نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

اشتبه عليه الصوت بسببه ، فاعتقد أنّه التموّج الذي هو السبب القريب للصوت. وذهب بعضهم إلى أنّه نفس القرع والقلع اللذين هما سببان بعيدان للصوت. وقيل : إنّه اصطكاك الأجسام الصلبة. والكل باطل.

أمّا الأوّل : فلأنّ الأجسام مشتركة في الجسمية ، ومختلفة في الصوت ، وما به الاشتراك غير ما به الاختلاف. وأيضا الأجسام ملموسة ومبصرة ، إمّا بالذات أو بالعرض ، وليس الصوت بملموس ولا مبصر بالذات ولا بالعرض ، فليست الأصوات أجساما. ولأنّ الصوت مدرك بالسمع والجسم ليس مدركا به فتغايرا. وأبطل أبو هاشم هذا القول المنسوب إلى النظام بأنّ الصوت لو كان جسما لصحّ أن يبنى منه حائط أو دار ، والتالي باطل بالضرورة فالمقدم مثله ، ولم يدل على الشرطية بشيء ، بل كأنّه أخذها مسلّمة مع أنّ لمنازع أن ينازع فيها. وليس (١) يصحّ في كلّ جسم ما ذكره ، بل من شرطه (٢) أن يكون كثيفا.

وأمّا إبطال المذاهب الأخر فلأنّ التموّج حركة وهو مبصر ، والصوت غير مبصر. وأيضا التموّج محسوس باللمس ؛ لأنّ الصوت الشديد ربّما ضرب الصماخ فأفسده. والاصطكاك والقرع مماسة ، والقلع تفريق ، وكلّ ذلك محسوس بالبصر بتوسط اللون ، ولا شيء من الأصوات يحس باللمس أو البصر ، فليس التموج والقرع والقلع بصوت.

وأيضا الشيء قد يعلم منه أنّه تموج أو قرع أو قلع ، ويجهل كونه صوتا ، ويعلم كون الشيء صوتا ويجهل كونه تموّجا ، أو قرعا ، أو قلعا. وكلّ ذلك يدل على التغاير بين الصوت وهذه الأشياء (٣).

__________________

(١) س : «فليس»

(٢) إلى هنا انتهت نسخة م من مكتبة السيّد المرعشي «رحمه‌الله».

(٣) وانّ الصوت كيفية حاصلة منها لا نفسها.

٥٦١

المسألة الثانية : في سبب الصوت (١)

للصوت سببان : قريب ، وبعيد :

فالقريب : هو تموج الهواء ، ولا نعني بالتموج حركة انتقالية من هواء واحد بعينه ، بل حالة شبيهة بتموج الماء ، فإنّه أمر يحصل بالتدارك بصدم بعد صدم مع سكون بعد سكون. وللتموج سبب قريب هو السبب البعيد للصوت ، وهو إمّا قرع أو قلع. فالقرع إمساس أحد الجسمين بالآخر بعنف ، والقلع تفريق أحد النصفين من الجسم من صاحبه بعنف ، كما تشق الخشبة أو الثوب بعنف. وإنّما اعتبرنا العنف ؛ لأنّ مطلق القرع ومطلق القلع لا يوجبان الصوت ، فإنّك لو قرعت جسما لينا كالصوف بقرع لين جدا لم يحدث صوت. وكذا لو شققت جسما يسيرا يسيرا ، أو كان المشقوق لا صلابة فيه ، فإنّه لا يكون للقطع صوت.

وقيل : السبب القريب للصوت هو القرع أو القلع ، وليس بجيد ، لأنّهما آنيان ، فإنّ القرع مماسة والقلع لا مماسة ، والصوت زماني ، والآني لا يكون سببا للزماني. وينتقض بالميل الذي هو سبب الحركة ، وبامكان كونهما معدّين (٢). ونمنع كون القلع آنيا.

وقول من جعل التموّج سببا قريبا يشعر بأنّا لو قدّرنا العالم خاليا لم يحصل الصوت من القرع والقلع العنيفين. والذي أوهم إسناد الصوت إلى التموّج شيئان :

الأوّل : متى رأيناه حاصلا حصل الصوت ، فإنّ طنين الطست ينقطع عند تسكينه على حالة واحدة ، فلولا حاجة الصوت إلى الحركة لم (٣) ينقطع طنينه عند سكونه.

__________________

(١) راجع المصادر نفسها ؛ المباحث المشرقية ١ : ٤١٩ ـ ٤٢٠.

(٢) كذا في النسخ.

(٣) في النسخ : «وإلّا» قبل «لم» ، ولعلّه من زيادة الناسخ.

٥٦٢

الثاني : نرى الصوت مستمرا باستمرار حركة الهواء الخارج من الحلق ، والآلات الصناعية ، وسائر الأجسام المصوّتة.

واعلم أنّ الدوران لا يفيد القطع ولا دلالة قاطعة على أنّ المؤثّر في وجود الصوت هو القرع أو القلع العنيفان أو التموّج. ولا دلالة قاطعة أيضا على إمكان حدوث الصوت بدونهما ، فمن المحتمل أن يكون أحد هذه الأمور مؤثرا أو شرطا (١) ، بل الظاهر ذلك.

واعلم أنّ تموّج الهواء لازم من القرع والقلع ، لأنّ القارع للهواء يحوجه إلى أن ينقلب من المسافة التي يسلكها القارع إلى جنبتيها بعنف شديد. وكذلك القالع يحوج الهواء إلى الانقلاب المذكور. وفي الأمرين جميعا يلزم المتباعد (٢) من الهواء أن ينقاد للشكل والتموّج الواقعين هناك ، لكن القرعي أشد انبساطا من القلعي.

