أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٩

(لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) : أي لا يسمعون في الجنة لغوا أي فاحش الكلام وما لا خير فيه ولا ما يوقع في الإثم.

(إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) : إلا قولا سلاما سلاما أي لا يسمعون الا السّلام من الملائكة ومن بعضهم بعضا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في بيان أحوال الناس إذا قامت القيامة فذكر أنهم يصيرون أصنافا ثلاثة أصحاب يمين وأصحاب شمال وسابقين. وهنا يقول في السابقين إنهم (ثُلَّةٌ) أي جماعة (مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي (١) من الأمم الماضية الذين أسلموا وسبقوا إلى الإسلام مع أنبيائهم ، (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٢) أي من هذه الأمة أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم الذين سبقوا الى الإيمان والهجرة والجهاد يذكر نعيمهم فيقول وقوله الحق : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) أي إنهم على سرر موضونة أي منسوجة ومشبكة بالذهب والجواهر ، حال كونهم (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) لا ينظر أحدهم إلى قفا الآخر بل إلى وحهه ، (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أي للخدمة (وِلْدانٌ) غلمان (مُخَلَّدُونَ) (٣) لا يكبرون فيهرمون ولا يتغيرون بل يبقون كذلك أبدا يطوفون عليهم (بِأَكْوابٍ) جمع كوب وهو قدح لا عروة له ، (وَأَبارِيقَ) جمع ابريق وهو إناء له عروة وخرطوم ، (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) والكأس هنا إناء شرب الخمر والمعين ما كان جاريا لا ينضب والمراد بكأس من نهر الخمر.

وقوله تعالى (لا يُصَدَّعُونَ (٤) عَنْها) أي لا يصيبهم صداع من شربها ، (وَلا يُنْزِفُونَ) (٥) أي لا تذهب عقولهم بشربها بخلاف خمر الدنيا فإنها تصيب شاربها بالصداع وذهاب العقل غالبا وقوله تعالى (وَفاكِهَةٍ) ويطوف عليهم الغلمان بفاكهة وهو ما يتفكه به وليس بغذاء رئيسي ومن سائر الفواكه ، (مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) أي يختارون. (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي مما تشتهيه أنفسهم.

وقوله (وَحُورٌ عِينٌ) أي ولهم في الجنة حور عين يستمتعون بهن ، واحدة الحور حوراء. وهي البيضاء وواحدة العين العيناء وهو واسعة العينين والحور في العين أن يكون بياضها أكثر من

__________________

(١) قوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) اعتراض بين جملة (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) وجملة : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) وثلة : خبر لمبتدأ محذوف أي هم : ثلة الخ.

(٢) من الأولى والثانية تبعيضية.

(٣) قيل : إنهم على سن واحدة ، وروي عن علي رضى الله عنه أنه قال : الولدان هم أولاد المسلمين الذين يموتون صغارا. وقال سلمان : هم أولاد المشركين الذين يموتون صغارا. والله أعلم.

(٤) التصديع : الإصابة بالصداع ، وهو وجع الرأس من الخمار الناشيء عن السكر أي لا تصيبهم الخمر بصداع ، وعنها بمعنى : لا يصيبهم صداع ناشيء عنها.

(٥) قرأ نافع ينزفون بفتح الزاي من : أنزفه وقرأها حفص (يُنْزِفُونَ) بكسر الزاي من أنزف القاصر ، إذا سكر وذهل عقله.

٢٤١

سوادها وهو ضرب من الجمال ، وقوله (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي المصون في كنّه أو صدفه. يريد أنهن جميلات مصونات غير مبتذلات وقد تقدم في الرحمن أنهن مقصورات في الخيام. وقوله تعالى (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جزاهم ربهم جزاء بما كانوا يعملونه من الصالحات بعد الإيمان والتوحيد وترك المعاصي.

وقوله تعالى وهو من إتمام النعيم أنهم (لا يَسْمَعُونَ) في جنات النعيم ما يكدر صفو نعيمهم أو ينغص لذة حياتهم من قول بذيء سيّئ فلا يسمعون فيها أي في الجنة (لَغْواً) أي (١) كلاما فاحشا (وَلا تَأْثِيماً) وهو ما يؤثم قائله وسامعه. (إِلَّا قِيلاً) أي قولا (سَلاماً سَلاماً) أي إلا ما كان من سلام الرب تعالى عليهم وهو أكبر نعيمهم وسلام الملائكة عليهم وسلام بعضهم على بعض اللهم اجعلنا منهم قل آمين أيها القاريء واطمع فإن ربنا غفور رحيم سميع الدعاء قريب مجيب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير البعث والجزاء بذكر أحوال الدار الآخرة.

٢ ـ بيان شيء من نعيم أهل الجنة وخاصة السابقين منهم.

٣ ـ بيان ان السابقين يكونون من سائر الأمم المسلمة.

٤ ـ بيان فضل خمر الجنة على خمر الدنيا المحرمة.

٥ ـ تقرير قاعدة أن الجزاء من جنس العمل.

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠))

__________________

(١) اللغو من الكلام في الدنيا هو : ما لا يحصل حسنة للمعاد ولا درهما للمعاش وفي الآخرة هو ما لا يسر من كل قول إذ الحياة : حياة سعادة وسرور وحبور.

٢٤٢

شرح الكلمات :

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) : هذا شروع في ذكر الزوج الثاني من الأزواج الثلاثة فذكر السابقين وما أعد لهم وهذا ذكر لأصحاب اليمين وما أعد لهم من نعيم مقيم.

(فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) : في شجر السدر وثمره النبق ومخضود لا شوك فيه.

(وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) : أي شجر موز منضود الحمل من أعلاه إلى أسفله فليس له ساق بارزة.

(وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) : أي دائم إذ لا شمس تنسخه وإن ظل شجرة في الجنة يسير الراكب فيه مائة سنة لا يقطعه.

