أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٩

لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))

شرح الكلمات :

(سَبَّحَ (١) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : أي نزّه الله تعالى وقدّسه بلسان الحال والقال ما في السموات وما في الأرض من سائر الكائنات.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : أي العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبيره لأوليائه.

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ) : أي أخرج يهود بنى النضير من ديارهم بالمدينة.

(لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) : أي لأول حشر كان وثانى حشر كان من خيبر إلى الشام.

(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) : أي ما ظننتم أيها المؤمنون أن بني النضير يخرجون من ديارهم.

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) : أي وظن يهود بنى النضير أن حصونهم تمنعهم مما قضى الله به عليهم من إجلائهم من المدينة.

__________________

(١) في قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ) الخ تذكير للمؤمنين بتسبيح الله تعالى وأنه من الذكر الذي هو علة الوجود ، وتركه مهلكة كالتي حلّت ببني النضير لتركهم ذلك.

٣٠١

(فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) : أي فجاءهم الله من حيث لم يظنوا أنهم يؤتون منه.

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) : أي وقذف الله تعالى الخوف الشديد من محمد وأصحابه.

(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) : أي يخربون بيوتهم حتى لا ينتفع بها المؤمنون وليأخذوا بعض أبوابها وأخشابها المستحسنة معهم.

(وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) : إذ كانوا يهدمون عليهم الحصون ليتمكنوا من قتالهم.

(فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) : أي فاتعظوا بحالهم يا أصحاب العقول ولا تغتروا ولا تعتمدوا إلا على الله سبحانه وتعالى.

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) : أي ولو لا أن كتب الله عليهم الخروج من المدينة.

(لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) : أي بالقتل والسبيّ كما عذب بنى قريظة إخوانهم بذلك.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) : جزاهم بما جزاهم به من عذاب الدنيا والآخرة بسبب مخالفتهم لله ورسوله ومعاداتهم لهما.

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها) : أي ما قطعتم أيها المؤمنون من نخلة لينة أو تركتموها بلا قطع.

(فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) : أي فقطع ما قطعتم وترك ما تركتم كان بإرادة الله وكان ليجزى الله الفاسقين يهود بنى النضير.

معنى الآيات :

يخبر تعالى عن جلاله وعظمته بأنه سبحه أي نزهه عن كل النقائص من الشريك والصاحبة والولد والعجز والنقص مطلقا بلسان القال ولسان الحال جميع (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الملائكة والإنس والجن والحيوان والشجر والحجر والمدر ، وأنه هو العزيز الانتقام الحكيم في تدبير حياة الأنام. (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من ديارهم يهود بنى النضير (١) أجلاهم من ديارهم بالمدينة (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) (٢) إلى أذرعات بالشام ومنهم من نزل بخيبر وسيكون لهم حشر آخر حيث حشرهم عمر وأجلاهم من خيبر إلى الشام.

وقوله تعالى فى خطاب المؤمنين : (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي من ديارهم (وَظَنُّوا) هم أنهم (مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ). فخاب ظنهم إذ أتاهم أمر الله من حيث لم يظنوا وذلك بأن (قَذَفَ فِي

__________________

(١) بنو النضير : رهط من اليهود من ذرية هارون عليه‌السلام نزلوا المدينة في فتن بني اسرائيل انتظارا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان من أمرهم ما قص تعالى في هذه السورة.

(٢) الحشر : الجمع أي : جمع الناس في مكان واحد ، والمراد هنا : حشر يهود جزيرة العرب إلى أرض غيرها أي : جمعهم للخروج ، ولذا هو يرادف الجلاء إذا كان الجلاء لجماعة عظيمة تجمع من الديار المتفرقة ، واللام في قوله : (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) هي لام التوقيت التي تدخل على أوّل الوقت نحو (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي : لأول عدتهن وهو الطهر الذي لم تمس فيه.

٣٠٢

قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) والخوف الشديد من الرسول وأصحابه حتى أصبحوا (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ). المؤمنون يخربونها من الظاهر لفتح البلاد وهم يخربونها من الباطن وذلك أن الصلح الذي تم بينهم وبين الرسول والمؤمنين أنهم يحملون أموالهم إلا الحلقة أي السلاح ويجلون عن البلاد إلى الشام وهو أول حشر لهم فكانوا إذا أعجبهم الباب أو الخشبة نزعوها من محلها فيخرب البيت لذلك. وقوله تعالى (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي البصائر والنهي أي اتعظوا بحال بنى النضير الأقوياء كيف قذف الله الرعب في قلوبهم وأجلوا عن ديارهم فاعتبروا يا أولى البصائر فلا تغتروا بقواكم ولكن اعتمدوا على الله وتوكلوا عليه.

وقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ (١) الْجَلاءَ) أزلا في اللوح المحفوظ (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالسبي والقتل كما عذب بنى قريظة بعدهم. (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) ، ثم علل تعالى لهذا العذاب الذي أنزله وينزله بهم بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي خالفوهما وعادوهما ، ومن يشاق الله يعاقبه بأشد العقوبات فإن الله شديد العقاب.

