نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

وأن يكون متقرّرا مع الصفة ، وهذا يقتضي أن تكون هذه الحقائق متقررة ثابتة مع كونها معدومة ، وهو المطلوب.

الخامس : علّة الحاجة إلى المؤثّر إنّما هي الإمكان لا الحدوث على ما يأتي ، والإمكان حالة إضافية لا تتحقّق إلّا بين الأمرين ، ويستحيل عروض الإضافة للأمر الواحد ، فإذن الحقائق المفردة يستحيل عروض الإمكان لها ، فيستحيل أن تكون مجعولة ، فهي إذن ثابتة لأنفسها وذواتها ، وإنّما توجد بالفاعل ، فهي إذن ثابتة في العدم.

السادس : قال تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (١) وصف الزلزلة بالشيئية وهي معدومة.

وكذا قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) (٢) وقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) (٣).

السابع : الماهيات غير مجعولة ، وإلّا لزم من فرض عدم الفاعل خروج الماهيّة عن كونها ماهية ، لأنّ كلّ ما تحقّقه بسبب غيره ، فإنّه يلزم من فرض عدم الغير عدم ذلك الأثر ، فلو كان الجوهر جوهرا بالفاعل أو السواد سوادا بالفاعل لزم عند فرض عدم ذلك السبب أن يخرج الجوهر عن كونه جوهرا ، والسواد عن كونه سوادا وذلك محال ، لأنّ قولنا : السواد خرج عن كونه سوادا ، قضية يجب صدق محمولها على موضوعها ، فيكون موضوعها ثابتا حال صدق محمولها عليها ، فيكون السواد ثابتا حال صدق خروجه عن السوادية وذلك محال ، فيثبت امتناع

__________________

(١) الحج / ١.

(٢) الحجر / ٢١.

(٣) الكهف / ٢٣.

٦١

استناد تقرّر الماهيّات وتحقّقها إلى الفاعل.

الثامن : لو لم يكن المعدوم شيئا وذاتا لصحّ أن يقال : إنّ الله تعالى علم الأشياء ولا معلوم ، لأنّ المعدوم إذا لم يكن شيئا لم يكن معلوما.

التاسع : القادر يريد إيجاد الجوهر وإيجاد السواد ، فلا بدّ وأن يكونا ذاتين حتى يصحّ منه القصد إلى إيجادهما ، ويدعوه الداعي إلى ذلك.

والجواب عن الأوّل : أنّ العلم لا يستدعي الثبوت في الخارج ، بل في الذهن ، فإنّا نتصوّر شريك الباري ولهذا نحكم عليه بالامتناع ، والحكم على الشيء يستدعي تصوّره وكذا نتصوّر بحرا من زئبق وجبلا من ياقوت ، ونحكم بامتياز بعض هذه التصوّرات عن بعض ، وماهيّات الجواهر والأعراض وإن كانت ثابتة ، إلّا أنّ الجواهر الموصوفة بالأعراض غير ثابتة.

ولأنّا نتصوّر وجودات هذه الأشياء ونميّز بعضها عن بعض ، فإنّا كما نميّز بين ماهية الحركة يمنة ويسرة ، كذا نميّز بين وجود إحداهما (١) ووجود الأخرى ، مع أنّ الوجود ليس ثابتا في العدم اتفاقا ، ولأنّه مناف له.

ولأنّا نعقل ماهية التركيب والتأليف قبل دخولهما في الوجود ، مع أنّه لا تقرّر لهذه الماهية في العدم ، فإنّ التأليف عبارة عن اجتماع الأجزاء وتماسّها على وجه مخصوص وذلك غير ثابت في العدم اتّفاقا. وكذا نعقل المتحركية والساكنية قبل حصولهما ، مع أنّهما من قبيل الأحوال ، فقد ظهر أنّ التميّز في التصوّر لا يستدعي ثبوتا في الخارج.

قولهم : المعدوم مقدور فيكون ثابتا.

__________________

(١) أي إحدى الحركتين.

٦٢

قلنا : متعلّق القدرة إمّا أن يكون ثابتا أو لا ، فإن كان الأوّل لزم تحصيل الحاصل وهو محال ، أو أن لا يكون للقدرة فيه أثر ، فلا يكون ما فرضناه متعلّق القدرة متعلّق القدرة ، هذا خلف. وإن كان الثاني بطل أصل الدليل.

وكذا قولهم : المعدوم مراد وكل مراد ثابت ، فإنّ متعلّق الإرادة إن كان ثابتا لزم تحصيل الحاصل. وإن لم يكن ثابتا بطل الاستدلال.

لا يقال : متعلّق القدرة والإرادة هو الذات الثابتة على معنى إيجاد تلك الذات.

لأنّا نقول : متعلّق القدرة والإرادة إن كان هو الإيجاد عاد التقسيم فيه ، وإن كان هو الماهية بمعنى أنّ القدرة والإرادة تعلّقا بإيجادها ، لم يكن متعلّق الإرادة والقدرة سوى الإيجاد(١).

وعن الثاني : إنّ الموصوف بالإمكان يستحيل أن يكون ثابتا في العدم ، لأنّ الذوات المعدومة يستحيل عليها التغيّر والخروج عن الذاتية ، فلا يمكن جعل الإمكان صفة لها ، وإن لم يكن ثابتا في العدم ، لم يمكن الاستدلال بالإمكان على كون الموصوف به (٢) ثابتا في العدم (٣). ثم نقول : الإمكان ليس وصفا ثبوتيا وإلّا لزم التسلسل ، فلا يكون الموصوف به واجب التحقّق.

