أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٩

بَصِيرٌ) سواء عنده السابح في الماء والسارح في الغبراء والطائر في السماء والمستكن في الأحشاء.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تحذير المعرضين عن الله وإنذارهم بسوء العواقب إن استمروا على إعراضهم فإن الله قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يرسل عليهم حاصبا من السماء وليس هناك من يؤمنهم ويجيرهم بحال من الأحوال. إلا إيمانهم وإسلامهم لله عزوجل.

٢ ـ في الهالكين الأولين عبر وعظات لمن له قلب حي وعقل يعقل به.

٣ ـ من آيات الله في الآفاق الدالة على قدرة الله وعلمه ورحمته الموجبة لعبادته وحده طيران الطير في السماء وهو يبسط جناحيه ويقبضهما ولا يسقط إذ المفروض أن يبقى دائما يخفق بجناحيه يدفع نفسه فيطير بمساعدة الهواء أما إذا قبض أو بسط المفروض أنه يسقط ولكن الرحمن عزوجل يمسكه فلا يسقط.

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧))

٤٠١

شرح الكلمات :

(جُنْدٌ لَكُمْ) : أي أعوان لكم.

(مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) : أي غيره تعالى يدفع عنكم عذابه.

(إِنِ الْكافِرُونَ) : أي ما الكافرون.

(إِلَّا فِي غُرُورٍ) : غرهم الشيطان بأن لا عذاب ينزل بهم.

(إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) : أي إن أمسك الرحمن رزقه؟ لا أحد غير الله يرسله.

(بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) : أي إنهم لم يتأثروا بذلك التبكيت بل تمادوا في التكبر والتباعد عن الحق.

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا) : أي واقعا على وجهه.

(أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) : أي مستقيما.

(وَالْأَفْئِدَةَ) : أي القلوب.

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) : أي شكركم قليل.

(ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) : أي خلقكم في الأرض وإليه تحشرون لا إلى سواه.

(مَتى هذَا الْوَعْدُ) : أي الذي تعدوننا به وهو يوم القيامة.

(قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) : أي علم مجيئه عند الله لا غير.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) : أي لما رأوا العذاب قريبا منهم في عرصات القيامة.

(سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي تغيرت مسودة.

(هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) : أي هذا العذاب الذي كنتم بإنذاره تكذبون وتطالبون به تحديا منكم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية كفار قريش فقال تعالى مخاطبا لهم (أَمَّنْ هذَا الَّذِي (١) هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ؟) أي من هذا الذي هو جند لكم أيها المشركون بالله تعالى ينصركم من دون الرحمن إن أراد الرحمن بكم سوءا فيدفعه عنكم. وقوله تعالى (إِنِ الْكافِرُونَ (٢) إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي ما الكافرون إلا في غرور أوقعهم الشيطان فيه زين لهم الشرك ووعدهم ومناهم

__________________

(١) (أَمَّنْ) هي (أم) المنقطعة المقدرة ببل ومن الاستفهامية أدغمت في ميم أم فصارت أمن والاستفهام للتبكيت والتأنيب والاضراب الانتقالي إذ تنقل من توبيخهم على عدم التأمل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن آثار قدرة الله ورحمته إلى التبكيت بضعفهم وقلة الناصر لهم سوى الرحمن الذي يكفرون به.

(٢) الجملة معترضة مقررة لما قبلها والالتفات فيها من الخطاب إلى الغيبة لاقتضاء حالهم الإعراض عنهم والإظهار في موضع الإضمار إذ قال إن الكافرون ، ولم يقل إن هم إلا في غرور لذمهم بالكفر وتعليل غرورهم به.

٤٠٢

أنه لا حساب ولا عقاب ، وان آلهتهم تشفع لهم وقوله تعالى (أَمَّنْ (١) هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) اي أي من هذا الذي يطعمكم ويسقيكم ويأتي بأقواتكم إن أمسك الله ربكم رزقه عنكم فلو قطع عليكم المطر ما أتاكم به أحد غير الله. وقوله تعالى (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي انهم لم يتأثروا بهذا التبكيت والتأنيب بل تمادوا في الكبر والتباعد عن الحق. وقوله تعالى (أَفَمَنْ يَمْشِي (٢) مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ) (٣) (يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟) هذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك والموحد تبيانا لحالهما وتحقيقا لواقع مذهبهما فقال أفمن يمشي مكبا أي واقعا على وجهه هذا هو المشرك الذي سيكب على وجهه في جهنم أهدى أمن يمشي سويا أي مستقيما على صراط مستقيم أي طريق مستقيم هذا هو الموحد فأيهما أهدى؟ والجواب قطعا الذي يمشي سويا على صراط مستقيم إذا النتيجة أن الموحد (٤) مهتد والمشرك ضال. وقوله تعالى (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أي خلقكم (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي القلوب أي وأنتم لا تنكرون ذلك فمالكم إذا لا تشكرون المنعم عليكم بهذه النعم وذلك بالإيمان به وبرسوله وطاعته وطاعة رسوله إنكم ما تشكرون إلا قليلا وهو اعترافكم بأن الله هو المنعم لا غير. وقوله تعالى (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي قل لهم يا رسولنا الله هو الذي ذرأكم في الأرض أي خلقكم لا أصنامكم التي لا تخلق ذبابا وإليه تعالى وحده تحشرون يوم القيامة إذا فكيف لا تؤمنون به وبرسوله ولا تشكرونه ولا تخافونه وإليه تحشرون فيحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم.

وقوله تعالى (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقول الكافرون لرسول الله والمؤمنين : متى هذا الوعد الذي تعدوننا به وهو يوم القيامة أي متى يجيء؟ وهنا قال تعالى لرسوله إجابة لهم على سؤالهم : قل (إِنَّمَا الْعِلْمُ (٥) عِنْدَ اللهِ) أي علم مجيء يوم القيامة عند الله ، وليس هو من شأني وإنما أنا نذير منه مبين لا غير. وقوله تعالى (فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي عذاب يوم القيامة (زُلْفَةً) أي (٦) قريبا منهم (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أساءها الله فتغيرت بالاسوداد والكآبة

__________________

(١) (أَمَّنْ هذَا الَّذِي) : القول فيها كالقول في سابقها سواء.

