نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

الأوائل وأبي بكر بن الإخشيد (١).

واعلم أنّ بعض الألوان قد يمازجه ضوء ، وبعضها يمازجه ظلمة ، فيحصل في الأوّل صفاء وإشراق ، وفي الثاني قتورة وظلمة. فالارجوانية والفيروزية والخضرة الناصعة ، ألوان مشرقة وقريبة من طباع الضوء ، ولذلك تنعكس إلى غيرها كالأضواء.

والغبرة والكرّاثية والعودية والسواد وشبهها ألوان مظلمة ، ولهذا لا تنعكس إلى غيرها.

المسألة الخامسة : في أنّ الضوء ليس شرطا في وجود اللون

ذهب الرئيس هنا (٢) مذهبا غريبا عجيبا ، وهو أنّ اللون لا يوجد في الجسم حال كونه مظلما ، فشرط في وجود اللون ـ لا في رؤيته خاصة ـ وجود الضوء.

واحتج عليه بأنّ ألوان الأجسام في الظلمة ليست مرئية ، فعدم رؤيتها إمّا أن يكون لعدمها في نفسها ، أو لأجل أنّ الهواء المظلم عائق عن الإبصار ، والثاني باطل ، لأنّ الهواء المظلم ليس فيه كيفية عائقة عن الإبصار والظلمة فيه ، فإنّك إذا

__________________

(١) هو أحمد بن علي بن بيغجور أبو بكر بن الإخشيد (٢٧٠ ـ ٣٢٦ ه‍) متكلم على مذهب المعتزلة وشافعي الفروع انتهت إليه رئاسة المعتزلة في زمانه ، له مصنّفات «الإجماع» و «اختصار تفسير الطبري» وغيرهما ، مات في بغداد وعمره ست وخمسون سنة. ويستفاد من كتب المعاجم والتراجم تغييرات متعددة للفظ الإخشيد وهي : ١ ـ آق شيد ومعناه «شمس بيضاء» بالتركية ٢ ـ آخشيد ٣ ـ أخشيد ٤ ـ إخشيد ، وهذا اللقب وضع لملوك منطقة فرغانة الواقعة في سواحل بحر الخزر من جمهوريات ازبكستان ، قرغيزستان وتاجيكستان.

راجع طبقات المعتزلة ، وفيات الأعيان ٥ : ٣٥٦ ؛ تاج العروس ٢ : ٣٤٣ ؛ لسان الميزان ١ : ٣٢١.

(٢) نفس الشفاء ، الفصل الأوّل من المقالة الثالثة ، وهذا مذهب بهمنيار أيضا في التحصيل : ٦٩٠ و ٧٥٨.

٥٤١

كنت في غار وفيه هواء كلّه على الصّفة التي تظنّها أنت ظلمة ، فإذا صار الجسم مستنيرا رأيته أنت ، ولم يمنعك الهواء الواقف بينك وبينه عن الإبصار ، ولو كان الهواء متكيفا بكيفية مانعة عن الإبصار لم يكن كذلك.

والاعتراض (١) : لو كان عدم الرؤية في اللون دليلا على عدمه لكان الجسم غير المرئي معدوما ، فإن جعلتم شرط رؤيته اللون والضوء فليكن الضوء شرطا في رؤية اللون لا في وجوده (٢) ، وهو الحق ؛ لأنّ اللون له ماهية في نفسه ، وله أنّه يصحّ أن يكون مرئيا ، فالمتوقف على وجود الضوء هو هذا الحكم ، لا حصول تلك الماهية ، كما تقول بعينه في الجسم أنّه في نفسه حقيقة وماهية ، وله أنّه يصحّ أن يكون مرئيا ، لكنّ الحكم بصحّة رؤيته مشروط بلونه أو ضوئه ، فلا يلزم من عدم الحكم عدم الماهية ، لجواز أن يكون لعدم الشرط.

لا يقال : اللون هو الكيفية التي يمكن رؤيتها ، فالموجود في الظلمة إذا لم يمكن رؤيته لم يكن لونا ، بل الجسم عند ما يكون مظلما له استعداد أن يحصل له اللون المبصر عند صيرورته مضيئا.

لأنّا نقول : استعداد الجسم لأن يكون له لون معيّن أمر ، ووجود ذلك اللون أمر آخر ، وكون ذلك اللون بحيث يصحّ أن يرى أمر ثالث ، فجاز أن يكون المتوقف على وجود الضوء هذا الحكم لا أصل وجود اللون.

تذنيب : من جعل الضوء شرط وجود اللون لم يكن عمق الجسم ملونا ، لانتفاء الضوء عنه ، ونحن لمّا أبطلنا ذلك أمكن وجود اللون فيه.

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٤١٥ ـ ٤١٦.

(٢) كما قال أبو البركات : إنّ الألوان كلّها لا تتم لأبصارنا إلّا بنور يقع عليها». المعتبر ٢ : ١٨٦. وقال الطوسي : «ويتوقف [اللون] على الثاني [الضوء] في الادراك لا الوجود» كشف المراد : ٢١٨.

