أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٩

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي بيده كل شيء (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) من عباده ويعذب من يشاء فاللائق بهم التوبة والإنابة إليه لا الإصرار على الكفر والنفاق فإنه غير مجد لهم ولا نافع بحال وقد تاب بهذا اكثرهم وصاروا من خيرة الناس ، وكان الله غفورا رحيما فغفر لكل من تاب منهم ورحمه. ولله الحمد والمنة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك دال على أنه كلام الله أوحاه إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ لا يملك النفع ولا الضر على الحقيقة إلا الله ولذا وجب أن لا يطمع إلا فيه ، ولا يرهب إلا منه.

٣ ـ حرمة ظن السوء في الله عزوجل ، ووجوب حسن الظن به تعالى.

٤ ـ الكفر موجب لعذاب النار ، ومن تاب تاب الله عليه ، ومن طلب المغفرة في صدق غفر له.

٥ ـ ذم التخلف عن المسابقة في الخيرات والمنافسة في الصالحات.

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥))

شرح الكلمات :

(الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) : أي المذكورون في الآيات قبل هذه وهم غفار وجهينة ومزينة وأشجع.

(إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) : أي مغانم خيبر إذ وعدهم الله بها عند رجوعهم من الحديبية.

(ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) : أي دعونا نخرج معكم لنصيب من الغنائم.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) : أي أنهم بطلبهم الخروج إلى خيبر لأخذ الغنائم يريدون أن يغيروا وعد الله لأهل الحديبية خاصة بغنائم خيبر.

١٠١

(كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) : أي قاله تعالى لنا قبل عودتنا إلى المدينة فلن تتبعونا ولن تخرجوا معنا.

(فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) : أي فسيقولون بل تحسدوننا وفعلا فقد قالوا ذلك وزعموا انه ليس امرا من الله هذا المنع ، وإنما هو من الرسول والمؤمنين حسدا لهم ، وهذا دال على نفاقهم وكفرهم والعياذ بالله.

(بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) : أي لا يفهمون فهم الحاذق الماهر إلا قليلا وفي أمور الدنيا لا غير.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية المنافقين من الحضر والبادية وذلك بالحديث عنهم وكشف عوارهم ودعوتهم إلى التوبة والرجوع إلى الحق عند ظهور انحرافهم وسوء أحوالهم فقال تعالى لرسوله. (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) الذين تقدم الحديث عنهم وأنهم تخلفوا عن الحديبية من الأعراب الذين هم مزينة وجهينة وغفار وأشجع. أي سيقولون لكم (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ (١) لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) ، وذلك أن الله تعالى بعد صلح الحديبية وما نال أهلها من آلام نفسيّة أكرمهم بنعم كثيرة منها انه واعدهم بغنائم خيبر بأن يتم لهم فتحها ويغنمهم أموالها وكانت أموالا عظيمة ، فلما عادوا إلى المدينة وأعلن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخروج إلى خيبر جاء هؤلاء المخلفون يطالبون بالسير (٢) معهم لأجل الغنيمة لا غير ، قال تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) (٣) وهو وعده لأهل الحديبية بأن يغنمهم غنائم خيبر ، ولذا أمر رسوله أن يقول لهم (لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي فقد أخبرنا تعالى بحالكم ومقالكم هذا قبل أن تقولوه وتكونوا عليه. وقوله (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) هذا من جملة ما أخبر تعالى به رسوله والمؤمنين قبل قولهم له وقد قالوه أي ما منعتمونا من الخروج إلى خيبر إلا حسدا لنا أن ننال من الغنائم أي لم يكن الله أمركم بمنعنا ولكن الحسد هو الذي أمركم وقوله تعالى (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي وصمهم بوصمة الجهل وجعلها هي علة تخبطهم وحيرتهم وضلالهم ، انهم قليلو الفهم والإدراك فليسوا على مستوى الرجل الحاذق الماهر البصير الذي يحسن القول والعمل.

__________________

(١) هي مغانم خيبر لأنّ الله تعالى وعد أهل الحديبية فتح خيبر وأنها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر سواء ، ولم يغب منهم عنها إلا جابر بن عبد الله فقسم له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كسهم من حضر.

(٢) روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : (إن خرجتم لم أمنعكم إلا أنه لا سهم لكم) وقالوا هذا حسد.

(٣) (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) أي : يريدون أن يغيّروه يعني يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد به أهل الحديبية ، وذلك أن الله تعالى جعل لهم غنائم خيبر عوضا عن فتح مكة.

١٠٢

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وعد الله رسوله والمؤمنين بغنائم خيبر وهم في طريقهم من الحديبية إلى المدينة وانجازه لهم دال على وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته وكلها موجبة للإيمان والتوحيد وحب الله والرغبة إليه والرهبة منه.

٢ ـ بيان حيرة الكافر واضطراب نفسه وتخبط قوله وعمله.

٣ ـ ذم الجهل وتقبيحه إنه بئس الوصف يوصف به المرء ، ولذا لا يرضاه حتى الجاهل لنفسه فلو قلت لجاهل يا جاهل لا تفعل كذا أو لا تقل كذا لغضب عليك.

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧))

شرح الكلمات :

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) : أي الذين تخلفوا عن الحديبية وطالبوا بالخروج إلى خيبر لأجل الغنائم اختبارا لهم.

(سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) : أي ستدعون في يوم ما من الأيام إلى قتال قوم أولى بأس وشدة في الحرب.

(تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) : أي تقاتلونهم. أو هم يسلمون فلا حاجة إلى قتالهم.