(٢) (مُكِبًّا) اسم فاعل من اكب اللازم أما المتعدي فهو كبه يكبه وجواب الاستفهام الأول هو جملة أهدى وحذف جواب الاستفهام الثاني لدلالة الأول عليه.

(٣) (أَهْدى) أي أكثر هداية واستقامة والسوي هو الشديد الاستواء وهو الاعتدال والاستقامة.

(٤) جائز أن يراد بالمكب على وجهه أبو جهل ، والسوي على صراط مستقيم أبو بكر رضي الله عنه والمثل عام فى كل مشرك وموحد أو كافر ومؤمن.

(٥) كقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) الآية من سورة الأعراف.

(٦) (زُلْفَةً) : اسم مصدر من أزلف إزلافا إذا أقرب ، والزلفى القربة والمنزلة. والفاء في فلما رأوه زلفة هي الفصيحة إذ أعربت من جملتين وترتيب الشرطية عليها كأنه قيل وقد أتاهم الموعود به فرأوه ، فلما رأوه زلفة سيئت أي اسودت وجوه الذين كفروا لما فيها من الخوف والحزن.

٤٠٣

والحزن. وقيل لهم أو قالت لهم الملائكة هذا العذاب الذي كنتم به تطالبون متحدين رسولنا والمؤمنين وتقولون : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير حقيقة ثابتة وهي أن الكافر يعيش في غرور كامل ولذا يرفض دعوة الحق.

٢ ـ تقرير حقيقة ثابتة وهي انحراف الكافر وضلاله واستقامة المؤمن وهدايته.

٣ ـ وجوب الشكر لله تعالى على نعمة السمع والبصر والقلب وذلك بالإيمان والطاعة.

٤ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

شرح الكلمات :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) : أي أخبروني.

(وَمَنْ مَعِيَ) : أي من المؤمنين.

(أَوْ رَحِمَنا) : أي لم يهلكنا.

(فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ) : أي فمن يحفظ ويقي الكافرين العذاب.

(قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ) : أي قل هو الرحمن الذي أدعوكم إلى عبادته.

(إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) : أي غائرا لا تناله الدلاء ولا تراه العيون.

(بِماءٍ مَعِينٍ) : أي تراه العيون لجريانه على الأرض.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية كفار قريش فقال تعالى لرسوله قل لهؤلاء المشركين الذين

٤٠٤

تمنوا موتك وقالوا نتربص به ريب (١) المنون قل لهم (أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ) (٢) من المؤمنين ، (أَوْ رَحِمَنا) فلم يهلكنا بعذاب (فَمَنْ يُجِيرُ (٣) الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟) والجواب : لا أحد إذا فماذا تنتفعون بهلاكنا. وقوله تعالى (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين قل هو الرحمن الذي يدعوكم إلى عبادته وحده وترك عبادة غيره آمنا به وعليه توكلنا أي اعتمدنا عليه وفوضنا أمرنا إليه (فَسَتَعْلَمُونَ) في يوم ما (مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ) ممن هو على صراط مستقيم. وقوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي غائرا (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي قل لهؤلاء المشركين يا رسولنا تذكيرا لهم أخبروني إن أصبح ماؤكم الذي تشربون منه «بئر زمزم» وغيرها (٤) غائرا لا تناله الدلاء ولا تراه العيون. فمن يأتيكم بماء معين غير الله تعالى؟ والجواب لا أحد (٥) (٦) إذا فلم لا تؤمنون به وتوحدونه في عبادته وتتقربون إليه بالعبادات التي شرع لعباده أن يعبدوه بها؟.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما كان عليه المشركون من عداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تمنوا موته.

٢ ـ وجوب التوكل على الله عزوجل بعد الإيمان.

٣ ـ مشروعية الحجاج لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

سورة القلم

مكية وآياتها اثنتان وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)

__________________

(١) جاء هذا في سورة الطور. إذ قال تعالى عنهم أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون.

(٢) فتح كلا من ياءي أهلكني ومن معي. نافع وحفص سواء.

(٣) الاستفهام للنفي.

(٤) وهي بئر ميمون كانوا يشربون منها كبئر زمزم.

(٥) (مَعِينٍ) أصلها معيون كمبيع أصلها مبيوع فنقلت ضمة الياء إلى العين قبلها فالتقى ساكنان الياء والواو فحذفت الواو. ثم كسرت العين لتصبح الياء.

(٦) روى استحباب قول القارىء : الله رب العالمين إذا قرأ (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) وروي أن جاهلا ملحدا لما سمعها قال : تأتي بها الفؤوس والمعاول فذهب ماء عينيه وعمي. والعياذ بالله تعالى من الجهل والكفر والجرأة على الله.

٤٠٥

فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧))

شرح الكلمات :

(الرَّحْمنُ) : هو أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا ن ويقرأ هكذا نون.

(وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) : أي والقلم الذي كتب به الذكر «القدر» والذي يخطون ويكتبون.

(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) : أي لست بما أنعم الله عليك من النبوة وما وهبك من الكمال.

(بِمَجْنُونٍ) : أي بذي جنون كما يزعم المشركون.

(غَيْرَ مَمْنُونٍ) : أي غير مقطوع بل هو دائم أبدا.

(بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) : أي بأيكم الجنون.