المسألة الثالثة : في حقيقة القرع

اعلم أنّ القرع لا بدّ فيه من حركتين إحداهما سابقة عليه ، والأخرى لاحقة به. أمّا السابقة فقد تكون من أحد الجسمين ، بأن يتحرك وينتقل إلى الثاني ، ويكون الثاني ساكنا حافظا لموضعه ، ويصير المتحرك إليه بقوّة. وقد تكون الحركة منهما معا ، بأن يتحرك كلّ منهما إلى صاحبه ، ولا بدّ من المعاوقة بينهما وقيام كلّ واحد منهما أو أحدهما في وجه الآخر قياما مخصوصا (٣) ، فإنّه إن لم توجد تلك المماسة إلّا آنا أو زمانا يسيرا جدا بحيث لا نحس به لم يكن صوت ، ولا تشترط الصلابة في ذلك القيام بأن يكون القائم صلبا ، فقد يكون رطبا في الغاية ويحصل منه صوت ، وذلك بأن يحمل عليه بالقوّة ويطلب (٤) خرقه خرقا كثيرا في زمان

__________________

(١) قال الرازي في نهاية العقول : «فلا جرم أنا توقفنا».

(٢) كذا ؛ وفي المباحث المشرقية : «للمتباعد».

(٣) كذا في المخطوطة ؛ وفي الشفاء : «محسوسا».

(٤) الكلمة كذا وغير منقوطة.

٥٦٣

قصير ، فربّما قام في وجه الخارق وقاومه ومانعه عن النفوذ فيه وصدّه عن خرقه بسهولة ، فحينئذ يقوم في وجه ذلك النافذ ، وتقوم تلك مقام الصلابة ، كما أنّك لو أمررت السّوط في الماء برفق ، فإنّك يمكنك شقا سهلا لا يلزمك فيه مئونة ، ولو استعجلت استعصى وقاوم، وكذلك الهواء. وقد يجوز أن يصير الهواء أجزاء : جزء منه قارع كالريح ، وجزء مقاوم ، وجزء منضغط فيما بينهما على هيئة من التموّج.

فظهر أنّه ليست الصلابة والتكاثف علّة أوّلية لإحداث هذا التموّج ، وأنّهما يحدثان الصوت بسبب حصول المقاومة ، لا باعتبار خصوصيتهما ، فإذا حصلت المقاومة مع عدم الصلابة والتكاثف حصل الصوت ، لوجود علّته.

فالعلّة الأوّلية إذن هي المقاومة ، والقارع والمقروع معا يفعلان الصوت ، لاحتياج المقاومة إليهما ، لكن أولاهما به أصلبهما وأشدهما مقاومة.

وأمّا الحركة اللاحقة فهي اضطراب الهواء وانقلابه من المسافة التي يسلكها القارع إلى جنبتيها بعنف. ثمّ إنّ ذلك الهواء المنقلب يحصل له الانقياد إلى الشكل والموج الواقعين هناك.

المسألة الرابعة (١) : في أنّ الصوت هل يتوقف الإحساس به على وصول

 الهواء الحامل له إلى الصماخ؟ (٢)

ذهبت الفلاسفة (٣) إلى أنّ السماع لا يحصل إلّا عند تأدّى الهواء المنضغط بين القارع والمقروع الحامل للصوت إلى سطح الصماخ. وهو مذهب النظام أيضا ،

__________________

(١) انظر البحث في نقد المحصل : ١٧٥ ـ ١٧٦ ؛ شرح المواقف ٥ : ٢٦١ ـ ٢٦٢ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٢٧٦ ـ ٢٧٨.

(٢) الصّماخ بالكسر : خرق الأذن ، الباطن الذي يفضي إلى الرأس ، يقال إنّ الصماخ هو الأذن نفسها.

تاج العروس ٧ : ٢٩٣.

(٣) راجع كتاب النفس لارسطو طاليس : ٧١. ذهب إليه أبو علي الجبائي أوّلا ، ثمّ رجع عنه ، وقال به أبو القاسم أيضا. راجع المحيط بالتكليف : ٣١٣.

٥٦٤

خلافا لكافة الأشاعرة (١). والظاهر أنّ النظام لمّا وافق الأوائل على توقف السمع على وصول الهواء إلى سطح الصماخ ، والهواء جسم ، ظن الناقلون عنه أنّه ذهب إلى أنّ الصوت جسم (٢).

احتج الأوائل بوجوه : (٣)

الأوّل : نرى صوت المؤذن على المنارة يميل من جانب إلى آخر عند هبوب الرياح ، ويتبع الرياح في الجريان إلى الجهة التي تطلبها.

الثاني : من أخذ انبوبة طويلة ووضع أحد طرفيها على فمه وطرفها الآخر على سطح صماخ آخر ، وتكلم فيها بصوت عال ، فإنّ ذلك الإنسان الآخر يسمع صوته دون الحاضرين. وليس ذلك إلّا لأنّ الهواء المتموّج الحامل للصوت لم ينتقل إلّا إلى سطح صماخ الذي وضعت الانبوبة على صماخه ، وانحصر في الانبوبة حتى تأدّى إليه خاصة دون الحاضرين ، فعلمنا أنّ الصوت محمول في الهواء المتموّج.

