أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٩

لعلهم يتذكرون فيتعظون فيؤمنون ويتقون. لكن أكثرهم لم يتعظ (فَارْتَقِبْ) ما يحل بهم فإنهم منتظرون ما يكون لك من نجاح أو إخفاق.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضل التقوى وكرامة أهلها والتقوى هى خشية من الله تحمل على طاعة الله بفعل محابه وترك مكارهه.

٢ ـ بيان شيء من نعيم أهل الجنة ترغيبا في العمل لها.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٤ ـ بيان الحكمة من تسهيل فهم القرآن الكريم وهو الاتعاظ المقتضى للتقوى.

سورة الجاثية

مكية وآياتها سبع وثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥))

شرح الكلمات :

(حم) : هذا أحد الحروف الهجائية يكتب هكذا : حم ويقرأ هكذا : حاميم.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ) : أي القرآن.

(مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) : أي من عند الله العزيز الانتقام من أعدائه الحكيم فى تدبيره.

٢١

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي إن فى خلق السموات والأرض.

(لَآياتٍ) : أي لدلالات واضحات على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته وهي موجبات الربوبية والألوهية له وحده دون سواه.

(لِلْمُؤْمِنِينَ) : أي لأنهم بالإيمان أحياء يبصرون ويسمعون فيرون الآيات.

(وَفِي خَلْقِكُمْ) : أي وفى خلقكم أيها الناس وتركيب أعضائكم وسلامة بنيانكم.

وما بث من دابة : أي وما خلق ونشر من أنواع الدواب من بهائم وغيرها.

(آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) : أي علامات على قدرة الله تعالى على البعث الآخر إذ الخالق لهذه العوالم قادر على إعادتها بعد موتها ، ولكن هذه الآيات لا يراها إلا القوم الموقنون فى ايمانهم بربوبية الله والوهيته وصفات الجلال والكمال له.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : أي بمجىء هذا وذهاب ذاك وطول هذا وقصر ذاك على مدى الحياة.

(وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) : أي من مطر ، وسمي المطر رزقا لأنه يسببه.

(فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) : أحيا بالمطر الأرض بعد موت نباتها بالجدب.

(وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) : أي من صبا إلى دبور ، ومن شمال إلى جنوب ، ومن سموم إلى باردة ومن نسيم إلى عاصفة.

(آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) : أي فى اختلاف الليل والنهار وانزال المطر واحياء الأرض وتصريف الرياح دلالات واضحة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته واقتضاء ذلك ربوبية الله والوهيته ، لقوم يعقلون أي يستعملون عقولهم فى إدراك الأشياء واستنتاج النتائج من مقدماتها.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (حم) : الله أعلم بمراده به إذ هو من المتشابه الذى أمرنا أن نؤمن به ونفوض أمر معناه إلى من انزله سبحانه وتعالى. وقد ذكرنا مرات فائدتين لهذه الحروف المقطعة فلتراجع فى أكثر السور المفتتحة بالحروف المقطعة كحم الدخان السورة التى قبل هذه السورة. وقوله

٢٢

تعالى (تَنْزِيلُ (١) الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي تنزيل القرآن كان من عند الله العزيز أي الانتقام من أعدائه الحكيم فى تدبير أمور خلقه وقوله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي في خلقهما وإيجادهما وما فيها من عجائب الصنعة لآيات للمؤمنين (٢) تدلهم على استحقاق ربهم للعبادة دون سواه من سائر خلقه ، وخصّ المؤمنون بهذه الآيات لأنهم أحياء يسمعون ويبصرون ويعقلون فهم إذا نظروا فى السموات والأرض تجلت لهم حقائق أن الخالق لهذه العوالم لن يكون إلا قادرا عليما حكيما عزيزا ومن ثم وجب أن لا يعبد إلا هو ، وكل عبادة لغيره باطلة.

وقوله : (وَفِي خَلْقِكُمْ) أيها الناس أي فى أطوار خلقكم من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى بشر سوى الخلقة معتدل المزاج والتركيب له سمع وبصر ونطق وفكر.

(وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) أي وما يخلق وما يفرق وينشر فى الأرض من أنواع الدواب والبهائم والحيوانات على اختلافها من برية وبحرية (آياتٌ لِقَوْمٍ (٣) يُوقِنُونَ) أي يوقنون فى إيمانهم بالله تعالى وآياته ، كما يوقنون بحقائق الأشياء ، الثابتة لها فالواحد مع الواحد اثنان والموجود ضد المعدوم ، والأبيض خلاف الأسود ، والابن لا بد له من أب ، والعذب خلاف المر فأصحاب هذا اليقين يرون فى خلق الانسان والحيوان آيات دالة على وجود الله وعلمه وعزته وحكمته وقدرته على البعث والجزاء الذى أنكره عادمو العقول من المشركين والكافرين. وقوله : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي بتعاقبهما بمجئ الليل وذهاب النهار ، والعكس كذلك وبطول أحدهما وقصر الآخر تارة والعكس كذلك (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) أى من مطر هو سبب الرزق (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) بيبس النبات وموته عليها ، (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) من صبا الى دبور ، ومن شمال الى جنوب ومن رخاء لينة إلى عاصفة ذات برد أو سموم إن فى المذكورات آيات حججا ودلائل دالة على وجود عبادة الله وتوحيده فى ذلك ، ولكن (لِقَوْمٍ (٤) يَعْقِلُونَ) أي لذوى العقول النيرة السليمة. أما الذين لا عقول لهم فلا يرون ولا فى غيرها آية فضلا عن آيات.

__________________

(١) (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) مبتدأ خبره (مِنَ اللهِ) وإيثار وصفي (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) من بين أسماء الله وصفاته الإيماء إلى أن هذا الكتاب ذو نبأ عظيم فهو عزيز بعزة منزله لا يقدر على مثله وذو حكم لا يخلو منها.

(٢) كون الآيات للمؤمنين دون الكافرين باعتبار أنهم هم المنتفعون بها لأنهم يسمعون ويبصرون ويعقلون والكافرون فاقدون لذلك فلم تكن الأيات لهم لعدم انتفاعهم بها.