وعن الثالث : ما تقدم من أنّ متعلّق القدرة لا يجوز أن يكون ثابتا ، وتميّزه يعطي ثبوته في الذهن لا في الخارج ، والموصوف بالاحتياج ثابت في الذهن ، لأنّه

__________________

(١) لاحظ تلخيص المحصل : ٧٦ وما يليها ، والمباحث المشرقية ١ : ٤٧ ، ثم لاحظ كشف المراد : ١٥ ؛ المواقف : ٥٥.

(٢) م : «به» ساقطة.

(٣) لاحظ تلخيص المحصل : ٨٢ ، والطوسي قد لخص الجواب باعتبارية الإمكان ، وشرحه المصنف في كشف المراد : ١٦.

٦٣

لو كان ثابتا في الخارج لم يكن محتاجا.

وعن الرابع : أنّ المراد بصحّة العدم ليس أن تكون الماهية ثابتة متقرّرة في الخارج ، وتكون حينئذ موصوفة بالعدم ، بل معناه إمكان (١) أن لا تتحقّق تلك الماهية ولا تكون ماهية. والأصل فيه أنّ الماهية إن كانت متقررة حالتي الوجود والعدم استحال جعل الإمكان صفة لها ، بل للوجود ، وهو غير ثابت بالاتفاق ، فقد ظهر الاتفاق على أنّ الموصوف بالإمكان ليس ثبوتيا في العدم.

وعن الخامس : أنّ معروض الإضافة ثابت في الذهن لا في الخارج على ما تقدّم ، ولو استحال استناد الذات إلى الفاعل لاستحال استناد الوجود إليه ، وإلّا لخرج الوجود عن كونه وجودا ، كما قلتم في الماهية ، واستحال استناد موصوفية الماهية بالوجود إلى الفاعل كذلك أيضا ، ولأنّ الموصوفية ليست صفة زائدة على ذات الموصوف والصفة ، وإلّا لزم التسلسل.

وعن السادس : أنّ هذه المعدومات تسمّى شيئا لغة على معنى أنّه يصحّ تعقلها والإخبار عنها ، لا بمعنى أنّها ذوات ثابتة في الخارج.

وعن السابع : ما تقدم من أنّ الماهيات لو لم تكن مجعولة ، لزم نفي المجعولية أصلا ورأسا ، بل الفاعل كما يجعل الماهية موجودة ، يجعل الماهية ماهية لا بأن تكون الماهية ثابتة وتوجد لها وصف كونها ماهية ، بل بأنّه تحقّق تلك الماهية. مع أنّ هذا الدليل آت في الوجود ، فإنّه لو كان بالفاعل ، لزم عند عدم ذلك الفاعل أن يخرج الوجود عن كونه وجودا.

لا يقال : الوجود لا يقع بالفاعل ، بل موصوفية الذات بالوجود.

لأنّا نقول : الإيراد آت في الموصوفية ، فيلزم أن لا يكون للفاعل أثر البتّة.

__________________

(١) ق : «إمكان» ساقطة.

٦٤

وعن الثامن : أنّا نلتزم ذلك ، فإنّه تعالى علم الأشياء قبل وجودها ، ولا معلوم له ثابت في الخارج ، إلّا أنّا لا نطلق ذلك ، لأنّه يوهم أنّه ما علم شيئا ، ولا يلزم من كون المعدوم ليس بشيء كونه ليس بمعلوم. ثمّ إنّه يبطل بقولهم : إنّه تعالى علم أنّه لا مثل له.

وعن التاسع : بالمنع من توقّف القصد على ثبوت الذاتية ، بل يكفي في صحّة القصد إلى إيجاد الحجم أن يعلم القادر حقيقة الحجم ما هي ، ثمّ يدعوه الداعي إلى إيجاد ما يطابق ما علمه (١) من حقيقة الحجم ، فيجعل حجما لكونه قادرا ، كما يعلم مثله في القادر منّا ، فإنّا نعلم حقيقة ما نفعله (٢) قبل إيجاده ، ثمّ يقصد إلى فعل ما يطابق علمه بحقيقته ، من دون أن يشعر أنّ في العدم شيئا وذاتا. وأيضا ، فإنّ مذهبكم أنّ القادر يقصد إلى إيجاد الذات وتحصيلها على صفة الوجود ، ومع ذلك فإنّه لا يجب أن تكون على صفة الوجود حتى يصحّ منه القصد إلى ذلك.

لا يقال : الذات عندنا معلومة للقادر ، فصحّ منه القصد إليها ليوجدها.

لأنّا نقول : القصد عندكم لا يتعلّق بالذات ، لأنّ الذات يستمرّ كونها ذاتا عندكم ، فهي في حكم الباقي ، والقصد إلى الباقي وإلى الأعيان عندكم لا يصحّ ، وإنّما يتعلّق القصد عندكم بالحدوث أو بحدوث الشيء على وجه ، وإذا لم يتعلّق القصد بالذات من حيث هي ذات ، بل بصفة الوجود ليجعل الذات عليها ، ولا يجب أن تكون صفة وجودها قبل حصولها ، فليجز مثل ذلك في قصد القادر إلى جعل الذات.

__________________

(١) م : «علم».

(٢) كذا في النسخ ، ولعلّ الصحيح : «فانّه يعلم حقيقة ما يفعله».