الثالث : إذا ضرب جسم على جسم من قرب ، سمع الصوت حال القرع ، ولو بعدت المسافة لم يسمع إلّا بعد زمان ، كما نشاهد في القصار إذا ضرب الثوب على الحجر ، فإنّه مع البعد يسمع الصوت بعد مشاهدة القرع بزمان ، ولا سبب لذلك إلّا أنّ الصوت يحمله الهواء ويتموّج إلى أن يصل إلى الأذن فيسمع بعد الحركة وانقضائها ، فساوى طول الزمان بعد المسافة.

الرابع : لو انسدّ التجويف الذي في الأذن لم يحصل السماع حيث لم يتأد التموّج إلى سطح الصماخ.

__________________

(١) وخلافا للقاضي عبد الجبار في نفس المصدر.

(٢) انظر هذا الظن في نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣١٨ ؛ مقالات الإسلاميين : ٣٨٥. وانظر دلائل عدم جسمية الصوت في المحيط بالتكليف : ٣١٣.

(٣) قال الرازي : إنّها من احتجاجات النظام. راجع نهاية العقول.

٥٦٥

الخامس : لو كان بين القارع (١) وبين السامع جسم كثيف تعذر السماع وصار عسرا لعسر التموّج للهواء. والصوت الشديد قد يخرق سطح الصماخ ، وقد يبلغ في الشدة إلى أن يهدم الأبنية ويفصل الأحجار ، كالرعود القوية ، وهو يدل على أنّ الصوت لا يسمع إلّا بعد تأدّي الهواء الحامل له إلى الصماخ.

واعترض (٢) بأنّ المرجع في هذه الوجوه إلى الدوران ، وهو ضعيف ؛ لعدم إفادته اليقين.

واحتج الآخرون بوجوه :

أ : الحروف الصلبة كالباء والتاء والدال والطاء ، هيئات تحدث في الآن الفاصل بين زمان حبس النفس وزمان اطلاقه ، وذلك ممّا يمتنع بقاؤه ، فلا ثبوت لها إلّا آن حدوثها ونحن

نسمعها. فإذن قد سمعناها قبل وصول الهواء الحامل لها إلى صماخنا.

ب : حامل كلّ واحد من الحروف المسموعة ، إمّا كلّ واحد من أجزاء الهواء أو مجموع الأجزاء ، والأوّل باطل ، لأنّه يقتضي أنّ الإنسان إذا تكلّم أن يسمع السامع كلامه مرارا متعددة عند ما تصل إلى صماخه أعداد كثيرة من تلك الأجزاء. والثاني باطل ، لأنّه يقتضي أن لا يسمع كلام الواحد إلّا واحد ، لأنّ جملة الهواء إنّما تتحرك إلى جهة واحدة فلا تصل إلّا إلى صماخ واحد.

ج (٣) : إذا سمعنا الصوت عرفنا جهته ، ولو أنّا أدركناه حال وصوله إلى صماخنا لما أدركنا الجهة التي منها وصل إلينا ، كما أنّا لمّا لم ندرك الملموس إلّا حال وصوله إلينا ، لم ندرك باللمس أنّ الملموس من أي جانب جاء.

__________________

(١) ج : «القول».

(٢) والمعترض هو الرازي كما في شرح المواقف.

(٣) هذا ما استدل به القاضي عبد الجبار في المصدر نفسه.

٥٦٦

د : قد يسمع كلام الغير من وراء الجدار ، فهنا قد حصل الإدراك من غير وصول ذلك الهواء إلى الصماخ.

لا يقال : يتأدّى الهواء إلى الصماخ في الفرج الحاصلة في مسامّ الجدار.

لأنّا نقول : لا شكّ أنّ الهواء لا يحمل الحروف المخصوصة ما لم يتشكل بأشكال مختلفة مخصوصة عند وصوله إلى مخارج الحروف. ثمّ إنّ الهواء لطيف فكما يتشكل بالشكل المخصوص بسبب ما عرض له من الحبس في مخارج الحروف ، فكذلك لا بدّ أن يتشكل بشكل آخر عند وصوله إلى الجدار ، وحينئذ يزول الشكل الأوّل الذي بسببه حدثت الحروف المخصوصة ، وإذا بطل ذلك الشكل بطل ذلك الحرف.

ه : لو كان وصول التموج شرطا لما حصل السماع للكلام المنتظم إلّا نادرا ، إذ بقاء الشكل محفوظا في الهواء المتموج الذي يفرض له اختلاف الأوضاع في أجزائه بسبب المصادمات والمصاكات له من خارج في غاية الندرة ، والتالي باطل فالمقدم مثله.

واعترض (١) على ب : بأنّ الحامل لكل حرف كلّ جزء من أجزاء الهواء ، فأي جزء وصل إلى الصماخ حصل الشعور بما يحمله من الصوت.

وعلى ج : بأنّا نسلّم ، أنّا ندرك الصوت الحاصل في تلك الجهة ، لكنّا لا ندرك كونه حاصلا في تلك الجهة ، لأنّ كونه في تلك الجهة يستحيل أن يكون متعلّقا بالسمع ، وإذا كان كذلك لم يلزم من إدراك الصوت قبل وصول حامله إلى الصماخ إدراك جهته.

وعلى د : بأنّ الحائل الذي لا منفذ فيه أصلا يمنع من السماع ، لأنّا ندرك أنّه كلما كانت المنافذ أقل كان السمع أضعف ، فيلزم أنّه إذا لم توجد المنافذ أصلا ، أن

__________________

(١) قارن شرح المواقف ٥ : ٢٦٣ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٢٧٨.

٥٦٧

لا يوجد السمع.

