي : ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة.

(٢) هذه الجملة تعليل لجملة : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى) والجملة متضمنة زيادة على التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوعد والوعيد فالوعد للمهتدين من الرسول والمؤمنين والوعيد للمشركين الضالين عن سبيل الهدى فإن جزاءهم الشقاء في دار الشقاء.

١٩٥

شرح الكلمات :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : أي خلقا وملكا وتصرفا.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) : ليعاقب الذين أساءوا بما عملوا من الشرك والمعاصي.

(وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) : ويثيب الذين أحسنوا في إيمانهم وعملهم الصالح بالجنة.

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) : أي يتجنبون كبائر الذنوب وهو كل ذنب وضع له حد أو لعن فاعله أو توعد عليه بالعذاب في الآخرة.

(وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) : أي الذنوب القبيحة كالزنا واللواط وقذف المحصنات والبخل واللمم صغائر الذنوب التى تكفر باجتناب كبائرها.

(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) : أي خلق أباكم آدم من تراب الأرض.

(وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) : أي وأنتم في أرحام أمهاتكم لم تولدوا بعد.

(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) : أي فلا تمدحوها على سبيل الفخر والإعجاب.

(هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) : أي منكم بمن اتقى منكم وبمن فجر فلا حاجة الى ذكر ذلك منكم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير ربوبيته تعالى المطلقة لكل شيء إذ تقدم في السياق قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) وهنا قال عز من قائل (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وتصرفا وتدبيرا فهو يهدى من يشاء ويضل من يشاء هداية تابعة لحكمة وإضلال كذلك يدل عليه قوله تعالى (لِيَجْزِيَ (١) الَّذِينَ أَساؤُا) أي إلى أنفسهم (بِما عَمِلُوا) من الشرك والمعاصى يجزيهم بالسوء وهي جهنم (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا) إلى أنفسهم فزكوها وطهروها بالإيمان والعمل الصالح يجزيهم (بِالْحُسْنَى) (٢) التى هي الجنة وقوله (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ (٣) وَالْفَواحِشَ) بيّن فيه وجه إحسان المحسنين إلى أنفسهم حين طهروها بالإيمان وصالح الأعمال ولم يلوثوها بأوضار كبائر الإثم من كل ما توعد فاعله بالنار أو بلعن أو إقامة حد ، أو غضب الرب.

__________________

(١) هذه اللام هي لام التعليل إذ أوجد الله تعالى العوالم العلوية والسفلية من أجل الإنسان ، وأوجد الإنسان للذكر والشكر فمن ذكر وشكر وهو المحسن فله الجنة ومن نسي وكفر فله السوأى وهي النار.

(٢) أي : بالمثوبة الحسنى وهي الجنة ، والحسنى صفة لموصوف محذوف وهي المثوبة.

(٣) (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) الخ صفة للذين أحسنوا أي : أحسنوا بفعل الواجبات واجتنبوا كبائر الذنوب والسيئات حتى لا تتلوث أرواحهم بعد تطهرها بالأعمال الصالحة.

١٩٦

والفواحش من زنا ولواط وبخل وقوله (إِلَّا اللَّمَمَ (١) إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) أي لكن اللمم يتجاوز عنه وهو ما ألم به المرء وتاب منه أو فعله في الجاهلية ثم أسلم ، وما كان من صغائر الذنوب كالنظرة والكلمة والتمرة. وقد فسر بقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدركه ذلك لا محالة فزنا العينين النظر وزنا اللسان المنطق والنفس تتمنى وتشتهى ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه. فمغفرة الله واسعة تشمل كل ذنب تاب منه فاعله كما تشمل كل ذنب من الصغائر.

وقوله تعالى (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أعلم بضعفنا وغرائزنا وحاجاتنا وعجزنا منّا نحن بأنفسنا ولذا تجاوز لنا عن اللمم الذى نلمّ به بحكم العجز والضعف ، فله الحمد والمنة. وقوله : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) (٢) ينهى الرب تعالى عباده المؤمنين عن تزكية المرء نفسه بإدعاء الكمال والطهر الأمر الذي يكون فخرا وإعجابا والإعجاب بالنفس محبط للعمل كالرياء والشرك فقوله (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا تشهدوا عليها بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصى وقوله (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) أي ان الله أعلم بمن اتقى منكم ربه فخاف عقابه فأدى الفرائض واجتنب المحرمات منا ومن المتقى نفسه فلذا لا تمدحوا أنفسكم له فإنه أعلم بكم من أنفسكم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير ربوبية الله تعالى لكل شيء وهي مستلزمة لإلوهيته.