(فَإِنْ تُطِيعُوا) : أي أمر الداعي لكم إلى قتال القوم أصحاب البأس الشديد.

(يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) : أي عودة اعتباركم مؤمنين صالحين في الدنيا والجنة في الآخرة.

١٠٣

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) : أي تعرضوا عن الجهاد كما توليتم من قبل حيث لم تخرجوا للحديبية.

(يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) : في الدنيا بالقتل والاذلال وفي الآخرة بعذاب النار.

(حَرَجٌ) : أي إثم.

(وَمَنْ يَتَوَلَ) : أي يعرض عن طاعة الله ورسوله.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية المنافقين من الأعراب إذ قال تعالى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ) الذين أصبح وصف التخلف شعارا لهم يعرفون به وفي ذلك من الذم واللوم والعتاب ما فيه قل لهم مختبرا إياهم (سَتُدْعَوْنَ) في يوم من الأيام إلى قتال (قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) في الحروب (تُقاتِلُونَهُمْ ، أَوْ يُسْلِمُونَ) (١) فلا تقاتلوهم وذلك بأن يرضوا بدفع الجزية وهؤلاء لا يكونون إلّا نصارى أو مجوسا فهم إما فارس وإما الروم وقد اختلف في تحديدهم (٢) (فَإِنْ تُطِيعُوا) الأمر لكم بالخروج الداعي للجهاد فتخرجوا وتجاهدوا (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) غنائم في الدنيا وحسن الصيت والأحدوثة والجنة فوق ذلك ، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) أي تعرضوا عن طاعة من يدعوكم ولا تخرجوا معه (كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) حيث لم تخرجوا مع رسول الله إلى مكة للعمرة خوفا من قريش ورجاء أن يهلك الرسول والمؤمنون ويخلو لكم الجوّ (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي في الدنيا بأن يسلط عليكم من يعذبكم وفي الآخرة بعذاب النار وقوله تعالى (لَيْسَ) (٣) (عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) الآية إنه لما نزلت آية المنافقين (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) وكان ختامها وإن تولوا عن الجهاد (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) خاف أصحاب الاعذار من مرض وغيره وبكوا فأنزل الله تعالى قوله (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) أي إثم إذا لم يخرج للجهاد (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ) (٤) (حَرَجٌ) وهو الذي به عرج في رجليه لا يقدر على المشي والجري والكر والفر (وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) وهو المريض بالطحال أو الكبد أو السعال من الأمراض

__________________

(١) في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر إذ هو الذي دعا إلى قتال أصحاب مسليمة الكذاب ، إذ هم الذين لا تقبل منهم الجزية وإنما الإسلام أو القتل ، لقوله تعالى : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أما فارس أو الروم فهم مجوس ونصارى قد تؤخذ منهم الجزية.

(٢) وقيل : إنهم أصحاب مسيلمة الكذاب ، وقال رافع بن خديج. والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) فلا نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فقلنا : إنهم هم.

(٣) قال ابن عباس لما نزلت : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) قال أهل الزمانة : كيف بنا يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) أي : لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد.

(٤) العرج : آفة تعرض لرجل واحدة ، قال مقاتل : هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية ، وقد عذرهم. وفي هذه الآية بيان من يجوز لهم التخلف عن الجهاد ، ولا إثم عليهم وهم العميان والمرضى والعرج.

١٠٤

المزمنة التي لا يقدر صاحبها على القتال وكان يعتمد على الفر والكر ولا بد كذلك من سلامة البدن وقدرته على القتال.

وقوله (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي في أوامرهما ونواهيهما (يُدْخِلْهُ (١) جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وهذا وعد صادق من رب كريم رحيم ، (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن طاعة الله ورسوله (يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) وهذا وعيد شديد قوي عزيز ألا فليتق الله امرؤ فإن الله شديد العقاب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الاختبار والامتحان لمعرفة القدرات والمؤهلات.

٢ ـ بيان أن غزو الإسلام ينتهي إلى أحد أمرين إسلام الأمة المغزوّة أو دخولها في الذمة بإعطائها الجزية بالحكم الإسلامي وسياسته.

٣ ـ دفع الإثم والحرج في التخلف عن الجهاد لعذر العمى أو العرج أو المرض.

٤ ـ بيان وعد الله ووعيده لمن أطاعه ولمن عصاه ، الوعد بالجنة. والوعيد بالنار.

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩))

شرح الكلمات :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) : أي الراسخين في الإيمان الأقوياء فيه وهم أهل بيعة الرضوان من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِذْ يُبايِعُونَكَ) : أي بالحديبية أيها الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(تَحْتَ الشَّجَرَةِ) : أي سمرة وهم ألف وأربعمائة بايعوا على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا.

__________________

(١) قرأ نافع ندخله ونعذبه بالنون ، وقرأ حفص : (يُدْخِلْهُ يُعَذِّبْهُ) بالياء.

١٠٥

(فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) : أي علم الله ما في قلوبهم من الصدق والوفاء فأنزل الطمأنينة والثبات على ما هم عليه.

(وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) : أي هو فتح خيبر بعد انصرافهم من الحديبية في ذي الحجة. وفي آخر المحرم من سنة سبع غزوا خيبر ففتحها الله تعالى عليهم.

(وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) : أي من خيبر.

(وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) : أي كان وما زال تعالى عزيزا غالبا حكيما في تصريفه شؤون عباده.