٦٥

البحث الثالث : في تفصيل قول المعتزلة في هذا الباب (١)

ذهب جماعة من معتزلة البصرة «كأبي يعقوب الشحّام» و «أبي علي الجبّائي» وابنه «أبي هاشم» و «أبي الحسين الخيّاط» و «البلخي» و «أبي عبد الله البصري» و «أبي إسحاق بن عيّاش» و «قاضي القضاة عبد الجبار» وتلامذته ، إلى أنّ المعدومات الممكنة قبل وجودها ذوات وأعيان وحقائق ثابتة في أنفسها ، جواهر وسواد وبياض وغير ذلك ، وأنّه لا تأثير لله تعالى في جعل الذوات ذواتا والجوهر جوهرا وغير ذلك ، بل إنّما يؤثر في جعل تلك الذوات موجودة. واتفقوا على أنّ تلك الذوات متباينة بأشخاصها ، وأنّ الثابت من كلّ نوع من تلك الذوات المعدومة عدد غير متناه ، فللجوهر أشخاص هي جواهر متساوية غير متناهية ، وكذا السواد له جزئيات متماثلة غير متناهية ، وكذا البياض وغيرها من الأنواع. واتفقوا كافة على أنّ تلك الذوات المعدومة متساوية في كونها ذوات ، وأنّ الاختلاف بينها إنّما هو بصفات.

ثمّ اختلفوا ، فذهب أكثرهم إلى أنّ تلك الذوات المعدومة موصوفة بصفات الأجناس كالجوهرية في الجوهر ، والسوادية في السواد ، والبياضيّة في البياض ، وزعم «ابن عيّاش» أنّها عارية عن جميع الصفات في العدم وإنّما تحصل الصفات في زمان الوجود.

أمّا القائلون بالصفات ، فزعموا أنّ صفات الجوهر ، إمّا أن تعود إلى الجملة ، كالحيّية وما يكون مشروطا بها (٢) ، أو إلى الأفراد وهي أربع :

__________________

(١) انظر مقالات الإسلاميين : ١٥٨ وما بعدها ؛ أوائل المقالات : ٩٨ ؛ المحصّل ، وذيله : ٨٣ ـ ٨٥ ؛ المواقف : ٥٦ ـ ٥٧.

(٢) والصفات المشروطة بالحياة هي الاعتقادات والظنون والأنظار والقدر والشهوات والنفارات والآلام والإرادات والكراهات ، وهي مع الحياة عشرة والموت عند أبي علي أيضا منها. نقد المحصل : ٨٤.

٦٦

الأولى : الجوهرية : وهي حاصلة حالتي الوجود والعدم وهي الصفة النفسيّة.

الثانية : التميّز (١) : وهي الصفة التابعة للحدوث الصادرة عن صفة الجوهرية بشرط الوجود ، ولأجلها يحتاج إلى حيّز ، وهي في الحقيقة الصورة الجسمية عند الأوائل ، وهي مغايرة للكائنية المعلّلة بالحصول في الحيّز ، مثل كون الجوهر متحرّكا أو ساكنا أو مجتمعا أو متفرّقا ، وهي معلّلة بالأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق بشرط الوجود.

الثالثة : الوجود : وهي الصفة الحاصلة بالفاعل.

الرابعة : الحصول في الحيّز ، ويسمّى الكائنية : وهي الصفة المعلّلة بالمعنى القائم بالجوهر ، وذلك المعنى هو الكون وليس للجوهر الفرد صفة زائدة على هذه الأربع ، فليس له لكونه أسود أو أبيض ، أو حلوا أو حامضا ، أو حارّا ، صفة معلّلة بمعنى ، بل لا معنى لكونه أسود ، إلّا حلول السواد فيه.

وكذا القول في كلّ عرض غير مشروط بالحياة ، وأمّا ما هو مشروط بالحياة أو الحياة نفسها ، فإنّها توجب أحوالا ، فإنّ الحياة توجب لمن قامت به الحيّية ، وهي حالة لا موجودة ولا معدومة معلّلة بالحياة ، وكذا العالمية صفة للجوهر العالم لا موجودة ولا معدومة معلّلة بالعلم. أمّا السواد إذا قام بالمحل فإنّه لا يوجب حالة هي صفة لمن قامت به ، بل معنى كونه أسود قيام السواد به ، لا أنّه حصل له صفة السوادية معلّلة بقيام السواد به ، إلّا الكائنية فإنّها حالة معلّلة بالكون. وأمّا الأعراض ، فلا صفة قائمة بها عائدة إلى الجملة ، فإنّها لا تتركب عنها بنية تقوم بها الحياة.

وأثبتوا ثلاث صفات عائدة إلى الآحاد :

الأولى : الصفة الذاتية الحاصلة حالتي الوجود والعدم ، وهي صفات

__________________

(١) ج وم : «التحيّز».

٦٧

الأجناس كالسوادية والبياضية ، وهي الصفة النفسية.

الثانية : الصفة الصادرة عن (١) صفات الأجناس ، وهي الحلول في المحلّ بشرط الوجود.

الثالثة : صفة الوجود الحاصلة بالفاعل ، فإنّ الفاعل لا يعطي حقيقة السواد ، بل وجوده.

ولا يعقل صفات المعاني في الأعراض لاستحالة قيام المعنى بالمعنى. وقد نازع بعضهم في هذا التفصيل في أربعة مواضع.

الأوّل : ذهب «أبو يعقوب الشحّام» و «أبو عبد الله البصري» و «أبو إسحاق بن عيّاش» إلى أنّ الجوهرية هي التحيّز. ثمّ اختلفوا فقال «الشحّام» و «البصري» : إنّ ذات الجوهر كما أنّها موصوفة بالجوهرية حالة العدم ، فهي موصوفة بالتحيّز.

ومنع «أبو إسحاق بن عيّاش» من ذلك ، وقال : إنّ الجوهر حال العدم كما يمتنع اتّصافه بالتحيّز ، كذا يمتنع اتّصافه بالجوهرية ، فلهذا أثبت الذوات خالية عن جميع الصفات.

