أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٩

(فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) : أي فبعضكم مؤمن موقن بربه ولقائه وبعضكم كافر جاحد دهرى ، والواقع شاهد.

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) : أي صوركم في الأرحام فأحسن صوركم.

(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) : أي المرجع يوم القيامة.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) : أي بما في الصدور من الضمائر والسرائر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي (١) السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يخبر تعالى معلما عباده بربوبيته الموجبة لعبادته وطاعته وطاعة رسوله بأنه يسبحه جميع خلائقه في الملكوت الأعلى والأسفل وقوله (لَهُ (٢) الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) أي أنه له الملك وهو الملك الحق وأنه له الحمد وهو الثناء الجميل (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي وأنه على فعل كل شيء قدير لا يعجزه شيء (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي وأنه خالق الكل فمن عباده المؤمن به ومنهم الكافر كما هو الواقع. وأنه بما يعمل عباده من خير أو شر من حسنات أو سيئات خبير أي مطلع وسيجزى الكل بأعمالهم حسنها وسيئها ، وأنه (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ (٣) بِالْحَقِ) لا للهو ولا اللعب ولا للعبث بل بالحق وهو أن يذكر ويشكر من عباده وأنه صور العباد في الأرحام فأحسن صورهم وجملها ، فهى أجمل المخلوقات الأرضية على الإطلاق ، وانه إليه لا إلى غيره المرجع يوم القيامة فيحاسب ويجزى وهو الحكم العدل العزيز الحكيم. وانه تعالى (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من سائر المخلوقات والحوادث والأحداث ، وانه يعلم ما يسر عباده من أعمال وأقوال ونيات ، وما يعلنون من ذلك. وأنه (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي ما فيها من أسرار وخواطر ونيات وارادات.

أخبر عباده بهذا (٤) ليؤمنوا به ويعبدوه دون غيره فيكملون ويسعدون بعبادته فله الحمد وله المنة وهو الرحمن الرحيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تعليم الله تعالى عباده وتعريفهم بجلاله وكماله ليؤمنوا به ويعبدوه ليكملوا ويسعدوا في

__________________

(١) اللام في قوله : (اللهُ) مزيدة لتقوية الكلام إذ فعل سبح يتعدى بنفسه يقال : سبحه : إذا نزهه وقال : (ما فِي السَّماواتِ) ولم يقل : من تغليبا لغير العاقل لكثرته.

(٢) (لَهُ الْمُلْكُ) : تقديم الخبر على المبتدأ هنا للدلالة على الاختصاص فهو تعالى مختص بكل من الملك والحمد.

(٣) الباء في (بِالْحَقِ) للملابسة أي خلقا ملتبسا بالحق بعيدا عن اللهو ، واللعب والباطل.

(٤) في الآيات تقرير البعث وإمكانه بحجج عقلية لا تردها العقول الراجحة والفطر السليمة.

٣٦١

الحياتين بالإيمان به وبطاعته وطاعة رسوله.

٢ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر إذ المؤمن مؤمن ، والكافر كافر مكتوب ذلك في كتاب المقادير ، ثم يظهره تعالى فى عالم الشهادة قائما على سننه في خلقه.

٣ ـ وجوب مراقبة الله تعالى والحياء منه لأنه عليم بذات الصدور.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦))

شرح الكلمات :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) : أي ألم يأتكم يا كفار قريش خبر الذين كفروا من قبلكم.

(فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) : أي عقوبة كفرهم في الدنيا.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) : أي في الآخرة.

(ذلِكَ) : أي العذاب في الدنيا والآخرة.

(بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ) : أي بسبب أنها كانت تأتيهم رسلهم.

(بِالْبَيِّناتِ) : أي بالحجج القواطع الدالة على صحة رسالاتهم.

(فَقالُوا : أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) : أي ردوا عليهم ساخرين مكذبين : أبشر يهدوننا؟

(فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) : أي فكفروا برسلهم وتولوا عنهم أي أعرضوا.

(وَاسْتَغْنَى اللهُ) : أي عن إيمانهم.

(وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) : أي غنى عن خلقه محمود بأفعاله وآلائه على خلقه.

معنى الآيتين :

بعد أن بين تعالى للناس مظاهر ربوبيته المقتضية لعلمه وقدرته وحكمته وعدله ورحمته في الآيات السابقة والموجبة لألوهيته قرر في هاتين الآيتين نبوة ورسالة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لكفار

٣٦٢

مكة (أَلَمْ يَأْتِكُمْ (١) نَبَأُ) أي خبر (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) (٢) كقوم عاد وثمود وأصحاب مدين ، (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) (٣) أي عقوبة كفرهم التى كانت عقوبة ثقيلة شديدة فأهلكوا فى الدنيا بعذاب إبادى استئصالى ، وفي الآخرة (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤) وبين لهم سبب ذلك الهلاك والعذاب فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ (٥) تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والبراهين على أنهم رسل إليهم ، وأنه لا إله إلا الله فلا تصح العبادة لغير الله ، فيقابلونهم بالسخرية والإعراض والاستنكار وهو ما أخبر تعالى به عنهم في قوله : (فَقالُوا أَبَشَرٌ (٦) يَهْدُونَنا) أي كيف يكون بشر مثلكم يهدوننا ، وبذلك (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) عن الإيمان والإسلام. (وَاسْتَغْنَى اللهُ) عن إيمانهم فأهلكهم لما كفروا به وبرسله. ولم يأسف أو يأس عليهم لعدم حاجته إليهم (وَاللهُ غَنِيٌ) عنهم وعن سائر خلقه (حَمِيدٌ) أي محمود بأفعاله الشاهدة بكماله وجلاله وجماله.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ توبيخ من يستحق التوبيخ وتأنيب من يستحق التأنيب.

٢ ـ التكذيب للرسل والكفر بتوحيد الله موجب للعقوبة في الدنيا والعذاب في الآخرة.

٣ ـ تقرير نبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإثباتها لأن شأنه شأن الرسل من قبله.

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)

__________________

(١) الاستفهام تقريري.

