أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٩

ذات نصب وتعب من جر السلاسل والأغلال ، وتكليف أشق الأعمال (تَصْلى ناراً حامِيَةً) أي ترد نارا (تُسْقى) أي فيها (مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) قد بلغت أناها وانتهت إلى غايتها في حرارتها هذا هو الشراب أما الطعام فإنه (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) (١) قبيح اللون خبيث الطعم منتن الريح ، (لا يُسْمِنُ) آكله ولا يغنيه من جوع. هذه حال من كفر وفجر كفر بالله وبآياته ولقائه ورسوله ، أو فجر عن طاعة الله ورسوله فترك الفرائض وغشي المحارم هذه وجوه و (وُجُوهٌ (٢) يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) أي نضرة حسنة فإنها (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) أي لسعيها في الدنيا وهو إيمانها وصبرها إيمانها وجهادها إيمانها وتقواها إيمانها وعملها الصالح أصحاب هذه الوجوه راضون بأعمالهم لما رأوا من ثوابها والجزاء عليها.

إنهم أدخلوا (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) لا يقادر علاها ، (لا تَسْمَعُ (٣) فِيها لاغِيَةً) أي كلمة باطلة تنغص سعادتهم ولا كلمة نابية تقلق راحتهم. (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) من غير أخدود حفر لها ، (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) قدرا وحالا ومكانا ، (وَأَكْوابٌ) أقداح لا عرا لها من ذهب وفضة (مَوْضُوعَةٌ) لشربهم إن شاءوا شربوا بأيديهم أو ناولتهم غلمانهم ، ذاك لون من الشراب أما الفراش فإنها سرر مرفوعة ، (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) ، وسائد قد صفت للراحة والاتكاء الواحدة إلى جنب الأخرى طنافس ذات خمائل مبثوثة مفروشة هنا وهناك مبسوطة. هذه لمحة خاطفة عن الدار الآخرة تعتبر ذكرى للذاكرين وعظة للمتقين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر عرض سريع لها.

٢ ـ من أسماء القيامة الغاشية لأنها تغشى الناس بأهوالها.

٣ ـ بيان أن في النار نصبا وتعبا. على عكس الجنة فإنها لا نصب فيها ولا تعب.

٤ ـ من مؤلمات النفس البشرية لغو الكلام وكذبه باطله وهو ما ينزه عنه المؤمنون أنفسهم.

__________________

(١) الضريع هو يابس ثمر الشبرق بكسر الشين وإسكان الباء وكسر الراء وهو نبت ذو شوك فإذا يبس يقال له ضريع ويصير مسموما أي فيه مادة السم القاتلة هذا طعام أهل النار وجائز أن يكون الضريع شجر في النار ينتج عنه عصير الغسلين.

(٢) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ). هذه الجملة غير معطوفة على الوجوه الأولى ، لأن المقصود من الكلام هو بيان القيامة وما يكون فيها من عذاب وشقاء للمكذبين بها. فلما تم الحديث عنها قد يتشوق السامع إلى معرفة حال المؤمنين بها فأجيب بقوله (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) الخ .. فهو استئناف بياني.

(٣) قرأ نافع لا تسمع بالبناء للمجهول ولاغية نائب فاعل وقرأ حفص (لا تَسْمَعُ) بالبناء للفاعل و (لاغِيَةً) مفعول به.

٥٦١

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

شرح الكلمات :

(أَفَلا يَنْظُرُونَ) : أي أينكرون البعث فلا ينظرون نظر اعتبار.

(إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) : أي خلقا بديعا معدولا به عن سنن سائر المخلوقات.

(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) : أي فوق الأرض بلا عمد ولا مستند.

(وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) : أي على وجه الأرض نصبا ثابتا لا يتزلزل.

(وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) : أي بسطت.

(فَذَكِّرْ) : أي ذكرهم بنعم الله ودلائل توحيده.

(بِمُصَيْطِرٍ) : أي بمسلط.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَفَلا يَنْظُرُونَ) (١) أي أينكرون البعث والجزاء وما أعد الله لأوليائه من النعيم المقيم وما أعد لأعدائه من عذاب الجحيم. أفلا ينظرون نظرة اعتبار (إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (٢) ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) فهل خلق الإبل على تلك الصورة العجيبة وذاك التسخير لها وما فيها من منافع إذ يشرب لبنها ويركب ظهرها ويؤكل لحمها لا يدل على قدرة الخالق على إحياء الموتى وهل خلق السماء بكواكبها وشمسها وقمرها ثم رفعها بغير عمد يدعمها ولا سند يسندها لا يدل على قدرة الله على بعث الموتى أحياء ليحاسبهم ويجزيهم ، وهل نصب الجبال بعد خلق ترابها وإيجاد صخورها لا يدل على قدرة الله خالقها

__________________

(١) هذا الكلام متفرع عما سبقه إذ إنكار المشركين للبعث والجزاء وللتوحيد الناتج عن جهلهم وغفلتهم وعدم تفكرهم فلذا استحثهم على النظر والتفكر موبخا لهم على ترك ذلك.

(٢) (كَيْفَ خُلِقَتْ) بدل اشتمال من الإبل ، وكيف في محل نصب على الحال والعامل فيه ما ذكر بعدها وأما وإلى السماء وما بعدها فإنها معطوفات على جملة إلى الإبل وإعراب كيف واحد والإبل اسم جمع للبعران لا مفرد لها من لفظه.

