نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

المقالة الثانية

في الكيف (١)

وفيها فصول :

الفصل الأوّل :

في المقدمات

وهي اثنتان :

المقدمة الأولى : في تعريفه

الماهيات البسيطة لا يمكن أن تحدّ على ما عرفت ؛ لأنّ الحدّ يتألف من

__________________

(١) وهو احدى المقولات العشر التي ابتكرها ارسطو في منطقه وما زالت من مباحث المنطق (منطق أرسطو ١ : ٥٥ وما يليه) إلى أن أخرجه الشيخ ابن سينا من هذا العلم وأدخله في مباحث الأمور العامّة من الفلسفة ، راجع إلهيات الشفاء ، الفصل الأوّل من المقالة الثالثة ؛ الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من مقولات الشفاء.

٤٦١

أجزاء المحدود ، والبسيط لا جزء له ، بل إنّما يعرف بلوازمه البيّنة. ولمّا كان الكيف من الأجناس العوالي لم يمكن تعريفه إلّا بالرسم. وقد اشتهر عن القدماء في رسمه أنّه : «هيئة قارّة لا يوجب تصورها تصور شيء خارج عنها وعن حاملها ، ولا قسمة ولا نسبة في أجزاء حاملها» فبالهيئة خرج الجوهر ، وكونها «قارّة» يميّزها عن مقولتي أن يفعل وأن ينفعل وعن الزمان ، و «كون تصورها لا يوجب تصور غيرها» يميّزها عن المضاف والأين والمتى والملك، و «وكونها غير مقتضية للنسبة في أجزاء حاملها» يميّزها عن الوضع ، و «كونها بحيث لا تقتضي القسمة» يميّزها عن الكم.

قيل (١) : المفهوم من «أن يفعل» مؤثّرية الشيء في الشيء ، فالشيئان إن كانا ثابتين كانت مؤثرية المؤثر في المتأثّر أيضا ثابتة ، لأنّ المؤثرية من لوازم الماهية المؤثّرة ولازم الثابت ثابت. وإذا كانت تلك المؤثرية ثابتة غير متغيرة ، فقولنا «هيئة قارّة» لا يفيد الاحتراز عن تلك المؤثرية الثابتة ، إلّا أن يقال : المؤثر إن كان متغيّرا كانت مؤثريته زائدة على الذات ، وإن كان ثابتا لم تكن المؤثرية حكما زائدا على الذات ، وإذا كانت المؤثرية الثابتة غير ثبوتي لم يحتج إلى الاحتراز عنها في الرسم ، ولكن ذلك تحكّم ، فإنّه ليس بأن تكون مؤثرية المؤثر المتغير زائدا على ذاته ، أولى من أن تكون مؤثرية المؤثر الثابت زائدة على ذاته.

وأيضا قولكم : «لا يوجب تصورها تصور شيء خارج عنها وعن حاملها» يفيد الاحتراز عن مقولتي «أن يفعل» و «أن ينفعل» ؛ لأنّهما من الأعراض النسبية التي يوجب تصورها تصور شيء خارج عنها وعن حاملها ، فيستغني عن

__________________

(١) والقائل هو الرازي حيث قال بعد ذكر التعريف : «هذا ما قيل وفيه سبعة أبحاث» ، المباحث المشرقية : ٣٦٩ ـ ٣٧٣. وقد نقل صدر المتألّهين تلك الاشكالات ، ثمّ قال : «ويمكن الجواب عن أكثر هذه الايرادات» الأسفار ٤ : ٥٩ ـ ٦١.

٤٦٢

ذكر القارّ. فإن احترزوا به عن الزمان كان قولنا «لا يقتضي القسمة» كافيا ومغنيا عنه.

وأيضا الصوت من مقولة الكيف ؛ لأنّه ليس جوهرا ، ولا كمّا متصلا غير قارّ ، لأنّه منحصر في الزمان ، ولا قارّا ؛ لأنّ الصوت غير قارّ على ما يأتي ، ولا من باقي المقولات ، فهو من الكيف مع أنّه ليس بقارّ ، لأنّ معنى القارّ ما توجد أجزاؤه المفروضة فيه في آن واحد ، وليس الصوت كذلك بالضرورة. ولأنّه معلول لتموّج الهواء ، والتموّج حركة فالصوت معلول الحركة ، ومعلول غير القارّ يجب أن لا يكون قارّا. فإذن الصوت كيف غير قارّ ، فلا يجوز اشتراط القارّ فيه (١).

وأيضا الوحدة عرض قارّ لا يوجب تصورها تصور شيء خارج عنها وعن حاملها ، ولا تقتضي قسمة ولا نسبة في أجزاء حاملها ، وكذا النقطة.

لا يقال : المعقول من النقطة أنّها نهاية الخط ، وذلك لا يعقل إلّا عند تعقّل الخط. والوحدة معنى يلزمه عدم الانقسام ، وهو لا يعقل ، إلّا عند تعقّل الانقسام ، فتصورها يوجب تصور غيرها.

لأنّا نقول : إن اعتبرتم في الكيف أنّه لا يلزم من تصوّره تصوّر غيره مطلقا خرج أكثر أنواع الكيف ، فإنّ الاستقامة والانحناء لا يتصوران إلّا في المقدار. وإن لم تشترطوا ذلك ، بل أن لا يلزم من تصوره تصور شيء خارج عن محلّه ، وما يلزم من تصوّره تصوّر محله أو تصوّر ما يوجد في محله من الكيف ، فالوحدة والنقطة من الكيف ، إذ لا يلزم من تصورهما إلّا تصوّر محلهما أو تصور حال من أحوال محلّهما.

