نهاية المرام في علم الكلام - المقدمة

نهاية المرام في علم الكلام - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٦

١
٢

٣

٤

تقديم

بقلم المشرف

جعفر السبحاني

علم الكلام

وعوامل نشأته

إنّ علم الكلام كسائر العلوم الإنسانية ، ظاهرة علمية نشأت بين المسلمين في ظلّ أسباب سيوافيك بيانها ، ولا يقتصر هذا العلم على المسلمين فحسب بل كانت للأمم السابقة مذاهب كلامية ومدارس دينية يبحث فيها عن اللاهوت والناسوت ، وقد ألّف غير واحد من علماء اليهود والنصارى كتبا كلامية يرجع تاريخها إلى القرنين الخامس والسادس. وأمّا عوامل نشأته بين المسلمين فتتلخّص في عامل داخلي وآخر خارجي ، وإليك البيان :

١. القرآن هو المنطلق الأوّل لنشوء علم الكلام :

إنّ القرآن المجيد هو المنطلق الأوّل لنشوء علم الكلام ونضجه وارتقائه عند المسلمين ، وإليه يرجع كل متكلّم إسلاميّ باحث عن المبدأ وأسمائه وصفاته وأفعاله ، وقد تضمّن القرآن إشارات فلسفية وعقلية قامت على أسس منطقية مذكورة في نفس الآيات أو معلومة من القرائن. فمن سبر القرآن الكريم فيما يرجع إلى التوحيد بأنواعه يجد الحجج الملزمة ، والبيّنات المسلّمة التي لا تدع لباحث

٥

الشك فيها. كما أنّه أرفق الدعوة إلى المعاد والحياة الأخروية بالبراهين المشرقة ، والدلائل الواضحة التي لا تقبل الخدش.

إنّ القصص الواردة في القرآن الكريم تتضمّن احتجاجات الأنبياء وصراعهم الفكري مع الوثنيين والمعاندين من أهل اللجاج ، فهي ممّا يستند إليها المتكلّم في آرائه الكلامية. كما تتضمن بحوثا في الإنسان وأفعاله ومسيره ومصيره ، وغير ذلك ممّا جعل القرآن الكريم المنطلق الأوّل لنشأة علم الكلام في الإسلام.

٢. السنّة هي المنطلق الثاني :

إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناظر المشركين وأهل الكتاب بمرأى ومسمع من المسلمين ، وهذه احتجاجاته مع نصارى نجران في العام العاشر من الهجرة ، حتى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما أفحمهم دعاهم إلى المباهلة ، وقد حفل التاريخ وكتب السير والتفسير بما دار بين الرسول وبطارقة نجران وقساوستهم ، وقد استدلّوا على ألوهيّة المسيح بقولهم : هل رأيت ولدا من غير ذكر؟ فأفحمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإيحاء من الله : إنّ مثل عيسى في عالم الخلقة كمثل آدم ، وقد خلق من غير أب ولا أمّ ، فليس هو أبدع ولا أعجب منه (١).

إنّ النهي عن كتابة الحديث نجم عنه خسارة فادحة أدت إلى ضياع الكثير من احتجاجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومناظراته مع المشركين وأهل الكتاب ، فقد ذهبت كذهاب سائر خطبه ، ولكن الشيعة اقتداء بالعترة احتفظت بكثير من هذه المناظرات في كتبهم الحديثية ، فمن سبرها يرى فيها بحوثا ومناظرات تصلح لأن

__________________

(١) لاحظ تفسير قوله سبحانه : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران / ٥٩).

٦

تكون هي المنطلق في الصدر الأوّل لأهل الكلام من الشيعة وغيرهم (١).

