أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٩

* (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أي إليه تصير أمور عباده بعد الموت ويحكم فيها ويجزيهم بها.

* (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ (١) وَأَبْكى) أي أفرح من شاء وأحزن فضحك الفرح وبكى الحزن. أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار. زيادة على من أفرح في الدنيا ومن أحزن.

* (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) أمات عند نهاية أجل العبد وأحياه في قبره ويوم نشره وحشره وأحيا بالإيمان وأمات بالكفر وأمات بالقحط وأحيا بالمطر.

* (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ) أي الصنفين (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) من سائر الحيوانات

(مِنْ نُطْفَةٍ) أي قطرة المنى (إِذا تُمْنى) (٢) أى تصب في الأرحام.

* (وَأَنَّ عَلَيْهِ) تعالى (النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي هو الذي يقوم بها فيحيي الخلائق بعد موتهم يوم القيامة.

* (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) أي أغنى بعض الناس فسد حاجتهم وكفاهم مؤونتهم ، وأقنى آخرين أعطاهم مالا كثيرا فاقتنوه قنية.

* (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) (٣) ذلك الكوكب الذي يطلع خلف الجوزاء فالله خالقه ومالكه ومسخره وقد عبده الجاهلون واتخذوه ربا وإلها وهو مربوب مألوه.

* (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ (٤) عاداً الْأُولى) قوم هود أرسل عليهم ريحا صرصرا ما أتت على شيء إلا جعلته كالرميم ، عاد تلك الأمة القائلة من أشد منا قوة دمر الله عليهم فأهلكهم أجمعين.

* (وَثَمُودَ فَما (٥) أَبْقى) أي وأهلك ثمود قوم صالح بالحجر فما أبقى منهم أحدا.

* (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) عاد وثمود أهلكهم (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ) من غيرهم (وَأَطْغى).

* (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) أي (٦) قرى قوم لوط سدوم وعموره أهلكهم فرفع تلك القرى الى عنان السماء ثم أهوى بها الى الأرض وأرسل عليهم حجارة من طين من سجيل فغشى تلك المدن من العذاب الأليم (ما غَشَّى) (٧) عذاب يعجز الوصف عنه هذا هو الله رب العالمين الذي اتخذ الجهال له أندادا فعبدوها معه.

__________________

(١) قيل : لا يوجد في المخلوقات من يضحك ويبكي إلا الإنسان وقيل إن القرد يضحك ولا يبكي ، وإن البعير يبكي ولا يضحك. والله أعلم.

(٢) قيل : سميت منى : منى لأنها تمنى فيها الدماء أيام التشريق وهو كذلك.

(٣) قال القرطبي : اختلف فيمن كان يعبد كوكب الشعرى فقيل : كانت تعبده حمير وخزاعة وقيل : إن أول من عبده أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل أمهاته ، ولذا كان المشركون يسمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن أبي كبشة لما خالفهم ودعا إلى التوحيد.

(٤) قرأ الجمهور (عاداً) بإظهار تنوين عاد ، وقرأ ورش (عادا الأولى) بحذف همزة الأولى بعد نقل حركتها إلى اللام المعرفة وادغام نون التنوين من عاد في لام (لولى).

(٥) قرأ الجمهور وثمودا بالتنوين وقرأ حفص (وَثَمُودَ) وقرأ حفص وحمزة بدون تنوين على إرادة اسم القبيلة.

(٦) نصب المؤتفكة ، على الاشتغال وأهوى. أي جعلها هاوية والإهواء : الإسقاط وجيئ بصلتها من مادة وصيغة الفعل الذي أسند إليها لأجل التهويل ، والذي غشاها : هو مطر من الحجارة المحماة.

(٧) (ما) موصول فاعل (غشاها).

٢٠١

هذا هو الله الإله الحق الذي اتخذ الناس من دونه آلهة لا تعلم ولا تحكم ولا تقدر.

هذا هو الله العزيز المنتقم لأوليائه من أعدائه يشقي عبدا عاداه ويسعد آخر والاه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير ربوبية الله تعالى وإثبات ألوهيته بالبراهين والحجج التى لا ترد بحال.

٢ ـ تقرير عدالة الله تعالى في حكمه وقضائه.

٣ ـ مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته.

٤ ـ تقرير حقيقة علمية وهي أن العمل الذي يزكى النفس أو يدنسها هو ذاك الذي يباشره المرء بنفسه وباختياره وقصده ونيته.

٥ ـ تحذير الظلمة والطغاة من أهل الكفر والشرك من أن يصيبهم ما أصاب غيرهم من الدّمار الخسران.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

شرح الكلمات :

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ) : أي فبأيّ أنعم ربك عليك وعلى غيرك أيها الإنسان.

(تَتَمارى) : أي تتشكك أو تكذب.

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) : أي هذا النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النذر الأولى أي رسول مثل الرسل الأولى الذين ارسلوا الى أقوامهم.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) : أي قربت القيامة ووصفت بالقرب لقربها فعلا.

(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) : أي ليس لها أي للقيامة من دون الله نفس كاشفة لها مظهرة لوقتها ، إذ لا يجليها لوقتها الا الله سبحانه وتعالى.

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) : أي القرآن.

٢٠٢

(تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ) : أي تعجبون تكذيبا به ، وتضحكون سخرية منه كذلك.

(وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) : أي لاهون مشتغلون بالباطل من القول كالغناء والعمل كعبادة الأصنام والأوثان.

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ) : أي الذي خلقكم ورزقكم وكلأكم ولا تسجدوا للأصنام.

(وَاعْبُدُوا) : أي وذلوا لله واخضعوا له تعظيما ومحبة ورهبة فإنه إلهكم الحق الذي لا إله لكم غيره.