٥٦٢

على بعث الرمم وإحياء الأجساد البالية كيف شاء ومتى شاء وهل خلق الأرض بكل ما فيها ثم بسطها وتسطيحها للحياة عليها والسير فوقها وتعميرها بأنواع العمران لا يدل على قدرة الله على البعث والجزاء. فما للقوم لا ينظرون (١) ولا يفكرون وقوله تعالى (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) بعد لفت أنظار المشركين إلى ما لو نظروا إليه وتفكروا فيه لاهتدوا إلى الحق وعرفوا أن الخالق لكل شيء لا يعجزه بعث عباده ولا جزاؤهم. أمر رسوله أن يقوم بالمهمة التي أنيطت به وهي التذكير دون الهداية التي هي لله وحده دون سواه فقال له (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) أي ذكر بمظاهر قدرتنا وآياتنا في الآفاق وآلائنا على العباد إنما أنت مذكر ليس غير. وقوله (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي بمتسلط تجبرهم على الإيمان والاستقامة وقوله (إِلَّا مَنْ (٢) تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) أي لكن من تولى عن الإيمان فكفر بآياتنا ورسولنا ولقائنا (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) وهو عذاب الآخرة. وقوله تعالى (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) أي رجوعهم إلينا لا إلى غيرنا. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا) لا على غيرنا (حِسابَهُمْ) ومن ثم سوف نجزيهم الجزاء اللائق بهم ، ولذا فلا يضرك يا رسولنا إعراضهم ولا توليهم. وحسبك تذكيرهم فمن اهتدى نجا ونجاته لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها إذ عاقبة ضلاله وهي الخسران التام عائدة عليه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير البعث والجزاء بالدعوة إلى النظر إلى الأدلة الموجبة للإيمان به.

٢ ـ بيان أن الداعي إلى الله تعالى مهمته الدعوة دون هداية القلوب فإنها إلى الله تعالى وحده.

٣ ـ بيان أن مصير البشرية إلى الله تعالى وهي حال تقتضي الإيمان به تعالى وطاعته وطلبا للنجاة من عذابه والفوز برحمته. وهو مطلب كل عاقل لو أن الناس يفكرون.

__________________

(١) من مظاهر رحمة الله ولطفه بعباده أن يوجه عباده إلى سبيل هدايتهم توجيها خاليا من العناء والمشقة فالعربي يركب بعيره في طريقه إلى حاجته فينظر إليه وهو راكبه وينظر إلى السماء فوقه وإلى الجبال حواليه وإلى الأرض تحت قدميه فيسأل أليس القادر على خلق هذا قادرا على البعث؟ فيجيب نفسه بلى إنه قادر.

(٢) روي أن عليا أتى بمرتد عن الإسلام فاستتابه ثلاثة أيام فلم يتب وأصر على الردة فضرب عنقه وقرأ (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ).

٥٦٣

سورة الفجر

مكية وآياتها ثلاثون آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤))

شرح الكلمات :

(وَالْفَجْرِ) : أي فجر كل يوم.

(وَلَيالٍ عَشْرٍ) : أي عشر ذي الحجة.

(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) : أي الزوج والفرد.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) : أي مقبلا أو مدبرا.

(لِذِي حِجْرٍ) : أي حجى وعقل.

(بِعادٍ إِرَمَ) : هي عاد الأولى.

(ذاتِ الْعِمادِ) : إذ كان طول الرجل منهم اثنى عشر ذراعا.

(جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) : أي قطعوا الصخر جعلوا من الصخور بيوتا بوادي القرى.

(ذِي الْأَوْتادِ) : أي صاحب الأوتاد وهي أربعة أوتاد يشد إليها يدي ورجلي من يعذبه

(طَغَوْا فِي الْبِلادِ) : أي تجبروا فيها وظلموا العباد وأكثروا فيها الفساد.

(فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) : أي الشرك والقتل.

(سَوْطَ عَذابٍ) : أي نوع عذاب.

(لَبِالْمِرْصادِ) : أي يرصد أعمال العباد ليجزيهم عليها.

٥٦٤

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (١) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) هذه أربعة أشياء قد أقسم الله تعالى بها وهي الفجر وفي كل يوم فجر وجائز أن يكون قد أراد تعالى فجر يوم معين وجائز أن يريد فجر كل يوم (وَلَيالٍ عَشْرٍ) وهي العشر الأول من شهر الحجة وفيها عرفة والأضحى وقد أشاد بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال ما من (٢) أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من عشر ذي الحجة (وَالشَّفْعِ) وهو كل زوج (وَالْوَتْرِ) (٣) وهو كل فرد فهو إقسام بالخلق كله (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) مقبلا أو مدبرا فهو بمعنى والليل إذا سار والسير يكون صاحبه ذاهبا أو آيبا وقوله تعالى (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) أي لذي حجر ولب وعقل أي نعم فيه قسم عظيم وجواب القسم أو المقسم عليه جائز أن يكون قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) الآتي ، وجائز أن يكون مقدرا مثل لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير ، وهذا لأن السورة مكية وهي تعالج العقيدة ومن أكبر ما أنكره المشركون البعث والجزاء فلذا هذا الجواب مراد ومقصود. ويدل عليه ما ذكر تعالى من مظاهر قدرته في الآيات بعد والقدرة هي التي يتأتى بها البعث والجزاء فقال عزوجل (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ (٤) فَعَلَ رَبُّكَ) أي ألم تنظر بعيني قلبك (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ (٥) بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) وهي عاد الأولى قوم هود الذين قالوا من أشد منا قوة ، وقال لهم نبيهم هود وزادكم في الخلق بسطة فقد كان طول الرجل منهم اثنى عشر ذراعا ، ولفظ إرم عطف بيان لعاد فإرم هي عاد قوم هود ووصفها بأنها ذات عماد وأنها (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) هو وصف لها بالقوة والشدة وفعلا كانوا أقوى الأمم وأشدها ولازم طول الأجسام أن تكون أعمدة المنازل كأعمدة الخيام من الطول ما يناسب سكانها في طولهم. ومع هذه القوة والشدة فقد أهلكهم الله الذي هو أشد منهم قوة وقوله تعالى (وَثَمُودَ الَّذِينَ (٦) جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ). أي وانظر كيف فعل ربك بثمود وهم أصحاب الحجر (مدائن صالح) شمال المدينة النبوية قوم صالح الذين كانوا أقوياء أشداء حتى

__________________

(١) لصلوحية الشفع والوتر لأشياء كثيرة ذكر القرطبي منها عددا كثيرا فروى عن عمران بن حصين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الشفع والوتر الصلاة منها شفع ومنها وتر ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال الشفع صلاة الصبح والوتر صلاة المغرب وأولى ما يقال أن الله تعالى أقسم بكافة خلقه إذ كل ما عداه تعالى ما بين شفع ووتر ، إذ الشفع ما يكون ثانيا لغيره ، والوتر الشيء المفرد.

(٢) رواه مسلم وغيره.

(٣) قرأ نافع والجمهور والوتر بفتح الواو وكسرها حفص.