معنى الآيات :

قوله تعالى (ن) هذا أحد الحروف (١) المقطعة نحو ق ، وص ، وحم الله أعلم بمراده به وقوله تعالى (وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) أي (٢) والقلم الذي كتب أول ما خلق وقال له اكتب فقال ما اكتب قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى بذلك وما يسطرون أي وما تسطره وتكتبه الملائكة نقلا من اللوح المحفوظ ، وما يكتبه الكرام الكاتبون من أعمال العباد قسمي أي أقسم تعالى بشيئين الأول القلم ، والثاني ما سطر به وكتب مما خلق من كل شيء. والمقسم (٣) عليه قوله (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ (٤) رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) تكذيب للمشركين الذين قالوا إن محمدا مجنون بسبب ما رأوا من الوحي والتأثير به على من هداه الله للإيمان ، وقوله تعالى (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) هذا داخل تحت القسم أي مقسم عليه وهو أن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجرا غير مقطوع أبدا بسبب ما قدمه من أعمال صالحة أعظمها ما بينه من الهدى وما سنه من طرق الخير إذ من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم الدين كما أن الجنة أجر كل عمل صالح وللرسول فيها أجر غير مقطوع بل له أعلاها وأفضلها

__________________

(١) روى عن بعض السلف أن : نون هي الدواة ، وكونه أحد الحروف المقطعة أولى لنظائره من ص. ، وق ويس ، وطس. وفي إدغام النون في واو والقلم قراءتان سبعيتان الفك والإدغام.

(٢) جائز أن يكون ما موصولة. أي والذي يسطرونه وجائز أن تكون مصدرية أي ومسطورهم.

(٣) جواب القسم وهو ثلاثة أشياء الأول نفي الجنون عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والثاني ثبوت الأجر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والثالث كونه على أعظم خلق حيث تحلى بكل أدب في القرآن حتى قالت عائشة رضي الله عنها كان خلقه القرآن.

(٤) الباء بنعمة ربك سببية أي ما أنت بسبب ما أنعم الله عليك من الوحي مجنونا والباء في مجنون زائدة لتقوية النفي وتأكيده.

٤٠٦

وقوله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١) هذا أيضا داخل في حيز المقسم عليه وهو أن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلى خلق أي أدب عظيم حيث أدبه ربه فكيف لا يكون أكمل الخلق أدبا وسيرته وما خوطب به في القرآن من مثل خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين. ومثل وشاورهم في الأمر ومثل ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك إلى غير ذلك من الآداب الرفيعة التي أدب الله بها رسوله مما جعله أكمل الناس أدبا وخلقا وقد سئلت عائشة عن خلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت كان خلقه القرآن وقال هو عن نفسه أدبني ربي فأحسن تأديبي وقال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وقوله تعالى (فَسَتُبْصِرُ (٢) وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي دم على ما أنت عليه من الكمال يا رسولنا واصبر على دعوتنا فستبصر بعد قليل من الزمن ويبصر قومك المتهمون لك بالجنون بأيكم (٣) المفتون أي المجنون أنت ـ وحاشاك ـ أو هم. وقوله تعالى (إِنَ (٤) رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) في هذا الخبر تعزية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية له ليصبر على دعوة الله وفيه تهديد ووعيد للمشركين المكذبين فكون الله أعلم من كل أحد بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين معناه أنه سيعذب حسب سنته الضال وسيرحم المهتدي.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مسألة أن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه.

٢ ـ بيان فضل القلم الذي يكتب به الهدى والخير.

٣ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر إذ كان ذلك بالقلم الذي أول ما خلق الله.

٤ ـ بيان كمال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أدبه وأخلاقه وجعله قدوة في ذلك.

__________________

(١) ورد في فضل الخلق أحاديث. اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ، وحديث ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء. (صحيح).

(٢) قال ابن عباس فستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتميز الحق من الباطل وما في التفسير وارد وحق ولعله المراد وما قاله ابن عباس حق ووارد.

(٣) (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) ، أي اسم مبهم يتعرف بما يضاف هو إليه ، وله مواقع كثيرة في الكلام فقد يشرب معنى الموصول ومعنى الشرط ومعنى الاستفهام ، ومعنى التنويه بكامل. فقوله بأيكم المفتون معناه أي رجل أو أي فريق منكم المفتون فأي هنا في محل نصب معمول فسينتصر وينتصرون أيكم المفتون إذ الياء زائدة كالباء في وامسحوا برؤوسكم.

(٤) الجملة تعليلية لما ينبيء عنه ما قبله من اهتدائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضلالهم أو على جميع ما فصل من أول السورة ومع أنها تعليلية فإنها متضمنة التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما فى التفسير.

٤٠٧

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦))

شرح الكلمات :

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) : أي تمنوا وأحبوا لو تلين لهم بأن لا تذكر آلهتهم بسوء.

(فَيُدْهِنُونَ) : فيلينون لك ولا يغلظون لك في القول.

(كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) : أي كثير الحلف بالباطل حقير.

(هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) : أي عياب مغتاب.

(مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) : أي على الناس بأذيتهم في أنفسهم وأموالهم أثيم يرتكب الجرائم والآثام.

(عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) : أي غليظ جاف. زنيم دعي في قريش وليس منهم وهو الوليد بن المغيرة.

(قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : أي ما روته الأولون من قصص وحكايات وليس بوحي قرآني.

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) : أي سنجعل على أنفه علامة يعير بها ما عاش فخطم أنفه بالسيف يوم بدر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (١) أي بناء على أنك أيها الرسول مهتد وقومك ضالون فلا تطع

__________________

(١) التاء للتفريع فالجملة متفرعة عما سبقها من قوله تعالى إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله. وعليه (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) الخ .. نهى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طاعة المشركين في أي شيء يريدونه منه مما هو رضاء بالشرك وسكوت عنه ممالأة لهم وسكوتا عن باطلهم مقابل ترك أذاهم له.