وأيضا الإدراك والعلم [والقدرة] والشهوة والغضب وجميع الأخلاق ، لا يمكن تعقّلها ، إلّا ويوجب تصوّرها تصوّر متعلقاتها ، أعني المعلوم والمقدور

__________________

(١) أي في تعريف الكيف.

٤٦٣

والمشتهى والمغضوب عليه.

لا يقال : تصوّر هذه وإن استلزم تصوّر متعلقاتها ، لكنّ تصوّرها سابق على تصوّر المتعلقات ، فإنا نعقل العلم أوّلا ثمّ بعد ذلك نعقل أنّه لا بدّ له من متعلق ، بخلاف النسب والإضافات ، فإنّه لا بدّ وأن نعقل المنسوب والمنسوب إليه أوّلا حتى يصير تعقّلهما سببا لتعقل تلك الأمور النسبية. فلمّا كانت الكيفية يتقدم تعقّلها على تعقل ما هي منتسبة إليها والإضافات متأخر تعقلها عن تعقل معروضاتها ظهر الفرق.

لأنّا نقول : الفرق وإن كان صحيحا في الحقيقة ، إلّا أنّ عبارتكم لا تفيده ؛ لأنّ حاصله راجع إلى أنّ الكيف هو الذي لا يتوقف تصوّره على تصوّر غيره ، إلّا أن يكون «تصوّره» في قولنا : «ما لا يوجب تصوّره تصوّر غيره» منصوبا (١) ، ويكون «تصوّر غيره» مرفوعا فيلائم تمام الرسم المذكور.

وأيضا (٢) لو حملنا قولكم «ما لا يوجب تصوّره تصوّر غيره» على أنّه ما لا يكون تصوّره معلولا لتصوّر غيره ، فمع هذا كيف يطّرد الرسم في الشكل كالتربيع والتثليث ، وفي خواص الأعداد كالجذرية والكعبية (٣) ، فإنّ التربيع هو الهيئة الحاصلة بسبب إحاطة الحدود الأربعة بالسطح ، فما لم يتقدم العلم بالحدود الأربعة المحيطة بالسطح لا يحصل العلم بتلك الهيئة. فإذن العلم بتلك الهيئة من الكيف وكذا خواص الأعداد ، فيكون تصوّرها معلولا لتصوّر غيرها.

__________________

(١) بأن يكون إعراب الأوّل نصبا على المفعولية والثاني رفعا على الفاعلية.

(٢) اسند هذا الاشكال إلى «الحواشي القطبية» فراجع حكمة العين : ٢٥٩.

(٣) إذا ضرب عدد في نفسه فذلك العدد هو الجذر والحاصل المجذور ، والمربع أيضا. ثم إذا ضرب ذلك الجذر في ذلك الحاصل فما حصل هو المكعب ، فالاثنان جذر الأربعة وكعب الثمانية. شرح المواقف ٥ : ١٦٥.

٤٦٤

وأيضا الهيئة لفظ مشترك ، فيقال : ١ ـ هيئة الوجود. ٢ ـ هيئة الاستقلال والاستقرار. ٣ ـ هيئة الجوهرية والعرضية. ٤ ـ هيئة الجلوس. ٥ ـ هيئة التأثير والتأثّر ، والمشترك لا يستعمل في الرسم.

وقولكم : «لا يوجب تصوّره تصوّر شيء خارج عنه وعن حامله ، ولا نسبة ولا قسمة في أجزاء حاملها» لا فرق بينه وبين أن نقول : الكيف هو الذي لا يكون كما ولا وضعا ولا سائر الأعراض النسبية. ولو صرّح بذلك لم يكن تعريفا صحيحا ، وإلّا لصح ذلك في سائر المقولات ، بل ذلك أولى ، لأنّ الأمور النسبية لا تعرف ، إلّا بعد معرفة معروضاتها التي هي الكيفيات (١).

فإذن الأولى أن يقال (٢) : «الكيف هو العرض الذي لا يتوقف تصوّره على تصوّر غيره ، ولا يقتضي القسمة واللاقسمة اقتضاء أوّليا ، فخرج بقولنا «العرض» الباري تعالى والجوهر. وبقولنا «لا يتوقف تصوّره على تصوّر غيره» الأعراض النسبية. والكيف وإن لزم من تصوّره تصوّر غيره ، لكن لا على أنّ تصوّره معلول لتصوّر غيره ، بل على أنّ تصوّره علّة لتصوّر غيره. ويدخل فيه الصوت ؛ لأنّ تصوّره لا يتوقف على تصوّر غيره. وبقولنا «لا يقتضي القسمة واللاقسمة» نميّزه عن الكم والوحدة والنقطة ، لأنّهما يقتضيان اللاقسمة. وقولنا «أوّليا» ليدخل (٣) فيه العلم بما لا ينقسم ، فإنّه يمتنع من الانقسام ، لكن ذلك الاقتضاء ليس بأوّلي ، بل بواسطة وحدة المعلوم.

ولمّا كانت الأجناس العالية بسائط لم يمكن تعريفها إلّا بالرسم ، إمّا بأمور

__________________

(١) وكذلك الكمّيات ، كما قال به صدر المتألّهين في تعليقته على الشفاء ، ص ١٢١.