(وَماءٍ مَسْكُوبٍ) : أي مصبوب لا يحتاج المتنعم بأن يصبه بيده بل هو سائل في غير أخدود أو أنبوب.

(لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) : أي غير مقطوعة في زمن ، ولا ممنوعة بثمن.

(وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) : أي على السرر العالية الرفيعة.

(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) : أي الحور العين اللائي تقدم ذكرهن في قوله وحور عين. إذ كانت الواحدة منهن في الدنيا عجوزا شمطاء عمشاء رمصاء فأنشأها ربها إنشاء جديدا بكرا تتغنج وتتعشق عرباء تتودد لزوجها وتتحبب.

(فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) : الواحدة بكر وهي التي لم تفتض بكارتها بعد وتسمى العذراء.

(عُرُباً) : الواحدة عروب وهي المتحببة الى زوجها الحسنة التبعل.

(أَتْراباً) : أي مستويات في السن الواحدة يقال لها ترب والجمع أتراب.

(لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) : وهم الذين يؤخذ بهم في عرصات القيامة ذات اليمين وهم أهل الإيمان في الدنيا والعمل الصالح فيها.

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) : أي من الأمم السابقة.

(وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) : أي من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٤٣

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في عرض أحوال الآخرة وذكر ما لكل صنف من أصناف الناس الثلاثة من سابقين وأصحاب يمين وأصحاب شمال فقال تعالى (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ) (١) وهم الذين إذا وقفوا في عرصات القيامة أخذ بهم ذات اليمين وهم أهل الإيمان والتقوى في الدنيا وقوله تعالى : (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) (٢) تفخيم لشأنهم وإعلان عن كرامتهم ثم بيّن ذلك بقوله : (فِي سِدْرٍ (٣) مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَماءٍ مَسْكُوبٍ وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ) (٤) (وَلا مَمْنُوعَةٍ ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) إنهم في هذا النعيم الدائم المقيم إنهم يتفكهون بالنبق الذي هو أحلى من العسل وأنعم من الزبد شجره مخضود الشوك لا شوك به ، ويتفكهون بالطلح أي ثمره وهو الموز ، والماء المصبوب الجارى ، والفاكهة الكثيرة التي لا تقطع بالفصول الزمانية كما هي الحال في فاكهة الدنيا يوجد منها في الصيف ما لا يوجد في الشتاء مثلا ولا ممنوعة بثمن غال ولا رخيص وفي فرش مرفوعة عالية علو الدرجات التي هي فيها وقوله : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) (٥) يعني الحور العين اللائي سبق في الآيات ذكرهن منهن من أنشأهن الله إنشاء لم يسبق لهن خلق ووجود ، ومنهن نساء الدنيا فقد كانت فيهن السوداء والعمشاء والرمصاء والعجوز فيعيد تعالى إنشاءهن فيجعلهن من بين الحور العين كأنهن اللؤلؤ المكنون ، وقوله (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) عذارى لم يمسهن قبل أزواجهن إنس ولا جان (عُرُباً أَتْراباً) العروب (٦) هي المتحببة الى زوجها العاشقة له المتغنجة والأتراب المتساويات في السن ، وترب (٧) الإنسان من ولد معه في وقت واحد فمس جلده التراب مع مس التراب جلدك وقوله (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) أي أنشأ هؤلاء الحور العين لأجل أصحاب اليمين ليستمتعوا بهن. وقوله (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي من الأمم الماضية (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي من هذه الأمة المسلمة اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وادخلنا الجنة معهم.

__________________

(١) هذا شروع في تفصيل ما أجمل عند التقسيم من شؤونهم الفاضلة على إثر تفصيل شؤون السابقين.

(٢) الإخبار ب (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) : فيه من التفخيم ما فيه!!

(٣) خبر محذوف المبتدأ تقديره : هم في سدر.

(٤) لا مقطوعة ولا ممنوعة : هذا وصف للفاكهة ، والنفي هنا أثبت من الإثبات لأنه بمنزلة وصف وتوكيد.

(٥) لما ذكر الفرش قد يخطر بالبال هل هناك نساء يكن بصحبة أهلها؟ فأجيب بقوله : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَ) أي : الحور العين (إنشاء) فكانت الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ، وضمير المؤنث (أَنْشَأْناهُنَ) عائد إلى غير مذكور في الكلام لكنه ملحوظ في الأفهام.

(٦) العرب : جمع عروب ، ويقال : عربة ويجمع على عربات ، وهذا اسم خاص بالمرأة المتحببة إلى زوجها كما في التفسير.

(٧) الأتراب : جمع ترب وهي المرأة التي تساوى سنها سن من تضاف إليه من النساء ، وقيل : إن الترب خاص بالمرأة ، وأما المساواة في السن من الرجال فيقال له قرن ، ولدة.

٢٤٤

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إكرام الله وإنعامه على المؤمنين المتقين.

٢ ـ بيان أن العجوز في الدنيا إذا دخلت الجنة تصير شابة حسناء حوراء عروبا.

٣ ـ تقرير أن ثمن الجنة الإيمان والتقوى فلا دخل للحسب ولا للنسب والأول كالآخر على حد سواء فيها.

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))

شرح الكلمات :

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ) : أي هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال في الموقف يوم القيامة وهم أهل الشرك والمعاصي في الدنيا.

(فِي سَمُومٍ) : أي ريح حارة تنفذ في مسام الجسد.

(وَحَمِيمٍ) : أي ماء حار شديد الحرارة.

(وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) : أي دخان شديد السواد.

٢٤٥

(لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) : أي لا بارد كغيره من الظلال ولا كريم حسن المنظر.

(كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) : أي في الدنيا.

(مُتْرَفِينَ) : أي منعمين لا ينهضون بالتكاليف الشرعية ولا يتعبون في طاعة الله ورسوله.

(يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) : أي الذنب العظيم وهو الشرك.