معنى الآيات :

بعد ذلك العرض العظيم لمظاهر القدرة والعلم والحكمة وكلها مقتضية للربوبية والألوهية لله سبحانه وتعالى خاطب الله تعالى الإنسان فقال (فَبِأَيِّ آلاءِ (١) رَبِّكَ) أي بعد الذي عرضنا عليك في هذه السورة من مظاهر النعم والنقم وكلها في الباطن نعم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ (٢) تَتَمارى) أي تتشكك أو تكذب ، وكلها ثابتة أمامك لا تقدر على إنكارها واخفائها بحال من الأحوال.

ثم قال تعالى : (هذا نَذِيرٌ (٣) مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) يشير الى أحد أمرين إمّا إلى ما في هذه السورة والقرآن كله من نذر أو إلى النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلا الأمرين حق القرآن نذير ومحمد نذير من النذر الأولى التى سبقته وهم الرسل ، أو ما خوّفت به الرسل أقوامها من عذاب الله تعالى العاجل في الدنيا والآجل في الآخرة. ألا فاحذروا أيها الناس عاقبة إعراضكم.

وقوله تعالى : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) يخبر تعالى أن القيامة قد آن أوانها وحضرت ساعتها إنها لقريبة جدا. (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ) نفس (كاشِفَةٌ) تكشف الستار عنها وتظهرها بل تبقى مستورة لحكمة إلهية حتى تفاجأ بها البشرية وويل يومئذ للمكذبين.

وقوله تعالى توبيخا للمشركين والمكذبين : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) أي غفلتم كل هذه الغفلة فتعجبون من هذا الحديث الإلهي والكلام الرباني وهو القرآن. (وَتَضْحَكُونَ) كأن قلوبكم أصابها الموات ، (وَلا تَبْكُونَ) على أنفسكم وقد بعتموها للشيطان ليقدمها إلى نار جهنم حطبا ،

__________________

(١) فبأي نعم ربك تشك أيها الإنسان المكذّب ، والآلاء : النعم ، واحدها إلىّ وألىّ وإلي وألو كدلو.

(٢) التماري : التشكك ، وهو تفاعل من المرية ، ولا يصح أن يكون المراد بالمخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يشك أبدا ، وإن قاله بعضهم ، ورده إمام المفسرين ابن جرير الطبري.

(٣) حقيقة النذير : أنه المخبر عن حدث مضر بالمخبر ، وجمعه : نذر ويطلق النذير على الإنذار فهو إذا اسم مصدر ، ومنه : (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي : إنذاري لكم.

٢٠٣

(وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) (١) ساهون لاهون تغنون وتلعبون. ويلكم أنقذوا أنفسكم (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) ، (٢) فإنه لا نجاة لكم من العذاب الأليم إلا بالاطراح بين يديه اسلاما له وخضوعا. تعبدونه بتوحيده في عبادته ، وتسلمون له قلوبكم ووجوهكم فلا يكون لكم غير الله مألوها ومعبودا تعظمونه وتحبونه وتتقربون إليه بفعل محابه وترك مكاره.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان قرب الساعة وخفاء ساعتها عن كل خلق الله حتى تأتى بغتة.

٢ ـ ذمّ الضحك مع الانغماس في الشهوات.

٣ ـ الترغيب في البكاء من خشية الله.

٤ ـ كراهية الغناء واللهو واللعب.

٥ ـ مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية لمن يتلوها ولمن يستمع لها ، وهي من عزائم السجدات في القرآن الكريم ، ومن خصائص هذه السجدة أن المشركين سجدوها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حول الكعبة كما في الصحيح.

سورة القمر

مكية

وآياتها خمس وخمسون آية

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ

__________________

(١) السمود : الغناء بلغة حمير والمعنى : فرحون بأنفسكم تتغنون بالأغاني لقلة اكتراثكم بما تسمعون من القرآن ، وفعله : سمد يسمد والأمر : اسمدلنا أي غن لنا.

(٢) جائز أن يراد بالسجود : الصلاة والعبادة والتوحيد إذ كانت الصلاة يومئذ قد فرضت ، وجائز أن يكون المراد بالسجود الخضوع لله والإذعان له بالإيمان والتوحيد بعد ترك الشرك والكفر ، وصح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قرأ هذه السورة سجد فسجد المشركون بسجوده متأثرين بما أسمعهم الشيطان من مدح آلهتهم بقوله : تلك الغرانيق العلا .. وإن شفاعتهن لترتجى.

٢٠٤

(٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨))

شرح الكلمات :

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) : أي قربت القيامة ، وانفلق القمر فلقتين على جبل أبي قبيس.

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) : أي وإن ير كفار قريش آية أي معجزة يعرضوا عنها ولا يلتفتوا إليها.

(وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) : أي هذا سحر مستمر أي قوى من المرّة أو دائم غير منقطع.

(وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) : أي وكل من الخير أو الشر مستقر باهله في الجنة أو في النار.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) : أي من أنباء الأمم السالفة مما قصه القرآن.

(ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) : أي جاءهم من الأخبار ما فيه ما يزجرهم عن التكذيب والكفر.

(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) : أي الذي جاءهم من الأنباء هو حكمة بالغة أي تامة.

(فَما تُغْنِ النُّذُرُ) : أي عن قوم كذبوا واتبعوا أهواءهم لا تغن شيئا.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) : أي لذلك فأعرض عنهم.

(يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) : أي يدع الداع إلى موقف القيامة.

(يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) : أي من القبور.

(مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) : أي مسرعين إلى نداء الداع.

(هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) : أي صعب شديد.