وقوله تعالى (ما قَطَعْتُمْ (٢) مِنْ لِينَةٍ) أي من نخلة لينة (أَوْ تَرَكْتُمُوها) بلا قطع (قائِمَةً عَلى أُصُولِها) فقد كان ذلك بإذن الله فلا إثم عليكم فيه فقد أسرّ به المؤمنين وأخزى به الفاسقين اليهود.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان جلال الله وعظمته مع عزه وحكمته في تسبيحه من كل المخلوقات العلوية والسفلية وفي إجلاء بنى النضير من ديارهم وهو أول حشر وإجلاءتم لهم وسيعقبه حشر ثان وثالث. (٣)

٢ ـ بيان أكبر عبرة في خروج بنى النضير ، وذلك لما كان لهم من قوة ولما عليه المؤمنون من ضعف ومع هذا فقد انهزموا شر هزيمة وتركوا البلاد والاموال ورحلوا إلى غير رجعة. فعلى مثل هذا يتعظ المتعظون فإنه لا قوة تنفع مع قوة الله ، فلا يغتر العقلاء بقواهم المادية بل عليهم أن يعتمدوا على الله أولا وآخرا.

٣ ـ علة هزيمة بنى النضير ليست إلا محادتهم لله والرسول ومخالفتهم لهما وهذه سنته تعالى في

__________________

(١) الفرق بين الجلاء والإخراج أن الجلاء يكون بالأهل والأولاد وأمّا الإخراج قد يكون بدون ذلك وكلاهما مفارقة المرء وطنه ويقال : جلا المرء بنفسه وأجلاه غيره.

(٢) كان هذا من باب إلجاء العدو إلى ترك المقاومة والاستسلام. واللينة : بمعنى : النخلة ، واختير لفظ اللينة دون النخلة : لخفته وهو اللون دون العجوة والبرني.

(٣) الحشر : أي الجمع الأول هو إجلاؤهم من المدينة ، والثاني : هو إجلاؤهم عن الديار الحجازية على يد عمر رضي الله عنه لوصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك في قوله (لا يجتمع دينان في الجزيرة) والثالث : هو إجلاؤهم من فلسطين بعد تجمعهم فيها وإقام دولتهم. جاء بهذا حديث مسلم : (لتقاتلن اليهود ...) الحديث فسوف يتم إجلاؤهم حتى لا يجتمعوا مرة أخرى إلى قيام الساعة.

٣٠٣

كل من يحاده ويحاد رسوله فإنه ينزل به أشد أنواع العقوبات.

٤ ـ عفو الله تعالى على المجتهد إذا أخطأ وعدم مؤاخذته ، فقد اجتهد المؤمنون في قطع نخل بني النضير من أجل إغاظتهم حتى ينزلوا من حصونهم. وأخطأوا في ذلك إذ قطع النخل المثمر فساد ، ولكن الله تعالى لم يؤاخذهم لأنهم مجتهدون.

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧))

شرح الكلمات :

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) : أي وما رد الله ليد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مال بنى النضير.

(١) (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) : أي أسرعتم في طلبه والحصول عليه خيلا ولا إبلا أي لم تعانوا فيه مشقة.

(وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) : أي وقد سلط رسول الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بنى النضير ففتح بلادهم صلحا.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) : أي وما رد الله على رسوله من أموال أهل القرى التى لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.

(فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ) : أي لله جزء وللرسول جزء ولقرابة الرسول جزء ولليتامى جزء وللمساكين جزء ولابن السبيل جزء تقسم على المذكورين

__________________

(١) (فَما أَوْجَفْتُمْ) هذه الفاء واقعة في جواب الذي ، إذ الموصول فيه معنى الشرط فقوله : (وما أفاء) أي : والذي أفاءه الله على رسوله منهم فما أوجفتم ...) الخ.

٣٠٤

(السَّبِيلِ) بالسوية.

(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) : أي كيلا يكون المال متداولا بين الأغنياء الأقوياء ولا يناله الضعفاء والفقراء.

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) : أي وما أعطاكم الرسول وأذن لكم فيه أو أمركم به فخذوه وما نهاكم عنه وحظره عليكم ولم يأذن لكم فيه فانتهوا عنه.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) : أي واتقوا الله فلا تعصوه ولا تعصوا رسوله وأحذروا عقوبة الله على معصيته ومعصية رسوله فإن الله شديد العقاب.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في غزوة بنى النضير إنه بعد الصلح الذي تم بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تركوا حوائطهم أي بساتينهم فيئا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورغب المسلمون في تلك البساتين ورأى بعضهم أنها ستقسم عليهم كما تقسم الغنائم فأبى الله تعالى ذلك عليهم وقال : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) أي وما رد الله تعالى على رسوله من مال بنى النضير. وكلمة ردّ تفسير لكلمة أفاء لأن الفئ الظل يتقلص ثم يرجع أي يردّ وأموال بنى النضير الأصل فيها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن بنى النضير عاهدوا رسول الله وبمقتضى المعاهدة أبقى عليهم أموالهم فإذا نقضوا العهد وخانوا لم يستحقوا من المال شيئا لا سيما وأنهم تآمروا على قتله وكادوا ينفذون جريمتهم التى تحملوا تبعتها ولو لم ينفذوها. وبداية القضية كالتالي :

أن المعاهدة التى تمت بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين بنى النضير من جملة بنودها أن يؤدوا مع الرسول ما يتحمل من ديات. وبعد وقعة أحد بنصف سنة حدث أن عمرو بن أمية الضمري قتل خطأ رجلين من بنى كلب أو بنى كلاب فجاء ذووهم يطالبون بديتهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هو المسئول عن المسلمين فخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بنى النضير في قريتهم (١) التي تبعد عن المدينة بميلين يطالب بالإسهام في دية الرجلين الكلابيين بحكم المعاهدة فلما انتهى إليهم أنزلوه هو وأصحابه بأحسن مجلس وقالوا ما تطلبه هو لك يا أبا القاسم ثم خلوا بأنفسهم وقالوا ان الفرصة سانحة للتخلص من الرجل فجاءوا برحى «مطحنة» من صخرة وطلعوا بها إلى سطح المنزل وهموا أن يسقطوها على رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس في ظل الجدار مع أصحابه ، وقبل أن يسقطوا الرحى أوحى الله إلى رسوله أن قم من مكانك فإن اليهود أرادوا إسقاط حجر عليك ليقتلوك فقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الفور

__________________

(١) وكانت تسمى الزهرة وكان لها خمسة حصون.