(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا) : أي وكانوا ينكرون البعث الآخر.

(لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) : أي لوقت يوم معلوم وهو يوم القيامة.

(أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) : أي الضالون عن طريق الهدى المكذبون بالبعث والجزاء.

(مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) : أي من أخبث الشجر المرّ في غاية الكراهة والبشاعة طعما ولونا.

(فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) : أي شاربون شرب الإبل العطاش ، إذ الهيمان العطشان والهيمى العطشى.

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) : أي هذا ما أعد لهم من قرى يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في بيان أحوال الأصناف الثلاثة التي انقسمت البشرية إليها عند خروجها من قبورها فذكر حال السابقين وحال أصحاب اليمين وذكر هنا حال أصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال فقال تعالى : (وَأَصْحابُ) (١) (الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) تنديد بحالهم وإعلان عن سوء عاقبتهم وما هم فيه من عذاب إنهم (فِي سَمُومٍ) (٢) أي ريح حارة تنفذ في مسام الجسم (وَحَمِيمٍ) وهو ماء حار شديد الحرارة هذا شرابهم ، (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) إنه دخان أسود شديد السواد (لا بارِدٍ) كغيره من الظلال (وَلا كَرِيمٍ) أي وليس بذي حسن في منظره. وقوله تعالى (إِنَّهُمْ (٤) كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) (٥) هذه علة جزائهم بالعذاب الأليم

__________________

(١) هذا شروع في تفصيل أحوالهم التي أشير عند التوزيع إلى هولها وفظاعتها بعد تفصيل حسن حال أصحاب اليمين.

(٢) (السموم) : الريح الشديدة الحرارة التي لا بلل معها كأنها مأخوذة من السم.

(٣) اليحموم : الدخان الأسود مشتق من الحمم على وزن صرد اسم للفحم والحممة : الفحمة. وفي قوله تعالى : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) تهكم ظاهر.

(٤) الجملة تعليلية إذ هي علة لما أصاب أصحاب الشمال من الهون والدون والعذاب الأليم.

(٥) ظاهر اللفظ أنّ الترف هو سبب كفرهم وإصرارهم على ذلك وجائز أن يكون الترف بعض السبب لا كله ، والعبرة بالواقع والإشارة في قوله : (قَبْلَ ذلِكَ) عائدة إلى السموم واليحموم والظل من اليحموم.

٢٤٦

إنهم كانوا في الدنيا منعمين لا يصلون ولا يصومون ولا يجاهدون ولا يرابطون ، (وَكانُوا يُصِرُّونَ (١) عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) أي على الإثم العظيم أي الشرك وكبائر الإثم والفواحش.

(وَكانُوا يَقُولُونَ) منكرين للبعث والجزاء جاحدين باليوم الآخر ـ (أَإِذا) (٢) (مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي أحياء كما كنا في الدنيا (أَوَآباؤُنَا) أيضا مبعوثون كذلك والاستفهام في الموضعين للاستبعاد والإنكار. وهنا أمر تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم بقوله (قُلْ) أي قل لهم : (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) أي أنتم وآباؤكم من عهد آدم والآخرين منكم ومن ذريتكم الى نهاية حياة الإنسان (لَمَجْمُوعُونَ (٣) إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي لوقت يوم معلوم عند الله محدد باليوم والساعة والدقيقة (ثُمَ (٤) إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عن سبيل الهدى المعرضون عن الحق المكذبون بالبعث لداخلون جهنم ماكثون فيها أبدا وإنكم (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) وهو شر ثمر وأخبث ما يؤكل مرارة (فَمالِؤُنَ مِنْهَا) بطونكم لما يصيبكم من الجوع الشديد ، (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ، فَشارِبُونَ شُرْبَ (٦) الْهِيمِ) أي الماء الحار الشديد الحرارة مكثرين منه كما تكثر الإبل الهيم (٥) التى أصابها العطش واشتد بها داء الهيام الذي أصابها. قوله تعالى (هذا نُزُلُهُمْ (٧) يَوْمَ الدِّينِ) أي هذا الذي ذكرنا من طعام الضالين المكذبين وشرابهم هو نزلهم الذي نزلهم يوم الدين وأصل النزل ما يعد للضيف النازل من قرى : طعام وشراب وفراش.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ أصحاب الشمال يدخل فيهم كل كافر وجد على وجه الأرض فإنهم في التقسيم ثلث الناس وفي الواقع هم أضعاف السابقين واصحاب اليمين لأن أكثر الناس لا يؤمنون.

٢ ـ التنديد بالترف والتنعم في هذه الحياة الدنيا فإنه يقود الى ترك التكاليف الشرعية فيهلك

__________________

(١) صيغة المضارع (يُصِرُّونَ) دالة على تجدد الإصرار منهم.

(٢) قرأ الجمهور ومنهم حفص بإثبات الاستفهام الأول والثاني ، وقرأ نافع بالاستفهام في (أَإِذا مِتْنا) والإخبار في (إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ).

(٣) (لَمَجْمُوعُونَ) : أي : مبعوثون دفعة واحدة جميعا دفعا لما قد يتوهم أنهم يبعثون على فترات كما كان وجودهم وموتهم في الدنيا على فترات مختلفة.

(٤) هذا من جملة أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله لهم.

(٥) الهيم : جمع أهيم وهو البعير الذي أصابه الهيام بضم الهاء وهو داء يصيب الإبل يورثها حمى في الأمعاء فلا تزال تشرب ولا تروى والمؤنث هيمى إذ المذكر أهيم.

(٦) قرأ نافع وحفص : (شُرْبَ) بضم الشين ، وقرأ بعض شرب بفتح الشين مصدر شرب يشرب شربا.