٣. خطب الإمام علي عليه‌السلام هي المنطلق الثالث :

إنّ خطب الإمام ورسائله وكلمه القصار ، التي حفظها التاريخ عن العصف والضياع لأوضح دليل على أنّ الإمام كان هو المؤسس للأصول الكلامية خصوصا فيما يرجع إلى التوحيد والعدل ، وبين يديك نهج البلاغة الذي جمعه الشريف الرضي ممّا وصل إليه من خطبه ، تجد فيه من الأصول الكلامية ما لا تجده في غيره ، وإلى ذلك يشير السيد المرتضى في أماليه فيقول : «اعلم أنّ أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ وخطبه ، فإنّها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه ولا غاية وراءه. ومن تأمّل المأثور من كلامه ، علم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعده في تصنيفه وجمعه إنّما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الأصول ، وروي عن الأئمّة من أبنائه في ذلك ما لا يكاد يحاط به كثرة ، ومن أحبّ الوقوف عليه فطلبه من مظانّه أصاب منه الكثير الغزير الذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة ولقاح للعقول العقيمة» (٢).

وقال ابن أبي الحديد : «إنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي ، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف ، ومن كلامه عليه‌السلام اقتبس ، وعنه نقل ، ومنه ابتدئ وإليه انتهي ، فإنّ المعتزلة ـ الذين هم أصل التوحيد والعدل وأرباب النظر ومنهم من تعلّم الناس هذا الفن ـ تلامذته وأصحابه ، لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمّد بن

__________________

(١) لاحظ احتجاجات النبي في كتاب الاحتجاج للشيخ أحمد بن علي بن أبي طالب المعروف بالطبرسي المتوفّى حدود عام (٥٥٠ ه‍).

(٢) الشريف المرتضى : غرر الفوائد : ١ / ١٤٨.

٧

الحنفية وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه ، وأمّا الأشعرية فإنّهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي ، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة فالأشعرية ينتهون بالآخرة (١) إلى أستاذ المعتزلة ومعلّمهم ، وهو علي بن أبي طالب»(٢).

٤. العترة الطاهرة ودورهم في نشوء هذا العلم :

إنّ العترة الطاهرة وإن أقصيت عن القيادة الإسلامية ، إلّا أنّه أتيحت لهم الفرصة في آخر عهد الأمويين وأوائل حكومة العباسيين ، في شرح المعارف وتوضيح الحقائق وتربية رواد الفكر ، وارشاد الحكيم إلى دلائل وبراهين لا يقف عليها إلّا الأوحدي من الناس والتلميح إلى نكات عرفانية ، لا يدركها إلّا العارف المتألّه. ففي أدعية الإمام زين العابدين إشارات كلامية وتلميحات عرفانية ، كما أنّ في الأحاديث المرويّة عن الصادقين والكاظمين كميّة هائلة من البحوث الكلامية ، والمناظرات العلمية التي أدّت إلى نضوج علم الكلام الإسلامي بوجه واضح ، وها نحن نذكر احتجاجين قصيرين للإمامين الصادق والرضا عليهما‌السلام ليكونا نموذجين لما لم نذكره :

مناظرة الإمام الصادق مع أحد القدرية :

روى العياشي : أنّه طلب عبد الملك بن مروان من عامله بالمدينة أن يوجه إليه محمّد بن علي بن الحسين (الباقر) عليه‌السلام حتى يناظر رجلا من القدرية وقد أعيا

__________________

(١) والصحيح أن يقول : أخيرا ، وقد تسرّب هذا اللحن إلى الكتب العربية حتى استعمله سعد الدين التفتازاني في مطوّله.

(٢) شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٧.

٨

الجميع ، فبعث أبو جعفر ولده مكانه ، فقدم الشام وتسامع الناس بقدومه لمخاصمة القدرية ، فقال عبد الملك لأبي عبد الله : إنّه قد أعيانا أمر هذا القدري ، فقال الإمام : «إنّ الله يكفيناه» فلما اجتمعوا ، قال القدري لأبي عبد الله عليه‌السلام : سل عمّا شئت؟ فقال له : «اقرأ سورة الحمد». قال : فقرأها ، فلمّا بلغ قول الله تبارك وتعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فقال جعفر : «قف! من تستعين؟ وما حاجتك إلى المئونة أنّ الأمر إليك» ، فبهت الرجل (١).