(٢) حذف المضاف إليه مع (قَبْلُ) ونوي معناه دون لفظه فلذا بنيت قيل على الضم والتقدير : نبأ الذين كفروا من قبلكم.

(٣) الوبال : السوء ، وما يكره ، والأمر : الشأن والحال.

(٤) أي : في الآخرة لأن العطف يقتضي المغايرة.

(٥) الإشارة عائدة إلى المذكور قبلها وهو الوبال والعذاب الأليم.

(٦) الاستفهام في (أَبَشَرٌ) استفهام إنكاري إبطالي.

٣٦٣

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠))

شرح الكلمات :

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) : أي قالوا كاذبين إنهم لن يبعثوا أحياء من قبورهم.

(قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) : قل لهم يا رسولنا بلى لتبعثن ثم تنبئون بما عملتم.

(وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) : أي وبعثكم وحسابكم ومجازاتكم بأعمالكم شيء يسير على الله.

(وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) : أي وآمنوا بالقرآن الذي أنزلناه.

(لِيَوْمِ الْجَمْعِ) : أي يوم القيامة إذ هو يوم الجمع.

(ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) : أي يغبن المؤمنون الكافرين يأخذ منازل الكفار في الجنة واخذ الكفار منازل المؤمنين في النار.

(ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) : أي تكفيره تعالى عنهم سيئاتهم وإدخالهم جنات تجرى من تحتها الأنهار هو الفوز العظيم.

(بِئْسَ الْمَصِيرُ) : أي قبح المصير الذي صاروا إليه وهو كونهم أهلا للجحيم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية قريش إنه بعد أن ذكرهم بمصير الكافرين من قبلهم وفي ذلك دعوة واضحة لهم إلى الإيمان بتوحيد الله وتصديق رسوله. دعاهم هنا إلى الإيمان بأعظم أصل من أصول الهداية البشرية وهو الإيمان بالبعث والجزاء وهم ينكرون ويجاحدون ويعاندون فيه فقال في أسلوب غير المواجهة بالخطاب (زَعَمَ) (١) (الَّذِينَ كَفَرُوا) والزعم ادعاء باطل وقول إلى الكذب أقرب منه إلى الصدق. (أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) أي أنهم إذا ماتوا لن يبعثوا أحياء يوم القيامة. قل لهم يا رسولنا : (بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) ولازم ذلك الجزاء العادل على كل أعمالكم وهي أعمال فاسدة غير صالحة مقتضية للعذاب والخزي في جهنم (وَذلِكَ عَلَى اللهِ (٢) يَسِيرٌ) أي وأعلمهم أن بعثهم وتنبئتهم بأعمالهم وإثابتهم عليها أمر سهل هين لا صعوبة فيه وبعد هذه

__________________

(١) هنا كلام مستأنف استئنافا ابتدائيا المخاطب فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر فيه كفر المشركين بالبعث ويرد عليهم بتقرير مانفوه وزعموا أنه غير واقع ، والزعم : القول الموسوم بمخالفة الواقع ، ويطلق على الخبر المشكوك في وقوعه.

(٢) (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) : تذييل ، واسم الإشارة عائد إلى البعث المفهوم من قوله : (لَتُبْعَثُنَ).

٣٦٤

اللفتة اللطيفة دعاهم دعوة كريمة إلى طريق سعادتهم ونجاتهم فقال عزوجل : (فَآمِنُوا بِاللهِ (١) وَرَسُولِهِ) أي صدقوا بتوحيد الله وبنبوة رسوله وبالنور الذي أنزلنا وهو القرآن الكريم ، واعملوا الصالحات وتباعدوا عن السيئات (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي وسيجزيكم بأعمالكم. وذلك (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) وهو يوم القيامة ويجازيكم بأعمالكم خيرها وشرها (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) (٢) الحقيقي حيث يرث أهل الجنة منازل أهل النار في الجنة ويرث أهل النار منازل أهل الجنة في النار ، وهذا قائم على أساس أن الله تعالى أوجد لكل انسان منزلا في الجنة وآخر في النار ، فمن آمن وعمل صالحا دخل الجنة وحاز منزله ومنزل إنسان آخر هو في النار فحصل بذلك الغبن بينه وبين من هو في النار قد ورث منزله فيها وبعد هذا الدعاء الخاص الموجه إلى كفار قريش قال تعالى واعدا عامة الناس عربهم وعجمهم من وجد منهم ومن لم يوجد بعد : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ (٣) وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ (٤) عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأنه نجاة من النار ودخول الجنة هذا وعده الصادق لمن آمن وعمل صالحا. وقال : (وَالَّذِينَ (٥) كَفَرُوا) أي بالله ورسوله ولقائه وكذبوا بآياتنا أي القرآن وما فيه من شرائع وأحكام والتكذيب مانع من العمل الصالح قطعا إذا (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النار والخلود فيها هذا وعيده تعالى المقابل لوعده السابق اللهم اجعلنا من أهل وعدك ولا تجعلنا من أهل وعيدك يا واسع الفضل يا رحمن.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير البعث والجزاء.

٢ ـ تقرير التوحيد والنبوة.

٣ ـ بيان كون القرآن نورا فلا هداية في هذه الحياة إلا به فمن طلبها في غيره ما اهتدى.

__________________

(١) (فَآمِنُوا) : الفاء هي الفصيحة إذ أفصحت عن شرط مقدر ، والتقدير : فإذا علمتم هذه الحجج وتذكرتم ما حل بأسلافكم من العقاب فآمنوا بالله ورسوله لتنجوا مما حل بالكافرين من أمثالكم.

(٢) الإتيان باسم الإشارة بدل الضمير كان لقصد الاهتمام بهذا اليوم بتمييزه مع ما يفيده اسم الإشارة من البعد والعلو نحو : (ذلِكَ الْكِتابُ) والتغابن : تفاعل صادر بين اثنين هذا مغبون وذاك غابن ، والغبن : أن يعطى البائع ثمنا دون ثمن بضاعته.