(٣) اليقين لا يكون إلا بعد الإيمان فالإيمان يثمر اليقين فالمؤمن يرى في خلق السموات والأرض أي في إيجادهما على ما هما عليه آيات على قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته فيرتفع إيمانهم إلى مرتبة اليقين فيرون في أدق الأشياء كالأجنة في الأرحام وما هو أخفى يرون فيه آيات تزيد في يقينهم وتحملهم على حبهم لله وطاعتهم له والتقرب إليه.

(٤) والعقل مرتبة ثالثة بعد الإيمان واليقين في باب الاهتداء فالذي يرى اختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وما ينجم عنها من نباتات وزروع ولم يهتد إلى الإيمان فيؤمن فهو غير عاقل ولا يصح نسبته إلى العقلاء.

٢٣

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ عظم شأن القرآن الكريم لأنه تنزيل الله العزيز الحكيم.

٢ ـ الإيمان أعم من اليقين ومقدم عليه فى الترتيب واليقين أعلى فى الرتبة.

٣ ـ فضل العقل (١) السليم إن استخدم فى الخير وما ينفع.

٤ ـ تقرير ألوهية الله تعالى بتقرير ربوبيته فى الخلق والتدبير والعلم والحكمة.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١))

شرح الكلمات :

(تِلْكَ آياتُ اللهِ) : أي تلك الآيات المذكورة آيات الله أى حججه الدالة على وحدانيته.

(نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) : أي نخبرك عنها بالحق لا بالباطل كما يخبر المشركون عن آلهتهم أنها تقربهم إلى الله زلفى كذبا وباطلا.

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ) : أي فبأي حديث أيها المشركون بعد حديث الله هذا الذى يتلوه عليكم وبعد حججه هذه.

تؤمنون : أي تصدقون والجواب أنكم لا تؤمنون.

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) : أي عذاب الويل لكل كذاب ذى آثام كبيرة وكثيرة.

__________________

(١) من شروط التكليف العقل بلا خلاف بين أئمة الإسلام والكافر غير مكلف بفروع الشريعة أيضا لأنه لو عقل لآمن ولو آمن لكلف فالكافر لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل فكيف يكلف؟

٢٤

(يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ) : أي يسمع آيات القرآن كتاب الله تقرأ عليه.

(ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) : أي ثم يصر على الكفر حال كونه مستكبرا عن الإيمان والتوحيد كأن لم يسمعها.

(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً) : أي إذا بلغه شيء من القرآن وعلم أنه من القرآن.

(اتَّخَذَها هُزُواً) : أي اتخذ تلك الآية أو الآيات مهزوا بها متهكما ساخرا منها.

(لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) : أي ذو اهانة لهم يهانون به وتكسر أنوفهم.

(مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) : أي أمامهم جهنم وذلك يوم القيامة ، والوراء يطلق على الأمام كذلك.

(وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) : أي لا يكفى عنهم ما كسبوه من المال والأفعال التى كانوا يعتزون بها شيئا من الإغناء.

(وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) : أي ولا يغنى عنهم كذلك ما اتخذوه من أصنام آلهة عبدوها دون الله تعالى

(هذا هُدىً) : أي هذا القرآن الذى أنزله الله تعالى على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هدى أى كله حجج وبراهين ودلالات هادية.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) : أي والذين كفروا بالقرآن فلم يهتدوا به وبقوا على ضلالهم من الشرك والمعاصى.

(لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) : أي لهم عذاب موجع من نوع الرجز وهو أشد أنواع العذاب.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى طلب هداية قريش فبعد أن بيّن تعالى آياته فى الآفاق وفى الأنفس قال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) (تِلْكَ آياتُ اللهِ) أى تلك الآيات المذكورة أي آيات الله أي حججه الدالة على وجوده وعلمه وقدرته وموجبة لربوبيته على خلقه وألوهيته فهو الإله الحق الذى لا إله إلا هو حق سواه. وقوله (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) أي إن لم يؤمن هؤلاء المشركون بالله ربا وإلها لا رب غيره ولا إله سواه ، وبآياته القرآنية الحاملة للهدى والخير والنور فبأى شيء يؤمنون أي يصدقون لا شيء يؤمنون لأن الاستفهام إنكارى والإنكار كالنفى فى معناه.

وقوله (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) هذا

__________________

(١) أشار إليها بلام البعد للدلالة على علو شأنها وعزة مرامها ولو لا هذا لقال هذه آيات الله لقرب ذكرها.

(٢) صاحب هاتين الصفتين كثرة الإفك وكثرة الإثم هو في خبث نفسه كالشياطين سواء بسواء إذ مثله هو الذي تنزل عليه الشياطين ويتحد معها على الخبث والكفر والشر والإفساد.

٢٥

وعيد من الله تعالى شديد لكل كذاب يقلب الكذب فيصف الطاهر بالخبيث والخبيث بالطيب والكاذب بالصادق ، والصادق بالكاذب أثيم منغمس فى كبائر الإثم والفواحش. يسمع هذا الأفاك الاثيم آيات الله تتلى عليه وهى القرآن الكريم ، ثم يصر على الكفر مستكبرا عن الإيمان به وبما يدعو إليه من التوحيد ، كأن لم يسمع تلك الآيات. قال تعالى لرسوله (فَبَشِّرْهُ (١) بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وقوله تعالى (وَإِذا عَلِمَ) أي ذلك الأفاك الأثيم (مِنْ آياتِنا شَيْئاً) كأن تبلغه الآية أو الآيات من القرآن (اتَّخَذَها هُزُواً) أي أخذ يهزأ بها ويسخر منها ، ويواصل ذلك فيجعلها هزوا بها ، قال تعالى : (أُولئِكَ) أي الأفاكون الآثمون وما أكثرهم (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي فيه إهانة زائده تنكسر منها أنوفهم التى كانت تأنف الحق وتستكبر عنه. وقوله تعالى : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) هذا وعيد لهم تابع للأول إذ أخبر تعالى أن من ورائهم جهنم وذلك يوم القيامة ولفظ الوراء يطلق ويراد به الأمام فهو من الألفاظ المشتركة فى معنيين فأكثر وقوله (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا (٢) شَيْئاً) أي ولا يكفى عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا جاههم ولا كل ما كسبوا فى هذه الدنيا أي لا يدفع ذلك عنهم شيئا من العذاب ، وكذلك لا تغنى عنهم آلهتهم التى عبدوها من دون الله شيئا من دفع العذاب. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره ، وكيف والعظيم جل جلاله وصفه بأنه عظيم.