٥٤٢

الباب الثالث

في الضوء والظل والظلمة

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في أن الضوء لا يحدّ (١)

إنّ جماعة من القدماء حدّوا جميع الأشياء حتى الضروريات ، فلزمهم المحال من تعريف الأشياء الظاهرة بالأمور الخفية ، ومن استلزام الدور. وهؤلاء حدّوا الضوء بأنّه «كمال لذاته(٢) للشفاف من حيث هو شفاف» ، فقولنا «كمال»

__________________

(١) الضوء : نوع من الطاقة لم تحدد طبيعته تماما حتى العصر الراهن ، ولم تستطع أي من النظريات العديدة التي وضعت بصدده أن تفسّر جميع خواصّه. وبمقتضى النظرية الدقيقة للعالم إسحاق نيوتن ، يتكوّن الضوء من جسيمات منبعثة من الأجسام المضيئة ، وتنتقل خلال الفراغ بسرعة كبيرة. فسّرت هذه النظرية بعض خواص الضوء مثل الانعكاس والانكسار ، ولم تستطع تفسير ظاهرتي «التشتت» و «التداخل».

فسّر الضوء حديثا بنظرية الكم ، على أنّه نوع من الطاقة الاشعاعية يقذفها الجسم المضيء على دفعات متتالية تسمّى «فوتونات» يعرف الضوء غالبا من ناحية تأثيره على العين ، على أنّه الطاقة التي تجعل مصدرها أو الجسم الساقط عليها مرئيا مثل الشمس والمصباح والقمر. الموسوعة العربية الميسّرة : ١١٤٤.

(٢) في عبارات الشيخ : «بذاته» الفصل الثالث من المقالة الثالثة من نفس الشفاء.

٥٤٣

لأنّه هيئة وجودية حصلت بعد أن لم تكن. وقولنا «لذاته للشفاف» احتراز من الكمالات الحاصلة للشفاف ، لا من حيث إنّه شفاف ، فإنّها لا تكون ذاتية للشفاف. وقولنا «من حيث هو شفاف» لأنّ كماليته له إنّما هو باعتبار الشفافية التي هي عدم الضوء.

وجماعة أخرى حدّوا الضوء بأنّه «الكيفية التي لا يتوقف إبصارها على إبصار شيء آخر» (١) ؛ لأنّ الشيء إن لم يتوقف صحّة كونه مرئيا على اعتبار الغير فهو الضوء ، وإن توقف فهو اللون ؛ لأنّه لا يصحّ رؤيته إلّا بعد صيرورته مستنيرا ، وكلّ ما يصحّ رؤيته فإنّه يمنع عن رؤية ما وراءه ، فإنّ النفس إذا شاهدت في جهة شيئا استحال أن تبصر في تلك الحال في تلك الجهة شيئا آخر ، ولمّا كان إبصاره للمتوسط يجب أن يقع أوّلا ، لا جرم صار ذلك مانعا من إبصار ما وراءه ، فثبت أنّ اللون يمنع من إبصار ما وراءه. وكذا الضوء لوقوع (٢) الظل من المصباح عن المصباح (٣) ؛ لأنّ أحدهما يمنع أن يفعل الثاني في القابل (٤) ، وكذلك الإنسان لا يرى ما يتوسط بينه وبين ذلك الشيء. فظهر أنّ الشفاف يجب أن لا يكون مبصرا. وفساد هذه التعريفات ظاهر ، وقد عرفت فيما سلف أنّ المحسوسات لا يجوز تعريفها بحدّ ولا رسم.

المسألة الثانية : في مغايرة الضوء للحرارة واللون (٥)

ذهب قوم من قدماء الحكماء أنّ الضوء من جنس الحرارة. كأنّهم لم يفرّقوا

__________________

(١) واستحسنه الرازي في المباحث المشرقية ١ : ٤١٤.

(٢) س وق : «لرجوع».

(٣) كذا.

(٤) في عبارات الرازي : «المقابل».

(٥) راجع الثاني والثالث من ثالثة سادس الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٤١١ ـ ٤١٤.

٥٤٤

بين الشيء ولازمه (١).

والحق خلاف ما ذهبوا إليه ، فإنّ الشيء قد يكون حارا مظلما ، وباردا مضيئا. فلا يجوز أن تكون الحرارة نفس الضوء ، بل سببها. وأيضا الحرارة ملموسة غير مبصرة ، والضوء مبصر غير ملموس ، فتغايرا.

وذهب قوم منهم إلى أنّ الضوء هو ظهور اللون ، وزعموا أنّ الظهور المطلق هو الضوء، والخفاء المطلق هو الظلمة ، والمتوسط بينهما هو الظّل ، وتختلف مراتبه بحسب مراتب القرب والبعد عن الطرفين ، فإذا ألف الحس مرتبة من مراتب الخفاء ، ثمّ شاهد بعد ذلك ما هو أكثر ظهورا منه ، ظن أنّ هناك بريقا وشعاعا ، وليس كذلك ، بل سبب ذلك ضعف الحس ؛ لأنّ ظهور الأشياء اللامعة بالليل أقل من ظهور السراج الذي هو أقل من ظهور القمر الذي هو أقل من ظهور الشمس ، فالحس إذا ضعف في الظلمة وكان لتلك الأشياء اللامعة قدر من الظهور ليس لغيرها ظن ذلك الظهور كيفية زائدة.

ثمّ إذا تقوّى البصر بنور السراج ونظر إلى تلك الأشياء لم ير لها لمعانا ، لزوال ضعف الحس ، وكذلك لمعان السراج يذهب عند ضوء القمر ، ولمعان القمر يذهب عند النور الذي يكون في البيوت المستنيرة نهارا عن الشمس ، ومع ذلك فالناس يرون لظهور القمر لمعانا ، ولا يرون للنور الذي يكون في البيوت المستنيرة لمعانا ، والسبب فيه ما ذكرناه.

لا يقال : نحن ندرك التفرقة بين اللون المستنير ، واللون المظلم.