(٤) (أَلَمْ تَرَ) استفهام تقريري والمخاطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو متضمن التعريض بالمشركين المعاندين ، كما هو متضمن الوعد بنصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والرؤية قلبية أو هي بمعنى ألم ينتهي إلى علمك فعل ربك بعاد الخ ..

(٥) عاد اسم أبي قبيلة وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه‌السلام.

(٦) وكون عاد إرم هم قوم هود عليه‌السلام يرجحه ذكر ثمود بعدهم في السياق كما هو في سائر قصص القرآن.

٥٦٥

إنهم قطعوا الصخور نحتا لها فجعلوا منها البيوت والمنازل كما قال تعالى عنهم (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) والمراد بالواد واديهم الذي كان بين جبلين من جبالهم التي ينحتون منها البيوت. فمعنى جابوا الصخر بالواد أي قطعوا الصخور بواديهم وجعلوا منها مساكن لهم تقيهم برد الشتاء القارص وحر الصيف اللافح ، ومع هذا فقد أهلكهم الله ذو القوة المتين وقوله (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي (١) الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) وانظر يا رسولنا كيف فعل ربك بفرعون صاحب المشانق والقتل والتعذيب إذ كان له أربعة أوتاد إذا أراد قتل من كفر به وخرج عن طاعته قيد كل يد بوتد وكل رجل بوتد ويقتله كما هي المشانق التي وضعها الطغاة الظلمة فيما بعد. وقوله تعالى (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) وهو الشرك والمعاصي فأهلكهم الله أجمعين عاد إرم وثمود وفرعون وملأه إذ (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) (٢) أي نوع عذاب من أنواع عذابه فأهلك عاد إرم بالريح الصرصر ، وثمود بالصيحة العاتية ، وفرعون بالغرق في البحر. وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) أي لكل جبارعات وطاغية ظالم أي هو تعالى يرصد أعمال العباد ليجزيهم بها في الدنيا وفي الآخرة. ولفظ المرصاد يطلق على مكان يرصد فيه تحركات الصيد الذي يصاد ، أو تحركات العدو وهو كبرج المراقبة. والرب تبارك وتعالى فوق عرشه والخليقة كلها تحته يعلم ظواهرها وبواطنها ويراقب أعمالها ويجزيها بحسبها قال تعالى (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضل الليالي العشر من أول ذي الحجة إلى العاشر منه.

٢ ـ بيان مظاهر قدرة الله في إهلاك الأمم العاتية والشعوب الظالمة مستلزم لقدرته تعالى على البعث والجزاء والتوحيد والنبوة وهو ما أنكره أهل مكة.

٣ ـ التحذير من عذاب الله ونقمه فإنه تعالى بالمرصاد فليحذر المنحرفون عن سبيل الله والحاكمون بغير شرعه والعاملون بغير هداه أن يصب عليهم سوط عذاب.

__________________

(١) جائز أن يكون الموصول مرادا به عاد إرم وثمود وفرعون ، وكونه عائدا إلى فرعون أولى وإن كان الجميع طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد بالشرك والظلم والفساد.

(٢) السوط آلة ضرب يتخد من جلد يضفر ظفرا فيصبح كالعصا فتضرب به الخيل لتسرع في جريها ، ويطلق العرب لفظ سوط على كل عذاب يكون فيه السوط ، وسوط عذاب هو من إضافة الصفة إلى الموصوف إذ كلمة سوط صفة للعذاب والعرب يطلقون لفظ سوط العذاب على كل نهاية العذاب حتى قال الشاعر :

ألم تر أن الله أظهر دينه

وصب على الكفار سوط عذاب

٥٦٦

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠))

شرح الكلمات :

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ) : أي الكافر المشرك.

(ابْتَلاهُ) : أي اختبره.

(فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) : أي بالمال والجاه ونعمه بالخيرات.

(أَكْرَمَنِ) : أي فضلني لمالي من مزايا على غيري.

(فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) : أي ضيقه ولم يوسعه عليه.

(أَهانَنِ) : أي أذلني بالفقر ولم يشكر الله على ما وهبه من سلامة جوارحه والعافية في جسمه.

(كَلَّا) : أي ليس الأمر كما يرى هذا الكافر ويعتقد ويقول.

(التُّراثَ) : أي الميراث.

(أَكْلاً لَمًّا) : أي أكلا كثيرا ولما شديدا إذ يلمون نصيب النساء والأطفال لما لهم فلا يورثونهم من التركة.

(حُبًّا جَمًّا) : أي حبا شديدا كثيرا.

معنى الآيات :

قوله تعالى (فَأَمَّا الْإِنْسانُ (١) إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي (٢) أَكْرَمَنِ) لقد تقدم قول الله

__________________

(١) الفاء للتفريع وما بعدها متفرع عما قبلها ، وفي التفسير بيان ذلك وتوضيحه فليتأمل.

(٢) قرأ نافع ربي في الموضعين بفتح الياء وقرأ حفص بسكون الياء ممدودة.

٥٦٧

تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) وهو دال على أن الله تعالى يحب من عبده أن يعبده ويشكره ليكرمه في دار كرامته يوم لقائه ، وإعلام الله تعالى عباده بأنه بالمرصاد يراقب أعمالهم دلالته على أنه يخوفهم من معاصيه ويرغبهم في طاعته واضحة فتلخص من ذلك أن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر وأنه يحب لهم الشكر فأما الإنسان فماذا يحب وماذا يكره قال تعالى عنه فأما الإنسان وهو المشرك وأكثر الناس مشركون إذا ما ابتلاه ربه أي اختبره فأكرمه بالمال والولد والجاه ونعمه بالأرزاق والخيرات لينظر الله هل يشكر أو يكفر فيقول مفاخرا ربي أكرمن أي فضلني على غيري لما لي من فضائل ومزايا لم تكن لهؤلاء الفقراء (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) (١) أي وأما إذا ما اختبره وضيق عليه رزقه لينظر تعالى هل يصبر العبد المختبر أو يجزع فيقول ربي اهانن أي أذلني فأفقرني.