٣٠٥

وتبعه أصحابه وسقط في أيدي اليهود. وما إن رجع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أعلن الخروج إلى بنى النضير فإنهم نقضوا عهدهم ووجب قتالهم فنزل بساحتهم وحاصرهم وجرت سفارة وانتهت بصلح يقضى بأن يجلو بنو النضير عن المدينة يحملون أموالهم على إبلهم دون السلاح ويلتحقوا بأذرعات بالشام فكان هذا أول حشر لهم إلى أرض المعاد والمحشر إلا أسرتين نزلتا بخيبر أسرة بنى الحقيق الذين منهم حيي ابن اخطب والد صفية زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولهذه الغزوة بقية ستأتي عند قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآيات.

من هنا علمنا أن مال بنى النضير هو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفاءه الله عليه فقال وما أفاء الله على رسوله منهم أي من بنى النضير. ولما طمع المؤمنون فيه قال تعالى ردا عليهم (فَما أَوْجَفْتُمْ (١) عَلَيْهِ) أى على أموال بنى النضير أي ما ركبتم إليه خيلا ولا إبلا ولا أسرعتم عدوا إليهم لأنهم في طرف المدينة فلم تتحملوا سفرا ولا تعبا ولا قتالا موتا وجراحات فلذا لا حق لكم فيها فإنها فيء وليست بغنائم. (وَلكِنَّ اللهَ (٢) يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) بدون حروب ولا قتال فيفيء عليهم بمال الكفرة الذي هو مال الله فيرده على رسله ، وقد سلط الله حسب سنته في رسله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أعدائه بنى النضير فحاز المال بدون قتال ولا سفر فهو له دون غيره ينفقه كما يشاء ومع هذا فقد أنفقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبق منه إلا قوت سنة لأزواجه رضى الله عنهن وأرضاهن. وقوله تعالى (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يمتنع منه قوى ، ولا يتعزز عليه شريف سرى.

وقوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ (٣) عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي من أموال أهل القرى التى ما فتحت عنوة ولكن صلحا فتلك الأموال تقسم فيئا على ما بيّن تعالى (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) أي قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم بنو هاشم وبنو المطلب. (وَالْيَتامى) الذين لا عائل لهم ، (وَالْمَساكِينِ) الذين مسكنتهم الحاجة (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المسافر المنقطع عن بلاده وداره وماله. وعلة ذلك بينها تعالى بقوله : (كَيْ لا يَكُونَ) أي المال (دُولَةً) (٤) أي متداولا (بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) ، ولا يناله الضعفاء والفقراء فمن الرحمة والعدل أن يقسم الفيء على هؤلاء الأصناف المذكورين وما لله فهو ينفق في المصالح العامة وكذلك ما للرسول بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم والباقى للمذكورين ، وكذا خمس الغنائم فإنه يوزع على المذكورين في هذه الآية أما الأربعة أخماس فعلى المجاهدين.

__________________

(١) الإيجاف : ضرب من سير الخيل وهو سير سريع والمراد : الركض للإغارة و (الركاب) اسم جمع للإبل التي تركب.

(٢) في الكلام حذف اقتضاه الإيجاز إذ التقدير : ولكن الله سلط عليهم رسوله ، والله يسلط رسله على من يشاء.

(٣) هذه الآية بداية كلام مستأنف استئنافا ابتدائيا فالأولى كانت بخاصة قسمة أموال بني النضير ، وأما هذه فهي في بيان حكم الفيء في الإسلام.

(٤) (دُولَةً) : ما يتداوله المتداولون ، والتداول : التعاقب في التصرف في شيء وأصبحت خاصة بتداول الأموال.

٣٠٦

وقوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ) من مال وغيره (فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) أي من مال وغيره (فَانْتَهُوا) عنه واتقوا الله فلا تعصوه ولا تعصوا رسوله وأحذورا عقابه فإن الله شديد العقاب أي معاقبته قاسية شديدة لا تطاق فيا ويل من تعرض لها بالكفر والفجور والظلم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن مال بنى النضير كان فيئا خاصا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ أن الفئ وهو ما حصل عليه المسلون بدون قتال (١) وإنما بفرار العدو وتركه أو بصلح يتم بينه وبين المسلمين هذا الفئ يقسم على ما ذكر تعالى في هذه الآية إذ قال وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله ، وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل. وأما الغنائم وهى ما أخذت عنوة بالقوة وسافر إليها المسلمون فإنها تخمّس خمس لله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل يوزع بينهم بالسوية ، والاربعة الأخماس الباقية تقسم على المجاهدين الذين شاركوا في المعارك وخاضوها للراجل قسم وللفارس قسمان.

٣ ـ وجوب طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتطبيق أحكامه والاستننان بسننه المؤكدة وحرمة مخالفته فيما نهى عنه أمته روى الشيخان ان ابن مسعود رضي الله عنه قال لعن الله الواشمات (٢) والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب كانت تقرأ القرآن فقالت بلغنى انك لعنت كيت وكيت. فقال : مالى لا ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في كتاب الله عزوجل؟ فقالت لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته ، قال إن كنت قرأته فقد وجدته. أما قرأت قوله تعالى (وَما آتاكُمُ (٣) الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) قالت : بلى. قال : فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نهى عنه. أي الوشم الخ.