لأنّا نقول : سبب ذلك ظهور أحدهما وخفاء الآخر ، لا بسبب كيفية أخرى.

__________________

(١) قال بهمنيار : «والضوء موافق للحرارة بالطبع ، فانّ بعض الأعراض صديق لبعضها ، كما أنّ الحركة موافقة للحرارة وبالعكس» التحصيل : ٦٨٩ ـ ٦٩٠.

٥٤٥

ومن هؤلاء من بالغ حتّى قال : ضوء الشمس ليس إلّا الظهور التام للونها ، ولذلك تبهر البصر ، فحينئذ يخفى اللون لعجز البصر ، لا لخفائه في نفسه ، كما أنّا نحس بالليل بلمعان اللوامع ؛ ولأنّ الحس لضعفه في الليل يبهره ظهور تلك الألوان ، فلا جرم لا نحس بها.

وهذا الذي ذكروه ممكن ، فإنّه يجوز أن يكون لما قالوه تأثير في اختلاف أحوال الإدراكات بحسب اختلاف الحس في القوّة والضعف ، لكن ندّعي مع ذلك أنّ الضوء كيفية وجودية زائدة على ذات اللون لوجوه (١) :

الأوّل : ظهور اللون إشارة إلى تجدد أمر ، فذلك الأمر إمّا أن يكون هو اللون ، أو صفة غير نسبيّة ، أو صفة نسبيّة. والأوّل باطل ؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يجعل النور عبارة عن تجدد اللون ، أو اللون المتجدد. والأوّل يقتضي أن لا يكون الشيء مستنيرا إلّا في آن تجدّده. والثاني يقتضي أن يكون الضوء هو نفس اللون ، فلا يبقى لقولهم : الضوء هو ظهور اللون معنى. وإن جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذلك اللون وسمّوه بالظهور كان هو مطلوبنا ، ويصير النزاع لفظيا.

وإن زعموا أنّ ذلك الظهور تجدّد حالة نسبيّة فهو باطل ؛ لأنّ الضوء أمر غير نسبي فلا يمكن تفسيره بالحالة النسبية.

الثاني : البياض والسواد قد يشتركان في الإضاءة والإشراق ، فإذن الضوء ثابت لهما جميعا ، فلو كان كون كلّ واحد منهما مضيئا نفس ذاته لزم أن يكون الضوء بعضه مضادا للبعض وهو محال ؛ لأنّ المقابل للضوء ليس إلّا الظلمة.

الثالث : انفكاك كلّ واحد من الضوء واللون عن صاحبه يدل على المغايرة ، وبيان الانفكاك أنّ اللون قد يوجد من غير ضوء ، فإنّ السواد قد لا يكون مضيئا ، وكذا باقي الألوان ، والضوء يوجد من دون اللون ، كالماء والبلور إذا كانا في الظلمة

__________________

(١) واستشكل صدر المتألّهين أكثرها في الأسفار ٤ : ٩٢ ـ ٩٥.

٥٤٦

ووقع الضوء عليه وحده فإنّه حينئذ يرى ضوؤه ، (١) فذلك ضوء وليس بلون.

الرابع : نفرض الكلام في بعض الألوان المتوسطة بين السواد والبياض ، وليكن ذلك هو الحمرة ، فنقول : إمّا أن يسلّموا أنّ لها حقيقة مخصوصة ، أو يزعموا أنّها عبارة عن اختلاف ظهورات بياضية بخفاءات سوادية. فإن ذهبوا إلى الثاني فنقول : الجسم الأحمر إذا انعكس الضوء عنه إلى جسم آخر احمرّ ذلك الجسم ، فإمّا أن ينعكس الظهور عن الأجزاء الظاهرة والخفاء عن الخفية ، وهو محال ، لأنّ الأجزاء الخفية لا تفيد الخفاء للمقابل ، فإنّ الخفاء لو كان خالصا لم يؤثر في المقابل. أو ينعكس الظهور خاصة دون الخفاء ، وهو باطل ؛ لأنّ الظاهرة لو فعلت إظهار ما يقابلها ـ والإظهار هو التبييض ـ وجب أن يزيد ابيضاض المنعكس إليه ولا يحمرّ ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

وإن ذهبوا إلى الأوّل ، وجعلوا الحمرة لونا حقيقيا في نفسه ، وزعموا أنّها إذا ظهرت فعلت فيما يقابلها مثل نفسها. فنقول : إنّها إذا كانت قليلة الظهور أفادت للمقابل مجرّد الضوء ، ولا تخفى لون المقابل ، فإذا قويت في الظهور أخفت لون المقابل ، فلو لم يكن هناك إلّا اللون وحده ، لكان يفعل عند الضعف لونا ضعيفا مثل نفسه وعند اشتداده يفعل لونا قويا مثل نفسه ، وليس كذلك ، فإنّه يفيد أوّلا ظهور لون المقابل إظهارا شديدا ، ثمّ إذا صار أقوى أخذ في إبطال لون المقابل أو إخفائه ويفيده لونا مثل نفسه ، فيكون أحد الفعلين لا محالة عن شيء غير ما عنه الآخر ، فيكون مصدر الإضاءة هو الضوء الذي لو كان الجسم لا لون له ـ وله ضوء ـ لكان يفعل ذلك ، مثل البلورة المضيئة ، والفعل الآخر يكون من لونه إذا اشتدّ ظهوره بسبب هذا الضوء حتى صار متعديا إلى المقابل. (٢)

__________________

(١) وعبارة الرازي هكذا : «ووقع الضوء عليهما فانّه حينئذ يرى ضوؤهما».