٤٠٨

هؤلاء الضالين المكذبين بالله ولقائه وبك وبما جئت به من الدين الحق وقوله (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ (١) فَيُدْهِنُونَ) أي ومما يؤكد لك عدم مشروعية طاعتهم فيما يطالبون ويقترحونه عليك أنهم ودوا أي تمنوا وأحبوا لو تلين لهم فتمالئهم بسكوتك عن آلهتهم فيدهنون بالكف عن أذيتك بترك السب والشتم. وقوله تعالى (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) بعدما نهاه عن إطاعة الكافرين عامة نهاه عن طاعة أفراد شريرين لا خير فيهم البتة كالوليد بن المغيرة فقال : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) كثير الحلف بالباطل (مَهِينٍ) (٢) أي حقير. (هَمَّازٍ) عياب (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي مغتاب نمام ينقل الحديث على وجه الإفساد (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي يبخل بالمال أشد البخل (مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي ظالم للناس معتد على أموالهم وأنفسهم (أَثِيمٍ) كثير الإثم لغشيانه المحرمات وقوله (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ (٣) زَنِيمٍ) أي غليظ الطبع جاف لا أدب معه. (زَنِيمٍ) أي دعي في قريش وليس منهم. وقوله تعالى (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي لأجل أن كان ذا مال وبنين حمله الشعور بالغنى على التكذيب بآيات الله فإذا تليت عليه وسمعها قال أساطير الأولين ردا لها ووصفها بأنها أسطورة أي أكذوبة مسطرة ومكتوبة من أساطير الأولين من الأمم الماضية. قال تعالى (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي نجعل له سمة شر وقبح يعرف بها مدى حياته تكون بمثابة من جدع أنفه أو وسم على أنفه فكل من رآه استقبح منظره.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بأصحاب الصفات التالية كثرة الحلف بالكذب ، المهانة ، الهمزة النميمة ، الغيبة ، البخل ، الاعتداء ، غشيان الذنوب ، الغلظة والجفاء ، الشهرة بالشر.

٢ ـ التحذير من كثرة المال والولد فإنها سبب الطغيان (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى).

٣ ـ التنديد بالمكذبين بآيات الله تعالى جملة أو تفصيلا. والعياذ بالله تعالى.

__________________

(١) (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) هذا بيان لما نهى عنه من طاعتهم ، وفعل تدهن مشتق من الإدهان وهو الملاينة والمصانعة وهو مأخوذ من دهن الشيء بالدهان ليلينه ويرق ، والمداهنة محرمة والمداراة جائزة والفرق بينهما أن المداهن يتنازل من شيء من دينه ليحفظ شيئا من دنياه ، والمداري عكسه يتنازل عن شيء من دنياه ليحفظ شيئا من دينه.

(٢) المهين : الوضيع لإكثاره من القبيح ، وتفسيره بالحقير صالح وكذا الفاجر العاجز.

(٣) العتل : الجافي الشديد ، ومنه أخذ العتال. الذي يجر الناس ويدفعهم بعنف ليدخلهم في السجن ونحوه. ومنه قوله تعالى خذوه فاعتلوه.

٤٠٩

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣))

شرح الكلمات :

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ) : أي امتحنا كفار مكة بالمال والولد والجاه والسيادة فلم يشكروا نعم الله عليهم بل كفروا بها بتكذيبهم رسولنا وإنكارهم توحيدنا فأصبناهم بالقحط والقتل لعلهم يتوبون كما امتحنا أصحاب الجنة المذكورين في هذا السياق.

(لَيَصْرِمُنَّها) (١) : أي ليجدنها أي يقطعون ثمارها صباحا.

(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ) : أي نار فأحرقتها.

(فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) : أي كالليل الأسود الشديد الظلمة والسواد.

(عَلى حَرْثِكُمْ) : أي غلة جنتكم وقيل فيها حرث لأنهم عملوا فيها.

(وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) : أي يتشاورون بأصوات مخفوضة غير رفيعة حتى لا يسمع بهم.

__________________

(١) الصرم : الجد والقطع ، والجز أيضا بالزاي كلها بمعنى القطع والكسر.

٤١٠

(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) : أي وغدوا صباحا على قصد قادرين على صرمها قبل أن يطلع عليهم المساكين.

(إِنَّا لَضَالُّونَ) : أي مخطئوا الطريق أي ما هذا طريق جنتنا ولا هي هذه.

(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) : أي لما علموا أنها هي وقد احترقت قالوا بل نحن محرومون منها لعزمنا على حرمان المساكين منها.

(قالَ أَوْسَطُهُمْ) : خيرهم تقوى وأرجحهم عقلا.

(لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) : أي تسبحون الله وتستثنون عند ما قلتم لنصرمنها مصبحين.

(يَتَلاوَمُونَ) : أي يلوم بعضهم بعضا تندما وتحسرا.

(إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) : أي طامعون.

(كَذلِكَ الْعَذابُ) : أي مثل هذا العذاب بالحرمان العذاب لمن خالف أمرنا وعصانا.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية قريش قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تعالى (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) يعني كفار قريش أي امتحناهم واختبرناهم بالآلاء والنعم لعلهم يشكرون فلم يشكروا ثم بالبلاء والنقم أي بالقحط والجدب والقتل لعلهم يتوبون كما بلونا أصحاب الجنة فتابوا ثم ذكر تعالى قصة أصحاب الجنة الذين ابتلاهم فتابوا إليه ورجعوا إلى طاعته فقال (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) (١) (إِذْ أَقْسَمُوا) ـ حلفوا ـ (لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) (٢) أي ليقطعن ثمارها ويجدونه في الصباح الباكر قبل أن يعلم المساكين حتى لا يعطوهم شيئا. (وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي لم يستثنوا في حلفهم لم يقولوا إلا أن يشاء الله. (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) يا رسولنا وهو نار أحرقتها (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي الليل المظلم الأسود الشديد السواد. (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) أي نادى بعضهم بعضا وهم إخوة كثير في أول الصباح قائلين (اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ) فعلا جادين في الصرام هذا الصباح. (فَانْطَلَقُوا) مسرعين (وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) يتشاورون في صوت خافت حتى لا

__________________

(١) قيل إن هذه الجنة «البستان» كانت على فراسخ من صنعاء اليمن وكانت بعد رفع عيسى عليه‌السلام ، كانت لرجل مؤمن يؤدي حق الله تعالى فلما مات صارت لأولاده فعزموا على منع الناس ما كان والدهم يعطيه لمن يحضر الجداد من فقراء ومساكين فعاقبهم الله فاحترقت وفي الآيات بيان ذلك.