وقوله تعالى (كَلَّا (٢) بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً) (٣) (لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) (٤) أي ألا فارتدعوا أيها الماديون الذين تقيسون الأمور كلها بمقاييس المادة فالله جل جلاله يوسع الرزق اختبارا للعبد هل يشكر نعم الله عليه فيذكرها ويشكرها بالإيمان والطاعة ويضيق الرزق امتحانا هل يصبر العبد لقضاء ربه أو يجزع. وإنما أنتم أيها الماديون ترون أن في التوسعة اكراما وفي التضييق إهانة كلا ليس الأمر كذلك ، ونظريتكم المادية هذه أتتكم من حبكم الدنيا واغتراركم بها ويشهد بذلك إهانتكم لليتامى وعدم إكرامكم لهم لضعفهم وعجزهم أمامكم ، وعدم الاستفادة المادية منهم. وشاهد آخر أنكم لا تحضرن أنفسكم ولا غيركم على إطعام المساكين وهم جياع أمامكم ، وآخر أنكم تأكلون التراث أي الميراث (أَكْلاً لَمًّا) شديدا تجمعون مال الورثة من الأطفال والنساء إلى أموالكم. وتحرمون الضعيفين الأطفال والنساء. وآخر وتحبون المال حبا جما أي قويا شديدا. كلا ألا ارتدعوا واخرجوا من دائرة هذه النظرية المادية قبل حلول العذاب ، ونزول ما تكرهون. فآمنوا بالله ورسوله.

__________________

(١) قرأ نافع أكرمني وأهانني بياء ساكنة في الوصل وبحذفها في الوقف وقرأ حفص بدون ياء في الوصل والوقف معا. وكتابة الياء مفصولة عن النون إشارة إلى أنها تحذف في الوقف.

(٢) (كَلَّا) حرف زجر وردع للإنسان القائل أكرمن وأهانن إذ قوله باطل ولم يقم على علم بالإكرام ولا بالإهانة فالإكرام علته الاختبار هل يشكر العبد أو يكفر ، وتقدير الرزق تضييقه علته الامتحان هل يصبر العبد أو يسخط هذه هي الحقيقة والعبد الكافر الجاهل يري أن الإكرام لشخص المكرم والإهانة كذلك.

(٣) (لَمًّا) أي جمعا شديدا يقال لممت الطعام ألمه إذا جمعته وأكلته ومنه قول بعضهم لم الله شملك أو شعثك أي جمع ما تفرق من أمرك.

(٤) (جَمًّا) أي كثيرا حلاله وحرامه إذ الجم الكثير يقال جم الشيء يجم جموما فهو جم وجام. ومنه جم الماء في الحوض أو البئر إذا اجتمع والجموم البئر الكثيرة الماء.

٥٦٨

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ النظرية المادية لم تكن حديثة عهد إذ عرفها الماديون في مكة من مشركي قريش قبل أربعة عشر قرنا.

٢ ـ وجوب اكرام اليتامى والحض على إطعام الجياع من فقراء ومساكين.

٣ ـ وجوب اعطاء المواريث لمستحقيها ذكورا أو اناثا صغارا أو كبارا.

٤ ـ التنديد بحب المال الذي يحمل على منع الحقوق ، ويزن الأمور بميزانه قوة وضعفا.

(كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

شرح الكلمات :

(إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا) : أي حركت حركة شديدة وزلزلت زلزالا قويا فلم يبق عليها شاخص البتة.

(وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) : أي والملائكة أي صفا بعد صف.

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) : أي تجر بسبعين ألف زمام كل زمام بأيدي سبعين ألف ملك.

(يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) : أي الكافر ما قالت له الرسل من وعد الله ووعيده ، يوم لقائه.

(وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) : أي لا تنفعه في هذا اليوم الذكرى.

(قَدَّمْتُ لِحَياتِي) : أي هذه الإيمان وصالح الأعمال.

(لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) : أي لا يعذب مثل عذاب الله أحد أي في قوته وشدته.

(وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) : أي ولا يوثق أحد مثل وثاق الله عزوجل.

٥٦٩

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) : أي المؤمنة الآمنة اليوم من العذاب لما لاح لها من بشائر النجاة.

(ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) : أي إلى جواره في دار كرامته أي الجنة.

(فَادْخُلِي فِي عِبادِي) : أي في جملة عبادي المؤمنين المتقين.

(وَادْخُلِي جَنَّتِي) : أي دار كرامتي لأوليائي.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) (١) هو كقوله (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) (وَجاءَ رَبُّكَ) أي لفصل القضاء (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٢) بعد صف ، (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) تجر بسبعين ألف زمام كل زمام بأيدي سبعين ألف ملك. هنا وفي هذا اليوم وفي هذه الساعة (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) (٣) المهمل المفرط المعرض عن دعوة الرسل ، الكافر بلقاء الله والجزاء على الأعمال (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) هنا يتذكر وماذا يتذكر؟ ، وكفره كان عريضا وشره كان مستطيرا ، ماذا يتذكر وهل تنفعه الذكرى ، اللهم لا ، لا وماذا عساه أن يقول في هذا الموقف الرهيب يقول نادما متحسرا (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) أي هذه الحياة الماثلة بين يديه ، وهل ينفعه التمني اللهم لا ، لا.

قال تعالى مخبرا عن شدة العذاب وقوة الوثاق (فَيَوْمَئِذٍ) أذ تقوم القيامة ويجيء الرب لفصل القضاء ويجاء بجهنم ويتذكر الإنسان ويأسف ويتحسر في هذا اليوم يقضي الله تعالى بعذاب أهل الكفر والشرك والفجور والفسوق فيعذبون ويوثقون بأمر الله وقضائه في السلاسل ويغلون في الأغلال ويذوقون العذاب والنكال الأمر الذي ما عرفه الناس في الدنيا أيام كانوا يعذبون المؤمنين ويوثقونهم في الحبال وهو ما أشار إليه بقوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ) (٤) (عَذابَهُ أَحَدٌ) أي لا يعذب عذاب احد في الدنيا مهما بالغ في التعذيب عذاب الله في الآخرة (وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) أي (٥) لا يوثق أحد في الدنيا وثاق الله في الآخرة هذه صورة من عذاب الله لأعدائه من أهل الشرك به والكفر بآياته ورسوله ولقائه وأما أهل الإيمان به وطاعته وهم أولياؤه الذين آمنوا في الدنيا وكانوا يتقون فها هم ينادون فاستمع (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) إلى صادق وعد الله ووعيده في كتابه وعلى لسان رسوله فآمنت واتقت وتخلت عن الشرك والشر فكانت مطمئنة بالإيمان وذكر الله قريرة

__________________

(١) الدك الحطم والكسر ، ودك الأرض تحطيمها وتفريق أجزائها.