(٢) في النسخ : «القابل» ، أصلحناها طبقا للمعنى.

٥٤٧

الخامس : الجسم إذا اجتمع فيه ضوء ولون ، فتارة ينعكس منه الضوء وحده إلى غيره، وتارة ينعكسان منه معا إلى الغير ، وذلك إذا كان قويا فيهما جميعا حتى يحمرّ المنعكس إليه، فلو كان الضوء هو ظهور اللون لاستحال أن يفيده لغيره بريقا ساذجا.

لا يقال : هذا البريق عبارة عن إظهار لون ذلك المقابل.

لأنّا نقول : فلما ذا إذا اشتدّ لون الجسم المنعكس منه ضوؤه أخفى لون المنعكس إليه وأبطله وأعطاه لون نفسه؟

واعلم أنّ الرجوع في هذا المقام إلى الضرورة أولى ، فإنّا نعلم قطعا أنّا ندرك كيفيتين متغايرتين هما اللون والضوء ، والحكم باتحادهما حكم بإبطال ما يشهد به الحس ، فلا يكون مقبولا عند العقل.

المسألة الثالثة : في أنّ الضوء ليس بجسم (١)

زعم بعض القدماء (٢) أنّ الضوء أجسام صغار تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء. وهذا باطل بوجوه (٣) :

الأوّل : إمّا أن يجعلوا الضوء نفس الجسمية ، أي المفهوم من أحدهما هو المفهوم من الآخر ، أو يجعلوا الضوء عبارة عن أجسام حاملة لتلك الكيفية تنفصل

__________________

(١) راجع التحصيل : ٦٨٦ وما يليها ، والمصدر السابق من نفس الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٤٠٩ ـ ٤١١.

(٢) من الحكماء.

(٣) قال صدر المتألّهين : «وهذه الوجوه في غاية الضعف كما بينّاه فيما كتبنا على حكمة الاشراق» ، ثمّ يجيب على الوجوه واحدا تلو الآخر. فراجع الأسفار ٤ : ٩٠ ـ ٩١.

٥٤٨

عن المضيء وتتصل بالمستضيء ، والأوّل باطل ؛ لأنّا نعلم بالضرورة التغاير بين الجسم والضوء في المفهوم ، ويعقل جسم مظلم ، ولا يعقل ضوء مظلم. والثاني باطل أيضا ، لأنّ تلك الأجسام الموصوفة بالكيفيات إن لم تكن محسوسة لم يكن الضوء محسوسا ، وإن كانت محسوسة كانت ساترة لما تحتها ، فكلّما ازدادت اجتماعا ازدادت سترا ، لكن الثاني محال ، فإنّ الضوء كلّما ازداد قوة ازداد إظهارا.

وفيه نظر ، لمنع الحصر في القسمة فجاز أن يكون الضوء عبارة عن جسم خاص ، ومنع [كون] كلّ محسوس ساترا ، وإنّما يكون ساترا لو كان ذا كثافة وظلمة ولون.

الثاني : لو كان الشعاع جسما لكانت حركته الطبيعية إلى جهة واحدة ، لكن الضوء يقع على كلّ جسم في كلّ جهة (١).

وفيه نظر ، لأنّا نقول : إنّه بالطبع يقع على المقابل.

الثالث : الضوء إذا دخل من الكوّة (٢) ثمّ سددناها دفعة ، فتلك الأجزاء النورانية إن عدمت ، لزم أن يكون تخلّل (٣) جسم بين جسمين معدما لأحدهما وهو محال. وإن بقيت خارج البيت وخرجت قبل السد فهو محال ؛ لأنّ القابل والفاعل للضوء موجودان ، فلا يمكن عدم الضوء قبل السد ، ولا خروجه عن البيت. وإن بقيت في البيت وقد زالت النورية والضوء عنها ، فهو مذهبنا ؛ لأنّ مقابلة المستنير سبب لحدوث تلك الكيفية ، وإذا ثبت ذلك في بعض الأجسام ثبت في الكل.

وفيه نظر ، لإمكان أن يكون الضوء عبارة عن أجسام خاصة لا تظهر رؤيتها

__________________

(١) كما أنّ نور السراج ينتشر إلى الأرض والسقف والجدران معا.

(٢) أي الثقبة النافذة.

(٣) كذا في الشفاء ، وفي المباحث المشرقية : «تحلّل».

٥٤٩

إلّا عند المقابلة ، وجاز عدمها لعدم الشرط ، لا للحيلولة.

الرابع : إذا طلعت الشمس أضاء وجه الأرض دفعة ، ومن المستبعد انتقال تلك الأجزاء من الفلك الرابع إلى جميع وجه الأفق دفعة ، أو زمانا يسيرا جدا ، خصوصا والخرق على الفلك محال.

وفيه نظر ؛ لأنّ الحركة قابلة للشدة القوية (١) ، فجاز حدوثها في الزمن اليسير ، والمستبعد ليس بمحال ، ونمنع استحالة الخرق.

سلّمناه ، لكنّه غير لازم ، لإمكان حصولها عند المقابل لا عند الشمس. والحاصل أنّا ندعي كون الضوء جسما خاصا كالنار ، لا مطلق الجسمية.

احتجوا : بأنّ الشعاع متحرك ، وكلّ متحرك جسم ، فالشعاع جسم. والكبرى ظاهرة ، وأمّا الصغرى فلأنّ الشعاع منحدر من عند الشمس أو النار ، وكلّ منحدر متحرك. ولأنّ الشعاع يتحرك بحركة المضيء. ولأنّ الشعاع قد ينعكس عما يلقاه من الأجسام الصقيلة والانعكاس حركة.