٢ ـ تقرير حرية إرادة الله يهدى من يشاء ويضل ويعذب من شاء ويرحم إلا أن ذلك تابع لحكم عالية.

٣ ـ تقرير قاعدة الجزاء من جنس العمل.

٤ ـ تقرير قاعدة أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر.

٥ ـ حرمة تزكية النفس وهى مدحها والشهادة عليها بالخير والفضل والكمال والتفوق.

__________________

(١) عن ابن عباس : هو الرجل يلمّ بالذنب ثم ينزع عنه ، واستشهد قائلا :

إن تغفر اللهم تغفر جما

وأي عبد لك ما ألما

(٢) في الآية دليل على كراهة تزكية العبد نفسه أو تزكية غيره ففي الحديث الصحيح : (أنه لم يرض لهم تسمية برّة وقرأ : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) الآية : وقال سمّوها زينب) وفي الصحيح (أنه سمع رجلا يمدح آخر فقال له : ويلك قطعت عنق صاحبك ـ مرارا ـ إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل : أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك) روى مسلم (أن رجلا أتى عثمان فأثنى عليه في وجهه ، فجعل المقداد بن الأسود يحثو التراب في وجهه ويقول : أمرنا رسول الله أن نحثو التراب في وجوه المداحين).

١٩٧

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤))

شرح الكلمات :

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) : أي عن الإسلام بعد ما قارب أن يدخل فيه.

(أَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) : أي أعطى من زعم أنه يتحمل عنه عذاب الآخرة أعطاه ما وعده من المال ثم منع.

(أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) : أي يعلم أن غيره يتحمل عنه العذاب والجواب لا.

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) : أي أم بل لم يخبر بما ورد فى الصحف المذكورة وهي التوراة وعشر صحف كانت لابراهيم عليه‌السلام.

(أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) : أي أنه لا تحمل نفس مذنبة ذنب غيرها.

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) : أي من خير وشر ، وليس له ولا عليه من سعي غيره شيء.

(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) : أي يبصر يوم القيامة ويراه بنفسه.

١٩٨

(ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) : أي الأكمل التام الذي لا نقص فيه.

(أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) : أي المرجع والمصير إليه ينتهى أمر عباده بعد الموت ويجازيهم.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) : أي أفرح من شاء فأضحكه ، وأحزن من شاء فأبكاه.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) : أمات في الدنيا وأحيا في الآخرة.

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ) : أي الصنفين الذكر والأنثى.

(مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) : أي من منى إذا تمنى تصبّ فى الرحم.

(وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) : أي الخلقة الثانية للبعث والجزاء.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) : أي وأنه هو وحده أغنى بعض الناس بالكفاية ، واقنى بعض الناس بالمال المقتنى المدخر للقنية.

(وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) : أي خالقها ومالكها وهى كوكب خلف الجوزاء عبده المشركون.

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) : أي قوم هود عليه‌السلام.

(وَثَمُودَ فَما أَبْقى) : أي أهلكها أيضا فلم يبق منهم أحدا وهم قوم صالح.

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) : أي وأهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود وقوم لوط.

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) : أي وقرى قوم لوط اسقطها بعد رفعها الى السماء مقلوبة إلى الأرض إذ الائتفاك الانقلاب.

(فَغَشَّاها ما غَشَّى) : أي بالعذاب ما غشى حيث جعل عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من سجيل.