وعلى ه : بما مرّ من أنّ الحرف إنّما يتكون بإطلاق الهواء بعد حبسه على جنس مخصوص فيكون التموّج الفاعل للحرف ليس مخصوصا بكل الهواء دون أجزائه ، بل هو حاصل في كلّ جزء من أجزائه ، فأي جزء وصل حصل الشعور بما فيه من الصوت.

قال أفضل المحقّقين : القائلون بالتموّج لا يشترطون فيه بقاء الهواء على شكل ، والذي يتمثّلون به من تموّج الماء ليس المراد منه حدوث الشكل المرئي فيه ، بل الكيفية الحاصلة في نفس جرمه ، بسبب القرع ، وانبساط تلك الكيفية في الماء الذي يلي موضع القرع ، فإنّ الشكل يختص (١) بالسطح الظاهر ، والتموّج يحصل في عمق الماء والهواء.

وأيضا لا يقولون بامتناع وجود التموّج في جسم غير الماء والهواء ، بل يجوّزونه في غيرهما ، كما نحسّ به في الأواني الصفريّة وارتعاشها زمانا بسبب القرع ، وإحداثها الصوت بعد القرع زمانا طويلا.

وأيضا إذا حدث القرع على جسم مصمت لا مسامّ له أصلا ، فإنّ السامع يسمع الصوت من غير أن يصل من موضع القرع هواء إلى صماخه ، بل يتأدّى التموّج من ذلك الجسم إلى الهواء الذي يجاوره ، ومن الهواء إلى الصماخ. وإدراك الجهات بسبب هيئة تبقى في الهواء تفيد الإحساس بجهة القرع.

وقال أبو البركات البغدادي : كأنّ النفس تتبع الهواء المقروع في جهة القرع (٢) حتى تحسّ بذلك. وقياس السمع على اللمس لا يجدي بطائل (٣).

وفيه نظر ، فإنّه لو لا بقاء الشكل لم يبق الحرف مضبوطا ولا الكلام محفوظا.

__________________

(١) في النسخ : «يخص» ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) في النسخ : «القارع» ، وما أثبتناه من عبارات الطوسي.

(٣) نقد المحصل : ١٧٥ ـ ١٧٦.

٥٦٨

وإدراك الجهة ليس من السمع ، وكلام أبي البركات خطابي.

المسألة الخامسة : في استحالة البقاء على الصوت (١)

اعلم أنّا قد بيّنا الخلاف بين المتكلمين في بقاء الأعراض ، فالأشاعرة منعوا منه ، وقالوا هنا إنّ الصوت عرض فلا يمكن بقاؤه.

وأمّا القائلون ببقاء الأعراض فقد اختلفوا ، فذهبت الكرامية إلى بقائه وجعلوا إدراكه موقوفا على حال الحدوث ، وكان عندهم أنّ الانتفاء محال أصلا ، وإن كان يدرك في حال دون أخرى ، إلّا أنّ الحدوث لا حظّ له في إدراك ما يدرك ، وإن كان له حظ المنع. (٢) والحق عندنا خلاف ذلك ، فإنّ الضرورة قاضية بعدم بقائه.

وأيضا استدل المانعون منه بأنّه لو بقي حتى اجتمعت حروف الكلمة الواحدة ، لم يكن «زيد» بأن نسمع على هذه الهيئة أولى من أن نسمعه على سائر مقاليب الحروف الخمسة (٣). ولأنّ العلم الضروري حاصل بأنّ الحروف الصلبة الآنيّة غير باقية.

واعترض بجواز بقائها وتضادها ، فإن كان الأوّل مخلفا بالثاني لزم فناؤه لوجود ضده ، وإن لم يكن مخلفا به بقى. والأصل فيه أنّ البقاء وصحّة البقاء أمران متغايران ، فجاز أن يكون كلّ واحد من الحروف يصحّ بقاؤه لو لم يحصل الحرف الآخر بعده ويستحيل بقاؤه عند حصول الحرف الآخر ، ولا يلزم من امتناع بقاء الحروف الآنية امتناع بقاء كلّها ، لأنّ الحروف مختلفة ، ولا يلزم أن يكون الشيء على حكم ما يخالفه ، ولهذا كانت هذه الحروف الآنيّة لا يمكن تمديدها ، وباقي الحروف

__________________

(١) انظر البحث في مقالات الإسلاميين ٤٢٦ ؛ المحيط بالتكليف : ٣١٢.

(٢) العبارة كذا.

(٣) أي تركيباتها من كلمة «زيد» مثلا ، وهي : يزد ، يدز ، زدي ، دزي ، ديز.

٥٦٩

يمكن تمديده.

سلّمنا ، لكن لا يلزم من امتناع بقاء الحروف امتناع بقاء الصوت لأنّهما متغايران.

المسألة السادسة : في إثبات الصوت في الخارج

قال الشيخ (١) : لمعتقد أن يعتقد أنّ الصوت لا وجود له في الخارج ، بل إنّما يحدث في الحس من ملامسة الهواء المتموّج. ثمّ احتج على بطلانه ، بأنّا إذا سمعنا صوتا وأدركناه أدركنا معه جهته ، ومعلوم أنّ الجهة لا يبقى لها أثر في التموّج عند بلوغه إلى الصماخ ، فكان يجب أن لا ندرك من الصوت جهته ، لأنّها من حيث جاءت دخلت بحركتها تجويف الصماخ ، فيدركها الصماخ هناك. ولا يتميز بين الجهات كما في اللمس ، فإنّ اليد تلمس ما تلقاه ولا تشعر به إلّا حيث يلمسه ، ولا تفرق بين وروده من جهة وجهة ؛ لأنّ اليد لا تدرك الملموس حين ما كان في أوّل المسافة ، بل حين انتهى إليها. ولمّا كان التمييز بين الجهات حاصلا ، وكان التمييز بين القريب والبعيد من الأصوات حاصلا أيضا ، علمنا أنّا ندرك الأصوات الخارجية حيث هي ، ولا ندركها حيث هي إلّا وهي موجودة خارج الصماخ.