والجواب : منع الصغرى ، قولهم : «الشعاع منحدر من عند الشمس» ممنوع ، وإلّا لرأيناه في وسط المسافة ، بل الشعاع يحدث في المقابل القابل دفعة ، ولمّا كان حدوثه من موضع مرتفع ، يوهم أنّه ينزل ، وليس كذلك.

قولهم : «إنّه يتحرك بحركة المضيء» ممنوع ، بل يعدم مع زوال المقابلة للجسم الأوّل ويحدث مع المقابلة للثاني فيتوهّم أنّه يتحرك وليس كذلك ، كما في الظل ، فإنّه ينتقل كانتقال الشعاع ، وليس بجسم.

قولهم : «إنّه ينعكس» ممنوع ، بل المتوسط شرط لحدوث الشعاع من المضيء في ذلك الجسم.

__________________

(١) كذا ، وفي م : «النورية».

٥٥٠

تذنيب (١) : هنا ضوء ولمعان ونور وشعاع وبريق ، وكأنّها شيء واحد لكنّها تختلف باختلاف الاعتبار والشدة والضعف. فالضوء هو الكيفية المنبسطة المشاهدة على الأجسام ، فإنّ الأجسام الملونة إذا صارت ظاهرة بالفعل مستنيرة فإنّ ذلك الظهور وهو الكيفية المنبسطة عليها مشاهد مغاير للسواد والبياض وغيرهما من الألوان.

واللمعان هو الذي يترقرق على الأجسام ويستر (٢) لونها ، وكأنّه شيء يفيض عنها. وكلّ واحد من هذين القسمين ، إمّا أن يكون له من ذاته ، أو من غيره ، فالظهور الذاتي هو المسمى بالضوء ، كما للشمس والنار. والظهور الذي من الغير يسمى «نورا» (٣). والترقرق الذي للشيء من ذاته كما للشمس يسمى «شعاعا» (٤). والذي للشيء من غيره، كما للمرآة يسمى «بريقا» (٥).

المسألة الرابعة : في أنّ المضيء لا يضيء إلّا المقابل

إذا كان المتوسط بين المضيء والمقابل متشابه الشفيف ، وإضاءة المضيء لا بالانعكاس ، فإنّه لا يضيء إلّا المقابل ، فإنّ ضوء الشمس إذا دخل من ثقب في

__________________

(١) راجع الفصل الأوّل من المقالة الثالثة من نفس الشفاء ؛ شرح المقاصد ٢ : ٢٦١ و ٢٦٥.

(٢) كذا في الشفاء ، وفي المباحث المشرقية : ١ / ٤١٤ «يستنير» وهو تصحيف.

(٣) وهذا مستفاد من الآية الكريمة : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) يونس : ٥. وقد اجتمع «الشعاع» و «الضوء» الذاتيان في الفقرة الشريفة من دعاء الصباح لمولى الموحّدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهي : «وشعشع ضياء الشمس بنور تأجّجه» راجع مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمّي.

(٤) شعاع : في الفيزياء حزمة دقيقة من الضوء ، أو اشعاع آخر ينتقل في الفضاء في خط مستقيم من مصدر الضوء. الموسوعة العربية الميسّرة : ١٠٨٥.

(٥) ونسبة البريق إلى الشعاع نسبة النور إلى الضوء في أنّ الشعاع والضوء ذاتيان للجسم ، والبريق والنور مستفادان من غيره. شرح المواقف ٥ : ٢٥٦.

٥٥١

بيت مظلم ، وكان الهواء كدرا بغبار أو دخان ، فإنّ الضوء يظهر مستقيما. وإن كان هذا البيت صافيا أمكن اعتباره بوجوه أربعة :

الأوّل : إذا أخذنا جسما كثيفا وقطعنا به المسافة المستقيمة التي بين الثقب وبين الموضع المضيء من البيت ، وجد الضوء ظاهرا على ذلك الكثيف ، ومنقطعا عن موضعه عن البيت. ولو اعتبر ذلك في المسافات المنفرجة التي بين الثقب وبين الموضع المضيء من البيت ، لا يظهر ذلك الضوء فيه.

الثاني : إذا مددنا خطا مستقيما من الثقب إلى موضع الضوء صار كله مضيئا.

الثالث : إذا أخذنا جسما كثيفا وثقبنا فيه ثقبا دقيقا وقابلنا به جرم الشمس وجدنا الضوء ينفذ منه على سمت مستقيم ، ووجدنا الأبعاد التي بين المواضع المضيئة من البيت مساوية للأبعاد التي بين ذلك الثقب ، أو مناسبة لها. وإذا اعتبرنا سائر الكواكب الدرية كالشعرى وغيرها وجدنا ضوءه منتقلا بحسب انتقاله على الاستقامة.

الرابع : استقامة الأظلال تقتضي استقامة الأضواء.

المسألة الخامسة : في الضوء الأوّل والثاني (١)

الضوء الأوّل : هو الضوء الحاصل من المضيء لذاته.

والضوء الثاني : هو الضوء الحاصل من المضيء لغيره (٢).

__________________

(١) راجع شرح المواقف ٥ : ٢٥٤ ـ ٢٥٦.

(٢) ق : «بغيره».