معنى الآيتين :

قوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ (١) اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) هذا إخبار منه تعالى برضاه عن المؤمنين الكاملين في إيمانهم وهم ألف وأربعمائة الذين بايعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت شجرة سمرة إلّا الجد بن قيس الأنصاري فإنه لم يبايع حيث كان لاصقا بإبط ناقته مختبئا عن أعين الأصحاب وكان منافقا ومات على ذلك لا قرت له عين. وسبب هذه البيعة كما ذكره غير واحد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على جمل له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له «وهو الاعتمار» وذلك حين نزل الحديبية. فعقروا به جمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرادوا قتله فمنعته الأحابيش «فرق من شتى القبائل يقال لهم الأحابيش واحدهم أحبوش يقال لهم اليوم : اللفيف الأجنبي عبارة عن جيش أفراده من شتى البلاد والدول. فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهنا دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليهم ، ولكني أدلك على رجل هو أعز بها مني عثمان بن عفان فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظّما لحرمته فراح عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها فنزل عن دابته فحمله بين يديه ثم ردفه وأجاره

__________________

(١) هذا رجوع إلى تفصيل ما جزى به الله تعالى أهل بيعة الرضوان الذي تقدم إجماله في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) الآية.

(٢) في قوله تعالى عن المؤمنين (إِذْ يُبايِعُونَكَ) إعلام بأن من لم يبايع ممن خرج مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالجد بن قيس لم يفز برضى الله تعالى وأنه غير مؤمن.

١٠٦

حتى بلغ رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أرسله به فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به قال ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله والمسلمين أن عثمان قتل. فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندئذ لا نبرح حتى نناجز القوم ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، هذا معنى قوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ (١) تَحْتَ الشَّجَرَةِ (٢) فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أي من الصدق والوفاء (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي الطمأنينة والثبات عليهم (وَأَثابَهُمْ) أي جزاهم على صدقهم ووفائهم (فَتْحاً قَرِيباً) هو صلح الحديبية وفتح خيبر ، (وَ (٣) مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) وهي غنائم خيبر ، (وَكانَ اللهُ (٤) عَزِيزاً) أي غالبا على أمره ، (حَكِيماً) في تدبيره لأوليائه.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان فضل أهل بيعة الرضوان وكرامة الله لهم برضاه عنهم.

٢ ـ ذكاء عمر وقوة فراسته إذ أمر بقطع الشجرة خشية أن تعبد ، وكم عبدت من أشجار في أمة الإسلام في غيبة العلماء وأهل القرآن.

٣ ـ مكافأة الله تعالى للصادقين الصابرين المجاهدين من عباده المؤمنين بخير الدنيا والآخرة.

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها

__________________

(١) (إِذْ يُبايِعُونَكَ) ظرف متعلق ب (رَضِيَ) والمضارع بمعنى الماضي وإنما جيء بالمضارع لاستحضار حالة المبايعة الجليلة وصورتها العظيمة. وكون الرضى حصل قبل انتهاء البيعة إيذان بفضلها وفضل أهلها.

(٢) (تَحْتَ الشَّجَرَةِ) التعريف للشجرة للعهد الذي عرفه أهلها حين كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا في ظلها فبايع أصحابه كلهم إلا الجد بن قيس وكان منافقا غير مؤمن فلم يبايع كما في التفسير ، حيث كان لا صقا بإبط ناقته.

(٣) المغانم الكثيرة : هي مغانم بلاد خيبر من أرض وأنعام ومتاع وحوايط وبساتين ، ووصف الغنائم بجملة يأخذونها دال على تحقيق حصول فائدة هذا الوعد لجميع أهل البيعة وبشارة لهم بأنه لم يهلك منهم أحدا قبل حصولهم على هذه الغنائم وكذلك كان والحمد لله.

(٤) هذه الجملة معترضة ذيل بها قوله تعالى : (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) لأن ما حصل لهم من نصر وخير كان من مظاهر عزة الله وعظيم حكمته.

١٠٧

وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤))

شرح الكلمات :

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) : أي من الفتوحات الإسلامية التي وصلت الأندلس غربا.

(فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) : أي غنيمة خيبر.

(وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) : أي أيدي اليهود حيث هموا بالغارة على بيوت الصحابة وفيها أزواجهم وأولادهم وأموالهم فصرفهم الله عنهم.

(وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) : أي تلك الصرفة التي صرف اليهود المتآمرين عن الاعتداء على عيال الصحابة وهم غيّب في الحديبية أو خيبر آية يستدلون بها على كلاءة الله وحمايته لهم في حضورهم ومغيبهم.

(وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) : أي طريقا في التوكل على الله والتفويس إليه في الحضور والغيبة لا اعوجاج فيه.

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) : أي ومغانم أخرى لم تقدروا عليها وهي غنائم فارس والروم.

قد أحاط بها : أي فهي محروسة لكم إلى حين تغزون فارس والروم فتأخذونها.

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي المشركون في الحديبية.

(لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) : أي لا نهزموا أمامكم واعطوكم أدبارهم تضربونها.

(سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) : أي هزيمة الكافرين ونصر المؤمنين الصابرين سنة ماضية في كل زمان ومكان.

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) : حيث جاء ثمانون من المشركين يريدون رسول الله والمؤمنين ليصيبوهم بسوء.

١٠٨

(وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) : فأخذهم أصحاب رسول الله أسرى وأتوا بهم إلى رسول الله فعفا عنهم.

(مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) : وذلك بالحديبية التي هي بطن مكة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر إفضال الله تعالى وإنعامه على المؤمنين المبايعين الله ورسوله على مناجزة المشركين وقتالهم وأن لا يفروا فقد ذكر أنه أنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم خيبر الكثيرة فعطف على السابق خبرا عظيما آخر فقال (وَعَدَكُمُ (١) اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) أي غنيمة خيبر ، (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ) (٢) (عَنْكُمْ) وذلك أن يهود المدينة تمالأوا مع يهود خيبر وبعض العرب على أن يغيروا على دور الأنصار والمهاجرين بالمدينة ليقتلوا من بها وينهبوا ما فيها فكف تعالى أيديهم وصرفهم عما هموا به كرامة للمؤمنين ، وقوله (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) أي تلك الصرفة التي صرف فيها قلوب من هموا بالغارة على عائلات وأسر الصحابة بالمدينة وهم غيّب بالحديبية آية تهديهم إلى زيادة التوكل على الله والتفويض إليه والاعتماد عليه. وقوله (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ويسددكم طريقا واضحا لا اعوجاج فيه وهو أن تثقوا في أموركم كلها بربكم فتتوكلوا عليه في جميعها فيكفيكم كل ما يهمكم ، ويدفع عنكم ما يضركم في مغيبكم وحضوركم. وقوله تعالى (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) أي وغنائم أخرى لم تقدروا وهي غنائم الروم وفارس. وقد أحاط الله بها فلم يفلت منها شيء حتى تغزوا تلك البلاد وتأخذوها كاملة ، (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) ومن مظاهر قدرته أن يغنمكم وأنتم أقل عددا وعددا غنائم أكبر دولتين في عالم ذلك الوقت فارس والروم. وقوله (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي ومن جملة انعامه عليكم أنه لو قاتلكم أهل مكة وأنتم ببطنها لنصركم الله عليهم ولا نهزموا أمامكم مولينكم ظهورهم ولا يجدون وليّا يتولاهم بالدفاع عنهم ولا ناصرا ينصرهم لأنا سلطناكم عليهم. وقوله تعالى (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) أي في الأمم السابقة وهي لأنّ الله ينصر أولياءه على أعدائه لا بد فكان هذا كالسنن الكونية التي

__________________

(١) هذه الجملة مستأنفة بيانيا إذ قوله تعالى : (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) يثير في نفس أحدهم سؤالا وهو :

هل بعد هذا الفتح والغنائم من غنائم أخرى فكان الجواب : (وعدكم الله مغانم ..) الخ فقولي في التفسير فعطف ليس هو من باب العطف النحوي وإنما هو من باب الإرداف والإلحاق.

(٢) هذه منة أخرى عظيمة حيث صرف عنهم قتال قريش لهم وإلا لكانوا يتعرضون لأتعاب قد تحول بينهم وبين ما أوتوه من فتح خيبر والفوز بغنائمها.

(٣) (وَلِتَكُونَ) هذه الجملة علة لأخرى مقدرة وهي ولتشكروه (وَلِتَكُونَ آيَةً) الخ أي : كف أيدي الناس عنكم لتشكروه ولتكون آية.

١٠٩

لا تتبدل ، وهو معنى قوله (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) ، وقوله تعالى في الآية الأخيرة من هذا السياق (٢٤) (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ (١) عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) هذه منّة أخرى وكرامة عظيمة وهي أن قريشا بعثت بثمانين شابا إلى معسكر رسول الله في الحديبية لعلهم يصيبون غرة من الرسول وأصحابه فينالونهم بسوء فأوقعهم تعالى أسرى في أيدي المسلمين فمّن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم بالعفو فكان ذلك سبب صلح الحديبية. وقوله (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) أي مطلعا عالما بكل ما يجري بينكم فهو معكم لولايته لكم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ صدق وعد الله لأصحاب رسوله فى الغنائم التي وعدوا بها فتحققت كلماته بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي غنائم فارس والروم.

٢ ـ كرامة الله للمؤمنين إذ حمى ظهورهم من خلفهم مرتين الأولى ما همّ به اليهود من غارة على عائلات وأسر الصحابة بالمدينة النبويّة ، والثانية ما همّ به رجال من المشركين للفتك بالمؤمنين ليلا بالحديبية إذ مكّن الله منهم رسوله والمؤمنين ، ثم عفا عنهم رسول الله واطلق سراحهم فكان ذلك مساعدا قويا على تحقيق صلح الحديبية.

٣ ـ بيان سنة الله في أنه ما تقاتل أولياء الله مع أعدائه في معركة إلا نصر الله أولياءه على أعدائه.

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا

__________________

(١) روي عن أنس أنه قال : إن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فأخذناهم سلما فاستحييناهم فأنزل الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ) الآية.

١١٠

فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦))

شرح الكلمات :

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : أي بالله ورسوله ومنعوكم من الوصول إلى المسجد الحرام.

(وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ (١) مَحِلَّهُ) (٢) : أي ومنعوا الهدي محبوسا حال بلوغ محله من الحرم.

(وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) : أي موجودون في مكة.

(لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) : أي لم تعرفوهم مؤمنين ومؤمنات.

(أَنْ تَطَؤُهُمْ) : أي قتلا لهم عند قتالكم المشركين بمكة.

(فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) : أي إثم وديات قتل الخطأ وعتق أو صيام لأذن لكم الله تعالى في دخول مكة.

(لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) : أي لم يؤذن لكم في دخول مكة فاتحين ليدخل الله في الإسلام من يشاء.

(لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) : أي لو تميزوا فكان المؤمنون على حدة والكافرون على حدة لأذنا لكم في الفتح وعذبنا الذين كفروا بأيديكم عذابا أليما وذلك بضربهم وقتلهم.