لا يقال : إنّما ندرك الجهة لأنّ الهواء القارع إنّما توجه من تلك الجهة ، وإنّما نميّز بين القريب والبعيد لقوّة الأثر الحاصل من القريب وضعفه عن البعيد.

لأنّا نقول : إنّ المؤذن قد يكون على جهة اليمين من السامع مثلا ، ويسدّ

__________________

(١) في الخامس من ثانية نفس الشفاء ، وانظر البحث في التحصيل : ٧٥٤ ـ ٧٥٥.

ولا يقرّ العلماء اليوم رأي ابن سينا الذي يذهب إلى أنّ للصوت وجودا في الخارج. فليس في الخارج إلّا موجات هوائية. امّا الصوت فهو خبرة سيكولوجية تحدث في المركز السمعي في المخ حينما تؤثّر هذه الموجات الهوائية في أعضاء السمع الموجودة في الأذن الداخلية. راجع الإدراك الحسّي عند ابن سينا : ١١٠.

٥٧٠

أذنه اليمنى ويسمع الصوت بالأذن اليسرى ويشعر به ويكون المصوت على اليمين ، ومعلوم أنّه لا يصل التموّج إلى الأذن اليسرى إلّا بعد أن ينعطف على اليمين.

وفيه نظر ؛ لأنّا نمنع حينئذ إدراك الجهة. وفرقهم بين البعيد والقريب باطل ، وإلّا لكنّا لا ندرك الفرق بين البعيد القوي والقريب الضعيف ، ولكنّا إذا سمعنا صوتين متساويين في البعد ، مختلفين بالقوة والضعف ، يظن أنّ أحدهما قريب والآخر بعيد. وبالجملة : كان يشتبه علينا القوة والضعف بالقرب والبعد ، ولمّا لم يكن كذلك بطل ما قالوه.

واعترض : بأنّا نسلّم أنّا ندرك الصوت الحاصل في تلك الجهة ، لكن لا ندرك منه كونه في تلك الجهة ؛ لأنّ كونه في تلك الجهة معناه أنّه موجود في جسم حاصل في تلك الجهة ، والسمع لا تعلّق له بذلك ، وإذا كان كذلك لم يكن لإثبات الصوت قبل وصوله إلى الصماخ منفعة في إدراك جهته ، فالمعتمد في إبطال هذا الوهم ، ما تقدم من أنّا ندرك الصوت قبل وصول الهواء إلى الصماخ.

وفيه نظر ، فإنّا إنّما سعينا لإثبات الصوت في الخارج في تلك الجهة سواء كان ذلك مستفادا من الحسّ أو العقل.

قال أبو البركات في سبب إدراك الجهة : قد علمنا أنّ هذا الإدراك إنّما يحصل أوّلا بقرع الهواء المتموّج لتجويف الصماخ ، ولهذا يصل من الأبعد في زمان أطول ، لكن بمجرّد إدراك الصوت القائم بالهواء القارع لا يحصل الشعور بالجهة والقرب والبعد ، بل ذلك إنّما يحصل بتتبّع الأثر الوارد من حيث ورد وما بقي منه في الهواء الذي هو في المسافة التي منها ورد.

والحاصل : أن عند غفلتنا يرد علينا هواء قارع ، فندركه عند الصماخ ، وذلك القدر لا يفيد إدراك الجهة ، بل إنّا بعد ذلك نتبعه بتأمّلنا ، فيتأدّى إدراكنا من

٥٧١

الذي وصل إلينا إلى ما قبله من جهته ومبدأ وروده. فإن كان بقي منه شيء متأد (١) أدركناه إلى حيث ينقطع ويفنى وحينئذ ندرك الوارد ومدده ، وما بقي منه موجودا وجهته وبعد مورده وقربه وما بقي من قوّة أمواجه وضعفها ، ولذلك ندرك البعيد ضعيفا ؛ لأنّه يضعف تموجه. وإن لم يبق في المسافة أمر ينتهي بنا إلى المبتدأ لم نعلم من قدر البعد إلّا بقدر ما بقي ، فلا نفرق بين الرعد الواصل إلينا من أعالي الجو وبين دويّ الرحى الذي أقرب منه إلينا. وإذا كان بقربنا رجلان بعد أحدهما ذراع والآخر ذراعان ، وسمعنا كلامهما من غير أن نبصرهما عرفنا بالسمع قدر المسافة من قرب أحدهما وبعد الآخر (٢).

المسألة السابعة : في سبب اختلاف الصوت (٣)

اعلم أنّ الصوت يختلف تارة بالجهارة والخفاءة ، وتارة بالثقل والحدّة.

أمّا سبب الأوّل : فهي الأسباب الثلاثة المذكورة في اللون : من اختلاف القوي والضعيف بحيث لا يتميز في الحس ، ومن اجتماع صوتين في الجهارة ، وحصول واحد في الخفاءة ، ومن الاختلاف النوعي.