واختلف «الشحّام» و «البصري» ، فزعم «الشحّام» أنّ الجوهر حال عدمه حاصل في الحيّز ، موصوف بالمعاني حال عدمه ، فألزم بإثبات رجل (٢) معدوم على فرس معدوم يقاوم (٣) العالم ، فالتزم به. قال «الجويني» : هذا قول بقدم العالم إلّا أنّه لم يصرّح به ، وقد كفّره المعتزلة بهذا القول ، حتّى أنّ الجبّائيين كفّراه بذلك.

وقال «البصري» : إنّ الشرط في كون المتحيّز حاصلا في الحيّز هو الوجود ، فالجوهر قبل الوجود موصوف بالتحيّز ، لكنّه غير حاصل في الحيّز.

__________________

(١) ق : «السائرة على».

(٢) كذا في نسخة : م وج وهي مطموسة في نسخة : ق.

(٣) كذا في النسخ.

٦٨

قال «الشحّام» : وصف الجوهر بكونه متحيّزا مع أنّه غير حاصل في الحيز محال ، ولو جاز ذلك لجاز وصف الذات بكونها عالمة وإن لم يحصل لها العلم.

قال «ابن عياش» : لو كان الجوهر موصوفا بالجوهرية التي هي التحيّز لكان حاصلا في الحيّز والتالي باطل فكذا المقدّم ، فلهذا أثبت الذات خالية عن الجوهرية (١).

ونقل عن «الكعبي» (٢) : أنّ المعدوم شيء ، ولكنّه ليس بجوهر ولا عرض حالة العدم. وهذا راجع إلى مذهب «ابن عيّاش» لأنّه إن أثبت الذوات في العدم خالية عن الصفات ، فهو قول «ابن عيّاش» ، وإن لم يثبتها كان نزاعا في اللفظ حيث سمّى المعدوم شيئا.

الثاني : اتفق الكل إلّا «أبا عبد الله البصري» على أنّه ليس للمعدوم بكونه معدوما صفة. وقال «البصري» : إنّ له صفة بكونه معدوما وهو خطأ ؛ لأنّ علّتها إن كان الذات دام عدمها ، هذا خلف ، وإن كان غيرها ، فإمّا مختار فتكون المعدومية متجدّدة ، هذا خلف ، أو موجب فتدوم المعدوميّة ، وهو محال.

الثالث : اتفقوا على أنّ الجواهر المعدومة لا توصف بأنّها أجسام حال العدم ، إلّا «أبا الحسين الخيّاط» ، فإنّه قال به وكذا «الشحّام».

الرابع : اتفقوا على أنّ بعد العلم بأنّ للعالم صانعا عالما قادرا حيّا حكيما مرسلا للرسل ، يمكننا الشك في أنّه هل هو موجود أم لا؟ إلى أن نعرف بالدليل ، لأنّهم جوّزوا اتّصاف المعدوم بالصفات ، فلا بدّ من دلالة منفصلة على وجوده تعالى بعد العلم بكونه موصوفا بصفة العالمية والقادرية.

واتفق باقي العقلاء على إنكار ذلك ، وأنّه جهالة ، وإلّا لزم الشك في وجود الأجسام ، فإنّا لا نعلم إلّا صفاتها كالحركة والسكون (٣).

__________________

(١) وهي في المحصل للرازي «عن الصفات».

(٢) في هامش ج : «وهو البلخي» ، وقد مرّت ترجمته آنفا.

(٣) أنظر المحصل : ٨٤ ـ ٨٥.

٦٩

واعلم أنّ ضرورة العقل قاضية ببطلان هذه المذاهب ، وفسادها ظاهر غنيّ عن البرهان ، ومع ذلك فلنذكر ما يبطل أقوالهم الفاسدة على نهج طرقهم.

فنقول : لو كان الجوهر جوهرا في العدم لكان متحيّزا في العدم (١) ، والتالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّه لو كان جوهرا حال العدم ولم يكن متحيّزا ، كان التحيّز صفة مغايرة له زائدة عليه تثبت له بعد أن لم يكن ثابتة ، والتالي باطل ، فإنّ صفة التحيّز يستحيل ثبوتها إلّا مختصّة بالجهة ، وذات الجوهر بدون صفة التحيّز يستحيل اختصاصه بالجهة ، وحصول ما يجب اختصاصه بالجهة لما يستحيل اختصاصه بالجهة محال بالضرورة ، وإلّا لجاز مثله في القديم وغيره ، فيكون العالم حالّا في ذاته ، أو يكون ذات القديم مختصّة بصفة التحيّز ، وكذا كلّ عرض من الأعراض يقتضي لذاتها صفة التحيّز ، واقتضاء ذلك مشروط بشرط يتعلّق باختيار القادر ، فيجوز أن يوجد في بعض الأوقات ، فيصير ذات القديم أو ذات العرض متحيّزا ، ولمّا كان العلم باستحالة ذلك ضروريا لا نظريا ، لما بيّنا من أنّ حصول ما يختص بالجهة لما لا يختص بالجهة محال ، وذلك حاصل هنا ، فيجب أن يستحيل ذلك.

وأيضا الضد إذا طرأ على الضد كالسواد على البياض حتى نافاه ، فإمّا أن تكون المنافاة بالحقائق التي يقع بها التضاد (٢) أو بما هو زائد عليها وهو الوجود الذي ذهب الخصم إليه ، لا جائز أن يكون بالوجود ، لأنّه لا منافاة بين الوجودات ، ولهذا يصحّ اجتماع كثير من الأعراض في محلّ (٣) واحد ، وإذا بطل أن تكون المنافاة التي بها يثبت التضاد بالوجود ، والذي يثبت به التضاد هو الحقائق ،

__________________

(١) ق وج : «في العدم» ساقطة.