(٢) الملك اسم جنس المراد به الملائكة وصفا صفا أي صفا بعد صف أي خلفه ووراءه.

(٣) (أَنَّى) اسم استفهام بمعنى أين له الذكرى والاستفهام مستعمل في الإنكار والنفي معا والتقدير وأين له نفع الذكرى

(٤) جائز أن يعود الكلام على الإنسان الكافر ويكون معناه أنه يعذب عذابا لا يعذبه أحد غيره ويوثق وثاقا لا يوثقه غيره من الموثقين ، وما في التفسير أولى.

(٥) الوثاق بمعنى الإيثاق يقال أوثقته إيثاقا.

٥٧٠

العين بحب الله ورسوله ، وما وعدها الرحمن (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) أي إلى جواره في دار كرامته حال كونك (راضِيَةً) ثواب الله لك مرضيا عنك من قبل مولاك (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) أي في جملة عبادي الصالحين (وَادْخُلِي (١) جَنَّتِي) فيقال لها هذا عند ما يرسل الله الأرواح إلى الأجساد يوم المعاد ، فإذا دخلت تلقتها الملائكة بالسلام وتساق إلى ساحة العرض وتعطى كتابها بيمينها وثم يقال لها ادخلي في عبادي أي في جملتهم وادخلي جنتي بعد مرورها على الصراط اللهم اجعل نفسي مثل تلك النفس (٢) المطمئنة بالإيمان وذكر الله ووعد الرحمن وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير المعاد بعرض شبه تفصيلي ليوم القيامة.

٢ ـ بيان اشتداد حسرة المفرطين اليوم في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله يوم القيامة.

٣ ـ بشرى النفس المطمئنة بالإيمان وذكر الله ووعده ووعيده ، عند الموت وعند القيام من القبر وعند تطاير الصحف.

سورة البلد

مكية وآياتها عشرون آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤))

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ

__________________

(١) إن كان هذا القول وهو بشرى عظيمة للمؤمن يقال عند الموت فمعنى ارجعي إلى ربك هو على ظاهره أي ارجعي إلى جوار ربك وكرامته وحسن ثوابه كما في التفسير. وإن كان هذا يقال يوم القيامة فمعنى إلى ربك إلى صاحبك أي إلى الجسد الذي كانت فيه ، وذلك بعد خلق الله تعالى الأجساد وجائز أن يراد المعنيان فيقال هذا عند الموت. ويقال لها ذلك يوم القيامة وهذا من بلاغة القرآن وإعجازه فاللفظ واحد وهو صالح لموقفين مختلفين وسبحان الله العظيم.

(٢) أورد ابن كثير عند تفسير هذه الآية الدعاء الآتي اللهم إني أسألك نفسا بك مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك.

٥٧١

(٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠))

شرح الكلمات :

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) : أي مكة.

(وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) : أي وأنت يا نبي الله محمد حلال بمكة.

(وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) : أي وآدم وذريته.

(فِي كَبَدٍ) : أي في نصب وشدة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ) : أي أيظن وهو أبو الأشدين بن كلدة وكان قويا شديدا.

(أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) : يقول هذا مفاخرا بعداوة الرسول وأنه أنفق فيها مالا كثيرا.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) : أي أيظن أنه لم يره أحد؟ بل الله رآه وعلم ما أنفقه.

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) : أي بينا له طريق الخير وطريق الشر بما فطرناه عليه من ذلك وبما أرسلنا به رسلنا وأنزلنا به كتبنا.

معنى الآيات :

قوله تعالى (لا أُقْسِمُ (١) بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌ (٢) بِهذَا الْبَلَدِ وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) هذا قسم لله تعالى أقسم فيه بمكة بلده الأمين والرسول بها وهو حل يقاتل ويقتل فيها وذلك يوم الفتح الموعود. وقد قتل صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومها ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وأقسم بوالد وما ولد فالوالد آدم وما ولد ذريته منهم الأنبياء والأولياء وجواب القسم أو المقسم عليه قوله (لَقَدْ (٣) خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) (٤) أي في نصب وتعب لا يفارقانه منذ تخلقه في بطن أمه إلى وفاته بانقضاء عمره ثم يكابد شدائد الآخرة ثم إما إلى نعيم لا نصب معه ولا تعب ، وإما إلى جحيم لا يفارقه ما هو أشد من النصب والتعب عذاب الجحيم هكذا شاء الله وهو العليم الحكيم. وفي هذا الخبر الإلهي المؤكد بأجل قسم على أن الإنسان محاط منذ نشأته إلى نهاية أمره بالنصب والتعب ترويح على نفوس المؤمنين بمكة وهم

__________________

(١) الابتداء بالقسم للتشويق إلى ما يذكر بعد القسم ، ولا مزيدة لتقوية الكلام.

(٢) جملة وأنت حل بهذا البلد معترضة بين المتعاطفين وفائدتها تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعده بنصره على أعدائه.

(٣) (لَقَدْ خَلَقْنَا) : هذا جواب القسم والإنسان للجنس ولا يراد به واحد بعينه وبعضهم يرى أن المراد به أبو الأشدين أسيد بن كلدة الجمحي.

(٤) من مظاهر أن الإنسان مربوب وأن له ربا يسيره ويدبر حياته كونه لا يفارق النصب والتعب مدة حياته وهو لا يريد ذلك.