وأمّا سبب الحدّة : فصلابة المقروع ، وملاسته في بعض الأجسام ، وقصر المنفذ ، وضيق منفذ الهواء ، وشدة التوائه في بعضها. فيحدث عن هذه الأسباب تلزّز وقوة وملاسة سطح في الهواء المتموّج ، وتراصّ أجزاء من الهواء المتموّج فيتأدّى على تلك الصورة إلى السمع. وسبب الثقل فقدانها. وهذه الأسباب تقبل الشدة والضعف ، والزيادة والنقصان ، فإن زادت الأسباب زادت المسببات على تناسب

__________________

(١) في النسخ : «متأدّيا» ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) المعتبر في الحكمة : ٣٣٥ ـ ٣٣٦.

(٣) راجع المباحث المشرقية ١ : ٤٢٢.

٥٧٢

واحد وبالعكس ، فتكون نسبة الطول إلى الطول كنسبة النغمة إلى النغمة في الحدّة والثقل ، فتكون نغمة نصف الطول نصف نعمة الكل في الثقل ، فلأجل ذلك اختلفت الأصوات في الحدّة والثقل.

المسألة الثامنة : في الصّدى (١)

أ : الصدى عبارة عن «صوت يسمع عقيب صوت بزمان يسير جدا يحكيه بعينه»(٢). والسبب في حدوثه ، أنّ القارع أو القالع إذا فعلا قرعا أو قلعا حصل من أثرهما تموج الهواء بين القارع والمقروع ، فإذا قاوم ذلك التموّج شيء من الأجسام كجبل أو جدار أملس بحيث يردّ ذلك التموج ويصرفه إلى خلف ، ويكون شكله شكل الأوّل وعلى هيئته ، كما يلزم من الكرة المرمي بها إلى الحائط حين تنبو ، لزم أن يضطر الهواء إلى التموّج فيما بينهما ، وأن يرجع القهقرى فحينئذ يحدث من ذلك صوت هو الصدى.

واعلم أنّ الفاعل لهذا الصدى ليس هو الهواء المتموّج المتوجه إلى ما يقاومه أوّلا ثمّ الراجع ، بل هذا الهواء المتموّج أوّلا يموج هواء آخر بينه وبين ذلك المقاوم. فهذا الصدى يحدث من تموج الهواء الثاني المتموّج عن الهواء الأوّل ، لأنّ الهواء المتموج أوّلا إذا صدمه ذلك الجسم الكثيف لم يبق على ذلك الشكل المخصوص ، فبعد رجوعه لا يكون حاملا لذلك الصوت ، فوجب أن يكون حادثا عن تموج الهواء الثاني الراجع إلى مكان الأوّل حين ذهاب الأوّل إلى ذلك الجبل ، ولهذا يكون على صفته وهيئته.

__________________

(١) راجع كتاب النفس لارسطو : ٧٠ ؛ نفس المصدر من الشفاء ؛ التحصيل : ٧٥٥ ـ ٧٥٦ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٤٢٢ ؛ شرح المواقف ٥ : ٢٦٧.

(٢) الصّدى : الصوت الذي يسمعه المصوّت عقيب صياحه راجعا إليه من الجبل والبناء المرتفع. لسان العرب ٧ : ٣١٣.

٥٧٣

وكلّ صوت فإنّ له صدى ؛ لأنّه متى تموّج عنه هواء لا بدّ وأن يتموج إليه حينئذ هواء آخر فيكون فاعلا للصدى. لكنّ بعض الأصوات لا يسمع له صدى إمّا لأجل أنّ المسافة إذا كانت قريبة بين المصوت وبين عاكس الصوت لم يسمع في زمانين بحيث يقوى الحس على تباينهما. وإذا بعدت المسافة بينهما قوى الحس على إدراك التباين (١). وإذا كان العاكس صلبا أملس فهو لتواتر الانعكاس منه بسبب قوة النبو يبقى زمانا كثيرا كما في الحمامات ، وهذا هو السبب في أن يكون صوت المغنّي في الصحراء أضعف ، وتحت السقف أقوى ، لتضاعفه بالصدى المحسوس معه في زمانين كالواحد ؛ لأنّ الزمانين المتقاربين في الحس كالواحد ، فالصوت الواقع فيهما كصوت مضاعف في زمان واحد.

__________________

(١) في النسخ : «السابق» ، وما أثبتناه من المباحث المشرقية.

٥٧٤

الباب الثاني

في الحرف (١)

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في ماهيته

قال الرئيس : إنّه «هيئة عارضة للصوت ، يتميّز بها عن صوت آخر مثله في الحدّة والثقل تميّزا في المسموع» (٢).

وهذا التعريف يبطل طردا وعكسا. أمّا الطرد ، فلأنّ هنا هيئات عارضة للصوت يتميز بها عن صوت آخر مثله في الحدة والثقل تميّزا في المسموع ، مع أنّه ليس شيء منها بحرف. وتلك الهيئات طول الصوت وقصره ، وكونه مجهورا أو خفيا ، وطيبا وغير طيب ، وكذا كيفيات اخر بها يميز الإنسان صوت شخص من صوت شخص آخر.

وأجيب (٣) : بأنّ كون الصوت طيبا أو غير طيب ليس بمسموع ؛ لأنّ الطيب إنّما يحصل بتناسب أبعاض الصوت ، والتناسب غير مسموع ؛ لأنّه حين ما يسمع

__________________

(١) راجع رسائل أخوان الصفا (فصل في معرفة بداية الحروف) ٣ : ١٤١ وما يليها ، وراجع أفضل ما ألّف في هذا الباب أعني «أسباب حدوث الحروف» للشيخ أبي علي سينا.

(٢) نفس المصدر من الشيخ : ٦٠.