(٢) قال الرازي : «ولعل الأقرب أن يقال : الكيف هو العرض الذي لا يتوقف تصوّره على تصوّر غيره ولا يقتضي القسمة واللاقسمة في محله اقتضاء أوّليا».

(٣) كذا في المخطوطة ، وفي المباحث المشرقية : «احترزنا به عن العلم».

٤٦٥

ثبوتية أو سلبية تكون أعرف. والأجناس العالية خفية ، فلو قيل الكيف ما لا يكون جوهرا ولا كما ولا غيرها (١) كان المذكور سلب أمور ليست أعرف منه ، فلم يكن التعريف صحيحا.

أمّا ما اعتبرناه من العرضية ـ أعني الحلول في محلّ متقوّم به ـ ومن عدم توقف تصوّره على تصوّر الغير ، وأن لا يكون علّة الانقسام واللاانقسام كانت هذه السلوب سلوبا جلية ظاهرة يصحّ التعريف بها.

المقدمة الثانية : في تقسيم الكيف

وهو جنس لأنواع أربعة باتفاق الجماهير من الفلاسفة (٢) :

النوع الأوّل : الكيفيات المحسوسة.

فإن كانت ثابتة راسخة فهي «الانفعاليات» وإن كانت سريعة الزوال فهي «الانفعالات».

النوع الثاني : الكيفيات النفسانية.

فإن كانت راسخة فهي «الملكات» ، وإن كانت غير راسخة بل سريعة الزوال فهي «الحالات».

__________________

(١) ق وس : «باقيها» بدل «غيرها».

(٢) راجع منطق أرسطو ١ : ٥٥ وما يليها ؛ الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من مقولات الشفاء ؛ منطق النجاة : ٨١ ؛ نقد المحصل : ١٣٠ ـ ١٣١ ، وتعويلهم على حصرها في الأربعة على الاستقراء والتتبّع.

٤٦٦

النوع الثالث : الاستعداد الشديد.

فإن كان نحو الانفعال فهو «اللاقوة» وإن كان نحو اللاانفعال فهو «القوة».

النوع الرابع : الكيفيات المختصة بالكميات.

إمّا المتصلة كالاستقامة والانحناء والتربيع وشبهه ، أو المنفصلة كالزوجية والفردية. وقد ذكروا في الحصر وجوها ضعيفة (١) :

الأوّل : الكيفية إمّا أن تختص بالكمية أو لا ، فإمّا أن تكون محسوسا أو لا ، وإمّا أن تكون استعدادا نحو الكمال وهو القوة واللاقوة ، أو نفس الكمال وهو الحال والملكة. وخواص الأدوية (٢) صور جوهرية لا من الكيف (٣).

وهو غير تام ، لأنّهم إذا فسّروا الحال والملكة بالكيفيات النفسانية احتمل أن توجد كيفية جسمانية لا تختص بالكمية ، وليست محسوسة ولا مختصة بذوات الأنفس ، ولا تكون استعدادا (٤).

الثاني : الكيفية إمّا أن تكون بحيث تصدر عنها أفعال على وجه التشبيه ، كالحار يجعل غيره حارا ـ لا كالثقل الذي فعله في محله التحريك وليس بثقل ، وهو الكيفيات الفعلية والانفعالية ـ أو لا ، (٥) فإمّا أن تتعلق بالكم كالأشكال وغيرها

__________________

(١) وهي أربعة ذكرها الشيخ في كتبه.

(٢) رفع دخل مقدّر ، وهو عدم اندراج خواص الأدوية تحت الأقسام المذكورة ، وأجاب بأنّها صور جوهرية.

(٣) انظر وجه الحصر في منطق النجاة : ٨١.

(٤) ق وس : «اشتدادا».

(٥) أي لا تكون بحيث تصدر عنها أفعال بالتشبيه.

٤٦٧

أو لا تكون ؛ فإمّا أن تكون للأجسام من حيث هي طبيعية ، وهي الفعلية والانفعالية أيضا ، أو من حيث هي نفسانية ، وهي الكيفيات النفسانية.

الثالث : الكيفية إمّا أن تتعلق بوجود النفس ، وهي الكيفيات النفسانية ، أو لا ، فإمّا أن تتعلق بالكمية ، وهي الكيفيات المختصة بالكميات ، أو لا ، فإمّا أن تكون هويتها أنّها استعداد وهي القوة واللاقوة ، أو هويتها أنّها فعل ، وهي الانفعاليات والانفعالات.

الرابع : الكيفية إمّا أن تفعل على طريق التشبيه ، وهي الانفعاليات والانفعالات ، وإمّا أن لا تكون كذلك ، فإمّا أن لا تتعلق بالأجسام ، وهي الحال والملكة ، أو تتعلق ، وذلك التعلق إمّا من حيث كمّيتها ، وهي المختصة بالكميات ، أو من حيث طبيعتها ، وهي القوة واللاقوة ، وعلى هذا التقسيم تضيع الكيفيات المختصة بالأعداد ، وهذه القسمة في الجميع غير محيطة بطرفي النقيض.