(٢) ق : «الضد».

(٣) م : «محل» ساقطة.

٧٠

فإذا طرأ السواد على البياض فقد نافاه ولم يكن حينئذ حقيقة ، فكان إفناؤه إفناء الحقيقة.

وأيضا نفرض الكلام في نوع واحد من الأنواع ، كالجوهر مثلا فنقول : لا يجوز أن يكون في العدم جواهر متماثلة ، سواء كانت متناهية أو غير متناهية ، لأنّ ذلك إثبات للتعدّد في الذوات من غير فصل مميّز ، فيكون محالا.

أمّا الأوّل : فلأنّا فرضنا الكلام في نوع واحد لا تميّز لاحدى الذاتين عن الأخرى ، كالجوهرين والسوادين.

وأمّا الثاني : فالضرورة قاضية به ، فإنّا نعلم في كل شخص بالضرورة أنّه واحد ، ولو جاز إثبات شيئين لا يتميّز أحدهما عن الآخر لجوّزنا أن يكون له ثان ، لكنّه لا يفصل عنه بفصل. ولأنّا إذا علمنا حقيقة الجوهر مطلقا ، ثم علمنا جوهرا معيّنا ، فلا شكّ أنّه دخل في العلم الثاني معلوم العلم الأوّل ، وإلّا لم يكن علما بحقيقة جوهر ، فإن لم يدخل في الثاني أمر زائد على الأوّل مع أنّ الأوّل لم يكن علما بجوهر معين ، كان الثاني كذلك ، وقد فرضناه علما بحقيقة جوهر معيّن ، فيثبت أنّه دخل فيه أمر زائد لم يدخل في العلم الأوّل ، وهكذا في كلّ فرد معيّن من أفراد ذلك النوع ، فوجب في الاثنينية أمر زائد لو لا ذلك لم يتصوّر الاثنينية.

احتجّوا بوجوه :

أ : القادر يقدر على إيجاد الجوهر وغيره ، فلا بدّ له من تعلّق بالمقدور حتّى يصحّ منه إيجاده ، فيجب أن يكون الجوهر ذاتا في حال عدمه حتّى يكون متعلّقا.

ب : التحيّز صفة تقتضيها صفة الذات في العدم ، فلا بدّ من إثبات الذات الموصوفة بالصفة الذاتية في العدم. وإنّما قلنا ذلك ، لأنّ تحيّز الجوهر أمر متجدّد ، فإمّا أن يتجدّد ذلك لأمر (١) أو لا لأمر ، والثاني باطل ، فصحّ أنّه لأمر ، فذلك الأمر

__________________

(١) ق : «الأمر» والصواب ما أثبتناه في المتن من نسخة م وج.

٧١

إمّا أن يكون مجرّد ذات الجوهر ، أو صفة وجوده ، أو حدوثه ، أو وجود معنى فيه ، أو عدم معنى عنه ، أو فاعل ، أو صفة ذاتية له ، والكلّ باطل ، إلّا قولنا : المقتضي له هو الذات على صفة الجوهرية بشرط الوجود.

أمّا امتناع أن يكون ذلك الأمر ذاته أو وجوده أو حدوثه ، فلأنّه لو كان كذلك للزم أن يكون كلّ ذات وموجود وحادث متحيزا.

وأما امتناع أن يكون لمعنى ، فلأنّه لا بدّ من اختصاص ذلك المعنى ، واختصاصه فرع على تحيّزه ، لأنّه لا معنى للحلول إلّا الحصول في الحيّز تبعا لحصول محلّه فيه ، فلا يجوز أن يكون تحيّزه فرعا على المعنى ، لاستحالة الدور.

وأمّا امتناع أن يكون لعدم معنى ، فلأنّ المعدوم لا اختصاص له.

وأمّا امتناع الفاعل ، فلأنّه لو كان بالفاعل لأمكنه أن يجعل الذات على صفات أجناس غير متناهية ، بأن يجعل الذات الواحدة حركة سوادا متحيّزة ، إلى غير ذلك من صفات الأجناس.

ثمّ لو طرأ بياض ليس بسكون ولا فناء لزم أن لا ننفيه من حيث هو حركة ، وننفيه من حيث هو سواد ، فيكون معدوما موجودا وهو محال.

وإذا بطلت الأقسام كلّها ، سوى أن يكون المقتضي للتحيّز هو الذات على الصفة للذات ، ولا بدّ من أن يكون كذلك قبل الوجود ، حتى يقتضي التحيّز حال الوجود ، صحّ أنّه ذات وأنّه على صفة ، وهو معدوم.

ج : لو كان الجوهر جوهرا بالفاعل وغيره من الأجناس ، لما جاز أن يختص بعضها بصحّة البقاء عليها دون البعض ، كالجوهر وكثير من الأعراض يصحّ عليها البقاء ، والصوت لا يصحّ عليه البقاء ، وكذا الإرادة والكراهة ، فلو لا أنّها مختلفة ، وإلّا لم يجب ذلك.

٧٢

والجواب عن أ : القادر لا يقدر على إثبات ما هو ثابت في نفسه وهو الذات ، وإلّا لزم تحصيل الحاصل. وإنّما يقدر على إثبات ما ليس بثابت ، وحينئذ يبطل أصل الدليل.

لا يقال : القادر لا يقدر على الذات ، لاستحالة إثبات الثابت ، ولا على أمر وراء الذات ، لأنّ ما وراء الذات هي صفة الوجود ، والصفة غير مقدورة ولا معلومة أصلا ولا تبعا ، بل المقدور هو الذات على صفة الوجود.