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) : أي لعذبناهم إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية وهي الأنفة المانعة من قبول الحق ولذا منعوا الرسول وأصحابه من دخول مكة وقالوا كيف يقتلون أبناءنا ويدخلون بلادنا واللات والعزى ما دخلوها.

__________________

(١) جائز أن يكون : (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) بدل اشتمال من الهدي ، وجائز أن يكون معمولا لحرف جر محذوف وهو (عن) أي عن أن يبلغ محله.

(٢) المحل : بكسر الحاء : محلّ الحلّ مشتق من فعل حلّ ضد حرم أي المكان الذي يحل فيه نحر الهدي ، وذلك بمكة عند المروة بالنسبة للعمرة ، ومنى بالنسبة للحج.

١١١

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) : أي فهمّ الصحابة أن يخالفوا أمر رسول الله بالصلح فأنزل الله سكينته عليهم فرضوا ووافقوا فتم الصلح.

(وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) : أي ألزمهم كلمة لا إله إلا الله إذ هي الواقية من الشرك.

(وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) : أي أجدر بكلمة التوحيد وأهلا للتقوى.

(وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) : أي من أمور عباده وغيرها ومن ذلك علمه بأهلية المؤمنين وأحقيتهم بكلمة التقوى «لا إله إلا الله».

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن صلح الحديبية فقال تعالى في المشركين ذاما لهم عائبا عليهم صنيعهم (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بالله ورسوله (وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أن تدخلوه وأنتم محرمون (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) أي وصدوا الهدى (١) والحال أنه محبوس ينتظر به دخول مكة لينحر وقوله تعالى (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ) (٢) (مُؤْمِناتٌ) بمكة (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) لأنهم كانوا يخفون إسلامهم غالبا ، كراهة (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أثناء قتالكم المشركين (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٣) منكم بهم والمعرة العيب والمراد به هنا التبعة وما يلزم من قتل المسلم خطأ من الكفارة والدية لو لا هذا لأذن لكم في دخول مكة غازين فاتحين لها وقوله تعالى (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) أي لم يأذن لكم في القتال ورضي لكم بالصلح ليدخل في رحمته من يشاء فالمؤمنون نالتهم رحمة الله إذ لم يؤذوا بدخولكم مكة فاتحين والمشركون قد يكون تأخر الفتح سببا في إسلام من شاء الله تعالى له الإسلام لا سيما عند ما رأوا رحمة الإسلام تتجلى في ترك القتال رحمة بالمؤمنين والمؤمنات حتى لا يتعرضوا للأذى فدين يراعي هذه الأخوة دين لا يحرم منه عاقل. وقوله تعالى (لَوْ تَزَيَّلُوا) أي (٤) لو تميّز المؤمنون والمؤمنات عن المشركين بوجودهم في مكان خاص بهم لأذنا لكم في دخول مكة وقتال المشركين وعذّبناهم بأيديكم عذابا أليما وقوله (إِذْ جَعَلَ (٥) الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ

__________________

(١) (الْهَدْيَ) ، والهدي بكسر الدال وتشديد الياء ، لغتان ، والواحدة هدية.

(٢) كسلمة بن هشام وعباس بن أبي ربيعة وأبي جندل بن سهيل. وأشباههم ، وجواب لو لا محذوف تقديره : لأذن الله لكم في دخول مكة ولسلطانكم عليهم.

(٣) (بِغَيْرِ عِلْمٍ) فيه تفضيل للصحابة وإخبار عن كمالهم في الخلق والدين ، وهذا كقول النملة في سليمان وجنوده : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

(٤) (لَوْ تَزَيَّلُوا) أي : تميزوا وتفرقوا. و (لَوْ) حرف امتناع لامتناع امتنع الشرط وهو التفرق ، فامتنع التسلط ، والقتل بالإذن للمسلمين بقتالهم وقتلهم. وفي هذا دليل على أنه لا يجوز إغراق باخرة للكافرين فيها مسلمون ، ولا ضرب حصن بالقذائف داخله مسلمون وهو ما رآه مالك.

(٥) يجوز أن يكون الظرف ، (إِذْ) متعلقا بقوله تعالى : (لَعَذَّبْنَا) وجائز أن يعلق بمحذوف تقديره : واذكروا إذ جعل الخ.

١١٢

الْحَمِيَّةَ (١) حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) هذا تعليل للإذن بقتال المشركين في مكة وتعذيبهم العذاب الأليم لو لا وجود مؤمنين ومؤمنات بها يؤذيهم ذلك والمراد من الحمية الأنفة والتعاظم وما يمنع من قبول الحق والتسليم به وهذه من صفات أهل الجاهلية فقد قالوا ، كيف نسمح لهم بدخول بلادنا وقد قتلوا أبناءنا واللات والعزى ما دخلوا علينا أبدا ، وقوله تعالى (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وذلك لما همّ المؤمنون بعدم قبول الصلح لما فيه من التنازل الكبير للمشركين وهم على الباطل والمؤمنون على الحق فلما حصل هذا في نفوس المؤمنين أنزل الله سكينة عليهم وهي الطمأنينة والوقار والحلم فرضوا بالمصالحة وتمت وكان فيها خير كثير حتى قيل فيها إنها فتح أوّلي أو فاتحة فتوحات لا حدّ لها. وقوله تعالى (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) (٢) (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) أي وشرف الله وأكرم المؤمنين بإلزامهم التشريعي بكلمة لا إله إلّا الله. إذ هي كلمة التقوى أي الواقية من الشرك والعذاب في الدارين وجعلهم أحق بها وأهلها. أي أجدر من غيرهم بكلمة التوحيد وأكثر أهلية للتقوى (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ومن ذلك علمه بأهلية أصحاب رسول الله بما جعلهم أهلا له من الإيمان والتقوى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حكم المحصر وهو من منع من دخول المسجد الحرام وهو محرم بحج أو بعمرة فإنه يتحلل بذبح هدي ويعود إلى بلاده ، ويذبح الهدى حيث أحصر ، وليس واجبا إدخاله إلى الحرم.