(٧) النزل : بضم النون والزاي : ما يعد للضيف ويقدم له من طعام وشراب وهو هنا تشبيه تهكمي كالاستعارة كما في قول الشاعر :

وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا

جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

٢٤٧

صاحبه لذلك لا لكون طعامه وافرا وشرابه لذيذا.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بما لا مزيد عليه من العرض والوصف لحال الناس.

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤))

شرح الكلمات :

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) : أي أوجدناكم من العدم.

(فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) : أي فهلا تصدقون بالبعث إذ القادر على الإنشاء قادر على الإعادة بعد الفناء والبلى.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) : أي الذي تصبونه من المنى بالجماع في أرحام نسائكم.

٢٤٨

(أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) : أي بشرا أم نحن الخالقون له بشرا.

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) : أي قضينا به عليكم وكتبناه عليكم وجعلنا لكل واحد أجلا معينا لا يتعداه ولا يتأخر منه بحال من الأحوال.

(وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) : أي بعاجزين.

(عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) : أي ما أنتم عليه من الخلق والصور.

(وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) : أي ونوجدكم في صور لا تعلمونها وهذا تهديد لهم بمسخهم وتحويلهم إلى أبشع حيوان وأقبحه.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) : أي ولقد علمتم خلقنا لكم كيف تم وكيف كان.

أفلا تذكرون : فتعلمون أن الذي خلقكم أول مرة قادر على إعادة خلقكم مرة أخرى بعد موتكم وفنائكم.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) : أي من إثارة الأرض بالمحراث وإلقاء البذر فيها.

(أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) : أي تنبتونه.

(أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) : أي نحن المنبتون له يقال زرعه الله أي أنبته.

(لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) : أي لو نشاء لجعلنا الزرع حطاما يابسا بعد أن أصبح سنبلا وقارب أن يفرك فتحرمون منه.

(فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) : أي تتعجبون في مجالسكم من الجائحة التي أصابت زرعكم.

(إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) : أي قائلين إنا لمغرمون أي ما أنفقناه على حرثه ورعايته معذبون به.

(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) : أي لسنا بمعذبين به وانما نحن محرومون من زرعنا وما بذلناه فيه ليس لنا من حظ ولا جد أي غير محظوظين ولا مجدودين.

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) : أي أخبرونا عن الماء الذي تشربونه وحياتكم متوقفة عليه.

(أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) : أي من السحاب في السماء الى الأرض.

(أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) : أي له إلى الأرض.

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) : أي ملحا مرا لا يمكن شربه.

٢٤٩

(فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) : أي فهلا تشكرون أي الله بالإيمان والطاعة.

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) : أي أخبرونا عن النار التي تخرجون من الشجر.

(أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) : أي خلقتم شجرتها كالمرخ والعفار والكلخ.

(أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) : أي نحن المنشئون لتلك الأشجار.

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) : أي جعلنا تلك النار تذكرة اي تذكر بنار جهنم.

(وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) (١) : أي بلغة للمسافرين يتبلغون بها في سفرهم.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) : أي نزه اسم ربك عما لا يليق به كذكره بغير احترام ولا تعظيم او الاسم صلة والتقدير نزه ربك عن الشريك ومن ذلك قولك سبحان ربي العظيم.

معنى الآيات :

السياق هنا في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها المشركون وذلك بذكر الأدلة العقلية الموجبة للعلم واليقين في المعلوم المطلوب تحصيله قال تعالى (نَحْنُ (٢) خَلَقْناكُمْ) وأنتم معترفون بذلك إذ لمّا نسألكم من خلقكم تقولون الله. إذا (فَلَوْ لا) (٣) (تُصَدِّقُونَ) أي فهلا تصدقون بالبعث والحياة الثانية إذ القادر على الخلق الأول قادر على الإعادة. وهذه أدلة قدرتنا تأملوها أولا (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) أي أخبرونا عما تمنون أي تصبونه في أرحام نسائكم بالجماع (أَأَنْتُمْ (٤) تَخْلُقُونَهُ) ولدا (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) والجواب نحن الخالقون إذا القادر على خلقكم بواسطة هذا الإمناء والتكوين في الأرحام قادر على خلقكم بطريق آخر وثانيا (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) وقضينا به عليكم فلا يستطيع أحد منكم أن يمنعنا من إماتته وفي الوقت المحدد له. بحيث لو طلب التقديم أو التأخير لما قدر على ذلك أليس القادر على خلقكم وإماتتكم قادر على بعثكم

__________________

(١) المقوى : من نزل القوى والقواء والقي أيضا : أي الأرض القفر التي لا شيء فيها ولا أنيس بها يقال : أقوت الدار وقويت أيضا أي : خلت من سكانها ، قال النابغة :

يا دار ميّة بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأمد

وقال عنترة :

حييت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

(٢) موقع هذه الجملة : الاستدلال والتعليل لما تضمنته جملة (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) من عقيدة البعث والجزاء وتقريرها.

(٣) الفاء للتفريع فالجملة متفرعة عن قوله تعالى (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) وهي متضمنة للتحضيض على التصديق بالبعث الآخر إذ لو لا هنا للتحضيض على ذلك.

(٤) الاستفهام للتقرير بتعيين خالق الجنين من النطفة إذ لا يسعهم إلا الإقرار بأن خالق الجنين من النطفة هو الله.

٢٥٠

بلى وثالثا (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (١) بحيث نخلقكم في صور وأشكال غير ما أنتم عليه فنخلقكم خلقا ذميما وقبيحا كالقردة والخنازير ، وما نحن بعاجزين عن ذلك فهل نعجز إذا عن بعثكم بعد موتكم أحياء لنحاسبكم ونجزيكم (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) كيف تمت لكم بما لا تنكرونه.