(٣) انظر الجواب في نهاية العقول (القسم الثاني) ؛ شرح المواقف ٥ : ٢٧٠ ، وشرح المقاصد ٢ : ٢٧٩.

٥٧٥

أحد أجزاء الصوت فالجزء الآخر غير حاصل ، فلا يكون مسموعا ، وكذا القول في الجزء الآخر. وإذا لم يكن التناسب مسموعا لم يكن كونه طيبا أو غير طيب مسموعا ، بل ذلك أمر يحصل للنفس عند اعتبار تناسب ما بقي في التخيل من تلك الأصوات ، وإذا لم يكن مسموعا لم يدخل في الحدّ.

وأمّا طول الصوت وقصره ، فالأمر فيه كذلك أيضا ؛ لأنّ المسموع أبدا هو الصوت الحاصل في ذلك الوقت فأمّا إن حصلا قبل ذلك فهو العكس. (١)

وأمّا الجهارة والخفاء ، فلا نسلّم مغايرتهما للحدّة والثقل.

وأمّا العكس فهو أنّ الحروف الصامتة البسيطة كالباء والتاء والدال والطاء آنية لا توجد إلّا في الآن ـ الذي هو بداية زمان الصوت ـ فلا تكون هيئات عارضة للصوت ، لأنّها لو كانت عارضة له ، لما وجدت إلّا مع وجوده ، لكنّ هذه الحروف لا توجد مع وجود الصوت ، لأنّها إنّما توجد في الآن ـ الذي هو آخر زمان حبس النفس وأوّل زمان إطلاقه ـ ، والصوت لا يوجد إلّا في زمان إرسال النفس. فإذن هذه الحروف موجودة قبل وجود الصوت فلا يمكن أن يقال : إنّها هيئات عارضة للصوت.

قيل : للمانع أن يمنع عدم عروض هذه الحروف للصوت ؛ لإمكان عروضها له كما يعرض الآن للزمان.

وفيه نظر ؛ لأنّ الآن ليس موجودا بالفعل عندهم ، وهذه الحروف مسموعة فتكون موجودة قطعا لا بدّ لها من محل موجود قطعا بالفعل ، والآن الذي هو طرف زمان الصوت ليس موجودا بالفعل. وفرق بين هذه الأشياء وبين الأشياء الآنية ؛ لأنّ تلك موجودة في نفسها أو محالّ غير الآن ، فلا يلزم من تحقّقها بالفعل تحقّق الآن بالفعل ، وهذه تحتاج إلى محل موجود بالفعل ، وليس محلّها الأوّل الهواء ، بل عارضه وهو الصوت.

__________________

(١) العبارة كذا ، وفي النهاية العقول : «فهو غير مسموع».

٥٧٦

المسألة الثانية : في أقسام الحرف (١)

اعلم أنّ الحروف على قسمين :

أ : المصوتة (٢).

ب : الصامتة.

فالمصوتة هي التي تسمّى في لغة العرب : حروف المدّ واللين ، وهي ثلاثة لا غير : الألف والياء والواو. ولا يمكن الابتداء بها. ولا شك في أنّها هيئات تعرض للأصوات يتميز بها الصوت عن أصوات أخر تساويه في الحدة والثقل.

وأمّا الصامتة فهي ما عداها ويمكن الابتداء بها ، وهي قسمان :

أ : ما لا يمكن تمديده.

ب : ما يمكن.

فالأوّل : كالباء والطاء والدال والتاء ، وهي إنّما توجد في الآن الذي هو آخر زمان حبس النفس وأوّل زمان إرساله. ونسبة هذه الحروف إلى الصوت نسبة النقطة إلى الخط والآن إلى الزمان ، وهي ليست من جنس الأصوات ، ولا من جنس الهيئات العارضة للأصوات ، إلّا على كونها أطرافا لها ، كما يقال : الآن عارض للزمان.

وفيه نظر ، لأنّ هذه الحروف مسموعة فتكون أصواتا.

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٢٨٨ ـ ٢٨٩ ؛ مناهج اليقين : ٦٨ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٢٨.

(٢) سمّيت مصوتة لاقتضائها امتداد الصوت ؛ وسمّي ما يقابلها صامتا لعدم اقتضائه ذلك. شرح المواقف ٥ : ٢٧١.

٥٧٧

ثمّ إنّ إطلاق اسم الحرف على كلّ واحد من هذه الحروف أولى من إطلاقه على غيرها ؛ لأنّ الحرف هو الطرف وهذه الحروف بالحقيقة هي الأطراف.

وأمّا ما يمكن تمديده فعلى قسمين :

أ : منها ما الظن الغالب أنّها آنية في الحقيقة ، وإن كانت زمانية في الحس.

ب : ما الظن الغالب أنّها زمانية في الحس والحقيقة.

أمّا أ : فكالحاء والخاء وشبههما ، لأنّ الحروف الآنية الموجودة منها ما لا تكون إلّا بعد حبس قويّ للنفس ثمّ إرسال قوي ، ومثل هذا الحبس والإطلاق لا يقع إلّا في أزمنة يتميز بعضها عن البعض في الحبس كالباء والتاء.