٥٥٢

ومثال ذلك : أنّا نجد الأرض في أوّل النهار قبل طلوع الشمس على الأفق ، وفي آخره بعد غروبها عن الأفق ، مضيئة ، والمواضع المستورة عن الشمس بالحيطان والسقوف مضيئة مع أنّ الشمس غير مقابلة لوجه الأرض قبل حالتي الطلوع والغروب ، ولا في البيوت المستورة ، ولا علّة لهذا إلّا ضوء الشمس ولا يناقض هذا ما قدّمناه في المسألة السابقة من أنّ المضيء لا يضيء إلّا المقابل ؛ لأنّ المقابلة بين المضيء والمستضيء هنا حاصلة ؛ لأنّ الهواء المقابل للشمس يصير مضيئا بسبب مقابلته للمضيء بذاته الذي هو الشمس ، وأنّه مقابل لوجه الأرض ، فيصير ذلك الهواء مضيئا لوجه الأرض بسبب مقابلته للمضيء لغيره.

فالضوء الحاصل في الهواء المقابل للشمس هو الضوء الأوّل ، والحاصل على وجه الأرض من المضيء لغيره ـ وهو الهواء المقابل للشمس ـ هو الضوء الثاني. وما دام الضوء الذي في الجو ضعيفا كان الذي يظهر منه ويفيض عنه على وجه الأرض خفيا جدا. فإذا ازداد الجو إضاءة ازداد وجه الأرض إضاءة ، وكذا القول في ما بعد الغروب وفي أفنية الجدران.

وهذا التقرير إنّما يتم بأمرين :

أ : قبول الهواء للتكيف بالضوء.

ب : المضيء لا لذاته يضيء غيره بواسطة ما اكتسبه من الضوء الحاصل من غيره.

أمّا الأوّل (١) فلأنّا نشاهد الجو الذي في أفق المشرق وقت الصباح مضيئا. ولأنّا نرى الكواكب ليلا لا نهارا ، فلو لا تكيّف الهواء بالضوء لبقي على ما كان عليه في الليل ، فيلزم أنّ الإنسان إذا نظر إلى الجانب المخالف للجانب الذي تكون الشمس فيه من الفلك نرى ما فيه من الكواكب ، إذ الهواء لم يتكيّف

__________________

(١) فراجع شرح المواقف ٥ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

٥٥٣

بالضوء ، بل بقي على حاله في الليل ، ولمّا لم يكن كذلك علمنا تكيّف الهواء بالضوء في النهار فمنع من رؤية الكواكب ؛ لأنّ الحس لا يشاهد الضعف حال وجود الضوء القوي.

وأمّا الثاني فلأنّا نجد ضوء الشمس إذا أشرق على بعض الجدران ، وكان مقابل ذلك الجدار وبالقرب منه مكان مظلم ، فإنّ ذلك المكان يضيء بعد أن كان مظلما ، ولو كان لذلك المكان المظلم باب ، وكان مقابل الباب داخل ذلك البيت جدار ، فإنّ ذلك الجدار يكون أشدّ إضاءة من بقية البيت. ثمّ إذا زالت الشمس وزال ضوؤها المشرق على ذلك الجدار عاد الموضع مظلما ، فعلمنا أنّ المستضيء من غيره قد يضيء شيئا ثالثا.

المسألة السادسة : في أنّ حصول الضوء الثاني من الهواء المضيء ليس على سبيل الانعكاس

اعلم أنّ المضيء لغيره (١) قد يضيء غيره على سبيل الانعكاس ، كالمرآة الصقيلة إذا وقع عليها الضوء ، فإنّها تضيء غيرها ممّا يقابلها بأن ينعكس الضوء الأوّل منها إلى المقابل.

وقد يكون لا على سبيل الانعكاس ، كالضوء الثاني المفروض على وجه الأرض وفي أفنية البيوت الحاصل من الهواء المستضيء بمقابلة الشمس ، لأنّ هذا الضوء لو كان على سبيل الانعكاس من الهواء إلى وجه الأرض لما كانت أجزاء ذلك الجو كلّها مضيئة ، كما في المرآة ، فإنّها لمّا أضاءت بالانعكاس لم يكن جميع سطحها مضيئا ، إذ الانعكاس إنّما يكون عن السطح الصقيل ، وعود الضوء منه إلى ما ينعكس إليه ، فلا ينفذ في عمق الجسم ذي السطح الصقيل ، لكن الاعتبار دلّ على أنّ جميع الضوء المضيء مضيء في نفسه ، ويضيء كلّ ما يقابله.

__________________

(١) ق : «بغيره».

٥٥٤

فإن قيل (١) : جرم الهواء ، إمّا أن يتكيّف بكيفية الضوء أو لا ، فإن تكيّف بكيفية الضوء وجب أن نحس بضوء الهواء كما نحس بضوء الجدار حال تكيّفه بالضوء الواقع عليه من الشمس وشبهها ، لكنّا لا نحس بكون الهواء مضيئا كإضاءة الجدار. وإن لم يتكيّف الهواء بكيفية الضوء لم يكن الهواء في ذاته مضيئا بذاته ولا لغيره ، فلا يضيء غيره لانتفاء مطلق الضوء عنه.

لا يقال : لم لا يجوز أن يكون للهواء لون ضعيف أضعف ممّا للماء والأحجار المشفّة كالبلور ، فيكون قابلا للضوء باعتبار ما له من اللون الضعيف ، ويكون ذلك الضوء فيه ضعيفا جدا لضعف لونه ، فلا نحس بضوئه لضعفه كما نحس بالضوء الموجود في الكثيف؟

سلّمنا أنّ الهواء لا لون له ، لكن الهواء المحيط بالأرض ليس بسيطا بل خالطته أجزاء كثيفة أرضية ومائية ، وهي تقبل الضوء من الشمس ثمّ يضيء وجه الأرض.