٢ ـ الأخذ بالحيطة في معاملة المسلمين حتى لا يؤذى مؤمن أو مؤمنة بغير علم.

٣ ـ بيان أن كلمة التقوى هي لا إله إلّا الله.

٤ ـ الإشارة إلى ما أصاب المسلمين من ألم نفسي من جراء الشروط القاسية التي اشترطها ممثل قريش ووثيقة الصلح. وهذا نص الوثيقة وما تحمله من شروط لم يقدر عليها إلّا رسول الله بما آتاه الله من العلم والحكمة والحلم والصبر والوقار ، ولمّا أنزل الله ذلك على المؤمنين من السكينة فحملوها وارتاحت نفوسهم لها نص الوثيقة : «ورد أن قريشا لما نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحديبية بعثت إليه ثلاثة

__________________

(١) قال الزهري ، حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرسالة والاستفتاح بسم الله الرحمن الرحيم ومنعهم من دخول مكة.

(٢) ورد في (كَلِمَةَ التَّقْوى) آثار منها : أنها لا إله إلا الله ، ومنها أنها لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ومنها أنها : لا إله إلا الله والله أكبر ومنها أنها لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، والكل حق لا باطل فيه.

١١٣

رجال هم سهيل بن عمرو القرشي ، وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص على أن يعرضوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن يخلي له قريش مكة من العام المقبل ثلاثة أيام فقبل ذلك وكتبوا بينهم كتابا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي بن أبي طالب اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا : ما نعرف هذا اكتب باسمك اللهم ، فكتب ثم قال اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل مكة فقالوا لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اكتب ما يريدون فهمّ المؤمنون أن يأبوا ذلك ويبطشوا بهم فأنزل الله السكينة عليهم فتوقّروا وحلموا وتم الصلح على ثلاثة أشياء هي :

١ ـ أنّ من أتاهم من المشركين مسلما ردوه إليهم.

٢ ـ أنّ من أتاهم من المسلمين لم يردوه إليهم.

٣ ـ أن يدخل الرسول والمؤمنون مكة من عام قابل ويقيمون بها ثلاثة أيام لا غير ولا يدخلها بسلاح.

فلما فرع من الكتاب قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا.

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨))

شرح الكلمات :

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) : أي جعل الله رؤيا رسوله التي رآها في النوم عام الحديبية حقا. بالحق

(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) : هذا مضمون الرؤيا أي لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين.

(مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) : أي حالقين جميع شعوركم أو مقصرينها.

١١٤

(لا تَخافُونَ) : أي أبدا حال الإحرام وبعده.

(فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) : أي في الصلح الذي تمّ ، أي لم تعلموا من ذلك المعرة التي كانت تلحق المسلمين بقتالهم إخوانهم المؤمنين وهم لا يشعرون.

(فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) : هو فتح خيبر وتحققت الرؤيا في العام القابل.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) : فلذا لا يخلفه رؤياه بل يصدقه فيها.

(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) : أي ليعليه على سائر الأديان بنسخ الحق فيها ، وإبطال الباطل فيها ، أو بتسليط المسلمين على أهلها فيحكمونهم.

(وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) : أي انك مرسل بما ذكر أي بالهدى ودين الحق.

معنى الآيات :

ما زال السياق في صلح الحديبية وما تم فيه من أحداث فقال تعالى (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ) أي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الرُّؤْيا بِالْحَقِ) (١) أي (٢) الرؤيا التي رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبر بها أصحابه عند خروجهم من المدينة إلى مكة فقد أخبر بها أصحابه فسروا بذلك وفرحوا ولما تم الصلح بعد جهاد سياسي وعسكري مرير ، وأمرهم الرسول أن ينحروا ويحلقوا اندهشوا لذلك وقال بعضهم أين الرؤيا التي رأيت؟ ونزلت سورة الفتح عند منصرفهم من الحديبية وفيها قوله تعالى (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ (٣) اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ (٤) رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) ، وقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق فلما جاء العام القابل وفي نفس الأيام من شهر القعدة خرج رسول الله والمسلمون محرمين يلبون وأخلت لهم قريش المسجد الحرام فطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة وتحللوا من عمرتهم فمنهم المحلق ومنهم المقصر.

__________________

(١) روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال : إن المنام لم يكن موقتا بوقت أي : فقد تتأخر الرؤيا سنوات أو شهورا أو أياما فكان ما بين رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظهور مصداقها في الواقع سنة كاملة.

(٢) (بِالْحَقِ) الباء للملابسة ، وهو ظرف مستقر وقع صفة لمصدر محذوف تقديره أي : صدقا ملابسا للحق.

(٣) (إِنْ شاءَ اللهُ) هل هذا الاستثناء من جملة ما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منامه فأعاده كما سمعه في الرؤيا ويكون هذا تعليما من الله عزوجل للمؤمنين أن يقولوا مثله في كل ما هو مستقبل من الأقوال والأعمال أو قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عملا بقول الله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

(٤) (آمِنِينَ) و (مُحَلِّقِينَ) و (مُقَصِّرِينَ) : منصوبة على الحال ، وجملة (لا تَخافُونَ) في موضع الحال أيضا مؤكدة ل (آمِنِينَ) الحال.