٢٠٥

معنى الآيات :

قوله تعالى (اقْتَرَبَتِ (١) السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) يخبر تعالى أن ساعة نهاية الدنيا وفنائها وقيام القيامة قد اقتربت ، وأن القمر قد انشق معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علامة من علامات الساعة ، وانشقاق القمر كان بمكة حيث طالبت قريش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعجزة تدل على نبوته فسأل الله تعالى انشقاق القمر فانشق فلقتين على جبل أبى قبيس فلقة فوق الجبل وفلقة وراءه فشاهدته قريش ولم تؤمن وهو معنى قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ (٢) مُسْتَمِرٌّ) أي هذا سحر قوى شديد. قال تعالى (وَكَذَّبُوا) أي رسولنا وما جاءهم به من التوحيد والوحى (وَاتَّبَعُوا) في هذا التكذيب (أَهْواءَهُمْ) لا عقولهم ولا ما جاء به رسولهم. وقوله تعالى (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) (٣) أي وكل أمر من خير أو شر مستقر بصاحبه إما في الجنة أو النار. وقوله تعالى (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) أي من أخبار الأمم السابقة وكيف أهلكها الله بتكذيبها رسلها وإصرارها على الشرك والكفر ، وذلك في القرآن الكريم (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) (٤) أي جاء من الأخبار الواعظة المذكرة من قصص الأنبياء مع أممهم ما فيه زاجر عن التكذيب والمعاصى هو (٥) (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) تامة ، والحكمة القول الذي يمنع صاحبه من التردى والهلاك بصرفه عن أسباب ذلك.

وقوله تعالى (فَما تُغْنِ (٦) النُّذُرُ) أي عن قوم كذبوا بالحق لما جاءهم واتبعوا أهواءهم ولم يتبعوا هدى ربهم ولا عقولهم. إذا (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) يا رسولنا واتركهم إلى حكم الله فيهم. وقوله : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ) (٧) (نُكُرٍ) أي اذكر يا رسولنا يوم يدعو الداع إلى شيء نكر وهو موقف القيامة (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) وكل أجسامهم وانما ذكرت الأبصار لأنها أدل على الخشوع من سائر الاعضاء (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي القبور جمع جدث وهو القبر (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) في كثرتهم وتفرقهم وانتشارهم (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) أي مسرعين الى داع الله الى ساحة الموقف وفصل

__________________

(١) إنها بالنسبة لما مضى من أيام الدنيا لقريبة جدا إذ أكثر عمر الدنيا قد انقضى ، خطب يوما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا مثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى) وما نرى من الشمس إلا يسيرا.

(٢) (مُسْتَمِرٌّ) : يكون بمعنى ذاهب من قولهم مرّ الشيء واستمر : إذا ذهب ويكون بمعنى محكم قوي شديد مأخوذ من المرة وهي القوة ، وكونه مستمرا نافذا أولى بالمعنى.

(٣) وجائز أن يكون (مُسْتَقِرٌّ) في أم الكتاب : كائن لا محالة أو أن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى استقرار بانتصاره على الباطل وأهله فيكون في الخبر بشرى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) أصل : (مُزْدَجَرٌ) مزتجر من زجرته فانزجر فقلبت التاء دالا لتقارب مخرجي التاء والدال ، أي : جاءهم من الأخبار الواعظة ما يزجرهم عن الكفر ، لو قبلوه واتعظوا به.

(٥) أي : جاءهم من مواعظ القرآن وزواجره ما هو حكمة بالغة إلى المقصود مفيدة لصاحبها.

(٦) جائز أن تكون (فَما) نافية أي : لا تغني النذر شيئا عمن تلك حاله ، وجائز أن تكون استفهامية أي : أي شيء تغني النذر مع الإصرار على الكفر والتوغل في الباطل ، والاستفهام للنفي أيضا.

(٧) (نُكُرٍ) ما تنكره النفوس وتكرهه ، ونكر : وزنه نادر نحو أنف : بمعنى جديد.

٢٠٦

القضاء. يومئذ (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) وهو كذلك عسير شديد العسر ولكن على المؤمنين يسير غير عسير. كما قال تعالى فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير مفهومه أنه على المؤمنين يسير.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ ذكر بعض علامات الساعة. كبعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانشقاق القمر معجزة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ التنديد باتباع الهوى ، والتحذير منه فإنه مهلك.

٤ ـ عدم جدوى النذر لمن يتنكر لعقلة ويتبع هواه.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧))

شرح الكلمات :

(فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ) : أي كذبوا نوحا عبد الله ورسوله وقالوا هو مجنون.

(وَازْدُجِرَ) : أي انتهروه وزجروه بالسب والشتم.

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) : أي فسأل ربه قائلا رب إني مغلوب فانتصر أي لي.

(بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) : أي منصب انصبابا شديدا.

(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) : أي تنبع نبعا.

٢٠٧

(فَالْتَقَى الْماءُ) : أي ماء السماء وماء الأرض.

(عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) : أي في الأزل ليغرقوا به فيهلكوا.

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) : أي حملنا نوحا على سفينة ذات ألواح ودسر وهو ما يدسر به الألواح من مسامير وغيرها. واحد الدسر دسار ككتاب.

(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) : أي بمرأىّ منا أي محفوظة بحفظنا لها.

(جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) : أي أغرقناهم انتصارا لمن كان كفر وهو نوح كفروا نبوته وكماله

(وَلَقَدْ تَرَكْناها) : أي إغراقنا لهم على الصورة التى تمت عليها.