إذا (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أن الذي خلقكم أول مرة قادر على خلقكم ثانية مع العلم أن الإعادة ليست بأصعب من الإنشاء من عدم لا من وجود. ورابعا (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) (٢) من إثارة الأرض وإلقاء البذر فيها أخبرونا أأنتم تنبتون الزرع (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) له أي المنبتون والجواب معروف وهو أننا نحن الزارعون لا أنتم. إذا فالقادر على إنبات الزرع قادر على إنباتكم في قبوركم على نحو إنبات الزرع وعجب الذنب هو النواة التي تنبتون منها وخامسا هو أن ذلك الزرع الذي أنبتناه (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ) بعد نضرته وقرب حصاده (حُطاماً) يابسا لا تنتفعون منه بشيء (٣) (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) متعجبين من حرمانكم من زرعكم تقولون (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أي ما أنفقناه على حرثه ورعايته معذبون (٤) به ثم تضربون عن قولكم ذلك إلى قول آخر وهو قولكم (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) ما لنا من حظ ولا جد فيه أي لسنا محظوظين ولا مجدودين. إن إنبات الزرع ثم حرمانكم منه بعد طمعكم في الانتفاع به مظهر من مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وتدبيره وكلها دالة على قدرته على بعثكم لمحاسبتكم ومجازاتكم على عملكم في هذه الحياة الدنيا. وسادسا (الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) وحياتكم متوقفة عليه أخبروني (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ) من السحاب (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) والجواب نحن المنزلون لا أنتم هذا أولا وثانيا (لَوْ نَشاءُ) لجعلنا الماء ملحا مرّا لا تنتفعون منه بشيء وإنا لقادرون فهلا تشكرون هذا الإحسان منا إليكم بالإيمان بنا والطاعة لنا. وسابعا (النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) وتشعلونها أخبروني (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) والجواب نحن لا أنتم فالذي يوجد النار في الشجر قادر على أن يبعثكم أحياء من قبوركم ليحاسبكم على

__________________

(١) السبق : كناية عن الغلبة والتعجيز ، لأن السبق يستلزم أن السابق غالب للمسبوق فمعنى : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي.

غير مغلوبين. قال الشاعر :

كأنك لم تسبق من الدهر مرة

إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب

(٢) الشبه قوي بين تحويل النطفة إلى جنين ، والحبة إلى نبات فهي مناسبة عجيبة بين الدليلين.

(٣) أصل (فَظَلْتُمْ) فظللتم فحذفت إحدى اللامين تخفيفا كما حذفت إحدى التاءين من (تَفَكَّهُونَ) إذ الأصل (تتفكهون).

(٤) هذا بناء على أنّ الغرام : هو العذاب كقوله تعالى : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أو هو من الغرامة التي هي ذهاب مال المرء وأخذه منه بغير عوض.

٢٥١

سلوككم ويجزيكم به. وقوله تعالى (نَحْنُ جَعَلْناها) أي النار (تَذْكِرَةً) لكم تذكركم بنار الآخرة فالذي أوجد هذه النار قادر على إيجاد نار أخرى لو كنتم تذكرون وجعلناها أيضا (مَتاعاً) أي بلغة (لِلْمُقْوِينَ) (١) المسافرين يتبلغون بها في سفرهم حتى يعودوا إلى ديارهم. فالقادر على الخلق والإيجاد والتدبير لمصالح عباده قادر على إيجاد حياة أخرى يجزي فيها المحسنين اليوم والمسيئين إذ الحكمة تقتضي هذا وتأمر به.

وقوله تعالى (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٢) (الْعَظِيمِ) بعد إقامة الحجة على منكرى البعث بالادلة العقلية امر تعالى رسوله أن يسبح ربه أي ينزهه عن اللعب والعبث اللازم لخلق الحياة الدنيا على هذا النظام الدقيق ثم إفنائها ولا شيء وراء ذلك. إذ البعث والحياة الآخرة هي الغاية من هذه الحياة الدنيا فالناس يعملون ليحاسبوا ويجزوا فلا بد من حياة أكمل وأتم من هذه الحياة يتم فيها الجزاء وقد بينها تعالى وفصلها في كتبه وعلى ألسنة رسله ، وضرب لها الأمثال فلا ينكرها الا سفيه هالك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ إقامة الأدلة والبراهين العديدة على صحة البعث وإمكانه عقلا.

٣ ـ بيان منن الله تعالى على عباده فى طعامهم وشرابهم.

٤ ـ وجوب شكر الله تعالى على إفضاله وإنعامه.

٥ ـ في النار التى توقدها عبرة ، وعظة للمتقين.

٦ ـ وجوب تسبيح (٣) الله وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وكماله من العبث والشريك.

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦)

__________________

(١) المقوى : الداخل في القواء وهو القفر ، فالمقوون ، الداخلون في القواء الذي هو القفر والقفار وهذه حال المسافر ، والمقوى أيضا : الجائع القفر البطن الخاوي من الطعام ، فالنار يتمتع بها المسافرون للاستضاءة والاستدفاء وطبخ الطعام.

(٢) الباء في باسم : زائدة لتوكيد اللصوق أي : اتصال الفعل بمفعوله وذلك لوقوع الأمر بالتسبيح عقب ذكر عدة أمور تقتضيه حسبما دلت عليه فاء الترتيب والتعقيب ، واسم الرب هو الله الدال على ذاته سبحانه وتعالى ، والتسبيح. التنزيه عما لا يليق ولفظه سبحان الله أي : ننزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد والعجز عن البعث.

(٣) في الصحيح : (لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم) قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اجعلوها في ركوعكم) فكان المصلي إذا ركع قال : سبحان ربي العظيم ثلاثا أو أكثر امتثالا لأمر الله ورسوله).

٢٥٢

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢))

شرح الكلمات :

(فَلا أُقْسِمُ) : أي فأقسم ولا صلة لتقوية الكلام وتأكيد القسم.

(بِمَواقِعِ النُّجُومِ) : أي بمساقطها لغروبها وبمنازلها أيضا ومطالعها كذلك.

(وَإِنَّهُ) : أي القسم بها.

(لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) : أي لو كنتم من أهل العلم لعلمتم عظم هذا القسم.