١١٥

وقوله تعالى (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) فأثبت الصلح وقرره لأنه لو كان قتال ولم يكن صلح لهلك المؤمنون بمكة والمؤمنات بالحرب وتحصل بذلك معرة كبرى للمسلمين الذين قتلوا اخوانهم في الإسلام هذا من بعض الأمور التي اقتضت الصلح وترك القتال وقوله (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) الصلح (١) فتح ، وفتح خيبر فتح ، وفتح مكة فتح ، وكلها من الفتح القريب. وقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) أي محمد (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) أي الإسلام فكيف إذا لا يصدقه رؤياه كما ظن البعض (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على أنك يا محمد مرسل بما ذكر تعالى من الهدى والدين الحق وإظهاره على الدين كله بنسخ الحق الذي فيه وابطال الباطل الذي ألصق به. أو بتسليط المسلمين على قهر وحكم أهل تلك الأديان الباطلة وقد حصل من هذا شىء كبير.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ تقرير أن رؤيا الأنبياء حق.

٢ ـ تعبير الرؤيا قد يتأخر سنة أو أكثر.

٣ ـ مشروعية الحلق والتقصير للتحلل من الحج أو العمرة وإن الحلق أفضل لتقدمه.

٤ ـ مشروعية قول إن شاء الله في كل قول أو عمل يراد به المستقبل.

٥ ـ الإسلام هو الدين الحق وما عداه فباطل.

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

__________________

(١) ومن أنواع الفتح القريب ما تم بالهدنة من دخول الناس في الإسلام إذ أصبح الناس آمنين فيتصلون بالمؤمنين ويتعرفون إلى الإسلام ويدخلون فيه ، فدخل في الإسلام أعداد هائلة في هذه الهدنة.

١١٦

شرح الكلمات :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) : أي أصحابه رضوان الله عليهم.

(أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) : أي غلاظ لا يرحمونهم.

(رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) : أي متعاطفون متوادون كالوالد مع الولد.

(تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) : أي تبصرهم ركعا سجدا أي راكعين ساجدين.

(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) : أي يطلبون بالركوع والسجود ثوابا من ربهم هو الجنة ورضوانا هو رضاه عزوجل.

(سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) : أي نور وبياض يعرفون به يوم القيامة انهم سجدوا في الدنيا.

(ذلِكَ) : أي الوصف المذكور.

(مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) : أي صفتهم في التوراة كتاب موسى عليه‌السلام.

(أَخْرَجَ شَطْأَهُ) : أي فراخه.

(فَآزَرَهُ) : أي قواه وأعانه.

(فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى) : أي غلظ واستوى أي قوي.

(عَلى سُوقِهِ) : جمع ساق أي على أصوله.

(يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) : أي زارعيه لحسنه.

(لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) : هذا تعليل أي قواهم وكثرهم ليغيظ بهم الكفار.

معنى الآيات :

لما أخبر تعالى انه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله شهادة منه بذلك أخبر أيضا عنه بما يؤكد تلك الشهادة فقال تعالى (مُحَمَّدٌ (١) رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) من أصحابه (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) أي غلاظ قساة عليهم ، وذلك لأمرين الأول انهم كفروا بالله وعادوه ولم يؤمنوا به ولم يجيبوه ، والله يبغضهم لذلك فهم إذا غلاظ عليهم لذلك والثاني أن الغلظة والشدة قد تكون سببا في هدايتهم لأنهم يتألمون بها ، ويرون خلافها مع المسلمين فيسلمون فيرحمون ويفوزون. وقوله تعالى (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي فيما بينهم يتعاطفون يتراحمون فترى أحدهم يكره أن يمس جسمه أو ثوبه جسم الكافر أو ثوبه ، وتراه مع المسلم إذا رآه صافحه وعانقه ولاطفه

__________________

(١) جائز الوقف على (رَسُولُ اللهِ) مبتدأ وخبر ، ويبدأ الكلام : (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ.). الخ وهو الأشبه ، وجائز أن يكون : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) عطف على (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) والخبر : (أَشِدَّاءُ.). الخ.

١١٧

وأعانه وأظهر له الحب والود. وقوله تعالى (تَراهُمْ) أي تبصرهم أيها المخاطب (رُكَّعاً سُجَّداً) (١) أي راكعين ساجدين في صلواتهم (يَبْتَغُونَ) أي يطلبون بصلاتهم بعد إيمانهم وتعاونهم وتحاببهم وتعاطفهم مع بعضهم ، يطلبون بذلك (فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) أي الجنة ورضا الله. وهذا أسمى ما يطلب المؤمن أن يدخله الله الجنة بعد أن ينقذه من النار ويرضى عنه. وقوله (٢) (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي علامات إيمانهم وصفائهم في وجوههم من أثر السجود إذ يبعثون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) وفي الدنيا عليهم سيما التقوى والصلاح والتواضع واللين والرحمة. وقوله تعالى (ذلِكَ) أي المذكور (مَثَلُهُمْ فِي (٣) التَّوْراةِ) (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ (٤) شَطْأَهُ) أي فراخه (فَآزَرَهُ) أي قواه وأعانه (فَاسْتَغْلَظَ) أي غلظ (فَاسْتَوى) أي قوي (عَلى سُوقِهِ) جمع ساق ما يحمل السنبلة من أصل لها (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي الزارعين له وذلك لحسنه وسلامة ثمرته وقوله تعالى (لِيَغِيظَ (٥) بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي قواهم وكثرهم من أجل أن يغيظ بهم الكفار ولذا ورد عن مالك بن أنس رحمه‌الله تعالى أن من يغيظه أصحاب رسول الله فهو كافر وقوله (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) أي لذنوبهم (وَأَجْراً عَظِيماً) هو الجنة. هذا وعد خاص بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضوان الله عليهم وهناك وعد عام لسائر المؤمنين والمؤمنات وذلك في آيات أخرى مثل آية المائدة (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).