وقوله تعالى : (هذا هُدىً) (٣) أي هذا القرآن هدى أي يخرج من الضلالة الى الهدى ، ومن الكفر إلى الإيمان ومن الشرك إلى التوحيد لما فيه من الهدى والنور ، ولما يدعو إليه من الحق والعدل والخير والذين كفروا به وأعرضوا عنه وهو آيات الله وحججه على خلقه هؤلاء لهم عذاب من رجز أليم أي عذاب هو من أشد أنواع العذاب لأنهم بالكفر بالآيات لم يزكوا أنفسهم ولم يطهروها فماتوا على أخبث النفوس وشرها فلا جزاء لهم إلا رجز العذاب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ القرآن نور وأعظم نور فمن لم يهتد عليه لا يرجى له الهداية أبدا.

٢ ـ الوعيد الشديد لأهل الإفك والآثام ، والإفك الكذب المقلوب.

٣ ـ شر الناس من إذا سمع آيات الله استهزأ وسخر منها أو ممن يتلوها.

__________________

(١) البشارة تكون بالخبر السار الذي تتهلّل به البشرة بالبشر والطلاق والتبشير بالعذاب يورث اسوداد الوجه وكلوحه فالبشارة هنا من باب التهكم به أو لكون البشرة تتغير للخبر فصح إطلاق البشارة عليه.

(٢) في الآية إشارة إلى أن اصحاب هذه الصفات يكونون من أرباب الأموال لأنهم يكتسبونها بكل وسيلة ولو ببيع عقولهم وضمائرهم وأموالهم والمحافظة عليها من عوامل ردهم لدعوة الإسلام ومحاربتها كما هو مشاهد.

(٣) هذا هدى أي هذا القرآن هدى في ذاته وما يدعو إليه ومن كفر به فحرم الهداية فلم يهتد فلا جزاء له إلا جزاء العذاب الأليم.

٢٦

٤ ـ لم يغن عمن مات على الكفر شيء من كسب فى هذه الحياة الدنيا من مال وولد وجاه وسلطان.

٥ ـ لم يغن عن المشرك ما كان يعبد من دون الله أو مع الله من أصنام وأوثان وملائكة أو أنبياء أو أولياء.

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥))

شرح الكلمات :

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ) : أي الله المعبود بحق لا الآلهة الباطلة سخر لكم أي لأجلكم البحر بأن جعله أملس تطفو فوقه الأخشاب ونحوها.

(لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) : أي جعله كذلك لتجرى السفن فيه بإذن الله تعالى.

(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) : أي لتسافروا إلى طلب الرزق من إقليم إلى إقليم.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : أي رجاء أن تشكروا نعم الله عليكم.

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) : أي من شمس وقمر ونجوم ورياح وماء أمطار.

(وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) : أي وما فى الأرض من جبال وأنهار وأشجار ومعادن منه تعالى.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) : أي علامات ودلائل وحجج على وجود الله والوهيته

(لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) : أي لقوم يستخدمون عقولهم فيتفكرون فى وجود هذه المخلوقات ومن أوجدها ولماذا أوجدها فتتجلى لهم حقائق وجود الله وعلمه وقدرته ورحمته فيؤمنوا ويوحدوا.

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) : أي قل يا رسولنا للمؤمنين من عبادنا يغفروا أي يتجاوزوا

٢٧

ولا يؤخذوا.

(لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) : أي لا يتوقعون أيام الله أي بالإدالة منهم للمؤمنين فيذلهم الله وينصر المؤمنين عليهم وهم الرسول وأصحابه وهذا قبل الأمر بجهادهم.

(لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) : أي ليجزى تعالى يوم القيامة قوما منهم وهم الذين علم تعالى أنهم لا يؤمنون بما كسبوه من أذى الرسول والمؤمنين.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) : أي فهو الذى يرحم ويسعد به.

(وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) : أي ومن عمل سوءا فالعقوبة تحل به لا بغيره.

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) : أي يعد الموت ويحكم بينكم فيما كان بينكم من خلاف وأذى.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى هداية قوم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ) (١) تذكير لأولئك المعرضين بالحجج والآيات الدالة على وجوب الإيمان بالله وتوحيده وطاعته فهو تعالى يعرفهم أن ما بهم من نعم هى من الله لا من غيره من تلك الآلهة الباطلة. الله لا غيره هو الذى سخر لكم أي ذلل ويسر وسهل (ما فِي السَّماواتِ) من شمس وقمر ونجوم وسحب وأمطار ورياح لمنافعكم ، وسخر لكم (ما فِي الْأَرْضِ) من جبال وأشجار وأنهار وبحار ومعادن وحيوانات على اختلافها كل ذلك منه (٢) وهو وهبه لكم ، إن فى ذلك المذكور من إنعام الله عليكم بكل ما سخر لكم (لَآياتٍ لِقَوْمٍ (٣) يَتَفَكَّرُونَ) فيهديهم تفكيرهم إلى وجوب حمد الله تعالى وشكره بعد أن آمنوا به ووحدوه فى ربوبيته وألوهيته. وقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا (٤) يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ (٥) لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). يأمر تعالى رسوله أن يقول لصحابته أيام الخوف فى مكة قبل الهجرة إصفحوا وتجاوزوا عمن يؤذيكم من كفار قريش ، ولا تردوا الأذى بأذى مثله بل اغفروا لهم ذلك وتجاوزوا عنه ، وقد نسخ هذا بالأمر بالجهاد.

وقوله تعالى (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) تعليل للأمر بالصفح والتجاوز أي ليؤخر لهم

__________________

(١) ذكر تعالى في هذه الآيات كمال قدرته وتمام نعمته على عباده وبين أنه خلق ما خلق لمنافعهم.

(٢) منه من ابتدائيه أي جميع ذلك المذكور المسخر من عند الله تعالى ليسر لغيره فيه أدنى شركة وموقع (منه) موقع الحال أي سخر لكم ما سخر حال كونه منه.