(٢) في الآية أدب سام وهو أن من كان له من الزرع أو التمر ما يجد ، ينبغي أن لا يجده ليلا حتى لا يحرم الفقراء من الأكل منه وأن عليه أن يمنح من يحضر الجداد والقطع شيئا يسيرا من زرعه أو ثمره ، وآية سورة النساء ظاهرة في هذا وهي قوله تعالى (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) إلى قوله (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) الآية.

٤١١

يفطن لهم فقراء البلد ومساكينها وأجمعوا (١) على (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) كما كانوا يدخلونها ويأخذون منها أيام حياة والدهم رحمة الله عليه قال تعالى (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) أي وانطلقوا صباحا على حرد أي (٢) قصد تام قادرين على أن لا يدخلنها اليوم عليهم مسكين بل يجدونها ويحملونها إلى مخازنهم ولا يشعر بهم أحد من الفقراء والمساكين. قال تعالى (فَلَمَّا رَأَوْها) محترقة سوداء مظلمة (قالُوا) ما هذه جنتنا (إِنَّا لَضَالُّونَ) (٣) عنها بأن أخطئنا الطريق إليها ، ولما علموا أنها هي ولكن احترقت ليلا اضربوا عن قولهم الأول وقالوا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي منها لعزمنا على منع المساكين منها وقد كان والدنا يمنحهم منها ويعطيهم شكرا لله وأداء لحقه. وهنا تكلم أوسطهم أي خيرهم تقوى وأرجحهم عقلا بما أخبر تعالى عنه في قوله (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ) (٤) (أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي ألم يسبق لي أن قلت لكم لما قلتم لنصرمنها مصبحين ولم تستثنوا فقلت لكم هلا تستثنون واطلق لفظ التسبيح على الاستثناء لأن التسبيح تنزيه لله عن الشرك وسائر النقائص ومنها العجز والاستثناء تنزيه لله عن ذلك لأن الذي يقول أفعل ولم يستثن اعطى لنفسه قدرة كقدرة الله الذي إذا قال أفعل فعل ولا يعجز فهو هنا اشرك نفسه في صفة من صفات الله تعالى فلذا كان الاستثناء تسبيحا لله وتنزيها له عن المشارك في صفاته وأفعاله. فلما ذكرهم أخوهم العاقل الرشيد قالوا (سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) فنابوا بهذا الاعتراف قال تعالى (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أي يلوم بعضهم بعضا على خطأهم في عزمهم على حرمان المساكين وعلى عدم الاستثناء في اليمين قالوا من جملة ما قالوا (يا وَيْلَنا) أي يا هلاكنا احضر (إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي متجاوزين حدود الله التي حد لنا غفلة منا وجهلا بأنفسنا وبما يعاقب به امثالنا. وهنا بعد أن رجعوا على أنفسهم باللوم وإلى الله بالتوبة رجوا ربهم ولم ييأسوا من رحمته فقالوا (عَسى (٥) رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا (٦) خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) هكذا ابتلوا بالنعمة ثم بسلبها فتابوا

__________________

(١) في الآية دليل على أن العزم الأكيد يؤاخذ عليه العبد لأن أصحاب الجنة عزموا على أن يحرموا الفقراء فعاقبهم الله على عزمهم.

(٢) الحرد : يطلق على المنع وعلى القصد القوي وعلى السرعة والغضب أيضا وجملة وغدوا ... إلخ حالية.

(٣) لا داعي إلى تفسير لضالون بالضلال الذي هو الخروج عن طاعة الله بل المراد من الضلال هو عدم اهتدائهم إلى جنتهم بأن ضلوا طريقها.

(٤) الاستفهام تقريري ، ولو لا للتحضيض.

(٥) قيل إنهم تعاقدوا وقالوا إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما يصنع أبونا فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله ما هو خير منها ، سئل قتادة عن أصحاب الجنة : أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال للسائل لقد كلفتنى تعبا!

(٦) قرأ نافع أن يبدلنا بتشديد الدال ، وقرأ حفص بالتخفيف من أبدل يبدل الرباعي.

٤١٢

فهل كفار قريش وقد ابتلوا بالنعمة ثم سلبوها فهل يتوبون كما تاب أصحاب الجنة؟ إنما سيقت هذه القصة تذكيرا وتعليما فهلا يتذكرون فيتوبوا؟ قال تعالى (كَذلِكَ (١) الْعَذابُ) أي مثل هذا العذاب بالحرمان العذاب لمن خالف أمر الله وعصاه (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) من عذاب الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) فإن عذاب الدنيا وقته محدود وأجله معدود أما عذاب الآخرة فإنه أبدي لا يحول ولا يزول.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الابتلاء يكون بالسراء والضراء أي بالخير والشر وأسعد الناس الشاكرون عند السراء الصابرون على طاعة الله ورسوله عند الضراء.

٢ ـ مشروعية التذكير بأحوال المبتلين والمعافين ليتخذ من ذلك طريق إلى الشكر والصبر.

٣ ـ صلاح الآباء ينفع أبناء المؤمنين فقد انتفع أصحاب الجنة بصلاح أبيهم الذي كان يتصدق على المساكين من غلة بستانه وعلامة انتفاعهم توبتهم.

٤ ـ مشروعية الاستثناء في اليمين وأنه تسبيح لله تعالى ، وأن تركه يوقع في الإثم ولذا إذا حنث الحالف الذي لم يستثن تلوثت نفسه بإثم كبير لا يمحى إلا بالكفارة الشرعية التي حددها الشارع وهي إطعام أو كسوة عشرة مساكين أو عتق رقبة فإن لم يقدر على واحدة من هذه الأنواع صام ثلاثة أيام ليمحي ذلك الذنب من نفسه.