٥٧٢

يعانون من الحاجة والاضطهاد والتعذيب أحيانا من طغاة قريش لا سيما المستضعفين كياسر وولده عمار وبلال وصهيب وخبيب ، وحتى الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو لم يسلم من أذى المشركين فإذا عرفوا طبيعة الحياة وأن السعادة فيها أن يعلم المرء أن لا سعادة بها هان عليهم الأمر وقل قلقهم وخفت آلامهم. كما هو تنبيه للطغاة وإعلام لهم بما هم عنه غافلون لعلهم يصحون من سكرتهم بحب الدنيا وما فيها وقوله عزوجل (أَيَحْسَبُ) (١) الإنسان (أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) هذا الإنسان الذي قيل أنه أبو الأشدين الذي أنفق ماله في عداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإسلام ويتبجح بذلك ويقول (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) كثيرا بعضه فوق بعض بلى إن الله تعالى قد رآه وعلم به وعلم القدر الذي أنفقه وسوف يحاسب عليه ويجزيه به ، ولن ينجيه اعتقاده الفاسد أنه لا بعث ولا جزاء قال تعالى مقررا له بقدرته ونعيمه عليه (أَلَمْ نَجْعَلْ (٢) لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٣) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٤) أي أعطيناه عينين يبصر بهما ولسانا ينطق به ويفصح عن مراده وزيناه بشفتين يستر بهما فمه وأسنانه ثم (هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي بينا له طريق الخير والشر والسعادة والشقاء بما أودعنا في فطرته وبما أرسلنا به رسلنا وأنزلنا به كتبنا أنسي هذا كله وتعامى عنه ثم هو ينفق ما اعطيناه في حرب رسولنا وديننا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ شرف مكة وحرمتها وعلو شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمو مقامه وهو فيها وقد أحلها الله تعالى له ولم يحلها لأحد سواه.

٢ ـ شرف آدم وذريته الصالحين منهم.

٣ ـ اعلان حقيقة وهي أن الإنسان لا يبرح يعاني من أتعاب الحياة حتى الممات ثم يستقبل شدائد الآخرة إلى أن يقر قراره وينتهي تطوافه باستقراره في الجنة حيث يستريح نهائيا ، أو في النار فيعذب ويتعب أبدا.

(فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ

__________________

(١) الاستفهام إنكاري مشبع بالتوبيخ والتقريع.

(٢) (أَلَمْ نَجْعَلْ) الاستفهام تقريري وفيه معنى التوبيخ.

(٣) الشفتين واحدتها شفة وأصلها شفو فقلبت الواو هاء فصارت شفة وتجمع على شفاه.

(٤) النجد الأرض المرتفعة ارتفاعا دون الجبل ، والمراد بالنجدين طريقا الخير والشر كما في التفسير.

٥٧٣

(١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

شرح الكلمات :

(فَلَا اقْتَحَمَ) : أي فهلا تجاوز.

(الْعَقَبَةَ) : أي الطريق الصعب في الجبل ، والمراد به النجاة من النار.

(فَكُّ رَقَبَةٍ) : أي اعتق رقبة في سبيل الله تعالى.

(فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) : أي في يوم ذي مجاعة وشدة مؤونة.

(يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) : أي أطعم يتيما من ذوي قرابته.

(مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) : أي أطعم فقيرا لا صقا بالتراب ليس له شيء.

(وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) : أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله.

(وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) : أي أوصى بعضهم بعضا برحمة الفقراء والمساكين.

(أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) : أي أصحاب اليمين وهم المؤمنون المتقون.

(أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) : أي أصحاب الشمال وهم الكفار الفجار.

(مُؤْصَدَةٌ) : أي مطبقة لا نافذة لها ولا كوة فلا يدخلها هواء.

معنى الآيات :

قوله تعالى (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (١) فهلا أنفق أبو الأشدين ما أنفقه في عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هلا أنفقه في سبيل الله فاقتحم بها العقبة فتجاوزها ، وقوله تعالى (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) (٢) هذا تفخيم لشأنها وتعظيم له وقوله (فَكُّ رَقَبَةٍ (٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ) (٤) (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) بهذه الأمور الأربعة تقتحم العقبة وتجتاز فينجو صاحبها من النار والأمور الأربعة هي :

__________________

(١) ذهب القرطبي إلى أن فلا هي بمعنى هلا التي هي للتحضيض ، وهو ما قررناه في التفسير وجائز أن يكون استفهاما إنكاريا ينكر عليه إنفاق أمواله فيما يضره وعدم إنفاقها فيما ينفعه.

(٢) الاستفهام للتشويق إلى معرفة حقيقة العقبة.

(٣) (فَكُّ رَقَبَةٍ) وما بعدها بيان للعقبة ، إذ التقدير هي فك رقبة. والمراد من فك الرقبة عتقها. وفي الحديث من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار.

(٤) هذه الجملة عطف على الجمل المسوقة للذم والتوبيخ.

٥٧٤

* (فَكُّ رَقَبَةٍ) وقد ورد من اعتق رقبة مؤمنة فهي فداؤه من النار.

* (إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) أي مجاعة (١)

(يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي قرابة

(أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي ذا لصوق بالأرض لحاجته وشدة فقره.

* إيمان صادق بالله ورسوله وآيات الله ولقائه يحيا به قلبه.

* تواصى بالصبر أي مع المؤمنين المستضعفين بالثبات على الحق ولزوم طريقه وتواصي بالمرحمة مع أهل المال أن يرحموا الفقراء والمساكين فيسدوا خلتهم ويقضوا حاجتهم. بهذه الأربعة تجتاز العقبة وينجو المرء من عذاب الله ، وفي مثل هذا تنفق الأموال لا أن تنفق في الدسائس والمكر بالصالحين وخداع المؤمنين.

وقوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) لما ذكر الإيمان والعمل الصالح وهما المنجيان من عذاب الله تعالى ذكر ضدهما وهما الكفر والمعاصي وهما المهلكان الشرك والمعاصي لأن الكفر بآيات الله لازمه البقاء على الشرك المنافي للتوحيد ، والعصيان المنافي للطاعة وقوله تعالى (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي الشمال (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) مغلقة الأبواب مطبقة هي جزاؤهم لأنهم كفروا بآيات الله وعصوا رسوله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بمن ينفق ماله في معصية الله ورسوله ، والنصح له بالإنفاق في الخير فإنه أجدى له ، وأنجى من عذاب الله.

٢ ـ بيان أن عقبة عذاب الله يوم القيامة تقتحم وتجتاز بالإنفاق في سبيل الله وبالإيمان والعمل الصالح والتواصي به.

٣ ـ التنديد بالكفر والوعيد الشديد لأهله.