لأنّا نقول : المقدور ليس هو الذات الثابتة في العدم ولا غيرها ، لأنّه إن لم يكن ثابتا صحّ مطلوبنا ، من أنّ المقدور ليس بثابت ، وإن كان ثابتا لزم تحصيل الحاصل. ولا المجموع ؛ لأنّه قول بإثبات الثابت مع التزام أنّه فعل مع ذلك غيره ، وهو تسليم للقول بأنّ ما فعله لم يكن ثابتا في العدم ، وليس هناك قسم رابع يفهم من قولهم الذات على الوجود.

سلّمنا تعقله ، لكنّا نقول : إذا كان متعلّق القادر هو الذات على الوجود ، وتعلّق المقدور يقتضي ثبوته ، لزم أن تكون الذات على صفة الوجود أمرا ثابتا ، حتّى يتعلّق بالقادر. وبالجملة فالتقسيم آت فيه ، فإنّ متعلّق القادر إمّا أن يكون ثابتا في العدم فيلزم تحصيل الحاصل ، أو غير ثابت فيبطل الدليل ، أو المجموع فيبطل الدليل (١) أيضا ، ويلزم المحال الأوّل.

وعن ب : أنّه وإن كان عندهم هو النهاية القصوى في التحقيق مبنيّ على أصول فاسدة ، وهو أنّ تحيّز الجوهر غير كونه جوهرا وموجودا ، وأنّ للذات صفات أجناس ، وأنّ التنافي بها دون حقائق الذوات ، وأنّه إذا تنافت الصفتان (٢) تزول عن الذات صفة أخرى هي الوجود ، كما أنّ الوجود شرط اقتضاء المقتضي

__________________

(١) ق : «أو المجموع فيبطل الدليل» محذوفة سهوا.

(٢) م : «الصفات».

٧٣

للصفة المقتضاة (١) ، والصفتان اللّتان بهما التضاد لا تتنافيان إلّا باعتبار إزالة الوجود الذي هو الشرط مع عدم منافاة الصفة الذاتية لصفة الوجود ، وأدلّتهم على هذه الأصول في غاية الضعف.

قالوا : لمّا كان المعدوم ذاتا حال عدمه ولم تكن له صفة الوجود والتحيّز ، كانا زائدين على الذات.

قلنا : معرفة زيادة هاتين الصفتين على الذات ، إذا توقّف على ثبوت كون المعدوم ذاتا ، وتوقّف كون المعدوم ذاتا على كونهما زائدتين دار.

سلّمنا الزيادة ، لكن لم قلتم : إنّ التحيّز إذا تجدد افتقر إلى أمر؟ فإنّ مذهبكم أنّ الأعراض تتجدّد لها صفة الحلول في جميع المحالّ ، وأنّ ذلك يثبت لها لا لأمر. وكذا غير القارّ من الأعراض لها صفة صحّة الوجود في أوقاتها لا لأمر ، فليجز مثله في التحيّز.

سلّمنا أنّ ثبوت الصفة يستدعي سببا ، لكن لا مطلقا ، بل مع جواز ثبوتها لا مع وجوبه ، فإنّ مذهبكم أنّ صفة الجوهر يختص بذاته ، وهي مساوية لذات العرض والقديم تعالى.

ثمّ هذه الذوات مع تساويها في الذاتية ، اختصت بصفات أجناسها واختلفت لا لأمر ، فجاز أن يختص ذات الجوهر عند شرط الوجود بصفة التحيّز لا لأمر.

سلّمنا ، لكنّ القسمة غير حاصرة ونفي الدليل على ثبوت زائد لا يقتضي نفيه (٢).

__________________

(١) ق : «اقتضى المقتضى للصفة المقتضاة».

(٢) من كلمة «سلمنا» إلى «نفيه» ساقطة في نسخة : م.

٧٤

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز أن يكون السبب هو الذات ، أو الوجود ، (١) أو الحدوث؟

قوله : يشترك في ذلك الذوات والموجودات والحوادث.

قلنا : هذا بناء على تساوي الذوات في الذاتية أو الوجود أو الحدوث وهو ممنوع ، والاشتراك اللفظي لا يفيد.

سلّمنا أنّها لا تختلف ، فلم قلتم : إنّها تتماثل؟ لأنّ الاختلاف كما هو مبنيّ على الصفات كذا التماثل ، وإذا فقد ثبوت الصفة فقد الاختلاف والتماثل.

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز أن يكون لمعنى؟

قوله : لا بدّ من حلوله فيه ، ولا بدّ في حلوله من تحيّزه؟

قلنا : لم لا يجوز ذلك إذا تقارن في الوجود؟ فإنّ الكون عندكم يوجب كون الجسم في الجهة ، مع أنّ من شرط إيجابه حلوله فيه وهو في الجهة التي توجب كونه فيها.

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز [أن] يكون لعدم معنى؟

قوله : لا اختصاص له به.

قلنا : لا نسلّم بأنّه غير حال فيه. ولا نسلّم بأنّ اختصاص الجهات منحصرة في الحلول. ولم لا يجوز أن يكون هاهنا وجه اختصاص آخر؟ فإنّ هذا المعنى عند الوجود يختص بالحلول في هذا الجسم دون غيره من الأجسام لا لأمر ، فلم لا يجوز أن يختصّ به وهو معدوم؟ أو نقول : لم لا يجوز أن يكون في العدم معان مختلفة كلّ واحد منها يختص بعدم لا يختص به الآخر ، ويكون ذلك معلّلا بذاتها وحقيقتها التي لا يشاركها فيها غيرها؟

__________________

(١) ق : «الوجوب» والصواب ما أثبتناه من نسخة : م.