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢)

__________________

(١) قيل إن هذا وعظ لأهل مكة بالرجوع إلى الله تعالى لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم أي كفعلنا نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا.

٤١٣

خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣))

شرح الكلمات :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) (١) : أي الذين اتقوا ربهم فآمنوا به ووحدوه فاتقوا بذلك الشرك والمعاصي.

(عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) : أي لهم جنات النعيم يوم القيامة عند ربهم عزوجل.

(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) : أي أنحيف في الحكم ونجور فنجعل المسلمين والمجرمين متساوين في العطاء والفضل والجواب لا ، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة.

(أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) : أي تقرأون فعلمتم بواسطته ما تدعون.

(إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) : أي فوجدتم في الكتاب الذي تقرأون أن لكم فيه ما تختارونه.

(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ) : أي ألكم عهود منا موثقة بالأيمان لا نخرج منها ولا نتحلل إلى يوم القيامة.

(إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) : أي أعطيناكم عهودنا الواثقة أن لكم ما تحكمون به لأنفسكم كما تشاءون.

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) : أي سلهم يا رسولنا عن زعيمهم الذي يكفل لهم مضمون الحكم الذي يحكمون به لأنفسهم من أنهم يعطون في الآخرة أفضل مما يعطى المؤمنون.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) : أي أعندهم شركاء موافقون لهم في هذا الذي قالوا يكفلون لهم به ما ادعوه وحكموا به لأنفسهم وهو أنهم يعطون أفضل مما يعطى المؤمنون يوم القيامة.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) : أي يوم يعظم الهول ويشتد الكرب ويكشف الرب عن ساقه الكريم التي لا يشبهها شيء عند ما يأتي لفصل القضاء.

(تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) : أي تغشاهم ذلة يالها من ذلة.

(وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) : أي وقد كانوا يدعون في الدنيا إلى الصلاة وهم سالمون من أية علة ولا يصلون حتى لا يسجدوا تكبرا وتعظما.

__________________

(١) المتقون هم الذين اتقوا ربهم فآمنوا به وعبدوه وحده فأطاعوه وأطاعوا رسوله فلم يشركوا ولم يفسقوا.

٤١٤

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) (١) (٢) الآيات نزلت ردا على المشركين الذين ادعوا متبجحين أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يعطون أفضل مما يعطى المؤمنون قياسا منهم على حالهم في الدنيا حيث كانوا أغنياء والمؤمنون فقراء فقال تعالى (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يوم القيامة (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي جنات كلها نعيم لا شيء فيها غيره. ثم قال في الرد منكرا على المشركين دعواهم مقرعا مؤنبا إياهم في سبعة استفهامات إنكارية تقريعية أولها قوله تعالى (أَفَنَجْعَلُ) (٣) (الْمُسْلِمِينَ) الذين أسلموا لله وجوههم وأطاعوه بكل جوارحهم كالمجرمين الذين أجرموا على أنفسهم بارتكاب أكبر الكبائر كالشرك وسائر الموبقات أي نحيف ونجور في حكمنا فنجعل المسلمين كالمجرمين في الفضل والعطاء يوم القيامة ، فنسوي بينهما وثانيها قوله : (ما لَكُمْ؟) أي أي شيء حصل لكم حتى ادعيتم هذه الدعوى وثالثها (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي كيف أصدرتم هذا الحكم ما حجتكم فيه ودليلكم عليه؟ ورابعها قوله (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) أي أعندكم كتاب جاءكم به رسول من عند الله تقرأون فيه هذا الحكم الذي حكمتم به لأنفسكم بأنكم تعطون يوم القيامة أفضل مما يعطى المؤمنون (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي ألكم في هذا الكتاب ما تختارون والجواب. لا. لا وخامسها قوله (أَمْ لَكُمْ) (٤) (أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي أي الكم عهودنا موثقة بأيمان لا نتحلل منها إلى يوم القيامة بأن لكم ما حكمتم به لأنفسكم من أنكم تعطون أفضل مما يعطى المؤمنون وسادسها (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ (٥) بِذلِكَ زَعِيمٌ) أي سلهم يا رسولنا عن زعيمهم الذي يكفل لهم مضمون الحكم الذي يحكمون به لأنفسهم من أنهم يعطون في الآخرة أفضل مما يعطى المؤمنون سابعها قوله (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي ألهم شركاء موافقون لهم في هذا الذي قالوه يكفلونه لهم فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في ذلك. بهذه الاستفهامات الإنكارية التقريعية السبعة نفى تعالى عنهم كل ما يمكنهم أن يتشبثوا به في

__________________

(١) (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) استئناف بياني ناشيء عن سؤال إذا كان جزاء المجرمين ما ذكر فما جزاء المتقين؟ فأجيب : إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم : واللام لام الاستحقاق ، واضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى أنها خالصة النعيم ما فيها ليس في جنات الدنيا من البعوض والحشرات أو ما يؤذي من شوك ونحوه.

(٢) قال ابن عباس رضي الله عنهما : قالت كفار مكة إنا نعطى في الآخرة خيرا مما تعطون فنزلت : أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟

(٣) الهمزة للاستفهام الإنكاري أي إنكار التسوية بين المسلمين والمجرمين في الجزاء مع التقريع والتوبيخ .. وكذا سائر الاستفهامات في هذه الآيات.

(٤) (أَمْ لَكُمْ) للإضراب الانتقالي من دليل إلى آخر والاستفهام إنكاري كغيره مع ما يفيد من التأنيب والتفريع.

(٥) الاستفهام هنا مستعمل للتهكم.