إنّ القدرية هم أسلاف المعتزلة ، وقد تبنّت فكرة استغناء الممكن في فعله (لا في ذاته) في عصر خلافة عبد الملك (٦٥ ـ ٨٦ ه‍) وكان لها دويّ في عصره ، وقد أخذتها المعتزلة عنهم وصقلتها وجعلتها من توابع القول بالعدل وغفلت عن أنّ القول بالحرية إلى حدّ الاستغناء عن الواجب ينسجم مع التنزيه لكنه يهدم التوحيد الذاتي ، فيكون الممكن مثل الواجب في الاستغناء عن غيره في مقام الإيجاد ، ولأجل ذلك تضافرت عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام :

«لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين» (٢).

احتجاج الإمام الرضا عليه‌السلام مع أبي قرّة :

قال أبو قرّة للإمام الرضا عليه‌السلام : إنّا روينا أنّ الله عزوجل قسّم الرؤية والكلام بين اثنين ، فقسّم لموسى عليه‌السلام الكلام ، ولمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرؤية. فقال أبو الحسن عليه‌السلام : «فمن المبلّغ عن الله عزوجل إلى الثقلين : الجن والإنس (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (٣) و (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٤) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٥)

__________________

(١) المجلسي : البحار : ٥ / ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) الصدوق : التوحيد : ٣٦٢.

(٣) الأنعام : ١٠٣.

(٤) طه : ١١٠.

(٥) الشورى : ١١.

٩

أليس محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!» قال : بلى. قال : «فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنّه جاء من عند الله ، وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) و (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ثم يقول : أنا رأيته بعيني وأحطت به علما ، وهو على صورة البشر! أمّا تستحيون ، ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا : أن يكون يأتي عن الله بشيء ، ثم يأتي بخلافه من وجه آخر» (١).

ومن وقف على كتب أهل الحديث والأشاعرة ، يقف على أنّ لهم في إثبات الرؤية ، صخبا وهياجا وإصرارا منقطع النظير ، وترى أنّ الإمام كيف قطع الطريق على أبي قرّة الذي اغترّ بأحاديث مدسوسة اختلقتها اليهود وأنصارهم وبثّوها بين المسلمين ، ولو لا ضيق المجال لنقلت قسما وافرا من خطبهم ومناظراتهم عليهم‌السلام في مجال العقائد حتى تقف على أنّ حديثهم هو المنطلق الرابع لنشوء علم الكلام ونضوجه وتكامله.

فمن المؤسف جدا أن يتّهم شيعة العترة الطاهرة بما في كلام المستشرق (آدم متز) فقد وصفهم بأنّه لم يكن للشيعة مذهب كلامي إلى القرن الرابع ، مع أنّ فيهم أئمّة المسلمين وقادة الأمّة الذين يصدق فيهم قول الشاعر :

من تلق منهم ، تلق كهلا أو فتى

علم الهدى بحر الندى المورودا

إلى هنا ، تبيّن أنّ أحد الأسباب لنشوء علم الكلام هو العامل الداخلي الذي لا يتجاوز عن إطار القرآن والسنّة النبوية وكلمات العترة الطاهرة ، وهناك عامل خارجي صار سببا لنموّ الأفكار الكلامية المأخوذة عن الأصول الموجودة في الكتاب والسنّة وهو وجود الصراع الفكري بين المسلمين وغيرهم ، وإليك بيانه :

__________________

(١) الصدوق : التوحيد : ١١٠ ـ ١١١ ح ٩.