(٣) هذه الآية متضمنة تفصيلا لما أجمل في الجمل قبلها وتحمل عفوا عاما لمن آمن من الكافرين ووحد من المشركين بأن الله تعالى سيعفو عنهم ويغفر لهم ويدخلهم الجنة.

(٤) قرأ نافع : نكفر وندخل بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى المتكلم. وقرأ حفص (يكفر) و (يدخل) بياء الغيبة على مقتضى الظاهر.

(٥) أي : والذين استمروا على الكفر والتكذيب ولم يتوبوا بالإيمان وترك الشرك والمعاصي فجزاؤهم الملائم لخبث نفوسهم من جراء الشرك والمعاصى هو ما ذكر تعالى من الخلود في النار.

٣٦٥

٤ ـ الترغيب في الإيمان والعمل الصالح وبيان أنهما مفتاح دار السلام.

٥ ـ التحذير من الكفر والتكذيب بالقرآن وشرائعه وأحكامه فان ذلك يقود الى النار.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣))

شرح الكلمات :

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) : أي ما أصابت احدا من الناس مصيبة الا بقضاء الله تعالى وتقديره ذلك عليه.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) : أي ومن يصدق بالله فيعلم أنه لا أحد تصيبه مصيبة الا بإذنه تعالى يهد قلبه للتسليم والرضاء بقضائه فيسترجع ويصبر.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) : أي عن طاعة الله ورسوله فلا ضرر ولا بأس على رسولنا في توليكم إذ عليه إبلاغكم لا هدايتكم.

معنى الآيات :

قوله تعالى (ما أَصابَ (١) مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٢) في هذه الآية رد على الكافرين الذين يقولون لو كان المسلمون على حق ، وما هم عليه حقا لصانهم الله من المصائب في الدنيا ، ولما سلط عليهم كذا وكذا ... فأخبر تعالى أنه ما من أحد من الناس تصيبه مصيبة في نفس أو ولد أو مال إلا وهي بقضاء الله وتقديره ذلك عليه ، ومن يؤمن بالله ربا وإلها عليما حكيما وأن ما أصابه لم

__________________

(١) قال القرطبي : قيل سبب نزول هذه الآية أن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حق لصانهم الله من المصائب في الدنيا ورد تعالى عليهم بأن المصائب التي تصيب العبد هي بإذن الله ولها أسبابها مرتبطة معها وهي سنن لله تعالى لا تتخلف.

(٢) أنثت المصيبة لأنها بمعنى الحادثة والإذن : أصله إجازة الفعل لمن يفعله والمراد هنا أن ما يصيب العبد من خير وشر هو بتدبير الله تعالى في ربطه الأسباب بالمسببات فعاد الأمر إلى إذنه تعالى بوقوع ما أراده من خير أو غيره.

٣٦٦

يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه (١) يهد قلبه فيصبر ويسترجع فيؤجر وتخف عنده المصيبة بخلاف الكافر بالله وقضائه وقدره.

وقوله تعالى (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه شيء فلا يحدث حدث في الكون الا بعلمه وإذنه وهذه حال تقتضى الرضا بالقضاء والقدر والتسليم لله تعالى فيما يقضى به على عبده وفي ذلك خير كثير لا يعرفه إلا أصحاب الرضا بالقضاء والتسليم للعليم الحكيم.

وقوله تعالى (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) يأمر تعالى عباده عامة بطاعة الله وطاعة رسوله لأن كمال الإنسان وسعادته مرتبطة بهذه الطاعة التي هي عبارة عن تطبيق نظام دقيق ينتج صفاء روح وزكاة نفس يتأهل بها العبد إلى النزول بالملكوت الأعلى «الجنة دار الأبرار».

وقوله (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن هذه الدعوة فرفضتم طاعة الله ورسوله فلا ضرر على رسولنا ولا ضير إذ عليه البلاغ المبين وقد بلغ مبينا غاية التبيين ، وأما هدايتكم فلم يكلف بها إذ لا يقدر عليها ولا يكلف الله نفسا إلا طاقتها.

وقوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي أن الذي أمركم بطاعته وطاعة رسوله هو الله الذي لا إله إلا هو أي المعبود الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح الا له لأنه الخالق لكم الرازق المدبر لحياتكم ، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ) (٢) (الْمُؤْمِنُونَ) فإنه يكفي المؤمن الذي يتوكل عليه يكفيه كل ما يهمه من أمر دنياه وآخرته. ولا كافى إلا هو سبحانه وتعالى.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر.

٢ ـ وجوب الصبر عند نزول المصيبة والرضا والتسليم لله تعالى في قضائه وحكمه ، ومن تكن هذه حاله يهد الله قلبه (٣) ويرزقه الصبر وعظيم الأجر ويلطف به في مصيبته وإن هو استرجع قائلا إنا لله وإنا اليه راجعون أخلفه الله عما فقده وآجره.

٣ ـ وجوب طاعة الله وطاعة رسوله في الأمر والنهي.

٤ ـ تقرير التوحيد.

__________________

(١) (يَهْدِ قَلْبَهُ) عندما تصيبه المصيبة فيسترجع أي : يقول إنا لله وإنا إليه راجعون ويصبر ، فالإيمان هو السبب في حصول هداية القلب فإذا هدى القلب حصل الاسترجاع وحصل الصبر وخف وقع المصيبة.

(٢) الجملة معطوفة على قوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ) فهي في معنى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، وتوكلوا على الله وحده لأن الطاعة تتطلب عملا وجهدا وهما يتطلبان اعتمادا على الله إذ هو المعين للعبد على الطاعة دون غيره فليكن التوكل عليه وحده.

(٣) (يَهْدِ قَلْبَهُ) فيسترجع ويصبر ، والإيمان الصحيح هو الذي ينتج هداية القلب فإذا اهتدى القلب إلى معرفة حكم الله وقضائه صبر وظفر.

٣٦٧

٥ ـ وجوب التوكل على الله تعالى وهو فعل المأمور وترك المنهى وتفويض الامر لله بعد ذلك.

ولن يكون الا خيرا بإذن الله تعالى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

شرح الكلمات :

(إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) : أي من بعض أزواجكم وبعض أولادكم عدوا أي يشغلونكم عن طاعة الله أو ينازعونكم في أمر الدين أو الدنيا.