(آيَةً) : أي لمن يعتبر بها حيث شاع خبرها واستمر الى اليوم.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) : أي معتبر ومتعظ بها.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) : أي ألم يكن واقعا موقعه.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) : أي سهلناه للحفظ ، وهيأناه للتذكير.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) : أي فهل من متعظ به حافظ له متذكر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) يخبر تعالى مسليا رسوله مخوفا قومه فيقول (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل قريش قوم نوح وهو أول رسول أرسل الى قوم مشركين (فَكَذَّبُوا (١) عَبْدَنا) رسولنا نوحا كذبوه في دعوة التوحيد كذبوه في دعوة الرسالة ، ولم يكتفوا بتكذيبه فقالوا (٢) مجنون أي هو مجنون (وَازْدُجِرَ) أي انتهروه وزجروه ببذيء القول وسيّئ الفعل (فَدَعا) أي نوح (رَبَّهُ) قائلا (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) لي يا ربي ، فاستجاب الله تعالى له ففتح أبواب السماء بماء منهمر (٣) أي منصب انصبابا شديدا ، (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) نابعة من الأرض (فَالْتَقَى (٤) الْماءُ) النازل من السماء والنابع من الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي قدره الله في الأزل وقضى بأن يهلكهم بماء الطوفان وقوله تعالى (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) والدسر جمع واحده دسار ككتاب وكتب وهو ما تدسر به الألواح من مسامير وغيرها وقوله تعالى (تَجْرِي) وهي حاملة لعوالم شتى (بِأَعْيُنِنا) أي بمرأىّ منّا محفوظة بحفظنا لها وقوله (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي أغرقناهم انتصارا لعبدنا نوح وجزاء له على صبره مع

__________________

(١) أخبر تعالى أن قوم نوح كذبوا الرسل. وكان في الكلام اجمال ففصّله بقوله : (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) أي : نوحا ، وقالوا مجنون ، وفيه إشارة إلى أن المكذب برسول يعتبر مكذبا بكل الرسل.

(٢) (مَجْنُونٌ) خبر لمبتدأ محذوف أي : هو مجنون. والجملة مقولة القول.

(٣) (مُنْهَمِرٍ) أي : كثير والهمر : الصب ، وكان انهمار الماء بدون سحاب وقيل اسمر أربعين يوما.

(٤) التقى الماءان النازل من السماء والنابع من الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي : على مقدار معيّن لم يزد أحدهما على الآخر.

٢٠٨

طول الزمن لقد أقام فيهم ألف سنة الا خمسين عاما. وقوله (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) أي تلك الفعلة التي فعلنا بهم وهي إغراقنا لهم تركناها آية للاعتبار لمن يعتبر بها حيث شاع خبرها واستمر إلى اليوم.

وقوله تعالى (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١) أي معتبر ومتعظ بها. وقوله (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٢) ألم يكن واقعا موقعه؟ بلى. وقوله تعالى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي سهلناه للحفظ وهيأناه للتذكر. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ؛ أي فهل من متعظ به حافظ له والاستفهام للأمر أي فاتعظوا به واحفظوه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ تحذير قريش من الاستمرار في الكفر والمعاندة.

٣ ـ تقرير حادثة الطوفان والتي لا ينكرها الا سفيه لم يحترم عقله.

٤ ـ فضل الله على هذه الأمة بتسهيل القرآن للحفظ والتذكر.

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢))

شرح الكلمات :

(كَذَّبَتْ عادٌ) : أي نبيها هودا عليه‌السلام فلم تؤمن به ولا بما جاء به.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٣) : أي فكيف كان عذابي الذي أنزلته بهم وإنذارى لهم كان أشد ما يكون.

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) : أي ريحا عاتية ذات صوت شديد.

__________________

(١) أصل مدّكر متذكر أبدلت التاء ذالا كما أبدلت الذال دالا وأدغمت الدالان الأولى في الثانية فصارت مدكر أي معتبر متعظ.

(٢) ونذر : تقدم أنه اسم مصدر كالإنذار.

(٣) قال القرطبي : وقعت نذر في هذه السورة في ستة أماكن محذوفة الياء في جميع المصاحف ، وقرأها يعقوب مثبتة في الحالين أي : في الوصل والوقف ، وقرأها ورش في الوصل لا غير. وحذفها الباقون ولا خلاف في حذف النون في قوله : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) والواو في قوله : (يدع) وأما الياء من (الداع) أثبتها ورش وأبو عمرو في الوصل وحذفها الباقون.

٢٠٩

(فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) : أي في يوم نحس أي شؤم مستمر دائم الشؤم قويّة حتى هلكوا.

(تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ) (١) : أي تقتلعهم من الحفر التى اندسوا فيها وتصرعهم فتدق رقابهم.

(نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) : منفصلة أجسامهم كأنهم والحال كذلك أعجاز أي أصول نخل منقلع.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) : أي سهلنا القرآن للحفظ والتذكير والتذكر به.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) : أي تذكروا يا عباد الله بالقرآن فإن منزله سهّله للتذكير.

معنى الآيات :

قوله تعالى (كَذَّبَتْ عادٌ) هذا القصص الثاني في هذه السورة يذكر بإيجاز تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديدا لقومه المكذبين وذكرى للمؤمنين فقال تعالى كذبت عاد أي قوم هود كذبوا رسول الله هودا عليه‌السلام وكفروا بما جاءهم به من التوحيد والشرع وقالوا ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين فأرسل تعالى (عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) ذات صوت شديد (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) (٢) وكان مساء الاربعاء لثمان خلون من شهر شوال (مُسْتَمِرٍّ) بشدة وقوة وشؤم عليهم مدة سبع ليال وثمانية أيام تنزع تلك الريح الناس وقد دخلوا حفرا تحصنوا بها فتنزعهم منها نزعا وتخرجهم فتصرعهم فتدق رقابهم فتنفصل عن أجسادهم فيصيرون والحال هذه لطول أجسامهم (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٣) أي منقلع ساقط على الأرض. وقوله تعالى (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟) هذا الاستفهام للتهويل أي إنه كان كأشد ما يكون العذاب والإنذار. وقوله تعالى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي سهلناه وهيأناه بفضل منا ورحمة للحفظ ولو لا هذا التسهيل ما حفظه أحد ، وهيئناه للتذكر به. فهل من مذكر أي من متذكر والاستفهام للأمر كأنما قال : فاحفظوه وتذكروا به.