١٠

الاحتكاك الثقافي واللقاء الحضاري :

إذا كان الكتاب والسنّة وحديث العترة الطاهرة هو المنطلق لنشوء علم الكلام وظهوره بين المسلمين ، فقد كان للاحتكاك الثقافي واللقاء الحضاري دور خاص في ذلك المجال ، وهو أنّه دفع عجلة علم الكلام إلى الأمام ، وصار سببا لنموه ونضوجه بين المسلمين بأقصر مدة ، ولو لا هذا الصراع الفكري لما نمت تلك البذور الطيبة الكامنة في الكتاب والسنّة ، وما استوت على سوقه ، وهذان العاملان (الداخلي والخارجي) وإن صارا سببا لنشوء هذا العلم وتكامله إلّا أنّ دور الأوّل ، يخالف دور الثاني ، فالأوّل يعد مصادر علم الكلام ومنابعه ومناشئه ، وأمّا الثاني ، فهو الذي أيقظ المفكرين من المسلمين حتّى ينمّوا ما تعلموه في مدرسة الدين من الأصول والعقائد ، وإليك بيان ذلك العامل الخارجي.

بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدين عالمي ، ونبوة خاتمة ، وكتاب خاتم للكتب ، والمهيمن عليها ، وبثّ شريعته الغراء في ربوع الجزيرة العربية في بضع سنين ، إلى أن مضى إلى جوار ربّه ، وراية الإسلام خفّاقة عالية ، تدين أهلها بالتوحيد ، وتكافح الثنوية ، وتؤمن بالحياة الأخروية وتعمل بسنن الإسلام وطقوسه.

وقد أحسّ المسلمون بواجبهم بعد رحلته ، وهو نشر الإسلام وبسطه في العالم كلّه ودعوة جميع البشر على مختلف قومياتهم إلى الانضواء تحت راية الإسلام ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، ثم كسر الأصنام والأوثان بالجهاد المتواصل ، وبذل النفس والنفيس في سبيله ، حتى تصبح الأجواء صافية ، والظروف حرّة ، وترتفع العوائق والموانع بغية دخول الناس في دين الله زرافات ووحدانا عن طوع ورغبة ، بلا خوف ولا رهبة من طواغيت العصر.

قام المسلمون بواجبهم ففتحوا البلاد ، ونشروا الثقافة الإسلامية بين الأمم

١١

المتحضرة والتي كانت تتمتّع ـ وراء الآداب والفنون والعلوم والصناعات ـ بمناهج فلسفية ، وآراء كلامية لا يذعن بها الإسلام.

وقد كان في ذلك الاحتكاك الثقافي واللقاء الحضاري تأثير بالغ عاد على الإسلام والمسلمين بالخير الكثير إلّا أنّ هذا الاحتكاك لا يخلو عن مضاعفات ، وهي انتقال تلك الآراء والأفكار إلى الأوساط الإسلامية وهم غير متدرّعين تجاه تلك الشبهات والمشاكل.

وأعان على ذلك أمر ثان وهو انتقال عدة من الأسرى إلى العواصم الإسلامية فانتقلوا إليها بآرائهم وأفكارهم وعقائدهم المضادّة للإسلام وأسسه ، وكان بين المسلمين من لم يتورّع في أخذ هاتيك العقائد الفاسدة ، نظراء : عبد الكريم ابن أبي العوجاء ، وحماد بن عجرد ، ويحيى بن زياد ، ومطيع بن اياس ، وعبد الله بن المقفّع إلى غير ذلك بين غير متدرّع أو غير متورّع ، فأوجد ذلك قلقا ووحشة بين المسلمين.

أضف إلى ذلك أمرا ثالثا كان له التأثير الحاسم في بسط الإلحاد والزندقة وهو نقل الكتب الرومانية واليونانية والفارسية إلى اللغة العربية من دون نظارة ورقابة وجعلها في متناول أيدي الناس ، وقد ذكر ابن النديم تاريخ ترجمة تلك الكتب فقال :

«كان خالد بن يزيد بن معاوية محبّا للعلوم ، فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان ممّن كان ينزل مدينة مصر ، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي ، وهذا أوّل نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة ، ثم نقل الديوان وكان باللغة الفارسية إلى العربية في أيام الحجاج ، وكان أمر الترجمة يتقدم ببطء ، إلى أن ظهر المأمون في ساحة الخلافة ، فراسل ملك الروم يسأله الاذن في انفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة ، المدّخرة في بلد الروم ،