(فَاحْذَرُوهُمْ) : أي أن تطيعوهم في التخلف عن فعل الخير كترك الهجرة أو الجهاد أو صلاة الجماعة أو التصدق على ذوي الحاجة.

(وَإِنْ تَعْفُوا) : أي عمن ثبطكم عن الخير من زوجة وولد.

(وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) : أي وتعرضوا عنهم وتغفروا لهم ما عملوه معكم من تأخيركم عن الهجرة أو الجهاد أو الإنفاق في سبيل الله.

(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : أي يغفر لمن يغفر ويرحم من يرحم.

٣٦٨

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) : أي بلاء واختبار لكم فاحذروا أن يصرفوكم عن طاعة الله أو يوقعوكم في معصيته.

(وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) : أي فآثروا ما عنده تعالى على ما عندكم من مال وولد.

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) : أي افعلوا ما تقدرون عليه من أوامره ، واجتنبوا نواهيه كلها.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) : أي ومن يقه الله شح نفسه فيعافيه من البخل والحرص على المال.

(يُضاعِفْهُ لَكُمْ) : أي الدرهم بسبعمائة.

(وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) : أي يجازى على الطاعة ولا يعاجل بالعقوبة.

معنى الآيات :

هذه الآيات الكريمة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الى قوله (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) نزلت (١) في أناس كان لهم أزواج وأولاد عاقوهم عن الهجرة والجهاد فترة من الوقت فلما تغلبوا عليهم وهاجروا ووجدوا الذين سبقوهم إلى الهجرة قد تعلموا وتفقهوا في الدين فتأسفوا عن تخلفهم فهموا بأزواجهم وأولادهم الذين عاقوهم عن الهجرة فترة طويلة أن يعاقبوهم بنوع من العقاب من تجويع أو ضرب أو تثريب وعتاب فأنزل الله تعالى هذه الآيات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا أيها المؤمنون (إِنَّ مِنْ (٢) أَزْواجِكُمْ (٣) وَأَوْلادِكُمْ) أي من بعضهم لا كلهم إذ منهم من يساعد على طاعة الله ويكون عونا عليها (عَدُوًّا لَكُمْ) يصرفكم عن طاعة الله والتزود للدار الآخرة ، وقد ينازعونكم في دينكم ودنياكم إذا (فَاحْذَرُوهُمْ) أي كونوا منهم على حذر أن تطيعوهم في التخلف عن فعل الخير من هجرة وجهاد وغيرهما (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) أي عمن شغلوكم عن طاعة الله فعاقوكم عن الهجرة والجهاد فلم تضربوهم ولم تجوعوهم ولم تثربوا عليهم ولم تعاتبوهم بل تطلبون العذر لما قاموا به نحوكم يكافئكم الله تعالى بمثله فيعفو عنكم ويصفح ويغفر لكم كما عفوتم وصفحتم وغفرتم لأزواجكم وأولادكم الذين أخروا هجرتكم وعطلوكم عن الجهاد في سبيل الله.

__________________

(١) قال القرطبي : قال ابن عباس : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي بالمدينة النبوية شكا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جفاء أهله وولده ، وعن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة التغابن كلها جملة إلا هؤلاء الآيات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ.). الخ.

(٢) الآية عامة في الرجال والنساء فكما يكون للرجل من امرأته وولده عدو يكون كذلك للمرأة من زوجها وولدها عدو ، ووجب الحذر على المؤمنين ، ويكون الحذر بوجهين : إما لضرر في البدن وإما لضرر في الدين ، وضرر البدن يتعلق بالدنيا وضرر الدين يتعلق بالآخرة فحذر الله تعالى العبد من ذلك وأنذره به.

(٣) (مِنْ) للتبعيض إذ ما كل من له زوجة وولد كانوا له عدوا.

٣٦٩

وقوله تعالى (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ (١) وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي إنما أموالكم وأولادكم أي كل أموالكم وأولادكم فتنة واختبار من الله لكم هل تحسنون التصرف فيهم فلا تعصوا الله لأجلهم لا بترك واجب ولا بفعل ممنوع ، أو تسيئون التصرف فيحملكم حبهم على التفريط في طاعة الله أو التقصير في بعضها بترك واجب أو فعل حرام والله عنده أجر عظيم فآثروا ما عند الله على ما عندكم من مال وولد ، إن ما عند الله باق ، وما عندكم فإن ، فآثروا الباقى على الفانى.

وقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٢) هذا من إحسان الله تعالى الى عباده المؤمنين إنه لما علمهم أن أموالهم وأولادهم فتنة وحذرهم أن يؤثروهم على طاعة الله ورسوله علم أن بعض المؤمنين سوف يزهدون فى المال والولد ، وأن بعضا سوف يعانون أتعابا ومشقة شديدة في التوفيق بين خدمة المصلحتين فأمرهم أن يتقوه في حدود ما يطيقون فقط وخير الأمور الوسط فلا يفرط في ولده وماله ، ولا يفرط في علة وجوده وسبب نجاته وسعادته وهي عبادة الله تعالى التي خلق لأجلها وعليها مدار نجاته من النار ودخوله الجنة.

وقوله تعالى (وَاسْمَعُوا) (٣) ما يدعوكم الله ورسوله إليه (وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا) في طاعة الله من أموالكم (٤) (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) من عدم الإنفاق فإنه شر لكم وليس بخير.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أعلمهم أن عدم الإنفاق ناتج عن شح النفس ، وشح النفس لا يقى منه إلا الله ، فعليكم باللجوء إلى الله تعالى ليحفظكم من شح نفوسكم فادعوه وتوسلوا إليه بالإنفاق قليلا قليلا حتى يحصل الشفاء من مرض الشح الذي هو البخل مع الحرص الشديد على جمع المال والحفاظ عليه ومن شفي من مرض الشح أفلح وأصبح في عداد المفلحين الفائزين بالجنة بعد النجاة من النار. وقوله (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ (٥) وَيَغْفِرْ لَكُمْ) هذا الترغيب عظيم من الله تعالى للمؤمنين في النفقة في سبيله

__________________

(١) (فِتْنَةٌ) أي : بلاء واختبار يحملكم على كسب المحرم ومنع حق الله تعالى فلا تطيعوهم في معصية الله تعالى ، روي عن ابن مسعود انه كان يقول : لا تقولوا : اللهم اعصمني من الفتنة فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة ولكن ليقل اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.