٤٦٨

الفصل الثاني :

في القسم الأوّل وهي :

الكيفيات الفعلية والانفعالية (١)

وفيه مباحث :

البحث الأوّل :

في أمور كلّية لهذا القسم ، وهي أربعة : (٢)

الكلية الأولى : إنّما سميت الثابتة انفعالية لأمرين :

الأمر الأوّل : انفعال الحواس عنها ، فإن اعتبرنا في الإحساس كونه أوّليا خرج الثقل والخفة عنها ؛ لأنّ الشيخ نص في «طبيعيات الشفاء» (٣) أنّهما ممّا لا يحسّ بهما إحساسا أوّليا ، ونصّ في «المقولات من منطقه» : أنّهما من هذه

__________________

(١) أي الكيفيات المحسوسة ، وانظر المباحث المشرقية ١ : ٣٧٦ وما يليها.

(٢) راجع الفصل الخامس من المقالة الخامسة من مقولات الشفاء.

(٣) طبيعيات الشفاء ، الفصل التاسع من المقالة الواحدة من الفن الثالث.

٤٦٩

الكيفيات. (١) ويخرج أيضا الألوان ؛ لأنّها لا تحس إلّا بواسطة الضوء. وإن لم نعتبر الأولية دخل ما يحسّ ثانيا كالأشكال والحركات والسكنات وغيرها.

الأمر الثاني : حدوثها ـ إمّا بالشخص أو بالنوع ـ تابع لانفعالات موادها وللمزاج. أمّا بالشخص فكالصفرة التابعة لسوء المزاج الحار المستحكم في الكبد وحلاوة العسل ، وإن لم يكن حدوثها لأجل الانفعالات ، لكن من شأن تلك الحقيقة أن توجد عند الانفعال أيضا. وأمّا بالنوع فكحرارة النار ، فإنّ الحرارة النارية وإن لم تحصل في النار بالانفعال ، لكن من شأن الحرارة من حيث هي حرارة أن تحدث أيضا بالانفعال في مادة. وغير المستقرة ، وإن كانت انفعالية باعتبار الأمرين ، لكنها لقصر مدتها وسرعة زوالها منعت اسم جنسها ، واقتصر في تسميتها على اسم الانفعالات ، وإن لم يكن في أنفسها انفعالات.

الكلية الثانية : قيل الخاصّة المساوية لهذا النوع العامة لأفراده إنّها تفعل في موادها أشياء يشاركها في المعنى ، فإنّ الحار يجعل غيره حارا وكذا البارد ، والأسود يقرر شبحه في العين.

واعترض (٢) بأنّ الثقل والخفة من هذا النوع ولا يفعلان مثل أنفسهما ، وبأنّ الشيخ ذكر في فصل «الاسطقسات» (٣) في علة تسمية الرطوبة واليبوسة بالمنفعلتين أنّه لم يثبت بالبرهان أنّ الرطب يجعل غيره رطبا ، واليابس يجعل غيره يابسا ، فلا تفيدان مثل نفسيهما(٤).

الكلية الثالثة (٥) : ذهب قوم من القدماء إلى أنّ الكيفيات المحسوسة

__________________

(١) قال فيها : «وأمّا الثقل والخفة ، فانّهما ليسا إلّا من باب الكيفية ... وهما من جملة المحسوسات ، ومن جملة ما يحدث في الأجسام بالانفعالات» (نفس المصدر : ١٩٦).

(٢) والمعترض هو الرازي.

(٣) من طبيعيات الشفاء.

(٤) وقد أجاد صدر المتألّهين في الجواب عن هذا الاعتراض ، فراجع الأسفار ٤ : ٦٤ ـ ٦٥.

(٥) راجع طبيعيات الشفاء ، الفصل الأوّل من المقالة الثانية من الفن الرابع.

٤٧٠

لا حقيقة لها في أنفسها ولا ثبوت لها في الخارج ، فليست النار حارة ، ولا الماء باردا ، ولا الثلج أبيض ولا القار أسود ، بل هي انفعالات تعرض للحواس فقط. فقيل لهم : لم اختص اللون بهذه الكيفية الخاصة لو لا اختصاصه في نفسه بتلك الكيفية؟

أجابوا : بأنّ الأجسام مركبة من أجزاء لا تنقسم فعلا ، بل فرضا ، وأشكالها مختلفة ، فبسبب اختلاف أشكالها واختلاف وضعها وترتيبها اختلفت الآثار الحاصلة في الحواس عنها ، فالذي ينفصل منه شعاع يفرّق البصر بياض ، والذي ينفصل منه شعاع يجمعه سواد ، ويحصل من اختلاط نوعي الشعاع الألوان المتوسطة. والذي يقطع إلى عدد أكثر وتكون أجزاء صغارا شديدة النفوذ هو المحرق الحرّيف (١) ، والمتلاقي لذلك التقطيع هو الحلو. والذي يحيطه أربعة مثلثات تكون مفرّقة لاتصال العضو تحس منه بالحرارة ، والذي يحيط به ستة مربعات تكون غليظة الأطراف (٢) غير نافذة في العضو فيحس منه بالبرد ، وكذا الروائح. فاختلاف الإحساسات لاختلاف الأشكال والحواس المنفعلة ، لا لاختلاف الكيفيات الفاعلة التي يثبتونها.