١٢

فأجاب إلى ذلك بعد امتناع ، فبعث المأمون جماعة ، منهم : الحجاج بن مطر ، وابن بطريق، ومحمد بن أحمد والحسين بنو شاكر المنجّم ، فجاءوا بطرائف الكتب ، وغرائب المصنّفات في الفلسفة والهندسة وغيرهما» ، ثم ذكر ابن النديم أسماء النقلة من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية ، وجاء بأسماء كميّة هائلة (١) فأخذوا يصبون ما وجدوه من غث وسمين في كتب الوثنيين والمسيحيين على رءوس المسلمين ، وهم غير متدرّعين وغير واقفين على جذور هذه الشبه ، مع أنّها كانت تزعزع أركان الإسلام.

فقد أثار انتقال هذه الشبه والعقائد والآراء إلى أوساط المسلمين ضجّة كبرى بينهم ، فافترقوا إلى فرقتين :

فرقة اقتصرت في الذب عن حياض الإسلام بتضليلهم وتكفيرهم وتوصيفهم بالزندقة وتحذير المسلمين من الالتقاء بهم وقراءة كتبهم والاستماع إلى كلامهم ، إلى غير ذلك مما كان يعدّ مكافحة سلبية التي لها الأثر القليل في مقابل ذلك السيل الجارف.

وفرقة قد أحسّوا بخطورة الموقف وأنّ المكافحة السلبية لها أثرها المؤقت ، وإنّ ذلك الداء لو لم يعالج بالدواء الناجع سوف يعمّ المجتمع كلّه أو أكثره ، فقاموا بمكافحة إيجابية أي الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال الذي يستحسنه الإسلام ، فأزالوا شبهاتهم ، ونقدوا أفكارهم في ضوء العقل والبرهان ، وقد نجحوا في ذلك نجاحا باهرا ، وهؤلاء المناضلون هم الشيعة خرّيجو مدرسة أهل البيت أوّلا ، والمعتزلة أتباع واصل بن عطاء ثانيا الذين أخذوا أصول مذهبهم عن علي عليه‌السلام بواسطتين :

__________________

(١) ابن النديم : الفهرست : ٣٥٢ ، ٣٥٦.

١٣

١. أبي هاشم ابن محمد بن الحنفية.

٢. محمّد بن الحنفية ابن علي بن أبي طالب.

ففي تلك الأجواء المشحونة بالبحث والجدل استفحل أمر الكلام ، أي العلم الباحث عن المبدأ وأسمائه وصفاته وأفعاله لغاية الذب عن الإسلام ، فكان علم الكلام وليد الحاجة ، ورهن الصراع الفكري مع التيارات الإلحادية المتحدّية للإسلام والمسلمين ، ففي هذه الظروف العصيبة قام أهل البيت عليهم‌السلام بتربية جموع غفيرة من أصحاب المواهب للذب عن الإسلام وأصوله أوّلا ، وحريم الولاية ثانيا ، في ضوء العقل والبرهان ، فصاروا يناظرون كل فرقة ونحلة بأمتن البراهين وأسلمها ، وكانت أئمّة أهل البيت كافلين بتدريبهم وتعليمهم كيفيّة مناظرتهم ، وقد حفظ التاريخ أسماء لفيف من الرافلين في حلل الفضائل والمعارف ، وسوف يوافيك أسماؤهم لاحقا.

١٤

بدايات المسائل الكلامية في القرنين الأوّلين

قد عرفت أنّ القرآن والسنّة ، وأحاديث العترة الطاهرة هي المنطلق الحقيقي لنشوء علم الكلام وأنّ المسلمين بطوائفهم المختلفة كانوا يصدرون عنها ، نعم كان للّقاء الحضاري والاحتكاك الثقافي دور في تكامل علم الكلام وكثرة مسائله ، فالكتاب والسنّة كانا مرجعين للاهتداء إلى موقف الإسلام فيها ، واللّقاء الحضاري كان سببا لطرح المسائل في الأوساط ، وانتقال الأذهان إليها ، وعلى كل حال أصبح الأمران سببا لنشوء علم الكلام ونضوجه بين المسلمين على نزعاتهم المختلفة.