(٢) هل هذه الآية مخصصة لآية آل عمران : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) هذا هو الظاهر إذ من غير الممكن أن يتقى الله حق تقاته أي : تقواه الحقة فلو أن العبد ذاب ذوبانا من خشية الله تعالى ما اتقى الله حق تقاته.

(٣) قال القرطبي : اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتنهون عنه ، والآية أصل في السمع والطاعة في بيعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السمع والطاعة ولأولى الأمر.

(٤) يصح في نصبه ثلاثة أوجه الأول أن يكون الخير بمعنى المال ويكون خيرا مفعولا به ، والثاني : أن يكون (خَيْراً) نعتا لمصدر محذوف أي أنفقوا إنفاقا خيرا ، والثالث أن يكون منصوبا بفعل مضمر دل عليه أنفقوا أي ايتوا في الإنفاق خيرا لأنفسكم.

(٥) المضاعفة : هي إعطاء الضعف ، والشكور : فعول بمعنى فاعل أي : مبالغة في الشكر.

٣٧٠

إذ سماها قرضا والقرض مردود وواعد بمضاعفتها وزيادة أخرى أن يغفر لهم بذلك ذنوبهم ، واشتراط الحسن للقرض اشتراط معقول وهو أن يكون المال الذي أقرض الله حلالا لا حراما ، وأن تكون النفس طيبة به لا كارهة له ، وهذا من باب النصح للمؤمنين ليحصلوا على الأجر مضاعفا. وقوله تعالى (وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) ترغيب ايضا لهم في الإنفاق لأن الشكور معناه يعطي القليل فيكافيء بالكثير ، والحليم الذي لا يعاجل بالعقوبة. ومثله يقرض القرض الحسن. وقوله (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ترغيب ايضا في الإنفاق إذا أعلمهم أنه لا يغيب عنه من أمورهم شيء يعلم الخفي منها والعلنى ، وما غاب عنهم فلم يروه وما ظهر لهم فشهدوه فذو العلم بهذه المثابة معاملته مضمونة لا يخاف ضياعها ولا نسيانها. وقوله (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي العزيز الانتقام من أعدائه الحكيم في إجراء أحكامه وتدبير شؤون عباده.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن من بعض الزوجات والأولاد عدوا فعلى المؤمن أن يحذر ذلك ليسلم من شرهم.

٢ ـ الترغيب في العفو والصفح والمغفرة على من أساء أو ظلم.

٣ ـ التحذير من فتنة المال والولد ووجوب التيقظ حتى لا يهلك المرء بولده وماله.

٤ ـ وجوب تقوى الله بفعل الواجبات وترك المنهيات في حدود الطاقة البشرية.

٥ ـ الترغيب في الإنفاق في سبيل الله تعالى والتحذير من الشح فإنه داء خطير.

سورة الطلاق

مدنية وآياتها ثلاث عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ

٣٧١

اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١))

شرح الكلمات :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُ) : أراد الله بالنداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته بدليل ما بعده.

(إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) : أي إذا أردتم طلاقهن.

(فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) : أي لقبل عدتهن أي في طهر لم يجامعها فيه.

(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) : أي احفظوا مدتها حتى يمكنكم المراجعة فيها.

واتقوا ربكم : أي أطيعوه في أمره ونهيه.

(لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) : أي لا تخرجوا المطلقة من بيت زوجها الذي طلقها حتى تنقضي عدتها.

(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) : أي إلا أن يؤذين بالبذاء في القول وسوء الخلق ، أو يرتكبن فاحشة من زنا بينة ظاهر لا شك فيها.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) : أي المذكورات من الطلاق في أول الطهر وإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيتها حتى تنقضي عدتها.

(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) : أي يجعل في قلب الزوج الرغبة في مراجعتها فيراجعها إذا لم تكن الثالثة من الطلقات.

معنى الآية

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (١) يخاطب الله تبارك وتعالى رجال أمة الإسلام في شخصية نبيها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول : إذا طلقتم (٢) أي إذا أردتم طلاقهن لأمر اقتضى ذلك (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي لأول عدتهن وذلك في طهر لم تجامع فيه لتعد ذلك الطهر أول عدتها. وقوله تعالى :

__________________

(١) في سنن ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها بأمر الله تعالى وقيل له : راجعها فإنها قوامة صوامة رضي الله عنها وأرضاها ، وضعف الحديث ، وعلى كل حال فالآية تشريع عام لأمة الإسلام بغض الطرف عن سبب النزول.

(٢) وردت أحاديث كثيرة ضعيفة السند ومجموعها يدل على كراهية الطلاق وأنه عمل غير صالح إن كان بدون ضرورة وهي رفع الضرر عن أحد الزوجين. الجمهور أن من طلق واستثنى فله ما استثناه فلو قال : أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه.

٣٧٢

(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي احفظوها فاعرفوا بدايتها ونهايتها لما يترتب على ذلك من أحكام من صحة المراجعة وعدمها ، ومن النفقة ، والإسكان وعدمهما. وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) فامتثلوا أوامره وقفوا عند حدوده فلا تتعدوها ، (لا تُخْرِجُوهُنَ) أي المطلقات (مِنْ بُيُوتِهِنَ) اللاتي طلقن فيهن ، (وَلا يَخْرُجْنَ) أي ويجب أن لا يخرجن من بيوتهن (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) كزنا ظاهر أو تكون سيئة بذيئة اللسان فتؤذى أهل البيت أذى لا يتحملونه فعندئذ يباح إخراجها.

وقوله تعالى : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي المذكورات من الطلاق لأول الطهر ، وإحصاء العدة ، وعدم إخراجهن من بيوتهن ، وقوله (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) فيتجاوزها ولم يقف عندها (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) وتعرض لعقوبة الله تعالى عاجلا أو آجلا.

وقوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي بأن يجعل الله تعالى في قلب الرجل رغبة في مراجعة مطلقته فيراجعها ، وفي ذلك خير كثير.

هداية الآية :

من هداية الآية :

١ ـ بيان السنة في الطلاق وهي أن يطلقها في طهر لم يمسها (١) فيه بجماع.

٢ ـ أن يكون الطلاق واحدة لا اثنتين ولا ثلاثا.

٣ ـ وجوب إحصاء العدة ليعرف الزوج متى تنقضي عدة مطلقته لما يترتب على ذلك من أحكام الرجعة والنفقة والإسكان.

٤ ـ حرمة إخراج المطلقة من بيتها الذي طلقت فيه إلى أن تنقضي عدتها إلا أن ترتكب فاحشة ظاهرة كزنا أو بذاءة أو سوء خلق وقبيح معاملة فعندئذ يجوز إخراجها.

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ

__________________

(١) وأن يكون واحدة لا اثنتين أو ثلاثا ، وطلاق البدعة خلافه وهو : أن يطلقها وهي حائض أو في طهر جامعها فيه أو بلفظ اثنين أو ثلاث ومن أهل العلم من لا يعد الطلاق البدعي طلاقا ، ومنهم من يمضيه واحتج المانعون والمجيزون بحديث ابن عمر في الصحيح : (إذ طلق ابن عمر زوجته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : ليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر بها الله عزوجل) فمن قال : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حسبها له طلقة قال الطلاق في الحيض يمضي وهو بدعة ، ومن قال : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعدها بل قال له : (إذا طهرت ليطلق أو ليمسك) قال : الطلاق في الحيض بدعة ولا يمضي.

٣٧٣

وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣))

شرح الكلمات :

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) : أي قاربن انقضاء عدتهن.

(فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) : أي بأن تراجعوهن بمعروف من غير ضرر.

(أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) : أي أتركوهن حتى تنقضى عدتهن ولا تضاروهن بالمراجعة.

(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) : أي اشهدوا على الطلاق وعلى الرجعة رجلين عدلين منكم أي من المسلمين فلا يشهد كافر.

(وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) : أي لا للمشهود عليه أو له بل لله تعالى وحده.

(ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) : إي ذلكم المذكور من أول السورة من أحكام يؤمر به وينفذه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) : أي في أمره ونهيه فلا يعصه فيهما.

(يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) : أي من كرب الدنيا والآخرة.

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) : أي من حيث لا يرجو ولا يؤمل.

(فَهُوَ حَسْبُهُ) : أي كافيه ما يهمه من أمر دينه ودنياه.

(قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) : أي من الطلاق والعدة وغير ذلك حدا وأجلا وقدرا ينتهى إليه.

معنى الآيتين :

ما زال السياق الكريم في بيان العدد وأحكام الطلاق والرجعة. قال تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ) (١) أي المطلقات (أَجَلَهُنَ) أي قاربن انقضاء العدة (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي راجعوهن على أساس حسن العشرة والمصاحبة الكريمة لا للإضرار بهن كأن يراجعها ثم يطلقها يطول عليها العدة فهذا لا

__________________

(١) هذا لقوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَ) أي : قاربن من انقضاء الأجل.

٣٧٤

يجوز لحرمة الإضرار بالناس وفي الحديث : لا ضرر (١) ولا ضرار. وقوله (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وذلك بأن يعطيها ما بقى لها من مهرها ويمتعها (٢) بحسب حاله غنى وفقرا. وقوله تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي أشهدوا على النكاح والطلاق والرجعة أما الإشهاد على النكاح فركن ولا يصح النكاح بدونه ، وأما في الطلاق والرجعة فهو مندوب ، وقد يصح الطلاق والرجعة بدونه ، ويشترط في الشهود أن يكونوا عدولا ، وأن يكونوا مسلمين لا كافرين. (٣) وقوله : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أي أدوها على وجهها ولا تراعوا فيها الا وجه الله عزوجل. وقوله : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي ذلكم المأمور به من أول السورة كالطلاق في طهر لم يجامعها فيه وكإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيتها والإمساك بالمعروف والفراق بالمعروف والإشهاد في النكاح والطلاق والرجعة والإقساط في الشهادة كل ذلك يوعظ به أي يؤمر به وينفذه المؤمن بالله واليوم الآخر إذ هو الذي يخاف عقوبة الله وعذابه فلا يقدم علي معصيته.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) هذه الآية نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمه فبم تأمرني؟ قال آمرك وإياها أن تكثروا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت المرأة نعم ما أمرك به فجعلا يكثران منها فغفل العدو عن ابنهما فاستاق غنمهم وجاء بها الى أبويه فنزلت هذه الآية ، وهي عامة في كل من يتق الله تعالى فإنه يجعل له من كل ضيق مخرجا ومن كل كرب فرجا ، ويرزقه من حيث لا يرجو ولا يؤمل ، ولا يخطر له على بال ، ومن يتوكل على الله تعالى في أمره فلا يفرط في أمر الله ، ولا يضيع حقوقه فإن الله تعالى يكفيه ما يهمه من أمر دينه ودنياه. وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) (٤) أي منفذ أمره في عباده لا يعجزونه أبدا ، وقد (٥) جعل لكل شيء قدرا أي مقدارا وزمانا ومكانا فلا يتقدم ولا يتأخر ، ولا يزيد ولا ينقص فمن رضى فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ، ولا يقع في ملك الله الا ما يريد الله.

__________________

(١) رواه مسلم في صحيحه.

(٢) المتعة واجبة للمطلقة التي لم يفرض لها صداق ولغيرها من المطلقات سنة مستحبة.

(٣) وأن يكونا ذكرين فالنساء شهادتهن خاصة في الأموال لا غير.

(٤) قرأ نافع إن الله بالغ أمره بتنوين بالغ ونصب أمره على أنه معمول لاسم الفاعل المنون ، وقرأ حفص بإضافة بالغ إلى أمره فبالغ مرفوع بدون تنوين وأمر : مجرور بالإضافة إليه.