واحتجوا بأنّ الإنسان الواحد يحس جسما واحدا على لونين مختلفين بحسب اختلاف وضعه في الوقوف ، كطوق الحمامة ، فإنّها ترى شقراء وتارة ارجوانية وأخرى على لون الذهب بحسب اختلاف المقامات واستعداد المادة بحسبها. ولو كان اللون حقيقيا لم يكن كذلك. والسكر في فم الصّفراوي (٣) يجده مرا ، فاختلاف

__________________

(١) الحرافة : طعم يحرق اللسان والفم. وقيل كل طعام يحرق فم آكله بحرارة مذاقه حريف ، لسان العرب ٩ : ٤٥.

(٢) ج : «الاطراف» ساقطة.

(٣) الصفراء ؛ المرّة : مادة صفراء ، مرة المذاق ، يفرزها الكبد فتختزن في المرارة أو الحويصلة الصفراوية ، وهي تتألف من أحماض وأملاح وأصبغة ، وهي تساعد على هضم المواد الدهنية. البعلبكي ، موسوعة المورد ٢ : ٦٤.

٤٧١

الإحساس لاختلاف المنفعلات. وسيأتي في علم الكون والفساد إبطال مذهب أصحاب الأشكال.

ثمّ يدل على المغايرة بين الشكل واللون وجوه :

الوجه الأوّل : أنّ الشكل محسوس باللمس ، واللون غير محسوس باللمس ، فتغايرا.

لا يقال : ليس المحسوس الشكل ، بل هيئة حاصلة في الحس ، والمؤثر في تلك الهيئة اختلاف الأشكال ، ولا استبعاد في أن يكون الشكل المخصوص يفيد آلة البصر أثرا وآلة اللمس أثرا آخر.

لأنّا نقول : تلك الآثار الحاصلة في الحواس إن كانت أشكالا ، وكلّ شكل ملموس ، فالأثر الحاصل في العين ملموس ، وإن لم تكن أشكالا ثبت المطلوب من اثبات كيفيات مغايرة للأشكال ، وإذا جاز ذلك فأي مانع يمنع من اثباتها في الجسم الخارجي؟ إلّا أنّ هذا لا يدل على وجود الكيفية في الخارج ، بل على عدم استبعاد وجودها ، وهو غير كاف في الجزم بوجودها.

والوجه في إبطال هذه المقالات الالتجاء إلى الضرورة ، فإنّ كلّ عاقل لا يشك في ثبوت هذه الكيفيات المحسوسة ، وإنكارها سفسطة.

الوجه الثاني : الألوان متضادة ، ولا شيء من الأشكال بمتضادة ، إذ ليس بين اثنين منها غاية البعد ، فلا شيء من الألوان بشكل.

الوجه الثالث : الإحساس بالشكل يتوقف على وجود اللون ، والمتوقف على الشيء مغاير له.

٤٧٢

والجواب عما ذكروه (١) : أنّ المرئي في طوق الحمامة ليس شيئا واحدا ، بل أطراف الريش ذوات جهات ، وكلّ جهة لها لون يستر لون الأخرى بالقياس إلى القائم الناظر. واختلاف الإحساس إنّما يكون لاختلاف المنفعلات ، لو سلّمنا لهم أنّ الإحساس عبارة عن انفعال البصر عن المحسوس.

الكلية الرابعة (٢) : ذهب قوم من أوائل الحكماء غير محقّقين إلى أنّ هذه الكيفيات نفس الأمزجة (٣) ، فإذا كان المزاج بحدّ ما وبحال ما كان لونا معينا وطعما معينا ، وإذا كان بحال آخر وبحدّ آخر كان لونا آخر وطعما آخر. وليس اللون والطعم وسائر ما يجري مجراها شيئا ، والمزاج شيئا آخر. بل كلّ واحد منها مزاج مخصوص يفعل في القوة اللامسة شيئا وفي القوة الباصرة شيئا آخر. وهذا المذهب باطل لوجوه :

الوجه الأوّل : ليس المزاج إلّا الكيفية الحاصلة من تفاعل الحار والبارد بحيث تستسخن بالقياس إلى البارد وتستبرد بالقياس إلى الحار ، فتكون بالحقيقة من جنس الحرارة والبرودة ، فتكون مدركة باللمس ، واللون والطعم وغيرهما ليست ملموسة ، فلا تكون هي المزاج.

الوجه الثاني : هذه الكيفيات توجد فيها غايات وأطراف في التضاد ، والأمزجة متوسطة بين الغايات فتغايرا.

__________________

(١) في انكار وجود الكيفيات المحسوسة في الخارج.

(٢) راجع طبيعيات الشفاء ، الفصل الأوّل من المقالة الثانية من الفن الرابع.

(٣) عرّف الشيخ المزاج بأنّه : «كيفية تحدث من تفاعل كيفيّات متضادة موجودة في عناصر متصغّرة الأجزاء ليماس أكثر كلّ واحد منها أكثر الآخر ، إذا تفاعلت بقواها بعضها في بعض حدث عن جملتها كيفية متشابهة في جميعها هي المزاج» طبيعيات الشفاء ، الفصل الثاني من المقالة الثانية عشر من الفن الثامن.

٤٧٣

الوجه الثالث : قد يحصل اللون فيما لا مزاج فيه كالكواكب ، والطعم عند من يثبته للماء ،. وإنّما نشأ غلطهم من أنّ الأكثر متابعة اللون والطعم للمزاج ، ونحن نسلّم ذلك ونمنع الوحدة بينهما.