__________________

(١) جملة : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) في موضع نصب على الحال من الناس.

(٢) النحس : سوء الحال ، وقد انجرّ إلى المسلمين بواسطة عقائد المجوس التشاؤم بيوم الأربعاء من آخر الشهر ، ولا تشاؤم في الإسلام والنحس كان على الكافرين الذين أهلكهم الله تعالى فلا ينسحب النحس على الناس طوال الحياة.

(٣) (مُنْقَعِرٍ) قال القرطبي : سئل المبرّد عن ألف مسألة من جملتها قيل له : ما الفرق بين قوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) و (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) وقوله : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) و (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)؟ فقال : كل ما ورد عليك من هذا الباب فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيرا أو إلى المعنى تأنيثا. أ. ه.

٢١٠

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عقوبة المكذبين لرسل الله وما نزل بهم من العذاب في الدنيا قبل الآخرة.

٢ ـ بيان أن قوة الانسان مهما كانت أمام قوة الله تعالى هي لا شيء ولا ترد عذاب الله بحال.

٣ ـ بيان تسهيل الله تعالى كتابه للناس ليحفظوه ويذكروا به ، ويعملوا بما جاء فيه ليكملوا ويسعدوا في الحياتين.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢))

شرح الكلمات :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) : أي كذبت قبيلة ثمود وهم قوم صالح بالحجر من الحجاز بالرسل لأن النذر جمع نذير وهو الرسول كما هو هنا.

(فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) : أي كيف نتبع بشرا واحدا منا إنكارا منهم للايمان بصالح عليه‌السلام.

(إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) : أي إنا إذا اتبعناه فيما جاء به لفي ذهاب عن الصواب وجنون.

أألقى عليه الذكر من بيننا : أي لم يوح إليه من بيننا أبدا وإنما هو كذاب أشر.

٢١١

(بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) : أي فيما ادّعى أنه ألقى إليه من الوحي أشرّ بمعنى متكبر.

(سَيَعْلَمُونَ غَداً) : أي في الآخرة.

(مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) : وهو هم المعذبون يوم القيامة بكفرهم وتكذيبهم.

(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) : أي إنا مخرجو الناقة من الصخر ومرسلوها لهم محنة.

(فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) : أي انتظر وراقب ماذا يصنعون وما يصنع بهم ، واصبر على أذاهم.

(وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) : أي ماء بئرهم مقسوم بينهم وبين الناقة فيوم لها ويوم لهم.

(كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) : أي كل نصيب من الماء يحضره قومه المختصون به الناقة أو ثمود.

(فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) : أي فملوا ذلك الشرب وسئموا منه فنادوا صاحبهم وهو قدار بن سالف ليقتلها فتعاطى السيف وتناوله فعقر الناقة أي قتلها.

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) : هي صيحة جبريل صباح السبت فهلكوا.

(فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) : أي صاروا بعد هلاكهم وتمزق أجسادهم كهشيم المحتظر وهو الرجل يجعل في حظيرة غنمه العشب اليابس والعيدان الرقيقة يحظر بها لغنمه يحفظها من البرد والذئاب.

معنى الآيات :

قوله تعالى (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) هذا القصص الموجز الثالث وهو قصص ثمود قوم صالح فقال تعالى في بيانه (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) أي التى أنذرها نبيها صالح وهي ألوان العذاب كما كذبته فيما جاء به من الرسالة (فَقالُوا) في تكذيبهم له عليه‌السلام : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) (١) أي كيف يتم ذلك منا ويقع؟ عجب هذا (إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) إنا إذا اتبعناه وهو واحد لا غير ومنا أيضا فهو كغيره من أفراد القبيلة لفى بعد عن الصواب وذهاب عن كل رشد ، وسعر (٢) أي وجنون أيضا ،

__________________

(١) أي : أنتبع فردا ونترك جماعة؟ قرأ الجمهور : (بَشَراً) منصوبا على الاشتغال ، ورفعه بعضهم على الابتداء ، وواحد : نعت يتبع المنعوت في النصب والرفع.

(٢) السعر : الجنون ، والمسعور : المجنون قال الشاعر :

تخال بها سعرا إذا السّفر هزها

ذميل وايقاع من السير متعب

يصف ناقته بالسعر لشدة نشاطها.

٢١٢

وقالوا مستنكرين متعجبين (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أي متكبر.

قال تعالى ردا عليهم (سَيَعْلَمُونَ غَداً) يوم ينزل بهم العذاب ويوم القيامة أيضا (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) أصالح أم هم ، لن يكونوا إلا هم فهم الذين أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين.

وقوله تعالى : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) أي كما طلبوا إذ قالوا لصالح إن كنت رسول الله حقا فسله يخرج لنا من هذه الصخرة في هذا الجبل ناقة فقام يصلى ويدعو وما زال يصلى ويدعو حتى تمخض (١) الجبل وخرجت منه ناقة عشراء آية في القوة والجمال ، وقال لهم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم أليم. ومعنى فتنة لهم أي امتحانا واختبارا لهم هل يؤمنون أو يكفرون ، ولذا قال تعالى لصالح (فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) (٢) أي انظر إليهم وراقبهم من بعد واصطبر على أذاهم. (وَنَبِّئْهُمْ) أي أخبرهم بأمرنا (أَنَّ الْماءَ) ماء بئرهم الذي يشربون منه (قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) (٣) أي مقسوم بينهم للناقة يوم وللقبيلة يوم ، وقوله (كُلُّ شِرْبٍ (٤) مُحْتَضَرٌ) أي كل نصيب خاص بصاحبه يحضره دون غيره. وما تشربه الناقة من الماء نحيله إلى لبن خالص وتقف عند كل باب من أبواب المدينة ليحلبوا من لبنها وطالت المدة وملوا اللبن والسعادة (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) غدار بن سالف عاقر الناقة (فَتَعاطى) (٥) السيف وتناوله وعقرها بضرب رجليها بالسيف ثم ذبحها. وقوله تعالى (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي) الذي أنزلته بهم بعد عقر الناقة كيف كان إنذارى لهم أما العذاب فقد كان أليما وأما الإنذار فقد كان صادقا ، والويل للمكذبين. وهذا بيانه قال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) هي صيحة جبريل عليه‌السلام فانخلعت لها قلوبهم فاصبحوا في ديارهم جاثمين (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) (٦) أي ممزقين محطمين مبعثرين هنا وهنا كحطب وخشب وعشب الحظائر التي تجعل للأغنام.