(إِنَّهُ) : أي المتلو عليكم لقرآن كريم وهو الذي كذب به المشركون.

(فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) : أي مصون وهو المصحف.

(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) : أي من الملائكة والأنبياء وكل طاهر غير محدث حدثا أكبر وأصغر

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) : أي منزل من رب العالمين وهو الله جل جلاله.

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) : أي القرآن.

(أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) : أي تلينون القول للمكذبين به ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر.

(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) : أي شكر الله على رزقكم.

(أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) : أي تكذيبكم بسقيا الله وتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا.

معنى الآيات :

قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (١) أي أقسم بمواقع النجوم وهي مطالعها ومغاربها (وَإِنَّهُ) أي قسمي هذا (لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ) أي لو كنتم من أهل العلم (عَظِيمٌ). لأن النجوم ومنازلها ومطالعها ومساقطها ومغاربها التي تغرب فيها أمور عظيمة في خلقها وتدبير الله فيها انه لقسم بشيء عظيم.

__________________

(١) (فَلا) صلة في قول أكثر المفسرين أي : فأقسم بمواقع النجوم وقيل : هي نفي أي ليس الأمر كما تقولون ثم استأنف فقال : فأقسم كقول الرجل : لا والله ما كان كذا وكذا ، ولا يريد به نفي اليمين بل يريد به نفي كلام سابق وقيل : لا بمعنى ألا أداة تنبيه وشاهده قول الشاعر :

ألا عم صباحا أيها الطلل البالي

وهل ينعمن من كان في العصر الخالي

٢٥٣

والمقسم عليه هو قوله (إِنَّهُ) أي المكذب به (لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (١) ، لا كما قال المبطلون شعر وسحر وكذب واختلاق (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي مصون (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) سواء ما كان في اللوح المحفوظ أو في مصاحفنا فلا ينبغي أن يمسه إلّا المطهرون من الأحداث الصغرى (٢) والكبرى (تَنْزِيلٌ مِنْ (٣) رَبِّ الْعالَمِينَ) أي منزل منه سبحانه وتعالى ولذا وجب تقديسه وتعظيمه فلا يمسه إلّا طاهر من الشرك والكفر وسائر الأحداث.

وقوله تعالى (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) أي القرآن أنتم مدهنون تلينون القول للمكذبين به ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) (٤) أي وتجعلون شكر الله تعالى على رزقه لكم (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي تكذيبكم بسقيا الله لكم بالأمطار وتقولون مطرنا ينوء كذا ونوء كذا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته ، وان العبد لا يقسم إلا بربه تعالى.

٢ ـ تقرير الوحي الإلهي وإثبات النبوة المحمدية ، وأن القرآن الكريم منزل من عند الله تعالى.

٣ ـ وجوب صيانة القرآن الكريم ، وحرمة مسه على غير طهارة.

٤ ـ حرمة المداهنة في دين الله تعالى وهي أن يتنازل عن شيء من الدين ليحفظ شيئا من دنياه والمداراة جائزة وهي أن يتنازل عن شيء من دنياه ليحفظ شيئا من دينه

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ

__________________

(١) (كَرِيمٌ) لما فيه من كريم الأخلاق ، ومعالي الأمور ولأنه يكرم حافظه ويعظم قارئه ويسعد وينجو العامل به.

(٢) قال القرطبي : اختلف في مس المصحف على غير وضوء ، فالجمهور على المنع لحديث عمرو بن حزم ، وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي وأحمد.

(٣) (تَنْزِيلٌ) بمعنى : منزّل من إطلاق المصدر وإرادة المفعول كالرد بمعنى المردود

(٤) صلح وضع لفظ الرزق موضع الشكر لأن شكر الرزق يسبب الزيادة في الرزق فأطلق السبب وأريد المسبب.

٢٥٤

الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))

شرح الكلمات :

(فَلَوْ لا) : أي فهلّا وهي للحض على العمل والحث عليه.

(إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) : أي مجرى الطعام وذلك وقت النزع.

وأنتم تنظرون : أي وأنتم أيها الممرضون والعواد تنظرون إليه.

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) : أي ورسلنا ملك الموت وأعوانه أقرب إلى المحتضر منكم.

(وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) : أي الملائكة.

(فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) : أي فهلا إن كنتم غير مدينين أي محاسبين بعد الموت.

(تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : أي ترجعون الروح الى الجسم بعد وشوك مفارقتها له إن كنتم صادقين في انكم لا تبعثون ولا تحاسبون.

(فَأَمَّا إِنْ كانَ) : أي الميت.

(مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) : أي من السابقين وهو الصنف الأول من الأصناف الثلاثة التي تقدمت في أول السورة.

(فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) : أي استراحة وريحان أي رزق حسن وجنّة نعيم.

(وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) : أي من الصنف الثاني فسلام لك يا صاحب اليمين من أصحاب اليمين. أي من اخوانك يسلمون عليك فإنهم في جنات النعيم.

(فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) : أي فله نزل من ماء حار شديد الحرارة.

(وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) : أي احتراق بها.

(إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) : أي إن هذا الذي قصصناه عليك في هذه السورة لهو حق اليقين.

٢٥٥

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) : أي نزه وقدس اسم ربك العظيم.

معنى الآيات :

بعد تقرير النبوة المحمدية وأن القرآن كلام الله وتنزيله عاد السياق الكريم الى تقرير البعث والجزاء فقال تعالى (١) (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ) أي الروح (٢) (الْحُلْقُومَ) وهو مجرى الطعام (وَأَنْتُمْ) في (٣) ذلك الوقت (تَنْظُرُونَ) مريضكم وهو يعانى من سكرات الموت ، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) أي رسلنا أقرب إليه منكم (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) إذ لا قدرة لكم على رؤية الملائكة ما لم يتشكلوا في صورة إنسان. وقوله (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) أي محاسبين بعد الموت ومجزيين بأعمالكم (تَرْجِعُونَها) الروح بعد ما بلغت الحلقوم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى أنكم غير مدينين لله بأعمالكم ، أى فلا يحاسبكم عليها ولا يجزيكم بها.