معنى الآيات :

إن هذه الآيات ترسم صورة لقرشي جاهل هو الوليد بن المغيرة إذ قدر له أن استمع الى قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهش لها ودعاه الرسول فأسلم أو أوشك أن يسلم فعلم به أحد المشركين من شياطينهم فجاءه فعيره بإسلامه وترك دين آبائه فاعتذر له الوليد بأنه يخاف عذاب الله فقال له الشيطان القرشي وكان فقيرا والوليد غنيا أعطنى كذا من المال شهريا أو اسبوعيا أو سنويا وأنا اتحمل عنك العذاب الذي تخافه وعد إلى دينك واثبت عليه فوافق الولد على العرض وأخذ

١٩٩

يعطيه المال. ثم أكدى (١) أي قطع عنه ما كان يعطيه ومنعه. فأنزل الله تعالى فيه هذه الآيات تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعليما وتحذيرا لكل من تبلغه ويقرأها أو تقرأ عليه فقال تعالى في أسلوب حمل فيه السامع على التعجب : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) أي عن الإسلام بعد أن قارب الوصول إليه والدخول فيه ، (وَأَعْطى قَلِيلاً) أي من المال للشيطان المشرك الذي اتفق معه على أن يتحمل عليه العذاب مقابل مال يعطيه إياه أقساطا ، (وَأَكْدى) أي قطع ومنع لأن الذي يحفر بئرا في أرض أحيانا تصادفه كدية من الأرض الصلبة يعجز عن الحفر فينقطع عن الحفر ويمتنع كذلك الوليد اعطى ثم امتنع وهو معنى اكدى أي انتهى الى كدية من الأرض الصلبة.

وقوله تعالى : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) (٢) أي أن المرء في امكانه أن يتحمل عذاب غيره يوم القيامة والجواب لا علم غيب عنده لا من كتاب ولا من سنة ، (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) وهي التوراة (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) لربه في كل ما عهد به إليه من ذبح ولده حيث تله للجبين ليذبحه ، ومن بناء البيت والهجرة والختان بالقدوم إلى غير ذلك من التكاليف الشاقة. أي ألم ينبأ أي يخبر هذا الرجل الجاهل بما في صحف موسى بن عمران نبي بنى إسرائيل وإبراهيم أبو الأنبياء ثم بين تعالى ما تضمنته تلك الصحف من علم فقال :

* (أَلَّا تَزِرُ (٣) وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أن لا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى.

* (وَأَنْ لَيْسَ (٤) لِلْإِنْسانِ) من ثواب يوم القيامة (إِلَّا ما سَعى) في تحصيله بنفسه وهذا لا يتعارض مع قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية أو علم ينتفع به إذ هذه الثلاثة أمور من عمل الإنسان وسعيه الولد انجبه ورباه والصدقة الجارية أوقفها بنفسه والعلم تعلمه وبثّه فى الناس وعلمه فالجميع من سعيه وكسبه.

* (وَأَنَّ سَعْيَهُ) أى عمله في الدنيا من خير وشر (سَوْفَ يُرى) علانية ويجزى به خيرا كان أو شرا والجزاء الأوفى أي الأكمل الأتم.

__________________

(١) يقال : أكدى الحافر وأجبل إذا بلغ في حفره كدية أو جبلا فلا يمكنه أن يحفر ، ثم استعمل فيمن أعطى ولم يتمم ، ولمن طلب شيئا ولم يبلغ آخره. قال الحطيئة :

أعطى قليلا ثم أكدى عطاءه

ومن يبذل المعروف في الناس يحمد

(٢) الاستفهام إنكاري أي : ينكر عليه ما ادعاه من تحمل العذاب عن غيره ، وفيه معنى التعجب فيما ادعاه كأنه يعلم الغيب ويشاهده ، وليس له ذلك.

(٣) (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ) أن : هي المخففة من الثقيلة ، وموضعها جائز أن يكون حرفا بدلا من (ما) في قوله (بِما فِي صُحُفِ) وجائز أن يكون في موضع رفع على إضمار : هو ، وهو ما يفهم من التفسير.

(٤) يظهر أن هذا العام خصصته السنة فقد أجاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحج والعمرة عن الغير كما أجاز الصدقة كذلك وقد يقال إن الذي يحج أو يتصدق عن غيره) هو بمثابة متوسل إلى الله تعالى طالب منه المغفرة والرحمة فإذا استجاب الله تعالى له غفر للميت ورحمه وهذا جزاء كل عمل صالح.

٢٠٠