__________________

(١) قال القرطبي : روي أن صالحا صلى ركعتين ودعا فانصدعت الصخرة التي عيّنوها عن سنامها ، فخرجت ناقة عشراء وبراء.

(٢) (وَاصْطَبِرْ) أصل الكلمة واصتبر قلبت التاء طاء موافقة للصاد في الإطباق.

(٣) روي عن جابر قال : لما نزلنا الحجر في مغزى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبوك قال : (أيها الناس لا تسألوا في هذه الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا نبيّهم أن يبعث الله لهم ناقة فبعث الله عزوجل إليهم الناقة فكانت ترد من ذلك الفج فتشرب ماءهم يوم وردها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون يوم غبها).

(٤) الشرب بكسر الشين : الحظ من الماء ، ومعنى محتضر : أي يحضره من هو له دون غيره إذ هو من الحضور خلاف الغياب.

(٥) (فَتَعاطى) مضارع عاطاه معاطاة وهو مشتق من عطا يعطو : إذا تناول ما يطلبه من شيء كأنهم كانوا مترددين في عقرها كل واحد يريد إعطاء غيره آلة العقر حتى أخذها غدار وعقرها.

(٦) المحتظر : اسم فاعل : الرجل الذي يتخذ الحظائر لغنمه من الحطب والعيدان وأغصان الشجر.

٢١٣

وقوله تعالى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يدعو الله تعالى هذه الأمة الى كتابه قراءة وحفظا وتذكرا فإنه مصدر كمالهم وسعادتهم لا سيما وقد سهله وهيأه لذلك. ولا يهلك على الله الا هالك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله في إهلاك المكذبين.

٢ ـ بيان أن الآيات لا تستلزم الإيمان والا فآية صالح من أعظم الآيات ولم تؤمن بها قوم ثمود.

٣ ـ أشقى أمة الإسلام عقبة بن أبي معيط الذي وضع سلى الجزور على ظهر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلى حول الكعبة ، وعاقر ناقة صالح غدار بن سالف كما جاء في الحديث.

٤ ـ دعوة الله الى حفظ القرآن والتذكير به فإنه مصدر الإلهام والكمال والإسعاد.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢))

شرح الكلمات :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) : كذبت قوم لوط بالنذر التى أنذرهم بها وخوفهم منها لوط عليه‌السلام.

٢١٤

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) : أي ريحا ترميهم بالحصباء وهي الحجارة الصغيرة فهلكوا.

(إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) : أي بنتاه وهو معهم نجاهم الله تعالى من العذاب حيث غادروا البلاد قبل نزول العذاب بها.

(نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) : أي إنعاما منا عليهم ورحمة منا بهم.

(كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) : أي مثل هذا الجزاء بالنجاة من الهلاك نجزى من شكرنا بالإيمان والطاعة.

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا) : أنذرهم لوط أي خوفهم أخذتنا إياهم بالعذاب.

(فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) : أي فتجادلوا وكذبوا بالنذر التي أنذرهم بها وخوفهم منها.

(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) (١) : أي أن يخلى بينهم وبين ضيفه وهم ملائكة ليخبثوا بهم.

(فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) : أي ضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم فكانت كباقى وجوههم.

(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) : أي نزل بهم بكرة صباحا عذاب مستقر لا يفارقهم أبدا هلكوا به في الدنيا ويصحبهم في البرزخ ويلازمهم في الآخرة.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) : أي سهلناه للحفظ والتذكر به والعمل بما فيه.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) : أي من متذكر فيعمل بما فيه فينجو من النار ويسعد في الجنة.

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) : أي قوم فرعون الإنذارات على لسان موسى وهرون عليهما‌السلام.

(كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) : أي فلم يؤمنوا بل كذبوا بآياتنا التسع التى آتيناها موسى.

(فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) : أي فأخذناهم بالعذاب وهو الغرق أخذ قوى مقتدر على كل شيء لا يعجزه شيء.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر موجز لقصص عدد من الأمم السابقة تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) ليخبثوا بهم ، أي : بإتيانهم الفاحشة ، في القاموس : الخبث : الزنا ، وخبث ككرم : إذا زنى وخبثت المرأة : إذا زنت فهي خبيثة ، والزاني : خبيث.

٢١٥

وتهديدا للمشركين المصرين على الشرك بالله والتكذيب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانذارا لأهل الشرك والمعاصى في كل زمان ومكان فقال تعالى (كَذَّبَتْ) (١) (قَوْمُ لُوطٍ) وهم أهل قرى سدوم (٢) وعمورة كذبوا رسولهم لوطا بن أخى إبراهيم عليه‌السلام هاران. كذبوا (بِالنُّذُرِ) وهى الآيات التى أنذرهم لوط بها وخوفهم من عواقبها.

وقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) (٣) أي لما كذبوا بالنذر وأصروا على الكفر وإتيان الفاحشة ارسلنا عليهم حاصبا ريحا تحمل الحصباء الحجارة الصغيرة فأهلكناهم بعد قلب البلاد بجعل عاليها سافلها. وقوله تعالى (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) (٤) والمراد من آل لوط لوط ومن آمن معه من ابنتيه وغيرهما نجاهم الله تعالى بسحر وهو آخر الليل. وقوله (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي كان انجاؤهم إنعاما منا عليهم ورحمة منا بهم. وقوله تعالى (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أي كهذا الإنجاء أي من العذاب الدنيوي نجزى من شكرنا فآمن بنا وعمل صالحا طاعة لنا وتقربا إلينا وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ (٥) بَطْشَتَنا) أي إننا لم نأخذهم بظلم منا ولا بدون سابق إنذار منا لا ، لا بل أخذناهم بظلمهم ، وبعد تكرر إنذارهم ، فكانوا إذا أنذروا تماروا بما أنذروا فجادلوا فيه مستهزئين مكذبين ، ومن أعظم ظلمهم أنهم راودوا لوطا عن ضيفه من الملائكة وهم في صورة بشر ، فلما راودوه عنهم ليفعلوا الفاحشة ضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم فأصبحت كسائر وجوههم لا حاجب ولا مقلة ولا مكان للعين بالكلية وقولنا لهم فذوقوا عذابي ونذري أي لأولئك الذين راودوا لوطا عن ضيفه ، أما باقى الأمة فهلاكهم كان كما أخبر تعالى عنه بقوله : (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) أي صباحا (عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي دائم لهم ملازم لا يفارقهم ذاقوه في الدنيا موتا وصاحبهم بزرخا ويلازمهم في جهنم لا يفارقهم.

وقلنا لهم (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) حيث كنتم تمارون وتستهزئون وقوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا) (٦) (الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي القرآن للحفظ وسهلناه للفهم والاتعاظ به والتذكر فهل من مدّكر أي فهل من متذكر متعظ معتبر فيقبل على طاعة الله متجنبا معاصيه فينجو ويسعد وقوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَ

__________________

(١) عرّف قوم لوط بالاضافة إليه عليه‌السلام لأنه لم يكن لتلك الأمة اسم عند العرب يعرفون به.

(٢) بعضهم يرويها بالذال المعجمة وبعضهم بالدال المهملة ، وعمورة بعضهم يرويها بلفظ عمورية.

(٣) (إِنَّا أَرْسَلْنا) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن من سمع بتكذيبهم تساءل عما فعل الله بهم.

(٤) لوط داخل في آله بفحوى الخطاب فلا يقال : لم لم يذكر لوط وذكر آله دونه.

(٥) البطشة المرة : أي الأخذة بشدة وعنف وقوة.

(٦) هذه المرة الثالثة ينوه فيها القرآن الكريم ولم يذكر هنا ما ذكر في المرتين قبل من قوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) اكتفاء بما سبق ذكره بعدا عن التكرار غير المجدي.

٢١٦

آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) (١) أي قوم فرعون من القبط وجنده منهم كذلك جاءتهم النذر على لسان موسى وأخيه هارون فكذبوا وأصروا على الكفر والظلم ، وكذبوا بآيات الله كلها و (٢) هى تسع آيات آتاها. الله تعالى موسى أولها العصا وآخرها انفلاق البحر فبسبب ذلك (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ) غالب لا يمانع في مراده مقتدر لا يعجزه شيء فأغرقناهم أجمعين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير ربوبية الله تعالى وألوهيته بالالتزام وتقرير التوحيد وإثبات النبوة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. إذ أفعال الله العظيمة من إرسال الرسل والأخذ للظلمة الكافرين بأشد أنواع العقوبات من أجل أن الناس لم يعبدوا ولم يطيعوا دال على ربوبيته وألوهيته ، وقص هذا القصص من أميّ لم يقرأ ولم يكتب دال على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ بيان جزاء الشاكرين لله تعالى بالإيمان به وطاعته وطاعة رسله.

٣ ـ مشروعية الضيافة وإكرام الضيف ، وفي الحديث : من كان يؤمن (٣) بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه.

٤ ـ تيسير القرآن وتسهيله للحفظ والاتعاظ والاعتبار.

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦))

شرح الكلمات :

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) : أي أكفاركم يا قريش خير من أولئكم الكفار المذكورين من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وملائه؟ فلذا هم

__________________

(١) هذا آخر قصة تضمنتها سورة القمر تذكيرا وإنذارا لكفار قريش لعلهم يؤمنون ويوحدون ، والمراد من آل فرعون : أتباعه من رجال دولته وجنوده وقومه الأقباط ، والشاهد من القصة أنهم كذبوا فأخذوا ، فليعلم هذا المصرون على التكذيب من كفار قريش.

(٢) خمس منها في آية الأعراف : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ ، وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ). والأربع الأخرى هي انقلاب العصا حية ، وخروج يده من جيبه بيضاء كفلقة القمر وسنو القحط والطمس على الأموال وانفلاق البحر ، فهذه التسع آيات التي كذبوا بها كلها.

(٣) في الصحيح.

٢١٧

لا يعذبون.

(أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) : أم لكم يا كفار قريش براءة من العذاب في الزبر أي الكتب الإلهية.

(أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) : أم يقولون أي كفار قريش نحن جميع (١) أي جمع منتصر على محمد وأصحابه.

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) : أي سيهزم جمعهم ويولون الدبر هاربين منهزمين وكذلك كان في بدر.

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) : أي الساعة موعدهم بالعذاب والمراد من الساعة يوم القيامة.

(وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) : أي وعذاب الساعة وأهوالها أي هي أي أعظم بلية وأمر أي أشد مرارة من عذاب الدنيا قطعا.