إنّ كتّاب الملل والنحل يصرّون على أنّ الاختلاف في الإمامة كان أوّل اختلاف ديني وأعظم خلاف بين الأمّة.

يقول الإمام أبو الحسن الأشعري : أوّل ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد وفاة نبيّهم اختلافهم في الإمامة (١).

ويقول الشهرستاني : إنّ الاختلاف في الإمامة أعظم خلاف بين الأمّة ، إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان (٢).

يلاحظ عليه : أنّ الاختلاف في الإمامة بعد أيام الخلفاء وإن أصبح اختلافا كلاميا ، فذهبت الشيعة إلى أنّها تنصيصية والسنّة إلى غيرها ، لكن الاختلاف يوم ارتحل الرسول لم يكن اختلافا في قاعدة دينية ، وجدالا في مسألة كلامية بل كان جدالا سياسيا محضا ، لم يكن مبنيا على قاعدة دينية ، إذ كان علي عليه‌السلام وأهل بيت النبي ولفيف من شيعة الإمام بعيدين عن السقيفة وما جرى فيها ، مشغولين

__________________

(١) مقالات الاسلاميين واختلاف المصلّين : ١ / ٣٤ ، نشرة محيي الدين عبد الحميد.

(٢) الملل والنحل : ١ / ٢٤.

١٥

بتجهيز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا الأنصار فكانوا يرون أنفسهم أولى بإدارة الأمور لأنّهم آووا النبي ونصروه ، وكان المهاجرون يرون أنفسهم أولى بها لأنّهم أصل النبي وعشيرته ، من دون أن يبحث أحد من الفئتين عن القاعدة الدينية في مجال الإمامة ، وأنّها هل هي التنصيص ، أو الشورى أو غيرهما ، وما هو الملاك فيها؟ بل كانت هذه الأمور مغفولا عنها يوم ذاك ، وكان الهدف هو تسنّم منصّة الخلافة وتداول كرتها بين أبنائهم وعشيرتهم ، حتى لو لم تكن حكومة الرسول حكومة دينية وكان الرسول قائدا بشريا مات عنها ، لقام المهاجرون والأنصار بنفس ذلك الجدال ، وكلّ سعى إلى جرّ النار إلى قرصه.

فما في أكثر الكتب الكلامية من تصوير الاختلاف في مسألة الإمامة ، اختلافا كلاميا ناشئ عن النظر إليها فيما بعد السقيفة ، وأمّا إذا نظرنا إليها من منظار المهاجرين والأنصار ، فالاختلاف بينهم لم يكن نزاعا كلاميا ودينيا بل سياسيا بحتا ، مبنيا على تناسي النص ، وتصوير الخلافة الإسلامية كخلافة موروثة من القائد لأمّته ، وإلّا فلو كان النزاع على أساس دينيّ ، لما كان للاختلاف مجال ، وكفتهم هتافات الرسول في بدء الدعوة ، ويوم ترك المدينة لغزوة تبوك ، ويوم الغدير وغيرها ، هذا وللبحث صلة تطلب من محلّه.

وإليك نماذج من بدايات المسائل الكلامية في القرنين الأوّلين :

١. مسألة التحكيم :

إنّ أوّل خلاف ظهر بين المسلمين ، وصيّرهم فرقتين ، هو مسألة التحكيم في وقعة صفين ، والمسألة يوم ذاك وإن اصطبغت بصبغة سياسية لكن كان لها أساس دينيّ ، وهو أنّ الخوارج خالفوا عليا وانعزلوا عن جنده بحجّة أنّ حكم الله في الباغي ، هو مواصلة الحرب والجهاد حتى يفيء إلى حكم الله لا التصالح وإيقاف الحرب ، وحجّتهم وإن كانت مردودة لأجل أنّ التحكيم إنّما فرض على

١٦

الإمام ، لا أنّه قبله عن اختيار وحرية ، والخوارج هم الذين فرضوه عليه ، ولم يكتفوا بذلك حتى فرضوا عليه صيغة التحكيم ووثيقته ، وحتى المحكّم الذي يشارك فيه مع مندوب معاوية ، إلّا أنّ هذا الاعوجاج الفكري صار سببا لتشكّل فرقتين متخاصمتين إلى عهود وقرون.