(٣) التفكر هو منبع الإيمان واليقين والعقل إذ من فكر عقل ومن عقل آمن ومن آمن أيقن ومن أيقن طلب النجاة من النار والفوز بالجنان بالإيمان وصالح الأعمال بعد ترك الشرك والمعاصي.

(٤) (يَغْفِرُوا) مجزوم لأنه في جواب الأمر (قُلْ) وجائز أن يكون مجزوما بتقدير لام الأمر محذوفة أي ليغفروا.

(٥) جائز أن يراد بأيام الله ثوابه وعقابه أو نصره لأوليائه وإيقاعه بأعدائه. أو البعث الآخر ولقائه.

٢٨

ذلك الى يوم القيامة ويجزيهم به أسوأ الجزاء لأنه كسب من شر المكاسب إنه أذية النبى والمؤمنين أولياء الله ، وفى تنكير قوما يدل على أن بعضهم سيؤمن ولا يعذب يوم القيامة فلا يعذب إلا من مات على الكفر والشرك منهم.

وقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) (١) أي من عمل صالحا فى هذه الحياة الدنيا من إيمان وطاعة لله ورسوله فى أوامرهما ونواهيهما فزكت بذلك نفسه وتأهل لدخول الجنة فإن الله يدخله الجنة ويكون عمله الصالح قد عاد عليه ولم يعد على غيره إن الله غني عن عمل عباده ، وغير العامل لا تطهر نفسه ولا تزكو بعمل لم يباشره بنفسه ، وقوله ومن أساء أي في حياته فلم يؤمن ولم يعمل صالحا يزكي به نفسه ، فجزاء كسبه السيء من الشرك والمعاصى عائد على نفسه عذابا فى النار وخلودا فيها. (٢)

وقوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي إنكم أيها الناس بعد هذه الحياة وما عملتم فيها من صالح وسيء ترجعون إلى الله يوم القيامة ويجزيكم كلا بحسب عمله الخير بالخير والشر بمثله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد والبعث (٣) والجزاء والنبوة.

٢ ـ بيان علة الإنعام الإلهى على العبد وهى أن يشكر الله تعالى بحمده والثناء عليه وصرف تلك النعم فى مرضاته تعالى لا فى معاصيه الموجبة لسخطه.

٣ ـ مشروعية التسامح مع الكفار والتجاوز عن أذاهم فى حال ضعف المسلمين.

٤ ـ تقرير قاعدة أن المرء لا يؤخذ بجريرة غيره.

٥ ـ تقرير أن الكسب يؤثر فى النفس ويكون صفة لها وبه يتم الجزاء فى الدار الآخرة من خير وغيره قال تعالى سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم (الأنعام).

__________________

(١) العمل الصالح شرطه الإيمان ولذا ما ذكر العمل الصالح في القرآن إلا والإيمان مقرونا به إلا ما ندر كهذه الآية.

(٢) الخلود في النار خاص بالمشركين والكافرين أما أهل الإيمان والتوحيد فلا يخلدون في النار لحسنة الإيمان والتوحيد.

(٣) هذه الأصول الثلاثة عليها مدار استقامة العبد وجل السور المكية تعالجها فلا تكاد توجد سورة تخلو من تحقيقها والدعوة إليها.

٢٩

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠))

شرح الكلمات :

(الْكِتابَ) : أي التوراة لأنها الحاوية للأحكام الشرعية بخلاف الزبور والإنجيل.

(وَالْحُكْمَ) : أي الفصل في القضايا بين المتنازعين على الوجه الذي يحقق العدل.

(وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) : أي جعلنا فيهم النبوة كنبوة موسى وهارون وداود وسليمان ، ورزقهم من الطيبات كالمنّ والسلوى وغيرهما.

(وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) : أي على عالمى زمانهم من الأمم المعاصرة لهم.

(إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) : أي لم يختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ببعثة النبى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغيا بينهم أي حسدا للعرب أولاد إسماعيل أن تكون النبوة فيهم.

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ (١) مِنَ الْأَمْرِ) : أي ثم جعلناك يا رسولنا على شريعة من أمر الدين الحق الذى ارتضاه الله لعباده.

__________________

(١) الشريعة لغة المذهب والملة ويقال لمشرعة الماء أي مورد الشاربة شريعة ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد فالشريعة ما شرع الله لعباده من الدين والجمع شرائع.

٣٠

(فَاتَّبِعْها) : أي الزم الأخذ بها والسير على طريقها فأنها تفضي بك إلى سعادة الدارين.

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) : من مشركى العرب ومن ضلال أهل الكتاب.

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) : أي إن أنت تركت ما شرع لك واتبعت ما يقترحون عليك أن تفعله مما يوافق أهواءهم إنك إن اتبعتهم لن يدفعوا عنك من العذاب الدنيوي والآخروى شيئا.

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) : أي ينصر بعضهم بعضا فى الدنيا أما فى الآخرة فإنهم لا ينصرون.

(وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) : أي متوليهم فى أمورهم كلها وناصرهم على أعدائهم.

(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) : أي هذا القرآن أي أنوار هداية يهتدون به إلى ما يكملهم ويسعدهم ، وهدى ورحمة ، ولكن لأهل اليقين فى إيمانهم فهم الذين يهتدون به ويرحمون عليه أما غير الموقنين فلا يرون هداه ولا يجدون رحمته لأن شكهم وعدم إيقانهم يتعذر معهما أن يعملوا به فى جد وصدق وإخلاص.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى طلب هداية قوم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعرض عليهم حالا شبيهة بحالهم لعلهم يجدون فيها ما يذكرهم ويعظهم فيؤمنوا ويوحدوا قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي (١) إِسْرائِيلَ) أي اعطينا بنى إسرائيل وهم أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل وهو ابن اسحق بن إبراهيم خليل الرحمن آتيناهم (الْكِتابَ) التوراة (وَالْحُكْمَ) وهو الفقه بأحكام الشرع والإصابة في العمل والحق فيها ثمرة إيمانهم وتقواهم (وَالنُّبُوَّةَ) فجعلنا منهم أنبياء ورسلا كموسى وهارون ويوسف وداود وسليمان وعيسى ، (وَفَضَّلْناهُمْ (٢) عَلَى الْعالَمِينَ) أي على فرعون وقومه من الأقباط ، وعلى من جاور بلادهم من الناس ، وذلك أيام إيمانهم واستقامتهم ، (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ (٣) مِنَ الْأَمْرِ) أمر الدين تحملها التوراة والانجيل (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) الإلهى يحمله القرآن ونبيه فاختلفوا فيما كان عندهم من الأنباء عن نبي آخر الزمان ونعوته وما سيورثه الله وأمته من الكمال الدنيوى والآخروى فحملهم بغى حدث

__________________

(١) ذكر تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أعطى بنى إسرائيل من إفضالات ثم ذكر ما أعطاه هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون ذلك جاريا على سنته في إكرام من يشاء من عباده فلا يكون ذلك داعيا إلى إنكار المشركين ولا أهل الكتاب نبوة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كانوا يعقلون.