سورة الشمس

مكية وآياها خمس عشرة آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها

__________________

(١) اليتيم : الولد الذي ليس له أب لموته وهو دون البلوغ.

٥٧٥

(٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠))

شرح الكلمات :

(وَضُحاها) : أي ونهارها

(إِذا تَلاها) : أي تلا الشمس فطلع بعد غروبها مباشرة وذلك ليلة النصف من الشهر.

(إِذا جَلَّاها) : أي إذا أضاءها.

(إِذا يَغْشاها) : أي غشى الشمس حتى تظلم الآفاق.

(وَما بَناها) : أي ومن بناها وهو الله عزوجل حيث جعل السماء كالسقف للأرض.

(وَما طَحاها) : أي ومن بسطها وهو الله عزوجل.

(وَما سَوَّاها) : أي ومن سوى خلقها وعدله وهو الله عزوجل.

(فَأَلْهَمَها فُجُورَها) : أي فبين لها ما ينبغي لها أن تأتيه أو تتركه من الخير والشر.

(أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) : أي فاز بالنجاة من النار ودخول الجنة من طهر نفسه من الذنوب والآثام.

(وَقَدْ خابَ) : أي خسر في الآخرة نفسه وأهله يوم القيامة.

(مَنْ دَسَّاها) : أي دسى نفسه إذا أخفاها وأخملها بالكفر والمعاصي واصل دسها دسسها فأبدلت إحدى السينين ياء.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالشَّمْسِ (١) وَضُحاها) (٢) إلى قوله (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) تضمنت هذه الآيات العشر قسما إلهيا من أعظم الأقسام ومقسما عليه وهو جواب القسم ومقسما لهم وهم سائر الناس فالقسم كان بما يلي بالشمس وضحاها وبالقمر إذا تلاها أي تلا الشمس إذا طلع بعد غروبها وذلك ليلة النصف من الشهر وبالنهار إذا جلاها إذا أضاء فكشف الظلمة أو الدنيا ، وبالليل إذا يغشاها أي يغشى الشمس حتى تظلم الآفاق وبالسماء وما بناها (٣) على أن ما تكون غالبا لغير العالم وقد تكون للعالم

__________________

(١) افتتحت بالقسم للتشويق إلى أخبارها ولم يقسم الله تعالى على شيء كما أقسم على جواب هذا القسم وهو حكم تقرير مصير الإنسان في الحياة الآخرة.

(٢) الضحى هو وقت ارتفاع الشمس مقدار رمح عن سطح الأرض فيما يرى الرائي إلى قبيل الزوال بربع ساعة تقريبا. وفيه تقع صلاة الضحى.

(٣) جائز أن تكون (ما) في الجمل الثلاثة (وَما بَناها وَما طَحاها وَما سَوَّاها) مصدرية فيكون الإقسام بالسماء وبنائها والأرض وطحوها ، والنفس وتسويتها إلا أن ما في التفسير وهو اختيار ابن جرير أولى إذ هو إقسام بالرب تعالى.

٥٧٦

كما هي هنا فالذي بناها هو الله سبحانه وتعالى بالأرض وما طحاها أي بسطها وهو الله تعالى وبالنفس وما سواها أي خلقها وعدل خلقها وهو الله تعالى وقوله (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي خلقها وسوى خلقها وألهمها أي بين لها الخير والشر أي ما تعمله من الصالحات وما تتجنبه من المفسدات فأقسم تعالى بأربع من مخلوقاته العظام وبنفسه وهو العلي العظيم على ما دل عليه قوله (قَدْ أَفْلَحَ) (١) (مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) وهو المقسم عليه وهو أن من وفقه الله وأعانه فزكى نفسه أي طهرها بالإيمان والعمل الصالح مبعدا لها عما يدنسها من الشرك والمعاصي فقد أفلح بمعنى فاز يوم القيامة وذلك بالنجاة من النار ودخول الجنة لأن معنى الفوز لغة هو السلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب وأن من خذله الله تعالى لما له من سوابق في الشر والفساد فلم يزك نفسه بالإيمان والعمل الصالح ودساها أي دسسها (٢) اخفاها وأخملها بما أفرغ عليها من الذنوب وما غطاها من آثار الخطايا والآثام فقد خاب بمعنى خسر في آخرته فلم يفلح فخسر نفسه وأهله وهو الخسران المبين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مظاهر القدرة الإلهية في الآيات التي أقسم بها الرب تعالى.

٢ ـ بيان بما يكون به الفلاح ، وما يكون به الخسران.

٣ ـ الترغيب في الإيمان والعمل الصالح والترهيب من الشرك والمعاصي.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

__________________

(١) قد أصلها لقد أفلح لأنها جواب القسم وحذفت اللام لطول جمل القسم إذ بلغت ثمان جمل.

(٢) فعل دس كان دسس فأبدلوا السين الآخرة ياء لوجود ثلاثة أحرف من نوع واحد طلبا للتخفيف ، وأصل دسي دس من دس الشيء إذا أخفاه بين شيئين حتى لا يظهر ومعنى دساها هو كما في التفسير أخفاها بما صب عليها من أوضار الذنوب فتدست وتدنست.

٥٧٧

شرح الكلمات :

(ثَمُودُ) : أي أصحاب الحجر كذبوا رسولهم صالحا عليه‌السلام.

(بِطَغْواها) : أي بسبب طغيانها في الشرك والمعاصي.

(إِذِ انْبَعَثَ) : أي انطلق مسرعا.

(أَشْقاها) : أي أشقى القبيلة وهو قدار بن سالف الذي يضرب به المثل فيقال أشأم من قدار.

(رَسُولُ اللهِ) : أي صالح عليه‌السلام.

(ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) : أي ذروها وشربها في يومها.

(فَكَذَّبُوهُ) : أي فيما اخبرهم به من شأن الناقة.

(فَعَقَرُوها) : أي قتلوها ليخلص لهم ماء شربها في يومها.

(فَدَمْدَمَ) : أي اطبق عليهم العذاب فأهلكهم.

(بِذَنْبِهِمْ) : أي بسبب ذنوبهم التي هي الشرك والتكذيب وقتل الناقة.

(فَسَوَّاها) : أي سوى الدمدم عليهم فلم يفلت منهم أحد.