هداية الآية الكريمة :

من هداية الآية الكريمة :

١ ـ تقرير نبوة رسول الله وتأكيد رسالته.

٢ ـ بيان ما كان عليه رسول الله وأصحابه من الشدة والغلظة على الكفار والعطف والرحمة على أهل الإيمان وهذا مما يجب الأتساء بهم فيه والاقتداء.

٣ ـ بيان فضل الصلاة ذات الركوع والسجود والطمأنينة والخشوع.

__________________

(١) إخبار بكثرة ركوعهم وسجودهم وهو كذلك ، إذ لم تر الدنيا أكثر من المسلمين ركوعا وسجودا من سائر الأمم التي دانت لله بالإسلام.

(٢) السيما : (العلامة ولها ثلاثة مظاهر ، الأول : هو يبوسة في الجبهة ولا يتعمدونها ولكنها تحدث من كثرة السجود على الأرض ، والثاني : الأثر النفسي من التواضع والخشوع ونور الصلاح. والثالث : نور يوم القيامة يعلو وجوههم ويشهد له قوله تعالى (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) الآية.

(٣) موجود في التوراة قبل تحريفها إذ فيها نعوت هذه الأمة ونعوت نبيها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي إلى الآن واليهود يتأولونها هروبا من الحق حتى لا يلزموا به.

(٤) فراخ الزرع فروع الحبة منه.

(٥) الجملة تعليلية لما سبقها من صفات أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : وهبهم ذلك الكمال ليغيظ بهم الكفار.

١١٨

٤ ـ صفة أصحاب رسول الله في كل من التوراة والإنجيل ترفع من درجتهم وتعلي من شأنهم.

٥ ـ بيان أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدأوا قليلين ثم أخذوا يكثرون حتى كثروا كثرة أغاظت الكفار.

٦ ـ بغض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتنافى مع الإيمان منافاة كاملة لا سيما خيارهم وكبارهم كالخلفاء الراشدين الأربعة والمبشرين بالجنة العشرة وأصحاب بيعة الرضوان ، وأهل بدر قبلهم.

ولذا روي عن مالك رحمه‌الله تعالى : أن من (١) يغيظه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو كافر.

سورة الحجرات

وآياتها ثماني عشرة آية

وهي بداية المفصل (٢)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣))

__________________

(١) الرواية كما رواها القرطبي هي : روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير قال كنا عند مالك بن أنس فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسوله الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ مالك هذه الآية : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ..). حتى بلغ : (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) فقال مالك من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أصابته هذه الآية. يريد ألزمته بالكفر.

(٢) أشهر الأقوال أن أوّل المفصل (الحجرات) وأول وسط المفصل (عبس) وأول قصار المفصل : (والضحى) هذا أشهر أقوال المالكية ، وطلب هذا لأجل الصلاة المفروضة ففي الصبح يستحب القراءة بطوال المفصل وفي الظهر والعشاء بمتوسطه وفي المغرب بقصاره.

١١٩

شرح الكلمات :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا) : أي لا تتقدّموا بقول ولا فعل إذ هو من قدم بمعنى تقدم.

(بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) : كمن ذبح يوم العيد قبل أن يذبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكإرادة أحد الشيخين تأمير رجل على قوم قبل استشارة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) : أي خافوا الله انه سميع لأقوالكم عليم بأعمالكم.

(لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) : أي إذا نطقتم فوق صوت النبيّ إذا نطق.

(وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) : أي إذا ناجيتموه فلا تجهروا في محادثتكم معه كما تجهرون فيما بينكم إجلالا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوقيرا وتقديرا.

(أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) : أي كراهة أن تبطل أعمالكم فلا تثابون عليها.

(وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) : بحبوطها وبطلانها. إذ قد يصحب ذلك استخفاف بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا سيما إذا صاحب ذلك إهانة وعدم مبالاة فهو الكفر والعياذ بالله.

(يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) : أي يخفضونها حتى لكأنهم يسارونه ومنهم أبو بكر رضي الله عنه.

(امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) : أي شرحها ووسعها لتتحمل تقوى الله. مأخوذ من محن الأديم إذا وسعه.

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) : أي مغفرة لذنوبهم وأجر عظيم وهو الجنة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (١) لو بحثنا عن المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها لتجلت لنا واضحة إذا رجعنا بالذاكرة إلى موقف عمر رضي الله عنه وهو يريد أن لا يتم صلح بين المؤمنين والمشركين ، وإلى موقف الصحابة كافة من عدم التحلل من إحرامهم ونحر هداياهم والرسول يأمروهم لا يستجيبون حتى تقدمهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنحر هديه ثم نحروا بعده وتحللوا ، إذ تلك المواقف التي أشرنا إليها فيها معنى تقديم الرأي والقول بين يدي الله ورسوله وفي ذلك مضرة لا يعلم مداها إلّا الله ، ولما انتهت تلك الحال وذلك الظرف الصعب أنزل الله تعالى قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)

__________________

(١) ذكر لسبب نزول هذه السورة عدة روايات منها ما ذكره الواحدي ورواه البخاري وهو أن ركبا من بني تميم قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو بكر أمّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي فقال عمر ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ..). الخ.

١٢٠