٤١٥

تصحيح دعواهم الباطلة عقلا وشرعا. وقوله تعالى (يَوْمَ (١) يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) (٢) أي اذكر لهم يا رسولنا مبينا واقع الأمر يوم القيامة ، ليخجلوا من تشدقهم بدعواهم الساقطة الباردة اذكر لهم يوم يعظم الهول ويشتد الكرب ، ويأتي الرب لفصل القضاء ويكشف عن ساق فيخر كل مؤمن ومؤمنة ساجدا ويحاول المنافقون والمنافقات السجود فلا يستطيعون إذ يكون ظهر أحدهم طبقا واحدا أي عظما واحدا فلا يقدر على السجود وذلك علامة شقائه المترتب على نفاقه في الدنيا. (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أي امتحانا لهم ليعرف من كان يسجد إيمانا واحتسابا ممن كان يسجد نفاقا ورياء (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) لأن ظهر أحدهم يصبح عظما واحدا (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) لا تطرف من شدة الخوف (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي تغشاهم ذلة عظيمة وقوله (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أي في الدنيا (وَهُمْ سالِمُونَ) معافون في أبدانهم ولا يسجدون تكبرا وكفرا بالله ربهم وبشرعه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير أن المجرمين لا يساوون المؤمنين يوم القيامة إذ لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة فمن زعم أنه يعطى ما يعطاه المؤمنون من جنات النعيم فهو مخطئ في تصوره كاذب في قوله.

٢ ـ بيان عظم هول يوم القيامة وأن الرب تبارك وتعالى يأتي لفصل القضاء ويكشف عن ساق فلا يبقى أحد إلا سجد وأن الكافر والمنافق لا يستطيع السجود عقوبة له وفضيحة إذ كان في الدنيا يدعى إلى السجود لله فلا يسجد أي إلى الصلاة فلا يصلي تكبرا وكفرا.

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا

__________________

(١) جائز أن يكون يوم يكشف متعلق بقوله فليأتوا بشركائهم ويكون من باب حسن التخلص من الرد على المشركين إلى ذكر أهوال يوم القيامة.

(٢) لو لا ما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : إذ يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا. لقلنا في الآية أنها كناية عن أهوال يوم القيامة ولكن مع صحة الحديث فالآية دالة على أهوال يوم القيامة ومثبتة صفة ذات الرب تبارك وتعالى عن صفات المحدثين.

٤١٦

أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

شرح الكلمات :

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ) : أي دعني ومن يكذب أي لا يصدق.

(بِهذَا الْحَدِيثِ) : أي بالقرآن الكريم.

(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) : أي نستنزلهم درجة درجة حتى نصل بهم إلى العذاب.

(وَأُمْلِي لَهُمْ) : أي وامهلهم.

(إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) : أي شديد قوي لا يطاق.

(فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) : أي فهم مما يعطونكه مكلفون حملا ثقيلا.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) : أي اللوح المحفوظ.

(فَهُمْ يَكْتُبُونَ) : أي ينقلون منه ما يدعونه ويقولونه.

(وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) : أي يونس في الضجر والعجلة.

(وَهُوَ مَكْظُومٌ) : أي مملوء غما.

(بِالْعَراءِ) : أي الأرض الفضاء.

(وَهُوَ مَذْمُومٌ) : لكن لما تاب نبذ وهو غير مذموم.

(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) : أي اصطفاه.

(لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) : أي ينظرون إليك نظرا شديدا يكاد أن يصرعك.

(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) : أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(لِلْعالَمِينَ) : أي الإنس والجن فليس بمجنون كما يقول المبطلون.

معنى الآيات :

بعد ذلك التقريع الشديد للمشركين المكذبين الذي لم يؤثر في نفوسهم أدنى تأثير قال تعالى لرسوله (فَذَرْنِي) (١) أي بناء على ذلك فذرني (وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) أي دعني وإياهم ، والمراد من

__________________

(١) الفاء للتفريع والترتيب فما بعدها متفرع عما قبلها مترتب عليه.

٤١٧

الحديث القرآن الكريم (١) (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) أي نستنزلهم درجة درجة (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) حتى ننتهي بهم إلى عذابهم المترتب على تكذيبهم وشركهم. وقوله تعالى (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي (٢) مَتِينٌ) أي وأمهلهم فلا أعاجلهم بالعذاب فأوسع لهم في الرزق وأصحح لهم الجسم حتى يروا أن هذا لكرامتهم عندنا وأنهم خير من المؤمنين ثم نأخذهم. وهذا من كيدي الشديد الذي لا يطاق ، وقوله تعالى (أَمْ (٣) تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي بل أتسألهم على تبيلغ الدعوة أجرا مقابل التبليغ فهم من مغرم مثقلون أي فهم يشعرون بحمل ثقيل من أجل ما يعطونك من الأجر فلذا هم لا يؤمنون بك ولا يتابعونك على دعوتك. (أَمْ عِنْدَهُمُ (٤) الْغَيْبُ) أي اللوح المحفوظ (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٥) منه ما هم يقولون به ويقرونه والجواب لا إذا (فَاصْبِرْ) يا رسولنا (لِحُكْمِ (٦) رَبِّكَ) فيك وفيهم وامض في دعوتك ولا يثني عزمك تكذيبهم ولا عنادهم (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) يونس بن متى أي في الضجر وعدم الصبر. (إِذْ نادى وَهُوَ (٧) مَكْظُومٌ) أي مملوء غما فقال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وقوله (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) أي لو لا أن أدركته رحمة الله تعالى حيث ألهمه الله التوبة ووفقه لها لنبذ أي لطرح بالفضاء وهو مذموم لكن لما تاب الله عليه طرح على ساحل البحر وهو غير مذموم بل محمود (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) أي اصطفاه مرة ثانية بعد الأولى (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي الكاملي الصلاح من الأنبياء والمرسلين ، ومعنى اجتباه مرة ثانية لأن الاجتباء الأول إذ كان رسولا في أهل نينوي وغاضبوه فتركهم ضجرا منهم فعوقب وبعد العقاب والعتاب اجتباه مرة أخرى وأرسله إلى أهل بلاده بعد ذلك الانقطاع قال تعالى من سورة اليقطين فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين. وقوله تعالى (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي وان يكاد الذين كفروا ليصرعونك من شدة النظر إليك وكلهم غيظ وحنق عليك بأبصارهم (لَمَّا

__________________

(١) وجائز أن يكون المراد من الحديث الإخبار عن البعث والجزاء مما تضمنه قوله يوم يكشف عن ساق الخ وجائز أن يكون القرآن كما في التفسير وقيل فيه حديث لما فيه من الأخبار عن الله وعن الأمم والجنة والنار.