معنى الآيات :

يقول تعالى مبكتا مشركي قريش مؤنبا إياهم وهم الذين إن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم يقول الله تعالى لهم : (أَكُفَّارُكُمْ) (٢) يا قريش خير من كفار الأمم السابقة كعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون فلذا هم آمنون من العذاب الذي نزل بكفار الآخرين ، (أَمْ لَكُمْ (٣) بَراءَةٌ) من العذاب جاءت في الكتب مسطورة اللهم لا ذا ولا ذاك ما كفاركم بخير من أولئكم ، وليس لكم براءة (فِي الزُّبُرِ) ، وإنما أنتم ممهلون فإما أن تتوبوا وأما أن تؤخذوا.

وقوله تعالى عنهم (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ (٤) جَمِيعٌ) أي جمع منتصر على كل من يحاربنا ويريد أن يفرق جمعنا نعم قالوا هذا ، ولكن (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) ، وقد تم هذا في (٥) بدر بعد سنيات ثلاث أو أربع وهزم جمعهم في بدر وولوا الأدبار هاربين الى مكة.

وقوله تعالى (بَلِ السَّاعَةُ (٦) مَوْعِدُهُمْ) أي الساعة التى ينكرونها ويكذبون بها هي موعد عذابهم

__________________

(١) (جَمِيعٌ) : اسم للجماعة كأنهم قالوا : نحن جماعة منتصرة على من يريد حربنا وذكرت الصفة (مُنْتَصِرٌ) مراعاة للفظ الجميع لا لدلالته على متعدد.

(٢) جائز أن يكون الاستفهام على بابه حيث يطلب منهم أن يفصحوا عن الحقيقة فإن قالوا كفارنا خير قيل لهم ما وجه الخيرية ، وإن قالوا : الكل سواء قيل إذا فسوف تؤخذون بالعذاب كما أخذ الأولون.

(٣) (أَمْ) : للإضراب الانتقالي وما يقدر بعدها من استفهام هو للإنكار أي : بل ما لكم براءة في الزبر من العذاب حتى تكونوا آمنين مع تكذيبكم وكفركم.

(٤) (أَمْ) هي المنقطعة المفسرة ببل للإضراب الانتقالي والاستفهام المقدر بعدها للتوبيخ.

(٥) فكانت هذه آية على أن القرآن كلام الله وأن محمدا رسول الله لتحقق الغيب الذي أخبر به.

(٦) الساعة في القرآن : علم بالغلبة على يوم القيامة والحساب والجزاء.

٢١٨

الحق أما عذاب الدنيا فهو ليس شيء إذا قيس بعذاب الآخرة. (وَالسَّاعَةُ أَدْهى) أي أعظم بلية وأكبر داهية تصيب الإنسان وعذابها ، (وَأَمَرُّ) أي وعذابها أمر من عذاب الدنيا كله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حقيقة يغفل عنها الناس وهي أن الكفر كله واحد ومورد للهلاك.

٢ ـ لا قيمة أبدا لقوة الإنسان إزاء قوة الله تعالى.

٣ ـ صدق القرآن في إخباره بغيب لما يقع ووقع كما أخبر وهو آية انه وحي الله وكلامه.

٤ ـ القيامة موعد لقاء البشرية كافة بحيث لا يتخلف عنه أحد.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) : أي الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي في ضلال في الدنيا ونار مستعرة في الآخرة.

(ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) : أي يوم يسحبون في النار على وجوههم يقال لهم ذوقوا مس سقر جهنم.

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) : أي إنا خلقنا كل شيء بتقدير سابق لخلقنا له وذلك بكتابته في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض فهو يقع كما كتب كمية وصورة وزمانا ومكانا لا يتخلف في شيء من ذلك.

٢١٩

(وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) : أي وما أمرنا إذا أردنا خلق شيء إلا أمرة واحدة فيتم وجوده.

(كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) : الشيء بسرعة كلمح البصر وهو النظر بعجلة.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) : أي ولقد أهلكنا أمثالكم أيها المشركون من الأمم السابقة.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) : أي فاذكروا واتعظوا بهذا حيرا لكم من هذا الإعراض.

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) : أي وكل ما فعله العباد هو مسجل في كتب الحفظة من الملائكة.

(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) : أي وكل صغير وكبير من سائر الأعمال والأحداث في اللوح المحفوظ مستطر مكتوب.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) : ان الذين اتقوا ربهم فلم يشركوا به ولم يفسقوا عن أمره في جنات يشربون من أنهار الماء واللبن والخمر والعسل المصفى.

(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) : أي في مجلس حق لا لغو به ولا تأثيم.

(عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) : عند مليك أي ذي ملك وسلطان مقتدر على ما يشاء وهو الله جل جلاله.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) يخبر تعالى عن حال المجرمين وهم الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك وغشيان الذنوب يخبر تحذيرا وإنذارا بأن المجرمين في ضلال في حياتهم الدنيا ، وسعر ونار مستعرة متأججة يوم القيامة (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) يقال لهم (ذُوقُوا) تهكما بهم (مَسَّ سَقَرَ) (١) تذوقوا العذاب ، وسقر طبق من أطباق جهنم وباب من أبوابها وقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٢) إعلام منه تعالى عن نظام الكون الذي خلقه

__________________

(١) (سَقَرَ) قال عطاء : سقر : الطبق السادس من جهنم ، ومسها : هو ما يجدون من الألم عند الوقوع فيها ، وسقر : اسم من أسماء جهنم لا ينصرف لأنه اسم مؤنث معرفة وكذلك جهنم ولظى.

(٢) روى الترمذي وحسنه وصححه عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القدر فنزلت : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ). وروى مسلم عن طاووس قال : أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : كل شيء بقدر : قال : وسمعت عبد الله بن عمر يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس).

٢٢٠