(٢) بأن جمع الله لهم بين استقامة الدين والخلق وبين حكم أنفسهم بأنفسهم وبين أصول العدل فيهم مع حسن العيش وشمول الأمن والرخاء لهم.

(٣) أي علمناهم حججا وعلوما في أمر دينهم ونظام حياتهم بحيث يكونون على بصيرة في تدبير مجتمعهم وعلى سلامته من الشرور والمفاسد.

٣١

بينهم وهو الحسد على الكفر فكفروا به وكذبوه فهذه الآية نظيرها آية البقرة : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ). وكقوله فى سورة البينة (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) هذه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة ، ومن جهة أخرى إعلام منه تعالى بأنه سيحكم بينهم ويفصل ويؤدى كل واحد ثمرة كسبه من خير وشرفى هذه الحياة وذلك يوم القيامة.

وقوله : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ (١) مِنَ الْأَمْرِ) أي من أمر ديننا الإسلام الذي هو دين الأنبياء من قبلك فلم تختلف شريعتك فى أصولها على شرائعهم ، وعليه فاتبعها ولا تحد عنها متبعا أهواء الذين لا يعلمون من زعماء قريش الذين يقدمون لك اقتراحاتهم من الوقت إلى الوقت ولا أهواء ضلال أهل الكتابين من اليهود والنصارى إنهم جهال لا يعلمون هدى الله ، ولا ما هو سبيل النجاة من النار والفوز بالجنة فى الآخرة ، ولا هو سبيل العزة والكرامة والدولة والقوة فى الدنيا.

وقوله : (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي إنّك إن اتبعت أهواءهم واستوجبت العذاب لن يدفعوا عنك ولن يكفوك شيئا منه ، وقوله : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي فى الدنيا فيتعاونون على الباطل والشر أما فى الآخرة فلا ينصر بعضهم بعضا ولا هم ينصرون من قبل أحد (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) ، أما المتقون فالله وليهم في الدنيا والآخرة ، فعليك بولاية الله ، ودع ولاية أعدائه ، فإنها لن تغني عنك شيئا.

وقوله تعالى : (هذا بَصائِرُ (٢) لِلنَّاسِ) يريد القرآن الكريم إنه عيون القلوب بها تبصر النافع من الضار والحق من الباطل فمن آمن به وعمل بما فيه اهتدى إلى سعادته وكماله ومن لم يؤمن به ولم يعمل بما فيه ضل وشقى. وقوله (وَهُدىً وَ (٣) رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي أن القرآن الكريم كتاب هداية ورحمة عليه يهتدى المهتدون ، ويرحم المرحومون وهم الذين ايقنوا بهدايته ورحمته فعملوا به عقائد وعبادات وأحكاما وآدابا وأخلاقا فحصل لهم ذلك كما حصل للسلف الصالح من هذه الأمة ، وما زال القرآن كتاب هداية ورحمة لكل من آمن به وأيقن فعمل وطبق بجد وصدق أحكامه وشرائعه وآدابه واخلاقه التى جاء بها وقد كان خلق النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن لقول عائشة رضى الله عنها فى الصحيح كان خلقه القرآن.

__________________

(١) (عَلى) للاستعلاء أي التمكّن والثبات والشريعة الدين والملة المتبعة والأمر الشأن العظيم والأمر هو أمر الله تعالى الذي أراده لك ولأمتك من الدين المنجي المسعد في الدارين.

(٢) البصائر جمع بصيرة وهي إدراك العقل الأمور على حقيقتها شبهت ببصر العين.

(٣) القرآن هدى ورحمة لكل من يهتدي بهداه ويتعرض لرحمته العمل به وخص به لذلك أهل اليقين لأنهم القادرون على الأخذ بهدايته والتعرض لرحمته والعمل به.

٣٢

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن كفر أهل الكتاب كان حسدا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقومه من العرب.

٢ ـ بيان إفضال الله تعالى على بنى إسرائيل حيث أعطاهم الكتاب والحكم والنبوة.

ومع هذا اختلفوا فى الحق حسدا وطمعا فى الرئاسة وإقامة مملكة بنى إسرائيل من النيل الى الفرات.

٣ ـ تقرير البعث والجزاء والنبوة والتوحيد.

٤ ـ وجوب لزوم تطبيق الشريعة الإسلامية وعدم التنازل عن شىء منها.

٥ ـ تقرير ولاية الله تعالى لأهل الإيمان به وتقواه بفعل محابه وترك مساخطه.

٦ ـ بيان أن القرآن كتاب هداية وإصلاح ، ولا يتم شىء من هداية الناس وإصلاحهم إلا عليه.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣))

شرح الكلمات :

(اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) : أي اكتسبوا بجوارحهم الشرك والمعاصى.

(سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) : أي محياهم ومماتهم سواء ، لا لا المؤمنون فى الجنة والمشركون فى النار.

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) : أي ساء حكما حكمهم بالتساوى مع المؤمنين.

(وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) : أي وليجزى الله كل نفس ما كسبت من خير وشر.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) : أي أخبرنى عمن اتخذ اي جعل إلهه أي معبوده هواه.

٣٣

(وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) : أي على علم من الله تعالى بأنه أهل للإضلال وعدم الهداية.

(وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) : أي ظلمة على عينيه فلا يبصر الآيات والدلائل.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) : أي أفلا تتذكرون أيها الناس فتتعظون.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى فى الآيات قبل هذه الظالمين والمتقين وجزاء كل منهم وأنه كان مختلفا باختلاف نفوس الظالمين والمتقين خبثا وطهرا ذكر هنا ما يقرر ذلك الحكم وهو اختلاف جزاء الظالمين والمتقين فقال : (أَمْ حَسِبَ (١) الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) أي اكتسبوها بجوارحهم ، والمراد بها الشرك والمعاصي (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله ربا وإلها وبكل ما أمر تعالى بالإيمان به ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من إقام الصلاة وآيتاه الزكاة وصيام رمضان والجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وما إلى ذلك من الصالحات. (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٢) أي ساء حكما حكمهم هذا ومعنى هذا أن الله تعالى أنكر على من يحسب هذا الحسبان ويظن هذا الظن الفاسد وهو أن يعيش الكافر والمؤمن فى هذه الحياة الكافر يعيش على المعاصى والذنوب والمؤمن على الطاعة والحسنات ثم يموتون ولا يجزى الكافر على كفره والمؤمن على إيمانه ، وأسوأ من هذا الظن ظن آخر كان ليعضهم وهو أنهم إذا ماتوا يكرمون وينعم عليهم بخير ما يكرم به المؤمنون وينعم به عليهم. وهذا غرور عجيب ، فأنكر تعالى عليهم هذا الظن الباطل وحكم انه لا يسوى بين بر وفاجر ، ولا بين مؤمن وكافر لأن ذلك مناف للعدل والحق (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ، وأنزل الشرائع وأرسل الرسل ليعمل الناس فى هذه الحياة الدنيا فمن آمن وعمل صالحا كانت الحسنى له جزاء ، ومن كفر وعمل سوءا كانت جهنم جزاءه ، وهو معنى قوله تعالى : (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٣) أي من خير وشر ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لأن العدالة الإلهية هى التى تسود يوم القيامة وتحكم.

وقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ (٤) مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي جعل معبوده ما تهواه نفسه فما هويت قولا إلا قاله ، ولا عملا إلا عمله ولا اعتقادا إلا اعتقده ضاربا بالعقل والشرع عرض الحائط فلا يلتفت

__________________

(١) (أَمْ) للإضراب الانتقالي والاستفهام المقدر بعد أم استفهام إنكاري أي لا يحسب الذين اجترحوا السيئات أنهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات. والآية نزلت كما قال البغوي في نفر من المشركين في مكة قالوا للمؤمنين إن كان ما تقولون حقا لنفضلنّ عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا.

(٢) (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) هذه الجملة تذييل لما قبلها من إنكار حسبانهم وما اتصل به من المعاني ، والحياة والممات مصدران ميميان من الحياة والموت.

(٣) الباء للتعويض لأن ما كسبته النفس لا تجزى به وإنما تجزى بمثله وما يناسبه من خير أو شر.

(٤) الاستفهام للتعجب من حال هذا الذي اتخذ إلهه هواه والمخاطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل ذي أهلية لأن يفهم عن الله تعالى من المؤمنين.

٣٤

إليهما ولا يستمع الى ندائهما. وقوله تعالى (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) (١) أي منه تعالى حيث سبق فى علمه أن هذا الإنسان لا يهتدي ولو جاءته كل آية فكتب ذلك عليه فهو كائن لا محالة ، وقوله (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) أي وختم تعالى على سمعه حسب سنته فى ذلك فأصبح لا يسمع الهدى ولا الحق كأنه أصم لا يسمع ، وأصبح لا يعقل معانى ما يسمع وما يقال له كأنه لا قلب له ، وأصبح لما على بصره من ظلمة لا يرى الادلة ولا العلامات الهادية الى الحق والى الطريق المستقيم المفضي بسالكه إلى النجاة من النار ودخول الجنة. وقوله تعالى : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) وقد أضله الله تعالى والجواب لا أحد. كقوله تعالى من سورة النحل (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) أي من أضله الله تعالى حسب سنته فى الإضلال وهي أن يدعى العبد الى الحق والمعروف والخير فيتكبر ويسخر ويحارب فترة يصبح بعدها غير قابل لهداية فهذا لا يهديه أحد بعد أن أضله الله تعالى.

وقوله تعالى : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢) أي أفلا تذكرون فتتعظون أيها الناس فتؤمنوا وتوحدوا وتعملوا الصالحات فتكملوا وتسعدوا فى الدنيا وتنجو من النار وتدخلوا الجنة فى الآخرة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بطلان اعتقاد الكافرين فى أن الناس يحيون ويموتون بلا جزاء على الكسب صالحه وفاسده.

٢ ـ تقرير البعث والجزاء.

٣ ـ موعظة كبيرة فى هذه الآية أم حسب الذين اجترحوا السيئات إلى آخرها حتى إن أحد رجال السلف الصالح قام يتهجد من الليل فقرأ حتى انتهى الى هذه الآية فأخذ يرددها ويبكى حتى طلع الفجر.

٤ ـ التنديد بالهوى والتحذير (٣) من اتباعه فقد يفضي بالعبد الى ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فيصبح معبوده هواه لا الرب تعالى مولاه.

٥ ـ التحذير من ارتكاب سنن الضلال المفضي بالعبد إلى الضلال الذى لا هداية معه.

__________________

(١) (عَلى عِلْمٍ) أي أضله الله مع ما عنده من العلم الذي لو خلع عن نفسه الكبر والعناد والميل إلى الهوى لاهتدى ونجا وسعد ولكن أو على علم من الله تعالى بأنه ليس أهلا للهداية كما في التفسير.

(٢) قرأ نافع تذكرون بتشديد الذال وقرأه حفص بتخفيفها الأولى على إدغام إحدى التائين في الذال فشددت والثانية على حذف إحدى التائين فخففت.

(٣) من الكلمات المأثورة في هذا قولهم ثلاث من المهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه.

٣٥

(وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦))

شرح الكلمات :

(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) : أي قال منكر والبعث ما الحياة إلا هذه الحياة ، وليس وراءها حياة أخرى.

(نَمُوتُ وَنَحْيا) : أي يموت بعضنا ويحيا بعضنا بأن يولدوا فيحيوا ويموتوا.

(وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) : أي وما يميتنا إلّا مرور الزمان علينا.

(وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) : أي وليس لهم أدنى علم على قولهم لا من وحى وكتاب إلهى ولا من عقل صحيح.

(إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) : أي ما هم إلا يظنون فقط والظن لا قيمة له ولا يبنى عليه حكم

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) : أي وإذا قرئت عليهم الآيات الدالة على البعث والجزاء الأخرى بوضوح.

(ما كانَ حُجَّتَهُمْ) : أي لم تكن لهم من حجة إلا قولهم.

(إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا) : إلا قولهم احيوا لنا آباءنا الذين ماتوا وأتوا بهم إلينا.

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : إن كنتم صادقين فيما تخبروننا به من البعث والجزاء.

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) : أي قل لهم يا رسولنا الله الذى يحييكم حين كنتم نطفا ميته ، ثم يميتكم.

(ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) : أي ثم بعد الموت يجمعكم الى يوم القيامة للحساب والجزاء.

(لا رَيْبَ فِيهِ) : أي يوم القيامة الذى لا ريب ولا شك فى مجيئه فى وقته المحدد له.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) : أي لا يعلمون لعدم تلقيهم العلم عن الوحى الإلهي لكفرهم بالرسل والكتب.

٣٦

معنى الآيات :

تقدم فى الآيات بيان اعتقاد بعض المشركين فى استواء حال المؤمنين والكافرين يوم القيامة وأن الله تعالى أبطل ذلك الاعتقاد منكرا له عليهم ، وهنا حكى قول منكرى البعث بالكلية ليرد عليهم وفى ذلك دعوة لعامة الناس إلى الإيمان والعمل الصالح للإسعاد والكمال فى الحياتين ولله الحمد والمنة فقال عزوجل : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا (١) حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (٢) أي وقال منكرو البعث والجزاء يوم القيامة ما هناك إلا حياتنا هذه التى نحياها وليس وراءها حياة أخرى ، إننا نموت ونحيا أي نموت نحن الأحياء ويحيا أبناؤنا من بعدنا وهكذا تستمر الحياة أبدا يموت الكبار ويحيا الصغار ، (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي وما يميتنا ويفنينا إلا مرور الزمان وطول الأعمار وهو إلحاد كامل وإنكار للخالق عزوجل وهو تناقض منهم لأنهم إذا سئلوا من خلقهم يقولون الله فينسبون إليه الخلق وهو أصعب ولا ينسبوا إليه الإماته وهى أهون من الخلق فرد تعالى عليهم مذهبهم «الدهرى» بقوله : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي ليس (٣) لهم على معتقدهم هذا أدنى علم نقليا كان ولا عقليا أي لم يتلقوه عن وحى أوحاه الله الى من شاء من عباده ولا عن عقل سليم راجح لا ينقض حكمه كالواحد مع الواحد اثنان والأبيض خلاف الأسود وما إلى ذلك من القضايا العقلية التى لا ترد فهؤلاء الدهريون ليس لهم شيء من ذلك ما لهم إلا الظن والخرص وقضايا العقيدة لا تكون بالظن. والظن أكذب الحديث.

وقوله تعالى (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) أي وإذا قرأ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيات القرآن الدالة على البعث والجزاء تدعوهم إلى الإيمان به واعتقاده (ما كانَ حُجَّتَهُمْ) (٤) أي لم تكن لهم من حجة يردّون بها ما دعوا إليه إلا قولهم (٥) : (ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي أحيوا لنا آباءنا الذين ماتوا وأحضروهم عندنا ان كنتم صادقين فيما تخبروننا من البعث والجزاء. فقال تعالى فى رد هذه الشبهة وبيان للحق فى المسألة (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ، ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ (٦) فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي قل يا رسولنا لهؤلاء الدهريين المنكرين للبعث الله يحييكم إذ كنتم نطفا ميته

__________________

(١) هي ضمير القصة والشأن وجملة نموت ونحيا مبينة لجملة ما هي إلا حياتنا الدنيا أي ليس بعد هذا العالم عالم آخر فالحياة هي هذه لا غير.

(٢) روي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (كان أهل الجاهلية يقولون ما يهلكنا إلا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا فيسبون الدهر). قال الله تعالى (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار).

(٣) قال القرطبي كان المشركون أصنافا منهم هؤلاء ومنهم من كان يثبت الصانع وينكر البعث ومنهم من يشك في البعث ولا يقطع بإنكاره.

(٤) فإن قيل لم سمى قولهم حجة وليس هو بحجة؟ قيل لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته وساقوه مساقها فسميت حجة على سبيل التهكم.

(٥) أي أحيوا لنا الموتى نسألهم عن صدق ما تقولون.

(٦) جملة (لا رَيْبَ فِيهِ) حال من (يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي لا ريب في وجوده وكونه لا ريب فيه لأنه علة الحياة كلها فلولاه ما كانت هذه الحياة فمن هنا لا معنى للشك فيه بالكلية.

٣٧

فأحياكم ، ثم يميتكم بدون اختياركم فالقادر على الإحياء والإماته وفعلا هو يحيى ويميت لا يحيل العقل أن يحيى من أحياهم ثم أماتهم وإنما لم يحيهم اليوم كما طلبتم لأنه لا فائدة من إحيائهم بعد أن أحياهم ثم أماتهم هذا أولا وثانيا إحياؤهم لكم اليوم يتنافى مع الحكمة العالية فى خلق هذه الحياة الدنيا والآخرة إذ خلقوا ليعملوا ، ثم يجازوا بأعمالهم خيرها وشرها. ولهذا قال ثم يجمعكم أي أحياء فى يوم القيامة للحساب والجزاء وقوله لا ريب فيه أي لا شك فى وقوعه ومجيئه إذ مجيئه حتمى لقيام الحياة الدنيا كلها عليه. ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذا لأمرين الأول أنهم لا يفكرون ولا يتعقلون والثانى أنهم لتكذيبهم بالوحى الإلهى سدوا فى وجوههم طريق العلم الصحيح فهم لا يعلمون ، ولا يعلمون حتى يؤمنوا بالوحى ويسمعوه ويتفهموه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير البعث والجزاء.

٢ ـ الرد على الدهريين وهم الذين ينسبون الحياة والموت للدهر وينفون وجود الخالق عزوجل.