وبذلك يفترق اختلافهم مع اختلاف أمثال طلحة والزبير ومعاوية إذ لم يكن اختلافهم حول المبادئ وإنّما طمعوا أن يكونوا خلفاء و ... ولذلك لم يثيروا إلّا مشاكل سياسية دموية ، بخلاف اختلاف الخوارج فإنّ اختلافهم كان حول المبادئ وكانوا يردّدون كلمة «لا حكم إلّا لله» وكان علي وحواريّه الجليل ابن عباس يحتجّان عليهم بالقرآن والسنّة.

وبظهور الخوارج على الصعيد الإسلامي ، ورفضهم التحكيم ، طرحت مسائل أخرى بين المسلمين شكّلت مسائل كلامية عبر القرون ، وهي :

٢. حكم مرتكب الكبيرة :

إنّ الخوارج كانوا يحبّون الشيخين ويبغضون الصهرين ، بمعنى أنّهم كانوا يوافقون عثمان في سني خلافته إلى ستّ سنين ، ولمّا ظهر منه التطرّف والجنوح إلى النزعة الأموية ، واستئثار الأموال أبغضوه ، وأمّا علي عليه‌السلام فقد كانوا مصدّقيه إلى قضية التحكيم ، فلما فرض عليه التحكيم وقبل هو ذلك المخطّط عن ضرورة واضطرار ، خالفوه ووصفوه باقتراف الكبيرة ، ـ فعند ذاك ـ نجمت مسألة كلامية وهي ما هو حكم مرتكب الكبيرة؟ وقد استفحل أمرها أيام محاربة الخوارج مع الأمويين الذين كانوا معروفين بالفسق والفجور ، وسفك الدماء وغصب الأموال ، فكان الخوارج يحاربونهم بحجّة أنّهم كفرة لا حرمة لدمائهم ولا أعراضهم ولا نفوسهم لاقترافهم الكبائر.

١٧

وعلى أي تقدير ففي المسألة أقوال :

ألف. مرتكب الكبيرة كافر.

ب. مرتكب الكبيرة فاسق منافق.

ج. مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق.

د. مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا فاسق بل منزلة بين المنزلتين.

فالأوّل خيرة الخوارج ، والثاني مختار الحسن البصري ، والثالث مختار الإمامية والأشاعرة ، والرابع نظرية المعتزلة.

٣. تحديد مفهوم الإيمان :

وقد انبثق من هذا النزاع ، نزاع كلامي آخر وهو : تحديد مفهوم الإيمان ، وإنّ العمل داخل في حقيقة الإيمان أو لا؟ فعلى قول الخوارج والمعتزلة ، فالعمل مقوّم للإيمان ، بخلافه على القول الآخر ، وقد صارت تلك المسألة ذات أهميّة في الأوساط الإسلامية وانتهت إلى مسألة أخرى ، وهي زيادة الإيمان ونقصه بصالح الأعمال وعدمها.

٤. الإرجاء والمرجئة :

كان هناك رجال يعانون من سفك الدماء ، والحروب الدامية فالتجئوا إلى فرضية كلامية وهي إرجاء حكم مرتكب الكبيرة إلى الله سبحانه تعالى ، أو إرجاء حكم الصهرين إلى الله سبحانه ، حتى لا ينبس فيهما المسلم ببنت شفة ، وأخذت تلك الفكرة تنمو حتى تحوّلت إلى الإباحية التي تنزع التقوى من المسلم وتفتح في وجهه أبواب المعاصي ، وهو تقديم الإيمان وتأخير العمل ، وإنّ المهم هو الاعتقاد القلبي والعمل ليس شيئا يعتدّ به ، وإنّ التعذيب على الكفر ، وإمّا التعذيب على

١٨

اقتراف المعاصي فغير معلوم ، وقد اشتهر عنهم قولهم : لا تضرّ مع الإيمان معصية ، كما لا تنفع مع الكفر طاعة.