لأنّا نقول : أمّا الأوّل فباطل ، لأنّ الضوء الذي في الهواء إن بلغ في الضعف إلى أن يصير بحيث لا يرى كان الضوء الحاصل منه في وجه الأرض أولى بأن لا يرى ، والتالي كاذب فالمقدّم مثله. وإن لم يبلغ إلى هذه النهاية كان ضوؤه مرئيا.

وأمّا الثاني فلأنّه لو صحّ ما ذكرتموه من حصول الضوء للهواء بواسطة ما خالطه من الأجزاء الكثيفة الأرضية أو المائية ، لوجب أن يكون الهواء كلّما كان أصفى وكان الغبار والبخار فيه أقل ، وجب أن يكون الضوء أضعف فيكون الضوء قبل الطلوع وبعد الغروب وفي أفنية الجدران أضعف ، لصفاء الهواء حينئذ ، ويكون كلّما كان البخار والغبار فيه أكثر وجب أن يكون الضوء فيه حينئذ أشد وأصفى ، لكن التالي كاذب ، فالمقدّم مثله.

__________________

(١) احتجاج على عدم تكيّف الهواء بكيفية الضوء راجع المصدرين السابقين.

٥٥٥

فالجواب : أنّ الهواء له لون ضعيف لا باعتبار ذاته ، بل بواسطة امتزاجه بغيره من الأجزاء البخارية ، فلأجل ذلك يتكيّف بضوء ضعيف لا يقع به الإحساس ، ونلتزم ما قالوه من : أنّ الضوء الحاصل في الكثيف أولى بأن لا يرى ، لأنّا إذا نظرنا إلى الجدار الذي لا تقابله الشمس فكأنّا لا نرى فيه إلّا اللون ، ولا نرى في البيت شيئا من الكيفية الحاصلة فيه عند كونها في مقابلة الشمس.

تذنيبات :

أ : ظاهر قول الرياضيين : «إنّ الضوء ينفذ من المضيء إلى الشفاف فيسري (١) في ذلك الهواء الشفاف» إنّما هو قول مجازي ، والمراد منه حدوث كيفية الضوء في المقابل دفعة من غير أن يمرّ بالهواء.

ب : الظل (٢) : عبارة عن الضوء الثاني وهو قابل للشدة والضعف بحسب شدة الضوء الأوّل الفائض منه إليه وقبول المقابل وقلّة الحجب من الحجاب ، وأضداد ذلك في الضعف. وطرفاه اللّذان هما في غاية التباعد الضوء والظلمة.

ج : الظلمة : أمر عدمي (٣) وهو عدم الضوء عمّا من شأنه أن يكون مضيئا وليست أمرا ثبوتيا ، خلافا لجماعة من الأشاعرة ، حيث قطعوا بكونها ثبوتية ، وهو غلط لوجوه :

أوّلا : إذا غمضنا العين كان حالنا كما إذا فتحناها في الظلمة ، ولا نفرق بينهما البتة، فكما أنّا عند التغميض لا ندرك شيئا ، فكذلك إذا فتحناها [في الظلمة]

__________________

(١) م : «فيرى».

(٢) عرّفه الفارسي : «بأنّ البصر يدركه بالقياس إلى ما يجاوره من الأضواء ، وذلك أنّ الظل هو عدم بعض الأضواء مع اضاءة موضع الظل لغير ذلك الضوء المعدوم. ويشترط أن يكون الضوء المعدوم أقوى من الموجود». وقال في تعريف الظلمة : «فانّه يدركها من عدم إدراك الضوء». راجع تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر لأبي الحسن الفارسي ١ : ٢١٨.

(٣) راجع ما كتبه الشيخ في الأوّل من ثالثة سادس الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٤١٧.

٥٥٦

وجب أن لا ندرك كيفية من الجسم المظلم (١).

ثانيا : إذا قدرنا خلو الجسم عن الضوء من غير انضياف صفة أخرى إليه لم يكن حال ذلك الجسم إلّا هذه الظلمة ، ومتى كان كذلك لم تكن الظلمة أمرا وجوديا.

ثالثا : إذا جلس إنسان في غار مظلم ليلا لا ضوء فيه ، وجلس خارج الغار شخص أوقد نارا خارج الغار ، فإنّ الذي في الغار يرى الجالس عند النار ويرى الهواء مستنيرا (٢) ، والجالس عند النار لا يرى من في الغار ويرى الهواء مظلما ، ولو كانت الظلمة كيفية وجودية لما اختلف حالها باختلاف الأشخاص.

احتج المخالف بأنّه ليس جعل الظلمة عدم الضوء أولى من العكس ، فإمّا أن يكونا وجوديين أو عدميين ، والتالي باطل فتعيّن الأوّل.

وهذا الكلام في غاية السقوط ، لأنّ الضوء كيفية مشاهدة محسوسة لا يمكن أن تكون عدمية. والظلمة قد بيّنا أنّها ليست محسوسة ، ولا يزيد المظلم في ظلمته على عدم الضوء عنه.