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ

__________________

(١) هذه المسألة خلافية بين الفقهاء وما في التفسير هو الذي عليه الأكثرون منهم وهو الراجح والله أعلم.

(٢) الوشم معروف ، ملعونة فاعلته والمفعول لها ، والتنمص نتف الشعر من الوجه والتفلج توسعة ما بين الأسنان بمنشار وغيره للتجمل بذلك.

(٣) الإيتاء : مستعار لتبليغ الأمر إليهم إذ جعل تشريعه وتبليغه كإيتاء شيء بأيديهم كقوله تعالى : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) إذ يريد التشريع الذي شرعه لهم في التوراة.

٣٠٧

يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))

شرح الكلمات :

(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) : أي هاجروا حال كونهم طالبين من الله رزقا يكفيهم ورضا منه تعالى.

(أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) : أي في إيمانهم حيث تركوا ديارهم وأموالهم وهاجروا ينصرون الله ورسوله.

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) : أي والأنصار الذين نزلوا المدينة وألفوا الإيمان بعد ما اختاروه على الكفر.

(مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي من قبل المهاجرين.

(وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً) : أي حسدا ولا غيظا.

(مِمَّا أُوتُوا) : أي مما أوتى إخوانهم المهاجرون من فيئ بنى النضير.

(وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) : أي في كل شيء حتى إن الرجل منهم تكون تحته المرأتان فيطلق أحداهما ليزوجها مهاجرا.

(وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) : أي حاجة شديدة وخلّة كبيرة لا يجدون ما يسدونها به.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) : أي ومن يقه الله تعالى حرص نفسه على المال والبخل به.

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) : أي من بعد المهاجرين والأنصار من التابعين الى يومنا هذا فما بعد.

(وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) : أي حقدا أي انطواء على العداوة والبغضاء.

٣٠٨

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن فيء بنى النضير وتوزيع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم له فقال تعالى (لِلْفُقَراءِ) أي أعجبوا (١) أن يعطى فيء بنى النضير (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ) أي حال كونهم في خروجهم يطلبون (فَضْلاً مِنَ اللهِ) أي رزقا يكف وجوههم عن المسآلة (وَرِضْواناً) من ربهم أي رضا عنهم لا يعقبه سخط. إذ كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى فيء بنى النضير للمهاجرين ولم يعط للأنصار إلا ما كان من أبى دجانة وسهل بن حنيف فقد ذكرا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاجة فأعطاهما. فتكلم المنافقون للفتنة وعابوا صنيع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية يعجب منهم الرسول والمؤمنين في إنكارهم على عطاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المهاجرين دون الأنصار ، وهو قوله تعالى (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا) (٢) (مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي في إيمانهم إذ صدقوا القول بالعمل ، وما كان معتقدا باطنا أصبح عملا ظاهرا بهذه الأوصاف التى ذكر تعالى للمهاجرين أعطاهم الرسول من فيء بنى النضير. وأما الأنصار الذين لم يعطهم المال الزائل وهم في غير حاجة إليه فقد أعطاهم ما هو خير من المال. واسمع ثناءه تعالى عليهم : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) (٣) أي المدينة النبوية (وَالْإِيمانَ) أي بوأوه قلوبهم وأحبوه وألفوه. (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل نزول المهاجرين (٤) إلى المدينة (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) من سائر المؤمنين الذين يأتون فرارا بدينهم ، (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً) أي حسدا ولا غيظا (مِمَّا أُوتُوا) أي مما أعطى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المهاجرين. (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) (٥) غيرهم من المهاجرين (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي حاجة شديدة وخلة كبيرة لا يجدون ما يسدونها به ، وفي السيرة من عجيب إيثارهم العجب العجاب في أن الرجل يكون تحته امرأتان فيطلق إحداهما فإذا انتهت عدتها زوجها أخاه المهاجر فهل بعد هذا الإيثار من إيثار؟.

__________________

(١) وقيل : إنّ (لِلْفُقَراءِ) بيان لقوله : (وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ويكون : (لِلْفُقَراءِ) : قيدا لذي القربى بحيث لا يعطى منهم إلا الفقراء ، وهذا مردود ردّه الشافعي على أبي حنيفة ردا عنيفا.

(٢) (أُخْرِجُوا) : أي : أحوجهم المشركون إلى الخروج وكانوا مائة رجل كذا قال القرطبي.

(٣) (تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) لما كان التبوء يكون في الأماكن كان لا بد من تقدير لكملة الإيمان نحو : تبوءوا الدار والتزموا الإيمان أو ألفوا الإيمان على حد قولهم : علفتها تبنا وماء باردا. أي : وسقيتها ماء.

(٤) في العبارة تجوز أي : من قبل نزول أكثر المهاجرين أو من قبل نزول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة وهو سيد المهاجرين وسيد جميع العالمين.

(٥) أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة (أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته : نومي الصبيان وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك) فنزلت هذه الآية : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ).

٣٠٩

وقوله تعالى (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) (١) أي من يقيه الله تعالى مرض الشح وهو البخل بالمال والحرص على جمعه ومنعه فهو في عداد المفلحين وقد وقى الأنصار هذا الخطر فهم مفلحون فهذا أيضا ثناء عليهم وبشرى لهم.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد المهاجرين الأولين والأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان (يَقُولُونَ) في دعائهم الدائم لهم (رَبَّنَا) أي يا ربنا (اغْفِرْ لَنا) أي ذنوبنا واغفر (وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) وهم المهاجرون والأنصار ، (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) بك وبرسولك (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ذو رأفة بعبادك ورحمة بالمؤمنين بك فاستجب دعاءنا فاغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا لهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فضل المهاجرين والأنصار ، وأن حبهم إيمان وبغضهم كفران.