البحث الثاني : في الكيفيات الملموسة

وهي الكيفيات المدركة بالقوة اللمسية. والعناصر قد تخلو عن الكيفيات المدركة بسائر المشاعر دون هذه ، لأنّ ما عدا هذه القوة من الحواس إنّما تدرك بتوسط جسم كالهواء أو الماء (١) ولا يمكن أن يتوسط المتوسط بين نفسه وغيره. فإذن كلّ واحدة من هذه الحواس لا تدرك المتوسط الذي يتوسط لها ، بل تجده خاليا عما تدركه هي ، وتلك الأجسام لا تخلو عن الملموسة ، لأنّها لا تحتاج إلى متوسط.

وأيضا الحيوان قد يخلو عن تلك المشاعر (٢) ، ولا يخلو عن اللمس. فلهذا قيل الملموسات أوائل المحسوسات (٣). وهي بالاستقراء : الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، واللطافة والكثافة ، واللزوجة والهشاشة ، والجفاف والبلّة ، والثقل والخفة. وقد يدخلون في هذا الباب الخشونة والملاسة ، والصلابة واللين فهنا أبواب :

__________________

(١) كقوّة السامعة تحتاج إلى الهواء لتحمل الصوت إليها ، والذائقة تحتاج إلى رطوبة لعابية في الفم.

(٢) كما يقال في بعض أنواع الديدان وبعض أنواع الفئران.

(٣) قال الشيخ : «وأوّل الحواس الذي يصير به الحيوان حيوانا هو اللمس» طبيعيات الشفاء ، الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفن السادس ، وانظر أيضا شرح المواقف ٥ : ١٦٩ ـ ١٧١.

٤٧٤

الباب الأوّل

في الحرارة والبرودة

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في حدّ الحرارة والبرودة

اعلم أنّ الأمور المحسوسة أظهر عند العقل من أن تكتسب بحدّ أو رسم ؛ لأنّها أعرف من غيرها. وقد حدّ الشيخ في «الشفاء» الحرارة : بأنّها التي تفرّق بين المختلفات ، وتجمع بين المتشاكلات. والبرودة : بأنّها التي تجمع بين المختلفات وتفرّق بين المتشاكلات (١). وذكر في «[رسالة] الحدود» أنّ الحرارة : كيفية فعلية محرّكة لما تكون فيه إلى فوق لإحداثها الخفة ، فيعرض أن تجمع بين المتجانسات (٢) وتفرّق بين المختلفات وتحدث تخلخلا من باب الكيف وتكاثفا من باب الوضع لتحليله وتصعيده اللطيف (٣).

__________________

(١) طبيعيات الشفاء ، الفصل التاسع من الفن الثالث. وقال الطوسي في تعريفهما : «الحرارة جامعة للمتشاكلات ، متفرقة للمختلفات ، والبرودة بالعكس» كشف المراد : ٢١١. وقال الآمدي : الاتحاد في النوعية يقال له مشاكلة ، المبين : ١١٩.

(٢) قال الآمدي : والاتحاد في الجنسية يقال له مجانسة ، المبين : ١١٩.

(٣) رسالة الحدود لابن سينا : ٣٥.

٤٧٥

والتخلخل (١) يعنى به تارة رقّة القوام وهو من باب الكيف ، ويعنى به تارة انفشاش (٢) الأجزاء بحيث يخالطها جرم غريب ، وهو من باب الوضع. والتكاثف مقابل له ، وهو إمّا ثخن القوام وغلظه ، أو اجتماع الأجزاء الوحدانية الطبع ، وخروج الجسم الغريب عما بينها. فمن حيث إنّ الحرارة شأنها التلطيف والترقيق [فهي] مفيدة للتخلخل الذي من باب الكيف. ومن حيث إنّها تجمع بين المتشاكلات وتفرق بين المختلفات تفيد التكاثف الذي من باب الوضع الذي هو عبارة عن اجتماع الأجزاء الوحدانية الطبع ، وخروج الجسم الغريب عما بينها.

وقولنا : «تجمع المتشاكلات» إنّما هو في المركبات ، لأنّها إنّما تجمع ما ليس بمجتمع، والبسيط مجتمع الأجزاء.

لا يقال (٣) : لا نسلّم أنّها تجمع بين المتشاكلات ؛ لأنّها تفرّق الماء بالتصعيد وترمد الحطب وتفرقه. ولا أنّها تفرّق المختلفات لعدم قوتها على تفريق أجزاء الطّلق (٤) والنورة (٥) والحديد والذهب والحيوان المسمى بالسمندل (٦) ، بل قد تجمع بين المختلفات كبياض البيض وصفرته.

__________________

(١) ستأتي المعاني المختلفة للتخلخل في المسألة الأولى من الباب الثالث من هذا الكتاب (ص ٤٩٩ ـ ٥٠٠) إن شاء الله تعالى. راجع أيضا الفصل السادس من المقالة الخامسة من مقولات الشفاء.

(٢) أي انحلال الأجزاء وتفرّقها. وفي ج : «انتفاش».

(٣) راجع طبيعيات الشفاء ، الفصل العاشر من الفن الثالث ؛ المباحث المشرقية ١ : ٣٨٢ ـ ٣٨٤.

(٤) حجر براق يتشظى إذا دق ، يتخذ منها مضاوي للحمامات بدلا عن الزجاج. القاموس المحيط ٣ : ٣٧٦.