(٥) أي : لكل شيء من الشدة والرخاء أجل ينتهي إليه. قاله القرطبي : وما في التفسير أوضح وأشمل.

٣٧٥

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ لا تصح الرجعة إلا في العدة فإن انقضت العدة فلا رجعة وللمطلقة ان تتزوج من شاءت هو أو غيره من ساعة انقضاء عدتها.

٢ ـ لا تحل المراجعة للإضرار ، ولكن للفضل والإحسان وطيب العشرة.

٣ ـ مشروعية الإشهاد على الطلاق والرجعة معا.

٤ ـ يشترط في الشهود العدالة ، فإذا خفت العدالة في الناس استكثر من الشهود.

٥ ـ وعد الله الصادق بالفرج القريب لكل من يتقه سبحانه وتعالى ، والرزق من حيث لا يرجو.

٦ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر.

٧ ـ كفاية الله لمن توكل عليه. (١)

(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥))

شرح الكلمات :

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) : والنسوة اللائي يئسن من الحيض.

(إِنِ ارْتَبْتُمْ) : أي شككتم في عدتهن.

(وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) : أي لكبر سن أو صغر سن.

(وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) : أي ذوات الأحمال : النساء الحوامل.

(أَجَلُهُنَ) : أي في انقضاء عدتهن أن يضعن حملهن.

__________________

(١) روى القرطبي عن الربيع بن خيثم قوله : إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ومن وثق به نجاه ومن دعاه أجاب له وتصديق ذلك في كتاب الله (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ). (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ).

٣٧٦

(ذلِكَ أَمْرُ اللهِ) : أي ذلك المذكور في العدة وتفاصيلها.

(أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) : أي لتأتمروا به وتعملوا بمقتضاه.

معنى الآيين :

ما زال السياق الكريم في بيان أحكام الطلاق والرجعة والعدة فقال تعالى : (١) (وَاللَّائِي يَئِسْنَ) (٢) (مِنَ الْمَحِيضِ) أي لكبر سنهن كمن تجاوزت الخمسين من عمرها إذا طلقت بعد الدخول بها. (إِنِ ارْتَبْتُمْ) (٣) أيها المؤمنون في مدة عدتهن ، (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ. وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) أي لصغرهن كذلك ، عدتهن ثلاثة أشهر وقوله (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) أي الحوامل إن طلقن أو مات عنهن أزواجهن أجلهن في انقضاء عدتهن أن يضعن حملهن أي وضع حملهن فمتى ولدت ما في بطنها من جنين فقد انقضت عدتها ولو وضعته قبل استكمال التسعة أشهر ، إن لم تتعمد إسقاطه بالإجهاض المعروف اليوم عند الكوافر والكافرين.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) أي منكم أيها المؤمنون في هذه الأحكام المتعلقة بالطلاق والرجعة والعدة فلا يخالف أمره في ذلك يكافئه الله تعالى من فضله فيجعل له من أمره يسرا فيسهل عليه أمره ويرزقه ما تقر به عينه ويصلح به شأنه.

وقوله تعالى : (ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) أي ذلك المذكور من الأحكام في هذه السورة من الطلاق والرجعة والعدة وتفاصيلها حكم الله أنزله إليكم لتأمروا وتعملوا به فاعملوا به ولا تهملوه طاعة لله وخوفا من عذابه (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في أوامره ونواهيه فيؤدى الواجبات ويتجنب المحرمات (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي يغفر له ذنوبه ويدخله الجنة.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان العدة وهي كالتالي :

١ ـ متوفى عنها زوجها وهي غير حامل عدتها : أربعة أشهر وعشر ليال.

__________________

(١) روي أن عددا من الصحابة وهم : أبي بن كعب وخلاد بن النعمان ومعاذ بن جبل كل واحد سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عدة الصغيرة والكبيرة ممن لا يحضن وعدة الحامل كذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ). والآية مخصصة لعموم آية البقرة (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) فقد نزلت سورة الطلاق بعد سورة البقرة.

(٢) اليأس : عدم الأمل والميؤوس منه في الآية هو : الحيض وسواء كان قد وجد وانعدم أم لم يوجد بعد.

(٣) أطلق الفقهاء على التي تحيض وانقطع حيضها وهي لم تبلغ سن اليأس أطلقوا عليها : (المرتابة) وألزموها بأن تتربص تسعة أشهر وهي مدة الحمل فإن لم تحض ولم يظهر لها حمل اعتدت بثلاثة أشهر فتتم لها سنة ثم لها أن تتزوج لانقضاء عدتها.

٣٧٧

٢ ـ متوفى عنها زوجها وهى حامل : عدتها وضع حملها. (١)

٣ ـ مطلقة لا تحيض لكبر سنها أو لصغر سنها وقد دخل بها : عدتها ثلاثة أشهر.

٤ ـ مطلقة تحيض عدتها ثلاثة قروء أي حيض تبتدىء بالحيضة التي بعد الطهر الذي طلقت فيه. أو ثلاثة اطهار (٢) كذلك الكل واسع ولفظ القرء مشترك دال على الحيض وعلى الطهر.

٥ ـ بيان أن أحكام الطلاق والرجعة والعدد مما أوحى الله به وأنزله في كتابه فوجب العمل به ولا يحل تبديله أو تغييره باجتهاد أبدا.

٦ ـ فضل التقوى وأنها باب كل يسر وخير في الحياة الدنيا والآخرة.

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧))

شرح الكلمات :

(مِنْ وُجْدِكُمْ) : أي من وسعكم بحيث يسكن الرجل مطلقته في بعض سكنه.

(وَلا تُضآرُّوهُنَ) : أي لا تطلبوا ضررهن بأي حال من الأحوال سواء في السكن أو النفقة.

__________________

(١) اختلف في الحامل تسقط هل تنقضي عدتها بالإسقاط أو لا فالإجماع إن كان ما سقط منها ولد تام الخلقة فإن عدتها انتهت بذلك ، واختلف فيما إذا كان السقط مجرد علقة أو مضغة والراجع أنها تحل لأن العبرة بخلو الرحم يقينا وقد خلا بالإسقاط.