٥. مسألة القضاء والقدر :

إنّ مسألة القضاء والقدر وإن كان لها جذور قبل بزوغ نجم الإسلام وبعده ، لكنها أخذت لنفسها أهميّة خاصة في عصر الأمويين حيث كانوا يبرّرون استئثارهم وأعمالهم الإجرامية بالقضاء والقدر ، فصار ذلك سببا ، لوقوع المسألة مثارا للبحث والنقاش بين أهل الفكر من المسلمين.

فالمسألة وإن كان لها جذور قبل الأمويين بين المسلمين لكنها كانت مطروحة بصورة فردية ولم تشكّل تيّارا فكريا ولا مذهبا كلاميّا.

روى الواقدي في مغازيه عن أمّ الحارث الأنصارية وهي تحدّث عن فرار المسلمين يوم حنين قالت : مرّ بي عمر بن الخطاب (منهزما) فقلت : ما هذا؟ فقال عمر : أمر الله(١).

وقد كانت تلك الفكرة سائدة حتى بعد رحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم روى عبد الله بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر فقال : أرأيت الزنا بقدر؟ قال : نعم. قال : الله قدّره عليّ ثم يعذّبني؟ قال : نعم يا ابن اللخناء أما والله لو كان عندي انسان أمرته أن يجأ أنفك (٢).

استغلال الأمويين للقدر :

لقد اتخذ الأمويّون مسألة القدر أداة تبريرية لأعمالهم السيّئة وكانوا ينسبون

__________________

(١) الواقدي : المغازي : ٣ / ٩٠٤.

(٢) السيوطي : تاريخ الخلفاء : ٩٥.

١٩

وضعهم الراهن بما فيه من شتى ضروب العيث والفساد إلى القدر. قال أبو هلال العسكري : إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ الله يريد أفعال العباد كلّها (١).

ولأجل ذلك لما سألت أمّ المؤمنين عائشة ، معاوية عن سبب تنصيب ولده يزيد للخلافة والإمامة أجابها : أنّ أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم (٢).

وبهذا أيضا أجاب معاوية عبد الله بن عمر عند ما استفسر معاوية عن تنصيبه يزيد فقال : إنّي أحذّرك أن تشقّ عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم وأن تسفك دماءهم وأنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة من أمرهم (٣).

وقد كانت الحكومة الأموية الجائرة متحمّسة على تثبيت هذه الفكرة في المجتمع الإسلامي وكانت تواجه المخالف بالشتم والضرب والإبعاد.

قال الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه «نظرية الإمامة» : إنّ معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوّة فحسب ، ولكن بايديولوجية تمسّ العقيدة في الصميم ، فلقد كان يعلن في الناس أنّ الخلافة بينه وبين علي عليه‌السلام قد احتكما فيها إلى الله ، وقضى الله له على عليّ ، وكذلك حين أراد أن يطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز أعلن أنّ اختيار يزيد للخلافة كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة في أمرهم ، وهكذا كاد يستقرّ في أذهان المسلمين ، أنّ كل ما يأمر به الخليفة حتى لو كانت طاعة الله في خلافه (فهو) قضاء من الله قد قدر على العباد (٤).

__________________

(١) الأوائل : ٢٢ / ١٢٥.

(٢) الإمامة والسياسية لابن قتيبة : ١ / ١٦٧.

(٣) الإمامة والسياسة لابن قتيبة : ١ / ١٧١ ، طبعة مصر.

(٤) نظرية الإمامة : ٣٣٤.

٢٠