(٥) الحجر الذي يحرق ويسوى منه الكلس ، ويحلق به الشعر. لسان العرب ٥ : ٢٤٤.

(٦) وهو طائر يأكل البيش ـ وهو نبت بأرض الصين يؤكل وهو أخضر ـ ومن عجيب أمر السمندل استلذاذه بالنار ومكثه فيها ، وإذا اتسخ جلده لا يغسل إلّا بالنار. وينسج من وبره مناديل إذا اتسخت القيت في النار فتنصلح ولا تحترق ، وكثيرا ما يوجد في الهند. الدميري ، كمال الدين ، حياة الحيوان الكبرى ٢ : ٣٣.

٤٧٦

سلّمنا ، لكنّه ليس فعلا أوّليا لها ؛ لأنّ فعلها الأوّل تسييل الرطوبات المنجمدة بالبرد وتحليلها ثم تصعيدها وتبخيرها ، فإن كانت المجتمعات مختلفة في قبول التحليل والتبخير (١) كان بعضها أسرع وبعضها أبطأ ، فإذا بادر الأسرع دون الأبطأ والمطيع دون العاصي عرض من ذلك تفرّقها ، وإن تشاكلت طبائعها تشابهت في الاستعداد للحركة ، فلذلك لا تتفرق ، وإذا لم يكن فعلها الأوّل ذلك بل تسييل الرطوبات كان تعريفها به أولى من الأوّل.

لأنّا نقول (٢) : ليست الحرارة تفرق الماء ، بل إذا استحال جزء منه لشدة الحرارة فصار هواء فرّقت بينه وبين الماء الذي ليس من طبعه ، ثمّ يلزمه أن تختلط بذلك الهواء أجزاء مائية ، فتصعد مع الهواء ويكون مجموع ذلك بخارا. وإنّما رمدت الحطب ، لأنّ الأجزاء الأرضية التي فيه متماسكة بالرطوبات المائية التي فيها ، فإذا فرّق بين الرطب واليابس عرض منه تناثر الأجزاء اليابسة.

وأمّا الطلق والنورة والحديد فالنار قوية على تسييلها بحيل أصحاب الإكسير ، وخصوصا مع اعانتها بما يزيدها اشعالا كالكبريت والزرنيخ. وإنّما لم يتفرق الذهب بالنار لشدة تلازم بسائطه ، فكلّما مال فيها شيء إلى التصعّد حبسه المائل إلى الانحدار ، فتحدث حركة دورية وغليان ، ولو لا هذا العائق لتفرق. وليس عدم تفريق النار له لأجل العائق دليلا على أنّ النار لا تحاول التفريق. وليس عقد البيض جمعا له ، بل إحالة في قوامه ثمّ تفرّقه النار عن قريب بواسطة التقطير.

وحقّ «أنّ الجمع والتفريق ليسا أوّليين للنار» ؛ لأنّ الجمع والتفريق هنا معتبران بالقياس إلى المركب. والفعل الأوّل للحرارة التحريك إلى فوق بواسطة ما يفيد من الميل المصعّد ، لكن لمّا كانت أجزاء المركب مختلفة الاستعداد لقبول

__________________

(١) ج : «التحلل والتبخر».

(٢) راجع الفصل الحادي عشر من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء.

٤٧٧

التصعيد ـ فإنّ الماء أقبل من الأرض ـ بادر الأقبل من تلك الأجزاء إذا حرّكتها الحرارة إلى فوق للتصعيد قبل مبادرة الأبطأ ، والأبطأ يتحرك دون العاصي فيحصل منه تفريق تلك المختلفات واجتماع المتشاكلات لتشارك الأشياء المتشاركة في الطبائع في الآثار ، والتي تكون سريعة القبول تتحرك بأسرها ، والعاصي لا يتحرك منه شيء فيعرض اجتماعهما.

وقد يتفق أن يكون ما لا يقبل التصعيد مخالطا لما يقبله مخالطة شديدة ، فقبل أن يفرق الحار بينهما يتصعّد اللطيف مستتبعا لتصعّد الكثيف المغلوب باللطيف في القوة ، فعلمنا أنّ الفعل الأوّل للحرارة التصعيد إلى فوق. فلهذه العلّة قال (١) في تعريفها : «إنّها قوة محركة لما يكون فيه إلى فوق لإحداثها الخفة» ، ثمّ قال : «فيعرض لها جمع المتجانسات وتفريق المختلفات» ، فلا يكون صدور الجمع والتفريق من الحرارة أوّليا ، بل ذلك تابع للخاصة الأولى ، وهي التحريك إلى فوق على الوجه الذي بيّناه.

وفي قوله : «كيفية فعلية محركة» نظر ؛ لأنّ المفهوم من الكيفية الفعلية ، الكيفية التي تؤثر في أمر ما ، والمفهوم من المحرّك أنّه المؤثر في أمر ما شيئا ما هو الحركة ، والمفيد لشيء جزء من المفيد لشيء ما هو الحركة ، فيكون الدال على مفيد الحركة دالا بالتضمن على المفيد المطلق. فقوله كيفية فعلية محركة يشتمل على تكرار فالأولى حذفه. (٢)

لا يقال : هذا التعريف ليس بحدّ ، لأنّه غير مركب من المقوّمات ، ولا برسم ، لأنّه مركب من اللوازم البيّنة بحيث ينتقل الذهن منها إلى ماهية الملزوم ، وليس من فهم الحركة إلى فوق والجمع بين المتشاكلات والتفريق بين المختلفات فهم أنّ المؤثر في ذلك الحرارة ، بل ما لم نشاهد الحرارة ونشاهد منها هذه الآثار لم

__________________

(١) الشيخ الرئيس في كتاب الحدود.