(٢) الاعتداد بالأطهار أولى لما فيه من التخفيف على المعتدة ولظاهر الآية (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي : لأول عدتهن وهو الطهر الذي طلقها فيه ولم يمسها.

٣٧٨

(لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) : أي لأجل أن تضيقوا عليهن السكن فيتركنه لكم ويخرجن منه.

(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ) : أي حوامل يحملن الأجنة في بطونهن.

(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) : أي أولادكم.

(فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) : فاعطوهن أجورهن على الإرضاع هذا في المطلقات.

(وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) : أي وتشاورا أو ليأمر كل منكم صاحبه بأمر ينتهى باتفاق على أجرة معقولة لا إفراط فيها ولا تفريط.

(وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) : فإن امتنعت الأم من الإرضاع أو امتنع الأب من الأجرة.

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ) : أي لينفق على المطلقات المرضعات ذو الغنى من غناه.

(وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) : ومن ضيق عليه عيشه فلينفق بحسب حاله.

معنى الآيتين :

بعد بيان الطلاق بقسميه الرجعى والبائن وبيان العدد على اختلافها بين تعالى في هاتين الآيتين أحكام النفقات والإرضاع فقال تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ (١) مِنْ وُجْدِكُمْ) أي من وسعكم (وَلا تُضآرُّوهُنَ) (٢) بأي مضارة لا في السكن ولا في الإنفاق ولا في غيره من أجل أن تضيقوا عليهن فيتركن لكم السكن ويخرجن. وهؤلاء المطلقات طلاقا رجعيا وهن حوامل أو غير حوامل. وقوله تعالى (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) أي وان كانت المطلقة طلاق البتة أي طلقها ثلاث مرات فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن أي أسكنوهن وأنفقوا عليهن إلى أن يلدن فإن وضعت حملها فهما بالخيار إن شاءت أرضعت له ولده بأحرة يتفقان عليها وان شاء هو أرضع ولده مرضعا غير أمه وهو معنى قوله تعالى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ (٣) لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) وذلك يتم بتبادل الرأي الى الاتفاق على أجرة معينة ، وان تعاسرا بأن طلب كل واحد عسر الثاني أي تشاحا في الأجرة فلم يتفقا فلترضع له أي للزوج امرأة أخرى من نساء القرية.

__________________

(١) قال أشهب عن مالك : يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل للآية (أَسْكِنُوهُنَ) والصحيح أن المنزل إذا كان يتسع لهما معا هي في حجرة وهو في أخرى فلا داعي لإخلائه لها وإن كان لا يتسع إلا لواحد فنعم يجب أن يتركه لها ، وقوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) يقرر أن السكنى تكون في بيت الزوج المطلق.

(٢) المضارة : الإضرار ، والمراد بالتضييق المحرم : إحراجهن أو أذاهن بأي أذى. فقوله تعالى : (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) شامل للمضايقة في السكنى والنفقة وفي العدة بأن يطلقها حتى إذا كادت تنقضي عدتها راجعها ثم يطلقها.

(٣) هل على المرأة أن ترضع ولدها؟ إن كانت عصمة الزوجية قائمة فالصحيح أنها ترضع ولدها وجوبا وإن انفصلت عروة الزوجية فلا يجب على الوالدة إرضاع إلا إذا لم يقبل غيرها وخيف عليه الموت فيتعين عليها إرضاعه بأجرة إن شاءت. وأبو حنيفة لا يرى وجوب الإرضاع على الأم مطلقا ويرى بعض العكس. والوسط ما قدمناه وهو الحق.

٣٧٩

وقوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو) (١) (سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) أمر تعالى المؤمن إذا طلق أن ينفق على مطلقته التى ترضع له ولده أو التي هى في عدتها في بيته بحسب يساره وإعساره أو غناه وافتقاره ، إذ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما) أعطاها من قدرة أو غنى وطول والقاضى هو الذي يقدر النفقة عند المشاحة وتكون بحسب دخل الرجل وما يملك من مال.

وقوله تعالى : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) هذا وعد صدق أتمه لأصحاب رسوله حيث كانوا في عسر ففتح عليهم ملك كسرى والروم فأبدل عسرهم يسرا. وأما غيرهم فمشروط بالتقوى كما تقدم ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ وجوب السكن والنفقة للمطلقة طلاقا رجعيا.

٢ ـ وجوب السكنى والنفقة للمطلقة الحامل حتى تضع حملها.

٣ ـ وجوب السكنى والنفقة للمتوفى عنها زوجها وهى حامل.

٤ ـ المطلقة البائن والمبتوتة لم يقض لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفقة ولا سكنى لحديث فاطمة (٢) بنت قيس أخت الضحاك ، ومن الفضل الذي ينبغي أن لا ينسى ان كانت محتاجة الى سكن أو نفقة ان يسكنها مطلقها وينفق عليها مدة عدتها. وأجره عظيم لأنه أحسن والله يحب المحسنين.

٥ ـ النفقة الواجبة تكون بحسب حال المطلق غنى وفقرا والقاضى يقدرها ان تشاحا.

٦ ـ المطلقة طلاقا بائنا إن أرضعت ولدها لها أجرة إرضاعها حسب اتفاق الطرفين الأم والأب.

٧ ـ بيان القاعدة العامة وهى أن لا تكلف نفس إلا وسعها.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩)

__________________

(١) في الآية دليل على وجوب نفقة الولد على والده وأما الأم فلا إلا لضرورة كأن يموت الوالد أو يعجز ، وكانت الأم قادرة فلتنفق وجوبا على طفلها.

(٢) وصف المالكية حديث فاطمة بالغرابة ، وأن عمر رضي الله عنه لم يقل به ، وقال : لا نترك كتاب الله لقول امرأة يعني أن الآية عامة في كل مطلقة لا فرق بين البائن وغيرها ، فالسكنى والنفقة للجميع وهو أرحم وأعظم أجرا والله أعلم.

٣٨٠