٣ ـ بيان أن الكفار لا دليل لهم عقلى ولا نقليّ على صحة الكفر عقيدة كان أو عملا.

٤ ـ عدم إحياء الله تعالى للمطالبين بحياة من مات حتى يؤمنوا لم يكن عن عجز بل لأنه يتنافى مع الحكمة التى دار عليها الكون كله.

٥ ـ بيان أن أكثر الناس لا يعلمون وذلك لأنهم كذبوا بالوحى الإلهى فى الكتاب والسنة.

٦ ـ بيان انه لا علم صحيح إلّا من طريق الوحى الإلهى.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً

٣٨

مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢))

شرح الكلمات :

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي خلقا وملكا وتصرفا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

(يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) : أي ويوم تقوم الساعة التى أنكرها الكافرون يخسر أصحاب الباطل بصيرورتهم إلى النار.

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) : أي كل أمة ذات دين جاثية على ركبها تنتظر حكم الله فيها.

(تُدْعى إِلى كِتابِهَا) : أي إلى كتاب أعمالها فهو الحكم فيها إن كان خيرا فخير وان كان شرا فشر.

(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : أي يقال لهم اليوم تجزون ما كنتم تعملون فى الدنيا من خير وشر.

(هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) : أي ديوان الحفظة الذى دونوه من أعمال العقلاء من الناس شاهد عليكم بالحق.

(إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : أي نأمر بنسخ ما كنتم تعملون.

(فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) : أي فيدخلهم فى جنته.

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) : أي الفوز البيّن الظاهر وهو النجاة من النار ودخول الجنة.

(أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) : أي يقال لهم ألم تأتكم رسلى فلم تكن آياتى تتلى عليكم.

(فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) : أي عن آيات الله فلم تؤمنوا بها وكنتم بذلك قوما كافرين.

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : أي بالبعث والجزاء العادل يوم القيامة حق ثابت.

(إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) : أي ما كنا مستيقنين بالبعث وإنما كنا نظنه لا غير ولا نجزم به.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وايجادا وملكا وتصرفا ومن كان هذا وصفه من القدرة والعلم والحكمة لا ينكر عليه بعث العباد بعد موتهم وجمعهم للحساب والجزاء. وقوله (وَيَوْمَ (١) تَقُومُ السَّاعَةُ) التى ينكرها المنكرون (يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) يخسرون كل شيء حتى أنفسهم يخسرون منازلهم في الجنة يرثها عنهم المؤمنون ويرثون هم المؤمنين منازلهم فى النار ذلك هو الخسران المبين وقوله تعالى :

__________________

(١) (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) : هو ظرف متعلق بيخسر قدم عليه للاهتمام به ويومئذ توكيد ليوم تقوم الساعة.

٣٩

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ (١) جاثِيَةً) أي وترى أيها الرسول يوم القيامة كل أهل دين وملة وقد جثوا على ركبهم خوفا وذلا مستوفزين للعمل بما يؤمرون به. وقوله (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أي الذي أنزل على نبيها لتعمل بما جاء فيه من عقائد وشرائع ويقال لهم (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي في الدنيا من خير وشر. فإذا حاولوا الإنكار قيل لهم : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) ، وهو كتاب الأعمال الذى دونته الحفظة وقوله (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي نأمر ملائكتنا بنسخ أعمالهم أي باثباتها وحفظها وهاهى ذى بين أيديكم ناطقة صارخة بما كنتم تعملون.

قال تعالى مفصلا للحكم الناتج عن شهادة الكتاب (فَأَمَّا الَّذِينَ (٢) آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي وتركوا الشرك والمعاصى (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ) جزاء لهم (فِي رَحْمَتِهِ) وهي الجنة دار المتقين (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي إدخالها الجنة بعد إنجائهم من النار هو الفوز المبين إذا الفوز معناه ، النجاة من المرهوب والظفر بالمرغوب المحبوب. هذا جزاء أهل الإيمان والتقوى (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم أهل الشرك والمعاصى فيقال لهم : (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي ألم تأتكم رسلي فلم تكن آياتى تتلى عليكم؟ بل كانت تتلى عليكم (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عنها فلم تتعرفوا إلى ما فيها والى ما تدعوا إليه ، (وَكُنْتُمْ) باستكباركم عنها (قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٣) على أنفسكم إذا أفسدتموها بالشرك والمعاصى.

وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي وعده تعالى بالبعث والجزاء حق لا بد واقع والساعة آتية (لا رَيْبَ فِيها) أي جائية لا محالة ولا ريب فى وقوعها بحال من الأحوال (قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) متجاهلين لها متعجبين من وقوعها. وقلتم (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا) مجرد ظن فقط (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (٤) بمجيئها ، وهذا بالنسبة إلى بعض الناس ، وإلا فقد تقدم أن بعضهم كان ينكر البعث بالكلية وهذا ظاهر فى كثير من الناس الذين يؤمنون بالله وبلقائه وهم لا يفترون من المعاصى ولا يقصرون عن فعل الشر والفساد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض ما يقع يوم القيامة.

٢ ـ تقرير عقيدة كتابة أعمال العباد وتقديمها لهم يوم القيامة فى كتاب خاص.

__________________

(١) الأمة الجماعة العظيمة أمرها واحد يجمعهم دين والجثو البروك على الركب في استنفار وهي هيئة الخضوع.

(٢) (فَأَمَّا.). الخ هذه الفاء عاطفة لمفصّل من الكلام على مجمل منه وهو قوله تعالى وترى كل أمة جاثية والبدأ بتفصيل حال المؤمنين تعجيلا للمسرة لهم وتنويها بشأن الإيمان والعمل الصالح.

(٣) إقحام لفظ (قَوْماً) للدلالة على أن الإجرام صار خلقا لهم مخالطا لنفوسهم حتى صار مما يمقتون به ولو لا هذا لقال بل كنتم مجرمين ، دون ذكر (قوم) والاستفهام في قوله أفلم تكن آياتي للتقرير والتوبيخ.

(٤) هذه الجملة تأكيد لجملة إن نظن إلا ظنا ، والسين والتاء في بمستيقنين للمبالغة في عدم حصول الفعل.

٤٠