وقوله تعالى (فَأَمَّا (٤) إِنْ كانَ) أي المحتضر (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) وهم السابقون (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) (٥) أي فإن له الاستراحة التامة من عناء تعب الدنيا وتكاليفها وريحان وهو الرزق الحسن (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ). (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) الذين يؤخذ بهم في عرصات القيامة ذات اليمين (فَسَلامٌ لَكَ) يا صاحب اليمين من اخوانك أصحاب اليمين الذين سبقوك الى دار السّلام.

(وَأَمَّا إِنْ كانَ) المحتضر (مِنَ الْمُكَذِّبِينَ) لله ورسوله المنكرين للبعث الآخر (الضَّالِّينَ) عن الهدى ودين الحق (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) أي ضيافة على الماء الحار هذه ضيافته (وَتَصْلِيَةُ (٦) جَحِيمٍ) أي واحتراق بالجحيم.

وقوله تعالى (إِنَ) (٧) (هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (٨) أي هذا الذي حدثناك به عن المحتضرين الثلاثة وما لهم وما نالهم لحق اليقين. وقوله (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) يأمر تعالى رسوله بالتسبيح باسم

__________________

(١) لم يجر للروح ذكر إلا أن المقام دال عليها كما قال حاتم.

أما وي ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشجرت يوما وضاق بها الصدر

(٢) (فَلَوْ لا) حرف تحضيض مستعمل هنا في التعجيز ، لأن المحضوض إذا لم يفعل ما حض عليه كان عاجزاو (إِذا بَلَغَتِ) ظرف متعلق ب (تَرْجِعُونَها) مقدم عليه لتهويله والتشويق إلى الفعل المحضوض عليه.

(٣) (وَأَنْتُمْ) الجملة حالية وكذا جملة (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) حالية أيضا.

(٤) الفاء للتفريع إذ ما بعدها من بيان حال من مات من سعادة أو شقاء متفرع عن الموت وانتهاء الحياة.

(٥) الروح : الراحة أي : هو في راحة ونعيم ، وعلى قراءة روح بضم الراء فالمعنى : أن روح المؤمن معها الريحان وهو الطيب والريحان شجر لورقه وقضبانه رائحة ذكية طيبة.

(٦) التصلية : مصدر صلّاه المشدد : إذا أحرقه وشواه يقال : صلى اللحم تصلية : إذا شواه والجحيم : النار المؤججة ، وهو علم على جهنم دار العذاب.

(٧) هذه الجملة تذييل لجميع ما تقدم في هذه السورة من وعد ووعيد واستدلال على تقرير النبوة والبعث والتوحيد ويدخل فيه دخولا أوليا الأقرب ذكرا وهو ما ذكر في التفسير.

(٨) اشتملت جملة : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) على أربع مؤكدات وهي : إن ، ولام الابتداء ، وضمير الفصل ، وإضافة شبه المترادفين وهما : الحق واليقين ، وخامس وهو الجملة الاسمية لإفادتها الدوام والثبوت.

٢٥٦

ربه العظيم صح أنه لما نزلت هذه الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه اجعلوها في ركوعكم ، والتسبيح التقديس والتنزيه لله تعالى عما لا يليق بجلاله وكماله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ بيان عجز كل الناس أمام قدرة الله تعالى.

٣ ـ ان في عجز الإنسان على رد روح المحتضر ليعيش بعد ذلك ولو ساعة دليلا على أنه لا إله إلا الله

٤ ـ بيان فضل السابقين عن أصحاب اليمين.

٥ ـ القرآن الكريم أحكامه كلها عدل وأخباره كلها صدق.

٦ ـ مشروعية قول العبد سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وهما من الكلم الطيب وكذا سبحان ربي العظيم حال الركوع.

سورة الحديد

مدنية

وآياتها تسع وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ

٢٥٧

بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦))

شرح الكلمات :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ (١) وَالْأَرْضِ) : أي نزه الله تعالى جميع ما في السموات والأرض بلسان الحال والقال (٢).

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : أي في ملكه ، الحكيم في صنعه وتدبيره.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي يملك جميع ما في السموات والأرض يتصرف كيف يشاء.

(يُحْيِي وَيُمِيتُ) : يحييى بعد العدم ويميت بعد الإيجاد والإحياء.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : وهو على فعل كل ما يشاء قدير لا يعجزه شيء.

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) : أي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء. (٣)

(وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) : أي الظاهر الذي ليس فوقه شيء والباطن الذي ليس دونه شيء.

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) : أي لا يغيب عن علمه شيء ولو كان مثقال ذرة في السموات والأرض.

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) : أي من أيام الدنيا مقدرة بها أولها الأحد وآخرها الجمعة.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (٤) : أي ارتفع عليه وعلا.

__________________

(١) (اللهُ) الإله المنفرد بالإلهية ومعنى : سبح نزه وورد لفظ التسبيح بالمصدر في (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) وبالماضي في الحشر والحديد والصف ، والمضارع في الجمعة والتغابن ، والأمر في الأعلى فسبح تعالى بكل ألفاظ التسبيح.

(٢) ردّ أهل العلم القول بأن تسبيح غير العالمين هو تسبيح دلالة لا تسبيح قالة ، إذ لو كان تسبيح دلالة وظهور لما قال : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) إذ تسبيح الدلالة مفهوم معلوم.

(٣) روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء أقض عنا الدين وأغننا من الفقر).