٧٥

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز أن يكون بالفاعل؟

قوله : يلزم إمكان أن نجعل الذات على صفات أجناس.

قلنا : هذا بناء على ثبوت صفات الأجناس ونحن نمنعه ، فإنّ الذات تخالف غيرها لذاتها.

سلّمنا ، لكن لم لا تجعل الذات على صفات متعدّدة؟

قوله : إذا جعل ذاتا سوادا متحيّزا وطرأ عليه بياض نفاه من وجه دون آخر.

قلنا : إن عنيتم به أنّه ينفي كونه سوادا ولا ينفي كونه حركة ، فلم لا يجوز ذلك؟ وإن عنيتم شيئا آخر فبيّنوه!

قالوا : نعني بذلك أنّ الذات تخرج عن صفة الوجود التي هي زائدة على الذات ولا تخرج عنها ، لأنّ صفة الذات تقتضي هيئة السواد والتحيّز بشرط الوجود ، فإذا لم ينتف الوجود لم ينتف التحيّز ، وإذا انتفى التحيّز انتفى الوجود.

قلنا : نمنع كون التحيّز وهيئة السواد مقتضى عن صفة الذات ، فإنّ ذلك إنّما يتم لو امتنع كونه بالفاعل. فإذا احتيج في بيان امتناع كونه بالفاعل إلى كونه مقتضى عن صفة الذات ، دار.

سلّمنا أنّ الوجود مقتضى عن صفة الذات ، وأنّ الوجود شرط اقتضائه ، فلم لا يجوز زواله؟ فإنّه لا يلزم من قيام المقتضي وحصول الشرط ثبوت المقتضى ، لإمكان أن يعارضه ما ينافيه.

سلّمنا ، لكن نمنع إمكان جعل الذات على صفات متعدّدة ، لجواز تنافيها.

والجواب عن ج : بالمنع من الملازمة. أمّا أوّلا ، فلابتنائه على تساوي الذوات. وأمّا ثانيا ، فلأنّا نقول : القادر إذا خصص بعض الذوات بكونها جوهرا لزم البقاء ، وإذا خصص بعضها بكونها إرادة أو صوتا امتنع البقاء.

٧٦

البحث الرابع : في كيفية العلم بالمعدومات (١)

اختلف الناس هنا ، فمنع منه قوم ، وجوّزه آخرون ، وهو الحق.

لنا ، أنّا نعلم حركاتنا الماضية وهي معدومة ، وكذا المستقبلة ، ونفرّق بين ما نقدر عليها ، وبين ما لا نقدر وهو أمر ضروري.

احتجّ المانعون : بأنّ كل معلوم متميّز ، وكلّ متميّز ثابت ، وقد سبق بطلان ذلك ، إذا ثبت هذا ، فالمعدوم إمّا أن يكون بسيطا أو مركبا.

أمّا الأوّل ، فكعدم ضد الله تعالى ، وذلك إنّما يعقل لأجل تشبيه بأمر موجود مثل أن يقال : ليس لله تعالى شيء نسبته إليه نسبة السواد إلى البياض ، فلولا معرفة المضادة الحاصلة بين أمور وجودية ، لاستحال (٢) أن يعرف ضد الله تعالى. وإن كان مركبا كالعلم بعدم اجتماع السواد والبياض ، فالعلم به إنّما يتم بسبب العلم بأجزائه الوجودية بأن يعقل السواد والبياض والاجتماع حيث يعقل ، ثمّ يقال : إنّ الاجتماع الذي هو أمر وجودي معقول غير حاصل للسواد والبياض. فقد ظهر أنّ عدم البسائط إنّما يعرف بالمقايسة إلى الأمور الوجودية ، وعدم المركّبات إنّما يعرف بمعرفة بسائطها (٣).

أمّا المعتزلة ، فقد اختلفوا ، فذهب البصريون إلى أنّ المعدوم يعلم على صفة هو عليها في حال عدمه يتعلّق العلم بتلك الصفة ، وبها يماثل ما يماثل ويخالف ما يخالف.

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٥٠٠ ؛ نقد المحصل : ١٤٩ ـ ١٥٠.

(٢) في النسخ «وإلّا لاستحال» وما أثبتناه يوافق عبارات الرازي.

(٣) أنظر المباحث المشرقية ١ : ٥٠٠.

٧٧

وقال آخرون : إنّه إنّما يعلم بأمور مترقّبة متجدّدة فيما بعد.

احتجّ الأوّلون : بأنّا إذا علمنا المعدومات متميّزة حال عدمها ، وجب أن يكون المعلوم من حال الجوهر غير المعلوم من حال العرض ، والمعلوم من حال السواد غير المعلوم من حال البياض ، وكذا باقي الأجناس. وإذا ثبت هذا فلا بدّ له من صفة يتميّز بها عن غيره ، ويخالف ما يخالف ويضاد ما يضاد ، لاشتراكها أجمع في المعلوميّة ، فلا يقع الامتياز بذلك ، فلا بد من أمر آخر هو الذي نسمّيه صفة أو حالا ، وذلك المائز لا يجوز أن يكون مترقّب الحصول نحو كونه متحيّزا ، أو هيئة مخصوصة ، أو له تعلّق مخصوص ، لأنّ التمايز والتماثل والاختلاف أمور حاصلة في الحال ، وكما أنّ التماثل والاختلاف لا يقف على أمر متجدّد ، فكذا التمايز ، فكما لا يجوز أن يتميّز بأمر متعلّق (١) بالفاعل لأنّه متجدد ، فكذا كونه متحيزا أو هيئة مخصوصة أمر متجدّد ، لا يجوز أن يقف الخلاف والمماثلة عليه.