رابعا : توهّم بعض الناس (٣) أنّ إبصار بعض الأجسام يتوقف على الظلمة ، والظلمة شرط في رؤيته ؛ لأنّ الجسم إمّا أن يرى بكيفية في غيره وهو الشفاف ، أو بكيفية فيه ، فإمّا أن يكون إبصار هذا الثاني متوقفا على شرط ، أو لا ، فإن كان مرئيا لذاته غير متوقف على شرط فهو المضيء ، وإن كانت صيرورته مرئيا يتوقف على شرط آخر ، فذلك الشرط قد يكون ضوءا في الألوان ، وقد يكون ظلمة كالأشياء

__________________

(١) واستشكل المصنّف على هذا الدليل في كشف المراد وقال : «وفي هذا نظر فانّه يدل على انتفاء كونها كيفية وجودية مدركة لا على أنّها وجودية مطلقا» ص ٢٢٠.

(٢) م : «مستنيرا» ساقطة.

(٣) انظر التوهّم وجوابه في الثالث من ثالثة نفس الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٤١٧ ـ ٤١٨.

٥٥٧

التي تلمع ليلا.

وهو خطأ ، فإنّ الظلمة لا يمكن أن تكون شرطا لصيرورة اللوامع مبصرة ؛ لأنّ المضيء مرئي سواء كان الرّائي في الظلمة أو في الضوء ، كالنار يراها الإنسان سواء كان في الظلمة أو في الضوء. وأمّا الشمس فإنّما لا يمكننا أن نراها في الظلمة ؛ لأنّها متى طلعت لم تبق الظلمة.

فأمّا الكواكب واللوامع ، فإنّما ترى في الظلمة دون النهار لغلبة ضوء الشمس على ضوئها ، وإذا انفعل الحس عن الضوء القوي لم ينفعل عن الضعيف ، وفي الليل لا ضوء غالب فيه على ضوئها فرؤيت.

وبالجملة فصيرورتها مرئية ليس لتوقف ذلك على الظلمة ، بل لأنّ الحس في الليل لمّا لم ينفعل عن المحسوس القوي أمكنه إدراك الضعيف ، وبالنهار يصير الحال بالعكس من ذلك ، وهذا كما أنّ الهباء (١) الذي في الجو من جنس ما يمكن أن يرى في الضوء ، ومع ذلك فإنّه لا يرى بسبب أنّ البصر إذا كان مغلوبا بضوء الشمس ، وهو محسوس قوي لا يقدر على إدراكها ، فأمّا عند ما يكون في البيت لا منفعلا عن الضوء القوي يمكنه إدراكها.

فظهر أنّ الظلمة ليست شرطا في هذا الباب ، بل السبب ضعف البصر عن إدراك الضعيف إثر القوي.

والتحقيق أن نقول : إن عنيت بكون الظلمة شرطا ، أن البصر لضعفه لا يتمكن من إدراك الضعيف الضوء نهارا لغلبة ضوء الشمس عليه فهو مسلّم ؛ لأنّ البصر كما احتاج في إدراكه للأشياء إلى الاستعانة بالضوء ، كذا يحتاج في إدراكه لبعضها إلى حدّ من الضوء متى تجاوزه لم يحصل الإدراك ، ولا نعني بالشرط سوى ذلك. وإن عنيت به أنّ تلك الأشياء في نفسها لا تكون مرئية في نفسها ، فهو

__________________

(١) الهباء : دقائق التراب المنثورة على وجه الأرض. لسان العرب ١٥ : ٢٣.

٥٥٨

باطل.

خامسا : قيل : النور خير لأنّه وجودي ، والظلمة شر لأنّها عدمية. وسيأتي بيان أنّ الشر ليس إلّا عدم الكمال عن مستحقه ، وهذا بحث خطابي. (١)

__________________

(١) ويمكن الاستدلال على وجودية الظلمة بالآيات القرآنية ، مثل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ...) الأنعام / ٢. وكذلك ببعض الروايات والأدعية المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، يدل على أنّ الظلمة وجودية ولها وزن وكذلك النور والظل ، منها ما روى عن الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليهما‌السلام «... سبحانك تعلم وزن الظلمة والنور ، سبحانك تعلم وزن الفيء والهواء ...» الكشي ، الرجال : (ترجمة سعيد بن المسيب) ؛ العلامة المجلسي ، بحار الأنوار ٨٣ : ٢٢٧ هذا ظاهر بعض الآيات والروايات وقد ذكرت تأويلات على خلاف ظاهرها لا يسع المجال للخوض فيها ، وقد ثبت الآن في العلم الحديث وجود الوزن للنور فتأمل.

٥٥٩

البحث الرابع : في الكيفيات المسموعة

وهي الصوت والحرف.

فهنا بابان :

الباب الأوّل

في الصوت

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في ماهيته (١)

الصوت : كيفية محسوسة بحاسة السمع ، لا تحتاج إلى تعريف حدّي ولا رسمي ؛ لجلاء ماهيته. فإنّ المحسوسات على ما تقدم لا يمكن تعريفها ، لأنّها أظهر من كلّ ما يعرّف به ، لكن قد غلط جماعة في ماهيته ، فبعضهم جعله جسما ينقطع بالحركة نسمعه بانتقاله إلى الأذن ، وهو مذهب إبراهيم النظام. وبعضهم

__________________

(١) راجع كتاب النفس لأرسطو طاليس : ٦٩ ـ ٧٠ ؛ الخامس من ثانية نفس الشفاء ؛ الأشعري ، مقالات الإسلاميين : ٤٢٥ (قال قائلون : الصوت جسم لطيف ...) ؛ التحصيل : ٧٥٣ ـ ٧٥٥ ؛ نهاية العقول (أوائل الكتاب) ؛ شرح المواقف ٥ : ٢٥٦ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٢٧٣.

٥٦٠