٢ ـ فضيلة الإيثار على النفس.

٣ ـ فضيلة إيواء المهاجرين ومساعدتهم على العيش في دار الهجرة المهاجرين الذين هاجروا في سبيل الله تعالى فرارا بدينهم ونصرة لإخوانهم المجاهدين والمرابطين.

٤ ـ خطر الشح وهو البخل بما وجب إخراجه من المال والحرص على جمعه من الحلال والحرام.

٥ ـ بيان طبقات المسلمين ودرجاتهم وهى ثلاثة بالإجمال :

١ ـ المهاجرون الأولون.

٢ ـ الأنصار الذين تبوءوا الدار «المدينة» وألفوا الإيمان.

٣ ـ من جاء بعدهم من التابعين وتابعي التابعين إلى قيام الساعة من أهل الإيمان والتقوى.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ

__________________

(١) ومما ورد في ذم الشح قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم).

٣١٠

أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤))

شرح الكلمات :

(أَلَمْ تَرَ) : أي ألم تنظر.

(نافَقُوا) : أي أظهروا الإيمان وأخفوا في نفوسهم الكفر.

(لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) : أي يهود بني النضير.

(لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) : أي من دياركم بالمدينة.

(لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) : أي نخرج معكم ولا نبقى بعدكم في المدينة.

(وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) : أي قاتلكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه.

(لَنَنْصُرَنَّكُمْ) : أي بالرجال والسلاح.

(وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) : أي فيما وعدوا به إخوانهم من بني النضير.

(وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) : أي وعلى فرض أنهم نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون المنافقون كاليهود سواء.

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ) : أي تالله لأنتم أشد خوفا في صدورهم.

(مِنَ اللهِ) : لأن الله تعالى يؤخر عذابهم وأنتم تعجلونه لهم.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) : أي المنافقين.

(قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) : لظلمة كفرهم وعدم استعدادهم للفهم عن الله ورسوله.

٣١١

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً) : أي لا يقاتلكم يهود بني النضير مجتمعين.

(إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) : أي بالأسوار العالية.

(أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) : أي من وراء المباني والجدران أما المواجهة فلا يقدرون عليها.

(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) : أي العداوة بينهم شديدة والبغضاء أشد.

(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) : أي مجتمعين.

(وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) : أي متفرقة خلاف ما تحسبهم عليه.

(بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) : إذ لو كانوا يعقلون لاجتمعوا على الحق ولا ما كفروا به وتفرقوا فيه فهذا دليل عدم عقلهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن غزوة بني النضير فيقول تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَلَمْ تَرَ) أي تنظر (١) يا رسولنا إلى الذين نافقوا وهم عبد الله بن أبي بن سلول ووديعة ومالك ابنا نوفل وسويد وداعس إذ بعثوا إلى بني النضير حين نزل بساحتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحربهم بعثوا إليهم أن اثبتوا وتمنعوا وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم غير أنهم لم يفوا لهم ولم يأتهم منهم أحد وقذف الله الرعب في قلوبهم فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة «السلاح» هذا معنى قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) (٢) (نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) في الكفر من أهل الكتاب «يهود بني النضير» (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من المدينة (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) أي في نصرتكم والوقوف إلى جنبكم أحدا كائنا من كان (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) أي قاتلكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجاله (لَنَنْصُرَنَّكُمْ. وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما قالوا لهم وفعلا لم يقاتلوا معهم ولم يخرجوا معهم كما خرجوا من ديارهم. وهو قوله تعالى (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا) (٣) (يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) وعلى فرض أنهم نصروهم (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) هاربين من المعركة ، (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) اليهود كالمنافقين سواء. وقوله تعالى : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنهم أشد رهبة أي خوفا في صدور المنافقين من الله

__________________

(١) بعد ذكر ما حل ببني النضير من خزي وعذاب حيث اجلوا عن ديارهم تاركينها وراءهم وذكر ما أفاء الله على رسوله من أموالهم شرع تعالى في تعجيب رسوله والمؤمنين من حال المنافقين وما لحقهم من عار وشنار فقال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ألم تر إلى الذين ...) الخ.

(٢) الاستفهام للتعجب والأخوة هي أخوة التلاقي في الكفر وفي بغض الإسلام ورسوله وأهله. فما هي بأخوة نسب ولا دين.

(٣) جملة (لَئِنْ أُخْرِجُوا.). الخ بيان لجمة : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

٣١٢

تعالى لأنهم يرون أن الله تعالى يؤجل عذابهم ، وأما المؤمنون فإنهم يأخذونهم بسرعة للقاعدة (من بدل دينه فاقتلوه) فإذا أعلنوا عن كفرهم وجب قتلهم وقتالهم.

وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١) هذا بيان لجبنهم وخوفهم الشديد من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. إذ لو كانوا يفقهون لما خافوا العبد ولم يخافوا المعبود.

وقوله تعالى : (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً) (٢) أي اليهود والمنافقون (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) بأسوار وحصون (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي في المباني ووراء الجدران. وقوله تعالى (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي العداوة بينهم قوية والبغضاء شديدة (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) في الظاهر وأنهم مجتمعون ولكن (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي (٣) متفرقة لا تجتمع على غير عداوة الإسلام وأهله ، وذلك لكثرة أطماعهم وأغراضهم وأنانيتهم وأمراضهم النفسية والقلبية.

وقوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (٤) إذ لو كانوا يعقلون لما حاربوا الحق وكفروا به وهم يعملون فعرضوا أنفسهم لغضب الله ولعنته وعذابه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير حقيقة وهي أن الكفر ملة واحدة وأن الكافرين إخوان.

٢ ـ خلف الوعد آية النفاق وعلاماته البارزة.

٣ ـ الجبن والخوف صفة من صفات اليهود اللازمة لهم ولا تنفك عنهم.

٤ ـ عامة الكفار يبدون متحدين ضد الإسلام وهم كذلك ولكنهم فيما بينهم تمزقهم العداوات وتقطعهم الأطماع وسوء الأغراض والنيات.

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦)

__________________

(١) الفقه : إدراك المعاني الدقيقة والأسرار الخفية في كلام أهل الحكمة وذوي البصيرة.

(٢) الجملة بدل اشتمال من جملة : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) أي : لا يقاتلكم اليهود مع المنافقين مجتمعين في جيش واحد وفي الآية تهديد ليهود بني قريظة أمّا بنو النضير فقد انتهى أمرهم.

(٣) (شَتَّى) : جمع شتيت : بمعنى مفارق كقتيل وقتلى.

(٤) (ذلِكَ) الإشارة إلى ما ذكر من عدم اتفاقهم وتفرّق قلوبهم ، والباء سببية ونفي العقل عنهم نفي للازمه وهو ما يقود إليه من النجاة والسعادة.

٣١٣

فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

شرح الكلمات :

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً) : أي مثل يهود بني النضير في ترك الإيمان ومحاربة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كمثل إخوانهم بني قينقاع والمشركين في بدر.

(ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) : أي ذاقوا عاقبة كفرهم وحربهم لرسول الله ولهم عذاب أليم في الآخرة.

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ) : أي ومثلهم أيضا في سماعهم من المنافقين وخذلانهم لهم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان.

(اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) : أي قال له الشيطان بعد أن كفره إنى برىء منك.

(وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) : أي خلودهما في النار أي الغاوي والمغوى ذلك جزاءهما وجزاء الظالمين.

(وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) : أي لينظر كل أحد ما قدم ليوم القيامة من خير وشر.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) : أي ولا تكونوا أيها المؤمنون كالذين نسوا الله فتركوا طاعته.

(فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) : أي فعاقبهم بأن أنساهم أنفسهم فلم يعملوا خيرا قط.

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) : أي لأن أصحاب الجنة فائزون بالسلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب المحبوب. وأصحاب النار خاسرون في جهنم خالدون ، فكيف يستويان؟

٣١٤

معنى الآيات :

قوله تعالى (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (١) هذه الآية (١٥) واللتان بعدها (١٦) و (١٧) في بقية الحديث عن بني النضير إذ قال تعالى مثل بني النضير في هزيمتهم بعد نقضهم العهد كمثل الذين من قبلهم في الزمان والمكان وهم بنو قينقاع إذ نقضوا عهدهم فأخرجهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي عاقبة نقضهم وكفرهم في الدنيا (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع شديد وقوله تعالى (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) (٢) بوسائله الخاصة (فَلَمَّا كَفَرَ) الإنسان تبرأ منه الشيطان و (قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) كذلك حال بني النضير مع المنافقين حيث حرضوهم على الحرب والقتال وواعدوهم أن يكونوا معهم ثم خذلوهم وتركوهم وحدهم.

وقوله تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما) أي عاقبة أمرهما (أَنَّهُما) أي الإنسان والشيطان أنهما (فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها ، وَذلِكَ) أي خلودهما في النار (جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي المشركين والفاسقين عن طاعة الله عزوجل.

وبعد نهاية قصة بني النضير نادى تعالى المؤمنين ليوجههم وينصح لهم فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيّا ورسولا (اتَّقُوا اللهَ) بفعل أوامره ، واجتناب نواهيه ، (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ) (٣) (لِغَدٍ) أي ولينظر أحدكم في خاصة نفسه ماذا قدم لغد أي يوم القيامة. (وَاتَّقُوا اللهَ) ، أعاد الأمر بالتقوى لأن التقوى هى ملاك الأمر ومفتاح دار السّلام والسعادة ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) يشجعهم على مراقبة الله تعالى والصبر عليها. وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي لا تكونوا كأناس تركوا العمل بطاعة الله وطاعة رسوله فعاقبهم ربهم بأن أنساهم أنفسهم فلم يعملوا لها خيرا وأصبحوا بذلك فاسقين عن أمر الله تعالى خارجين عن طاعته. وقوله تعالى (لا يَسْتَوِي (٤) أَصْحابُ النَّارِ

__________________

(١) هذا ضرب مثل للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نصرتهم ، وحذف حرف العطف لأن الكلام معطوف على سابقه وهو (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الخ لأن حذف حرف العطف شائع تقول : أنت عاقل أنت كريم أنت كذا بلا حرف عطف.

(٢) هنا روى غير واحد من السلف حديثا يتضمن قصة تشرح هذه الآية الكريمة كمثل الشيطان إذ قال للإنسان .. الخ وهي أن راهبا تركت عنده أمرأه أصابها لمم ليدعو لها فزّين له الشيطان فوطئها فحملت ثم قتلها خوفا أن يفتضح فدل الشيطان قومها على موضعها فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه فجاءه الشييطان فوعده أنه إن سجد له أنجاه منهم فسجد له فتبرأ منه فأسلمه لقاتليه وتركه ، واسم هذا الراهب ، برصيصا.