وهذه الحجّة فاسدة لابتنائها على تساوي الذوات ، والحق الاختلاف وإنّ تلك المعلومات مختلفة لذواتها وهي ثابتة ذهنا لا عينا.

قال الآخرون : إنّا نعلم تمايز الأجسام بعضها عن بعض قبل وجودها ، ونحكم بمخالفة صورة الإنسان وشكله لصورة الفرس ، وليس ذلك لأجل صفات هي عليها في حال العدم.

ثم ألزموا الأوائل التسلسل ؛ لأنّه إذا كان المعلوم من حال الجوهر أنّه يقتضي صفته الذاتية دون غيره أن يكون ذلك لأمر آخر اقتضى ذلك ، لزم المحال.

والحق : أنّ القولين متساويان في الاستحالة. والسبب فيه عدم التفطن بالوجود الذهني.

__________________

(١) ق وج : «يتعلق».

٧٨

البحث الخامس : في حصر قسمة المعلوم إلى الموجود والمعدوم (١)

أطبق أكثر العقلاء على ذلك وذهب قوم ممّن عمشت (٢) بصائرهم من إدراك الحق وقصرت أفكارهم عن التعمّق في المباحث العقلية : إلى إثبات واسطة بين الموجود والمعدوم ، سمّوها الحال (٣).

وتقرير قولهم أن نقول : إذا علمنا أمرا من الأمور ، فإمّا أن يكون راجعا إلى الإثبات أو إلى النفي. والأوّل لا يخلو ، إمّا أن يضاف إلى غيره أو لا. والثاني هو الذات ، ويحدّ بأنّه الثابت الذي يعلم غير مضاف إلى غيره ، فخرج المعدوم وإن كان معلوما ، لأنّه ليس بثابت ، والصفة (٤) لأنّها تعلم مضافة إلى غيرها.

والمضاف إمّا أن يكون مقصورا على ما يضاف إليه نظير كون المحلّ ، أو يكون منفصلا عنه نظير الفعل بالنسبة إلى الفاعل.

فالأوّل الحال ، ويحدّ بأنّه الذي يثبت للذات مقصورا عليه. فخرج النفي بقولنا : ثبت ، والذات بقولنا : للذات ـ فإنّها لا تثبت لغيره ـ والأشياء المنفصلة التي تضاف إلى غيرها كالأفعال ، والآثار الصادرة عن العلل في غير محالّها ، فإنّها لا تكون أحوالا للعلل ، بقولنا مقصورا عليه.

واعلم : أنّ الحال أخصّ من الصفة ، فإنّ الصفة كلّ أمر مضاف إلى غيره ،

__________________

(١) راجع ما كتبه أبو رشيد سعيد بن محمد النيسابوري (م ٤٤٠ ه‍) وهو من رؤساء المعتزلة ، في كتابه المسمى بالتوحيد : ٥٨٥. وانظر الفصل الرابع من المقالة الأولى من إلهيات الشفاء ، وتعليقة صدر المتألهين عليه : ٢٦ ؛ المحصل ، وذيله للطوسي : ٨٥ وما بعدها ؛ المباحث المشرقية : ٤٥ ـ ٤٧ ؛ المواقف : ٥٧ ـ ٥٨.

(٢) عمشت عينه تعمش : ضعف بصرها مع سيلان دمعها في أكثر الأوقات (قطر المحيط ٢ : ١٤٤٢).

(٣) وهي غير مشدّدة ، كما زعم بعض أهل المعاجم.

(٤) أي وخرجت الصفة.

٧٩

سواء كان إثباتا أو نفيا ، مقصورا عليه أو غير مقصور عليه. وأمّا الحكم ، فهو ما كان صادرا عن غيره ، سواء كان ذاتا أو صفة. فالحال صفة لموجود لا يوصف بالوجود ولا بالعدم.

وأوّل من قال بالأحوال : «أبو هاشم الجبّائي» وأتباعه من المعتزلة (١). وجوّز أن تكون الحال ثابتة للمعدوم كالجوهرية. وفصّل الأحوال فقال : الأعراض التي لا تكون مشروطة بالحياة ، فإنّها لا توجب أحوالا ، ولا صفة لمن قامت به ، كاللون والرائحة وغيرها ، إلّا الكون فإنّه يوجب حالة راجعة إلى المحل هي الكائنية ، وأمّا الأعراض المشروطة بالحياة ، فإنّها توجب أحوالا عائدة إلى الجملة ، فالعلم يقتضي لجملة البدن حالة هي العالمية ، وكذا القدرة وغيرهما من الأعراض. وأثبت «القاضي أبو بكر» و «الجويني» من الأشاعرة ، الأحوال أيضا في كلّ صفة قائمة بالذات ، سواء اشترطت بالحياة أو لا ، فالأسودية حالة معلّلة بالسواد ، وكذا باقي الأعراض.

لنا : أنّ الضرورة قاضية بأنّ كلّ معقول ، فإمّا أن يكون له تحقّق أو لا. والأوّل : هو الموجود ، والثاني هو المعدوم ، وأنّ من أثبت واسطة بينهما ، فقد كابر مقتضى عقله (٢).

واحتجّوا بوجهين :

الأوّل : الوجود وصف مشترك بين الموجودات على ما تقدّم ، وهي متخالفة بحقائقها ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فيكون الوجود مغايرا للماهية فذلك الوجود إمّا أن يكون موجودا أو معدوما ، أو لا موجودا ولا معدوما.

__________________

(١) وأمّا المعروف عن أبي الهذيل العلاف (من أئمّة المعتزلة) انّه كان يقول : الصفات «وجوه» للذات. ولا يقول بالأحوال.

(٢) راجع نقد المحصل : ٨٥.

٨٠