ومنها ما لا يحتاج إلى ذلك ، بل يكتفى بكونه في حبس أو إرسال كيف اتفق ، ومثل هذا الحبس والإرسال ممّا يمكن وقوعه في أزمنة صغيرة بحيث لا يقع الشعور بامتياز بعضها عن البعض لغاية صغرها كالحاء والخاء ، فإنّه يغلب على الظن أنّ الحاء إنّما يمتد في الحس ، لا لأنّه في نفسه يمتد ، بل لأنّه بتوالي منه أعداد كثيرة في أزمنة متقاربة جدا ، كلّ واحد منها آني ، فلأجل ذلك يظن أنّه من الحروف الزمانية وأنّ المسموع منها حرف واحد يمتد في الزمان وإن كان في التحقيق من الحروف الآنية.

وأمّا ب : فمثل السين والشين فإنّها زمانية في الحس والحقيقة ، وهي هيئات عارضة للصوت عروضا ذاتيا يستمر باستمراره. وهذا يقتضي قيام العرض بالعرض خلافا لما صار إليه الأشاعرة.

فهذا هو البحث التام في ماهية الحرف. ولا حاجة له إلى التعريف ، لما سبق من أنّ الأمور المحسوسة لا يجوز تعريفها ؛ لأنّه يشتمل على إضافات واعتبارات أخفى منها.

وقد بقي الكلام في أحكام الحروف ، وهي إمّا في المفردات أو المركبات. والمفردات إمّا صوامت أو مصوتات.

٥٧٨

المسألة الثالثة : في أحكام الصوامت

وهي سبعة :

الأوّل : اعلم أنّ الحروف المستعملة في لغة العرب مشهورة معلومة وهي : حروف التهجّي. وهنا حروف أخر في لغات غيرها ليست مشهورة لوجودها في بعض اللغات ، حتى أنّ من ولد على غير تلك اللغة يعسر عليه النطق بها ، وحيث الأمر كذلك جاز أن تكون هنا حروف أخر لا نعرفها ، ولعل في المقدور حروفا أخر غير المستعملة في لغات أهل زماننا ، فلا دليل قاطع على حصر الحروف في عدد معين ، بل ولا على تناهيها ، فجاز أن تكون غير متناهية ، كما في الألوان ؛ لأنّ معروضها قابل للشدة والضعف ، وهي تختلف باختلافه فيهما ، ومراتب الشدة والضعف غير متناهية ، لكن لمّا لم ينطق بها ظن فيها التناهي من غير قطع. (١)

الثاني (٢) : الحروف الصامتة ، إمّا مختلفة أو متماثلة ، والمختلفة إمّا أن يكون اختلافها بالذات أو بالعرض. أمّا الاختلاف الذاتي فكالحاء والجيم والتاء والدال. وبالجملة فكل ما يختلف مخرجه فإنّ فيه اختلافا ذاتيا. وأمّا الاختلاف العرضي ، فذلك بأن يختلف الحرفان المتساويان في الماهية بأمور عارضة ، وهي بالاستقراء ثلاثة :

أ ـ أن يكون أحدهما متحركا والآخر ساكنا.

ب ـ أن يكونا متحركين ، لكن حركة أحدهما مخالفة لحركة الآخر ، كالضمة مع الفتحة أو الكسرة.

ج ـ أن يختلفا بالجهارة والخفوت. ومن ذهب إلى أنّ الاختلاف بالشدة والضعف اختلاف نوعي جعل هذا الاختلاف من قبيل ما يختلف فيه الحرفان

__________________

(١) وقد توقف الرازي في هذا الحكم. راجع نهاية العقول.

(٢) راجع شرح المواقف ٥ : ٢٧٣.

٥٧٩

بالذات ، وجعل اختلاف الحرفين بالذات كالحاء والجيم اختلافا جنسيا.

الثالث : اعلم أنّه لا يمكننا النطق بحرفين من هذه الحروف دفعة واحدة من مخرج واحد. والحكم بذلك ضروري ، لكن قد اختلف في أنّ هذا امتناع الاجتماع لذات الحرفين ، أو لفوات شرط ، أو لحضور مانع. والوجه التوقف. (١)

وقد ذهب جماعة من المتكلمين أنّ الاختلاف بالجهارة والخفاءة راجع إلى كثرة أجزاء أحدهما دون الآخر ، كما قالوا في الألوان ، وهو مبني على إمكان اجتماع المثلين.

وفي كلام أبي هاشم أنّ الحرف المضموم مخالف للمفتوح ، وقياس قوله بتضاد المختلف من الحروف يقتضي الحكم بتضاد هذين الحرفين المتساويين إذا اختلفا بالضم والفتح وما أشبههما.

وهذا غير صحيح ؛ لأنّ المضموم إنّما خالف المفتوح باقتران حرفين مختلفين به ، فإنّ الضمة حرف زائد ، وكذا الفتحة ، ولهذا تصيران واوا والفا عند الإشباع.

الرابع (٢) : في تضاد الحروف. اختلف الجبائيان على تضاد الحروف المختلفة بالذات كالحاء والجيم مثلا. وهو ظاهر قول الكعبي. وتوقف أبو عبد الله البصري في تضادهما ، وهو الذي قال به قاضي القضاة في أكثر كتبه. وقال في شرح كشف الأعراض أنّها غير متضادة.

احتج الشيخان بأنّه يستحيل منّا إيجاد حرفين في محل واحد لا لشيء سوى التضاد ، وهو ممنوع لجواز استناد الاستحالة إلى الاحتياج إلى آلة أو غير ذلك.

واعلم أنّه لا يتأتّى على رأي الأوائل الحكم بتضاد الحروف المختلفة لعدم

__________________

(١) كذلك توقف الرازي في المصدر نفسه.

(٢) راجع المحيط بالتكليف : ص ٣١٤ ـ ٣١٥ ، و ٣٣٥ ـ ٣٣٦.

٥٨٠