(٣) أطلق لفظ الغد وأريد به يوم القيامة جريا على عادة العرب فإنهم يطلقون لفظ الغد كناية عن المستقبل ، وقيل إطلاق لفظ الغد هنا إشارة إلى قرب الساعة كما قال الشاعر :

فإن يك صدر هذا اليوم ولى

فإن غدا لناظره قريب

(٤) هذه الجملة : (لا يَسْتَوِي.). الخ تذييل لما سبقها وهي كالفذلكة لما تقدم من الأمر بتقوى الله عزوجل وبيان حال المتقين الذاكرين والناسين الفاسقين.

٣١٥

وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) ، أصحاب النار في الدركات السفلى ، وأصحاب الجنة في الفراديس العلا فكيف يستويان ، إذ أصحاب الجنة فائزون ، وأصحاب النار خاسرون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ضرب مثل لحال الكافرين في عدم الاتعاظ بحال غيرهم.

٢ ـ التحذير من سبل الشيطان وهي الإغراء بالمعاصي وتزيينها فاذا وقع العبد في الهلكة تبرأ الشيطان منه وتركه في محنته وعذابه.

٣ ـ وجوب التقوى بفعل الأوامر وترك النواهى.

٤ ـ وجوب مراقبة الله تعالى والنظر يوميا فيما قدم الإنسان للآخرة وما أخر.

٥ ـ التحذير من نسيان الله تعالى المقتضى لعصيانه فإن عقوبته خطيرة وهي أن ينسى الله العبد نفسه فلا يقدم لها خيرا قط فيهلك ويخسر خسرانا مبينا.

٦ ـ عدم التساوى بين أهل النار وأهل الجنة ، إذ أصحاب النار لم ينجو من المرهوب وهو النار ، ولم يظفروا بمرغوب وهو الجنة ، وأصحاب الجنة على العكس سلموا من المرهوب ، وظفروا بالمرغوب نجوا من النار ودخلوا الجنان.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

٣١٦

شرح الكلمات :

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) : أي وجعلنا فيه تميزا وعقلا وإدراكا.

(لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) : أي لرأيت ذلك الجبل متشققا متطامنا ذليلا.

(مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) : أي من خوف الله خشية أن يكون ما أدى حقه من التعظيم.

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) (١) : أي مثل هذا المثل نضرب الأمثال للناس.

(لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) : أي يتذكرون فيؤمنون ويوحدون ويطيعون.

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : أي الله المعبود بحق الذي لا معبود بحق الا هو عزوجل.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : أي عالم السر والعلانية.

(هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) : أي رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : أي لا معبود بحق الا هو لأنه الخالق الرازق المدبر وليس لغيره ذلك.

(الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) : أي الذي يملك كل شيء ويحكم كل شيء القدوس الطاهر المنزه عما لا يليق به.

(السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) : أي ذو السلامة من كل نقص الذي لا يطرأ عليه النقص المصدق رسله بالمعجزات. المهيمن : الرقيب الشهيد على عباده بأعمالهم.

(الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) : العزيز في انتقامه الجبار لغيره على مراده ، المتكبر على خلقه.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) : أي تنزيها لله تعالى عما يشركون من الآلهة الباطلة.

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ) : أي هو الإله الحق لا غيره الخالق لكل المخلوقات المنشئ لها من العدم.

(الْمُصَوِّرُ) : أي مصور المخلوقات ومركبها على هيئات مختلفة.

(لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) : أي تسعة وتسعون اسما كلها حسنى في غاية الحسن.

(يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي ينزهه ويسبحه بلسان القال والحال جميع ما في السموات والأرض.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : أي العزيز الغالب على أمره الحكيم في جميع تدبيره.

__________________

(١) هذه الجملة في الآيات تذييل لأنّ ما قبلها سيق مساق المثل فذيل بأن الأمثال التي يضربها الله تعالى في كلامه المراد منها أن يتفكر فيها الناس ليهتدوا إلى ما ينجيهم ويسعدهم.

٣١٧

معنى الآيات :

قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ ..) (١) لما أمر تعالى في الآيات السابقة ونهى ووعظ وذكر بما لا مزيد عليه أخبر أنه لو أنزل هذا القرآن العظيم (عَلى جَبَلٍ) بعد أن خلق فيه إدراكا وتمييزا كما خلق ذلك في الإنسان لرؤى ذلك الجبل (خاشِعاً) ذليلا (مُتَصَدِّعاً) متشققا (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي من الخوف من الله لعله قصّر في حق الله وحق كتابه ما أداهما على الوجه المطلوب ، وفي هذا موعظة للمؤمنين ليتدبروا القرآن ويخشعوا عند تلاوته وسماعه. ثم أخبر تعالى أنّ ما ضرب من أمثال في القرآن ومنها هذا المثل المضروب بالجبل. يقول نجعلها للناس رجاء أن يتفكروا فيؤمنوا ويهتدوا إلى طريق كمالهم وسعادتهم ثم أخبر تعالى عن جلاله وكماله بذكر أسمائه وصفاته فقال (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود بحق إلا هو ، (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي السر والعلن والموجود والمعدوم والظاهر والباطن. (هُوَ الرَّحْمنُ) الذي وسعت رحمته كل شيء (الرَّحِيمُ) بعباده المؤمنين ، الملك الذي له ملك السموات والأرض والمدبر للأمر في الأرض والسماء ، (الْقُدُّوسُ) (٢) الطاهر المنزه عن كل نقص وعيب عن الشريك والصاحبة والولد. (السَّلامُ) ذو السلامة (٣) من كل نقص مفيض السّلام على من شاء من عباده. (الْمُؤْمِنُ) المصدق رسله بما آتاهم من المعجزات المصدق عباده المؤمنين فيما يشكون إليه مما أصابهم ، ويطلبونه ما هم في حاجة إليه من رغائبهم وحاجاتهم ، (الْمُهَيْمِنُ) على خلقه الرقيب عليهم المتحكم فيهم لا يخرج شيء من أعمالهم وتصرفاتهم عن إرادته وإذنه ، (الْعَزِيزُ) الغالب على أمره الذي لا يمانع فيما يريده. (الْجَبَّارُ) للكل (٤) على مراده وما يريده ، (الْمُتَكَبِّرُ) على كل خلقه وله الكبرياء في السموات والأرض والجلال والكمال والعظمة.