(٤) قال القرطبي : قد جمع تعالى بين الاستواء على العرش وبين (وَهُوَ مَعَكُمْ) والأخذ بالظاهر تناقض فدل على أنه لا بد من التأويل والإعراض عن التأويل اعتراف بالتناقض. وأقول : إن كان يعني بالتأويل قول السلف : معنا بعلمه وقدرته فهذا صحيح ومع هذا فإنه لا تناقض أبدا إذ هو تعالى على عرشه بائن من خلقه ، والخلق كله بين يديه كحبة خردل يتصرف فيه كما يشاء لا يغيب عن علمه ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا يعجزه شيء فيهما ولذا قال بعضهم : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء لم يكن بأقرب إلى الله عزوجل من يونس بن متى حين كان في بطن الحوت.

٢٥٨

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) : أي ما يدخل في الأرض من كل ما يدخل فيها من مطر وأموات.

(وَما يَخْرُجُ مِنْها) : أي من نبات ومعادن.

(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) : أي من رحمة وعذاب.

(وَما يَعْرُجُ فِيها) : أي يصعد فيها من الأعمال الصالحة والسيئة.

(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) : أي بعلمه بكم وقدرته عليكم أينما كنتم.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) : أي لا يخفي عليه من أعمال عباده الظاهرة والباطنة شيء.

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (١) : أي مرد كل شيء الى الله خالقه ومدبره يحكم فيه بما يشاء.

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) : أي يدخل جزءا من الليل في النهار وذلك في الصيف.

(وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) : ويدخل جزءا من النهار في الليل وذلك في الشتاء كما يدخل كامل أحدهما في الآخر فلا يبقى الا ليل أو نهار إذ احدهما دخل في ثانيهما.

(وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) : أي ما في الصدور من المعتقدات والأسرار والنيات.

معنى الآيات :

يخبر تعالى في هذه الآيات الخمس عن وجوده وعظمته من قدرة وعلم وحكمة ورحمة وتدبيره وملكه ومرد الأمور إليه وكلها مظاهر الربوبية الموجبة للألوهية فأولا تسبيح كل شيء في السموات والأرض أي تنزيهه عن كل نقص كالزوجة والولد والشريك والوزير المعين والعجز والجهل ، ثانيا إنه تعالى العزيز ذو العزة التي لا ترام العظيم الانتقام الحكيم في تدبير ملكه فلا شيء في خلقه هو عبث أو لهو أو باطل. ثالثا (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا حقيقيا يتصرف كيف يشاء يهب من شاء ويمنع من شاء. رابعا يحيى من العدم ويميت الحىّ الموجود ، خامسا (هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء ولا يعجز عن شيء متى أراد الشيء وقال له كن فهو يكون ولا يتخلف.

__________________

(١) قرأ الجمهور ونافع وحفص وغيرهما (تُرْجَعُ) بالبناء للمفعول وقرأ بعض ترجع بالبناء للفاعل ، رجوع الأمر معناه : مرد كل شيء إلى الله تعالى إذ هو خالقه ومدبره والحاكم فيه إذ هو رب العالمين وإله الأولين والآخرين.

٢٥٩

سادسا : (هُوَ الْأَوَّلُ) الذي ليس قبله شيء (وَالْآخِرُ) الذي ليس بعده شيء إذ له ميراث السموات والأرض. سابعا : علمه محيط بكل شيء. ثامنا : خلقه السموات والأرض في ستة أيام الدنيا ابتداء من الأحد وانتهاء بالجمعة وما مسه من لغوب ولا تعب ولا نصب ثم استوى على العرش يدبر ملكوت خلقه بالحكمة ومظاهر العدل والرحمة. تاسعا : مع علوه وبعده من خلقه فالخلق كله بين يديه يعلم ما يلج في الأرض أي يدخل فيها من أمطار وأموات وما ينزل من السماء من مطر ورحمة وعذاب وملك وغيره ، (وَما يَعْرُجُ) أي يصعد فيها من ملك ومن عمل صالح ودعاء وخاصة دعوة المظلوم فإنها لا تحجب عن الله أبدا. وعاشرا : معية الله تعالى الخاصة والعامة فالخاصة معيّته بنصره لأوليائه ، والعامة علمه بكل عباده وسائر خلقه ، وقدرته عليهم وعلمه بهم. الحادي عشر : بصره تعالى بكل أعمال عباده فلا يخفى عليه شىء منها ليحاسبهم بها ويجزيهم عليها. الثاني عشر : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي كل ما في السموات وما في الأرض من سائر الخلق هو ملك لله تعالى وحده لا شريك له فيه ولا في غيره. الثالث عشر : رد كل الأمور إليه فلا يقضى فيها غيره ولا يحكم فيها سواه والظاهر منها كالباطن. الرابع عشر : إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل لمصلحة عباده وفائدتهم إذ لو لا هذا التدبير الحكيم لما صلح أمر الحياة ولا استقام هذا الوجود.

وأخيرا علمه (١) الذي أحاط بكل شيء وتغلغل في كل خفي حتى ذات الصدور من خاطر ووسواس وهمّ وعزم ونية وإرادة فسبحانه من إله لا إله غيره ولا ربّ سواه ، بهذه المظاهر من الكمالات استحق العبادات فلا تصح العبادة لغيره ، ولا تنبغى الطاعة لسواه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضل التسبيح وأفضله سبحان الله وبحمده (٢) سبحان الله العظيم.

٢ ـ مظاهر القدرة والعلم والحكمة في هذه الآيات الخمس هي موجبات ربوبية الله تعالى وألوهيته وهي مقتضية للبعث الآخر والجزاء فيه.

٣ ـ في خلقه تعالى السموات والأرض في ستة أيام وهو القادر على خلقهما بكلمة التكوين تعليم لعباده التأني في الأمور وعدم العجلة فيها لتخرج متقنة صالحة نافعة.

__________________

(١) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن اسم الله الأعظم هو في ست آيات : من أول سورة الحديد كأنه يعني مجموع هذه الأسماء والصفات الخمسة عشر.

(٢) في الصحيح : (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم).

٢٦٠