(وَلا يَخافُ عُقْباها) : أي ولا يخاف الرب تعالى تبعة إهلاكهم كما يخاف الإنسان عاقبة فعله إذا هو قتل أحدا أو عذبه.

معنى الآيات :

قوله تعالى (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) (١) إلى قوله (وَلا يَخافُ عُقْباها) هذه الآيات سيقت للتدليل على أمور هي أن الذنوب موجبة لعذاب الله في الدنيا والآخرة ، وأن تكذيب الرسول الذي عليه كفار مكة منذر بخطر عظيم إذا استمروا عليه فقد يهلكهم الله به كما أهلك أصحاب الحجر قوم صالح ، وأن محمدا رسول الله حقا وصدقا وإن انكار قريش له لا قيمة له ، وأنه لا إله إلا الله. وأن البعث والجزاء ثابتان بأدلة قدرة الله وعلمه فقوله تعالى (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) إخبار منه تعالى المراد به إنذار قريش من خطر استمرارها على التكذيب وتسلية الرسول والمؤمنين وقوله (بِطَغْواها) (٢) أي بسبب ذنوبها التي بلغت فيها حد الطغيان الذي هو الإسراف ومجاوزة الحد في الأمر. وبين تعالى

__________________

(١) ثمود هي القبيلة المعروفة قوم صالح عليه‌السلام ومنازلهم بالحجر وهم أصحاب الحجر والجملة بيانية ، لأن من سمع جواب القسم وهو فلاح من زكى نفسه وخيبة من دساها وخسرانه تشوق إلى مثال لذلك فكان تكذيب ثمود وهلاكها.

(٢) الطغو اسم مصدر وهي كالطغيان الذي هو فرط الكبر والباء سببية أي كذبت ثمود رسولها صالحا عليه‌السلام بسبب طغواها ، لأن الكبر إذا عظم في الإنسان يحمله على الجحود والمعاندة والتكذيب.

٥٧٨

ظرف ذلك بقوله (إِذِ انْبَعَثَ) (١) أشقى تلك القبيلة الذي هو قدار بن سالف الذي يضرب به المثل في الشقاوة فيقال أشأم من قدار وقال فيه رسول الله أشقى الأولين والآخرين قدار بن سالف وقوله (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) أي صالح (ناقَةَ اللهِ) (٢) أي احذروها فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ذروها (وَسُقْياها) أي وماء شربها إذ كان الماء قسمة بينهم لها يوم ولهم يوم. (فَكَذَّبُوهُ) في ذلك وفي غيره من رسالته ودعوته إلى عبادة الله وحده (فَعَقَرُوها) (٣) أي فذبحوها (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أي أطبق عليهم العذاب وعمهم به فلم ينج منهم أحد وذلك (بِذَنْبِهِمْ) لا بظلم منه تعالى ، (فَسَوَّاها) في النقمة والعذاب (وَلا يَخافُ (٤) عُقْباها) أي تبعة تلحقه من هلاكها إذ هو رب الكل ومالك الكل وهو القاهر فوق عباده وهو العزيز الحكيم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن نجاة العبد من النار ودخوله الجنة متوقف على زكاة نفسه وتطهيرها من أوضار الذنوب والمعاصي ، وأن شقاء العبد وخسرانه سببه تدنيسه نفسه بالشرك والمعاصي وكل هذا من سنن الله تعالى في الأسباب والمسببات.

٢ ـ التحذير من الطغيان وهو الإسراف في الشر والفساد فإنه مهلك ومدمر وموجب للهلاك والدمار في الدنيا والعذاب في الآخرة.

٣ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتخفيف عنه إذ كذبت قبل قريش ثمود وغيرها من الأمم كأصحاب مدين وقوم لوط وفرعون.

٤ ـ انذار كفار قريش عاقبة الشرك والتكذيب والمعاصي من الظلم والاعتداء.

__________________

(١) انبعث مضارع بعث أي بعثته فانبعث ، إذا القوم بعثوا قدارا أي أرسلوه فالبعث إجابة لهم إذ كان عقره الناقة بموافقتهم ورضاهم. بل بتحريضهم له ودفعهم إليها.

(٢) (ناقَةَ اللهِ) منصوب على التحذير كما في التفسير والإضافة للتشريف والسقيا اسم مصدر من سقى يسقي سقيا.

(٣) (فَعَقَرُوها) : العقر هو جرح البعير في يديه ليبرك على الأرض من الألم فإذا برك ذبح هذا الأصل ثم أصبح يطلق عقر البعير على ذبحه. والفاء في فعقروها للترتيب.

(٤) العقبى اسم لما يحصل عقب فعل من الأفعال من تبعة لصاحبه أو مثوبة فهي كالعاقبة وهي الحال التي تعقب من خير وشر.

٥٧٩

سورة الليل (١)

مكية وآياتها احدى وعشرون آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١))

شرح الكلمات :

(إِذا يَغْشى) : أي بظلمته كل ما بين السماء والأرض في الإقليم الذي يكون به.

(إِذا تَجَلَّى) : أي تكشف وظهر في الإقليم الذي هو به وإذا هنا وفي التي قبلها ظرفية وليست شرطية.

(وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) : أي ومن خلق الذكر والأنثى آدم وحواء وكل ذريتهما وهو الله تعالى.

(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) : أي ان عملكم أيها الناس لمختلف منه الحسنة المورثة للجنة ومنه السيئة الموجبة للنار.

(مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) : أي حق الله وانفق في سبيل الله واتقى ما يسخط الله تعالى من الشرك والمعاصي.

(وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) : أي بالخلف لحديث اللهم أعط منفقا خلفا.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) : أي فسنيسره للخلة أي الخصلة اليسرى وهي العمل بما يرضاه الله منه في الدنيا ليوجب له به الجنة في الآخرة.

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) : أي منع حق الله والإنفاق في سبيل الله واستغنى بماله عن الله فلم يسأله من فضله ولم يعمل عملا صالحا يتقرب به إليه.

(وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) : أي بالخلف وما تثمره الصدقة والإيمان وهو الجنة.

__________________

(١) قال صلى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب فقرأ (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) فلما بلغ (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) وقع عليه البكاء فلم يقدر يتعداها من البكاء فتركها وقرأ سورة أخرى.

٥٨٠