وقوله تعالى (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) نزه تعالى نفسه عما يشرك به المشركون من عبدة الأصنام والأوثان وغيرها من كل ما عبد من دونه سبحانه وتعالى (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) :

__________________

(١) (لَوْ) هذه حرف امتناع لامتناع أي : امتنع إنزال القرآن على جبل فامتنعت رؤيته خاشعا متصدعا من خشية الله ، ولو حصل الأول لحصل الثاني.

(٢) لفظ القدوس : مشتق من القدس بلغة الحجاز وهو : السطل لأنه يتطهر به ، ومنه القادوس لواحد الأواني التي يستخرج بها الماء للتطهر وغيره قال ثعلب اللغوي : كل اسم على وزن فعول فهو مفتوح الأول نحو سعود ، وكلوب ، وتنور إلا السبوح والقدوس فإن الضم فيها أكثر من الفتح.

(٣) لاسم السّلام ثلاث معان صادقة : منها ذو السلامة كما في التفسير ومنها ذو السّلام : أي المسلم على عباده في الجنة :

ومنها الذي سلم من كل عيب وبرىء من كل نقص.

(٤) (الْجَبَّارُ) : قال ابن عباس : هو العظيم وجبروت الله : عظمته وهو على هذا القول صفة ذات من قولهم : نخلة جبارة. قال الشاعر :

سوامق جبّار أثيث فروعه

وعالين قنوانا من البسر أحمرا

السوامق : مرتفعات ، وأثيث : الملتف : والقنوان : العذق.

٣١٨

المقدر للخلق الباريء له (الْمُصَوِّرُ) له في الصورة التى أراد أن يوجده عليها. (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وهي مائة اسم الا اسما واحدا كما أخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحيح البخارى وأسماؤه متضمنة صفاته وكل أسمائه حسنى وكل صفاته عليا منزه عن صفات المحدثين (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من مخلوقات وكائنات أي ينزهه ويقدسه عما لا يليق به ويدعوه ويرغب إليه في بقائه وكمال حياته. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الغالب على أمره الحكيم في تدبير ملكه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما حواه القرآن من العظات والعبر ، والأمر والنهى والوعد والوعيد الأمر الذي لو أن جبلا ركب فيه الإدراك والتمييز كالإنسان ونزل عليه القرآن لخشع وتصدع من خشية الله.

٢ ـ استحسان ضرب الأمثال للتنبيه والتعليم والإرشاد.

٣ ـ تقرير التوحيد ، وأنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

٤ ـ إثبات أسماء الله تعالى ، وأنها كلها حسنى ، وأنها متضمنة صفات عليا.

٥ ـ ذكر أسمائه تعالى تعليم لعباده بها ليدعوه بها ويتوسلوا بها إليه.

سورة الممتحنة (١)

مدنية وآياتها ثلاث عشرة آية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ

__________________

(١) قال القرطبي : المشهور في اسم هذه السورة أنه الممتحنة بكسر الحاء اسم فاعل ، وهو الذي جزم به السّهيلي ، والمراد من الممتحنة الآية التي في هذه السورة إذ بها تمتحن المرأة التي تجيء مهاجرة من بلادها وتترك زوجها. والآية هي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) الخ ورجح الحافظ ابن حجر فتح الحاء باسم المفعول أي : المرأة الممتحنة.

٣١٩

يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣))

شرح الكلمات :

(لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) : أي الكفار والمشركين.

(أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) : أي لا تتخذوهم أنصارا توادونهم.

(وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) : أي الإسلام عقيدة وشريعة.

(يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) : أي بالتضييق عليكم حتى خرجتم فارين بدينكم.

أن تؤمنوا بربكم : أي لأجل أن آمنتم بربكم.

(إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) : فلا تتخذوهم أولياء ولا تبادلوهم المودة.

(تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) : أي توصلون إليهم خبر خروج الرسول لغزوهم بطريقة سرية.

(وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) : أي ومن يوادهم فينقل إليهم أسرار النبي في حروبه وغيرها.

(فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) : أي أخطأ طريق الحق الجادة الموصلة إلى الإسعاد.

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) : أي أن يظفروا بكم متمكنين منكم في مكان ما.

(يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) : أي لا يعترفون لكم بمودة.

(وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) : أي بالضرب والقتل.

(وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) : أي بالسب والشتم.

(وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) : أي وأحبوا لو تكفرون بدينكم ونبيكم وتعودون إلى الشرك معهم.

(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) : أي إن توادوهم وتسروا إليهم بالأخبار الحربية تقربا إليهم من أجل أن يراعوا لكم أقرباءكم وأولادكم المشركين بينهم فاعلموا أنكم لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة.

(يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) : أي فتكونون في الجنة ويكون المشركون من أولاد وأقرباء وغيرهم في النار.

٣٢٠