(٢) (وَأُمْلِي) مضارع أملى إذا أمهل وأنظر وأخر مشتق من الملا مقصورا وهو الحين والوقت ومنه الملوان الليل والنهار فأملى بمعنى طول في الزمان.

(٣) (أَمْ) بمعنى بل للإضراب الانتقالي من حجة إلى أخرى ومن دليل إلى آخر.

(٤) إضراب آخر كالأول وفي الكلام حذف تقديره أم عندهم علم الغيب كقوله تعالى (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) من سورة النجم.

(٥) الفاء للتفريع.

(٦) المراد بحكم الرب تعالى عنا أمره وهو ما حمله رسوله من حمل الرسالة وتبليغها والاضطلاع بأعباء الرسالة.

(٧) المكظوم المحبوس المسدود عليه يقال كظم الباب إذا أغلقه وكظم النهر إذا سده ومنه كظم الغيظ وهو حبسه في النفس وعدم إظهاره بقول أو فعل.

٤١٨

سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي القرآن نقرأه عليهم. (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) حسدا لك ، وصرفا للناس عنك ، (وَما هُوَ) (١) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي يذكر به الله تعالى الإنس والجن فليس هو بمجنون كما يقول المكذبون المفتونون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ رد الأمور إلى الله إذا استعصى حلها فالله كفيل بذلك.

٢ ـ لا يصح أخذ أجرة على تبليغ الدعوة.

٣ ـ وجوب الصبر على الدعوة مهما كانت الصعاب فلا تترك لأذى يصيب الداعي.

٤ ـ بيان حال المشركين مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما كانوا يضمرونه له من البغض والحسد وما يرمونه به من الاتهامات الباطلة كالجنون والسحر والكذب.

سورة الحاقة

مكية وآياتها ثنتان وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢))

__________________

(١) جائز أن يكون الضمير وما هو عائد إلى القرآن وما القرآن إلا ذكر للعالمين الإنس والجن أي ليس هو بكلام مجنون ، وجائز أن يكون الضمير عائد إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي قالوا فيه إنه مجنون ويكون الذكر بمعنى التذكير بالله والجزاء إذ هذا من فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤١٩

شرح الكلمات :

(الْحَاقَّةُ) (١) : أي الساعة الواجبة الوقوع وهي القيامة.

(بِالْقارِعَةِ) : أم بالقيامة لأنها تقرع القلوب بالخوف والهول.

(فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) : أي بطغيانهم وعتوهم عن أمر ربهم فأخذتهم صيحة طاغية أيضا.

(بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) : أي ذات صوت لشدة عصوفها عاتية على خزانها في الهبوب.

(حُسُوماً) : أي متتابعات الهبوب بلا فاصل كتتابع الكي القاطع للداء.

(كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) : أي أصول نخل ساقطة فارغة ليس في جوفها شيء.

(وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) : أي أهلها وهي قرى لوط بالفعلات ذات الخطأ.

(أَخْذَةً رابِيَةً) : أي زائدة في الشدة على غيرها.

(لَمَّا طَغَى الْماءُ) : أي علا فوق كل شيء من الجبال وغيرها.

(حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) : أي السفينة التي صنعها نوح ونجا بها هو ومن معه من المؤمنين.

(وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) : أي وتحفظها أذن واعية أي حافظة لما تسمع.

معنى الآيات :

قوله تعالى (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) (٢) أي أي شيء هي (٣)؟ (وَما أَدْراكَ (٤) مَا الْحَاقَّةُ) أي أي شيء أعلمك بها ، والمراد بها القيامة لأنها حاقة المجيى واجبته لا محالة. وقوله تعالى (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ (٥) بِالْقارِعَةِ) أي كذبت ثمود قوم صالح وعاد قوم هود بالقارعة أي بالقيامة. فهم ككفار قريش مكذبون بالبعث والجزاء. (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أي بطغيانهم وعتوهم عن أمر ربهم

__________________

(١) هو اسم للسورة. روى أحمد أن عمر رضي الله عنه قال خرجت يوما بمكة أتعرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد الحرام فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت هذا والله شاعر (أي في خاطري) فقرأ (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون) قلت : في خاطري كاهن. فقرأ (ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين) إلى آخر السورة فوقع في قلبي كل موقع. وسماها بعضهم (السلسلة) وبعضهم (الداعية).

(٢) الحاقة اسم فاعل من حق الشيء فهو حاق إذا ثبت وقوعه ، والظاهر أنها وصف لموصوف محذوف أي الساعة الحاقة أو الواقعة الحاقة ، وما في التفسير واضح وأولى.

(٣) ما اسم استفهام مستعمل في التهويل والتعظيم والمعنى الحاقة أمر عظيم لا يدرك كنهه والحاقة مبتدأ وما مبتدأ ثان والحاقة خبر المبتدأ الثاني والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول وجملة وما أدراك ما الحاقة معترضة بين جملة الحاقة وكذبت ثمود.

(٤) روي عن ابن عباس وسفيان بن عيينة. كل ما ورد في القرآن بلفظ وما أدراك بصيغة الماضي فقد أدراه أي أعلمه به ، وكل ما ورد بصيغة المضارع وما يدريك فقد طوى عنه ولم يعلمه به فالأول (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) والثاني (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) ..

(٥) كذبت ثمود كلام مستأنف بين فيه من كذبوا بالحاقة وهي الفارقة وسميت بالقارعة من قولهم (قوارع الدهر) أي أهواله وشدائده فهي تقرع القلوب.

٤٢٠