(٢) أي حذف لفظ «الفعليّة».

٤٧٨

نعرف لزوم هذه الآثار لها ، فإذا لم نعرف ثبوت هذه الآثار لها إلّا بعد معرفة استنادها إليها استحال أن تكون هذه الآثار معرّفة لها ، وإلّا دار.

لأنّا نقول : ليس الغرض من رسوم هذه الكيفيات إفادة ماهيتها ، فإنّ الحس أفاد الممكن في ذلك ، بل الغرض ذكر خواصّها وآثارها بحيث تميّزها عن غيرها ، وهو يحصل بذكر هذه اللوازم.

وأمّا اللذع فهو كيفية نفّاذة جدا لطيفة ، تحدث في الاتصال تفرقا كثير العدد ، متقارب الموضع ، صغير المقدار ، فلا يحس كلّ واحد بانفراده ، ويحس بالجملة كالوجع الواحد. والتخدير بتبريد العضو بحيث يصير جوهر الروح الحاملة قوة الحس والحركة إليه باردا في مزاجه ، غليظا في جوهره ، فلا تستعملها القوى النفسانية ، ويجعل مزاج العضو كذلك فلا يقبل تأثير القوى النفسانية ، وهاتان فعليتان.

واللذع يفعل ما يفعل بفرط الحرارة المقتضية للنفوذ واللطيف. والتخدير يفعل ما يفعل بفرط البرودة المقتضية لنفوذ (١) الروح ، فهما تابعان للحرارة والبرودة.

المسألة الثانية : في اثبات البرودة والحرارة

ذهب جماعة من قدماء الحكماء إلى أنّ البرودة ليست كيفية وجودية ، بل هي عدم الحرارة عمّا من شأنه أن يكون حارا ، والضرورة تقتضي بطلان ذلك ، فلا حاجة هنا إلى إبطاله بالبرهان. وقد استدل بعضهم على إبطاله بوجهين :

أ : لو كانت البرودة عدم الحرارة لكان الذي ندركه من الجسم البارد ، إمّا الجسم ، أو عدم الحرارة. والأوّل باطل ، وإلّا لكنّا إذا أدركنا الجسم الحار وجب أن ندركه على حالة البرودة ، لأنّ برودته نفس جسميته المدركة حال حرارته ، لكن ذلك محال. والثاني باطل ، لأنّ العدم لا يحس به.

__________________

(١) كذا في النسخ ، ولعلّ الصواب : «لتبرد».

٤٧٩

ب : التكثف والسّيلان والجمود والتفرق والجمع أفعال ثبوتية متقابلة ، فلا يستند الواحد منها إلى الجسمية المشتركة ، وإلّا لاشتركت الأجسام فيه ، ولا إلى أمر عدمي ، لامتناع استناد الأثر الوجودي إلى المؤثر العدمي ، فلا بدّ من كيفيتين ثبوتيتين لتكونا مصدرين للأفعال المتقابلة.

ولو قيل : المؤثر في التكثف هو الجسمية بشرط عدم الحرارة ، لم يكن هذا أولى من أن يقال المؤثر في التسييل الجسمية بشرط عدم البرودة (١).

وفيهما نظر : أمّا الأوّل فلأنّه إذا كان المدرك نفس الجسمية لم يجب ادراك الجسم الحار على حالة البرودة ، لوجود أمر زائد على الجسمية مناف للحرارة.

قال أفضل المحققين : لا نسلّم أنّ العدم لا يحس به ، فإنّ الأمر العدمي إذا كان مقتضيا لأمر غير ملائم ، يحس به من جهة مقتضاه ، كتفريق الاتصال ، والجوع ، والعطش، فإن كانت البرودة عدم الحرارة ، وكانت الحاسّة محتاجة إلى حرارة تعدل مزاجها ، فعدم تلك الحرارة يقتضي أمرا غير ملائم فيها فيحس به. ولم يقل أحد إنّ عدم الحرارة هو الجسم ، حتى يكون الإحساس بالجسم احساسا بالبرودة. والحق أنّ البرودة كيفية تضاد الحرارة ، فإنّ مقتضاها كالتكاثف والثقل ضد مقتضيات الحرارة ، كالتخلخل والخفة (٢).

وفيه نظر : فإنّ الضرورة قاضية بأنّ كلّ محسوس موجود ، والعدم المقتضي لأمر غير ملائم لا نحس به ، بل بالمنافي ، كالألم عند تفرق الاتصال وعند الجوع وعند العطش. ولم يدعي المستدل أنّ عدم الحرارة هو الجسم ، بل قال : إذا أدركنا الجسم البارد فهنا شيئان : الجسم المطلق والبرودة ، فإن كانت البرودة عدم الحرارة ، والعدم لا يحس به لم يبق المحسوس إلّا الجسم المطلق. والاستدلال على كون البرودة كيفية مضادة لمضادة آثارها استدلال بالأخفى على ما هو ضروري.

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٣٨٥ ؛ شرح المواقف ٥ : ١٨١.

(٢) نقد المحصل : ١٤٥ ـ ١٤٦.

٤٨٠