نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

والأوّل : باطل وإلّا لزم التسلسل ، فإنّ الوجود لو كان موجودا لكان مساويا للموجودات في الوجود ومخالفا لها بخصوصيته ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فالوجود المشترك بين الوجود وبين سائر الماهيات الموجودة مغاير لخصوص ماهية الوجود التي بها الامتياز ، فيكون للوجود وجود آخر ويتسلسل.

والثاني : باطل أيضا ، لامتناع اتّصاف الشيء بنقيضه (١) ، فتعيّن الثالث ، وهو : أن لا يكون الوجود موجودا ولا معدوما ، وذلك هو الواسطة.

الثاني : الماهيات النوعية مشتركة في الأجناس ، فتثبت الحال.

أمّا الأوّل : فظاهر ، فإنّا نعلم أنّ بين السواد والبياض اشتراكا في اللونية لا في مجرد الاسم ، فإنّا لو سمّينا السواد والحركة باسم واحد ، ولم نضع للسواد والبياض اسما ، لكنّا نعلم بالضرورة أنّ بين السواد والبياض اشتراكا معنويا دون السواد والحركة. ولأنّ (٢) العلوم المتعلّقة بالمعلومات المختلفة متغايرة مختلفة ، مع أنّا نحدّ العلم بحدّ واحد بحيث يندرج فيه العلم القديم والحادث ، والعلم بالجوهر والعرض ، فيكون العلم وصفا مشتركا. ولأنّ (٣) الأعراض مشتركة في العرضية ولهذا انحصر التقسيم في قولنا : الممكن إمّا جوهر أو عرض ، ولو لا اشتراكه لما انحصر ، كما لا ينحصر إذا قلنا : الممكن إمّا جوهر أو سواد.

وأمّا الثاني : فلأنّ الاشتراك يقتضي تعدّد الجهة في الماهيّات المشتركة بحيث يكون فيها جهة اشتراك وجهة امتياز (٤) ، فهاتان الجهتان إن كانتا موجودتين لزم قيام العرض بمثله. وإن كانتا معدومتين لزم الحكم بكون هذه الماهيات معدومة ، وهو باطل بالضرورة ، فتعيّن أن لا تكون موجودة ولا معدومة.

__________________

(١) وهذه الحجة لا يرضى بها صاحبها وفي اسنادها إلى المعتزلة تأمل ، أنظر نقد المحصل : ٨٦.

(٢) هذا هو الوجه الثاني لبيان الأوّل.

(٣) وهذا هو الوجه الثالث لبيان الأوّل.

(٤) ق : «امتياز فيها».

٨١

والجواب عن الأوّل : أنّ القسمة للوجود إلى الوجود والعدم باطلة ، كما أنّ قولنا : الإنسان إمّا إنسان أو فرس أو غيرهما ، باطل.

سلّمنا ، لكنّ الوجود موجود بذاته ، ثمّ التسلسل إنّما يلزم لو كان الاشتراك في وصف ثبوتي ، والاختلاف في أمر ثبوتي ، وهنا ليس كذلك ، فإنّ الوجود يشارك الماهية الموجودة في الموجوديّة (١) ، ويخالفها بقيد عدمي ، وهو أنّ الوجود وحده وإن كان موجودا ، لكن ليس معه شيء آخر ، والماهية الموجودة وإن كانت موجودة لكن لها مع مسمّى الموجودية أمر آخر هو الماهية ، وحينئذ لا يلزم أن يكون الوجود موجودا بوجود آخر ، بل موجوديته عين ماهيته ، فينقطع التسلسل.

قال النفاة : حاصل أدلّة المثبتين يرجع إلى أنّ الحقائق مختلفة بخصوصيّاتها ومشتركة في عموماتها ، وما به الاشتراك غير ما به الاختلاف ، وذلك ليس بموجود ولا معدوم ، فتثبت الواسطة ، ويلزم منه التسلسل : فإنّ الأحوال قد اشتركت في عموم الحالية واختلفت بخصوصياتها ، فيلزم أن تكون للحال حال أخرى إلى غير النهاية.

وأجاب المثبتون : بأنّ الحال لا يوصف بالتماثل والاختلاف ، لأنّ التماثل والاختلاف من لواحق الوجود ، والحال ليست موجودة ، وبالتزام التسلسل كما اختاره «الأصم» (٢) لأنّها طبيعة عدمية ليست موجودة ، والتسلسل في الأمور العدمية ليس بمحال.

أجاب النفاة عن الأوّل : بأنّ كلّ أمرين يشير العقل إليهما ، فإمّا أن يكون المتصوّر من أحدهما هو المتصوّر من الآخر أو لا. والأوّل : المثلان. والثاني : المختلفان ، ولا واسطة بينهما.

__________________

(١) في النسخ : «الوجودية» والصحيح ما أثبتناه طبقا للسياق.

(٢) أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم ، فقيه معتزلي مفسّر. طبقات المعتزلة : ٥٦ ؛ لسان الميزان ٣ : ٤٢٧.

٨٢

وعن الثاني (١) : بأنّ تجويز ذلك يسدّ باب إثبات الصانع تعالى.

أجاب أفضل المتأخّرين : بأنّ السواد والبياض لمّا اشتركا في الموجودية واختلفا في السوادية والبياضية ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز لا جرم أثبتنا شيئين ، ولمّا لم يكن ما به الاشتراك والامتياز (٢) سلبيّين أثبتناهما وجوديّين (٣) ، أمّا الوجود والسوادية ، فهما مختلفان بحقيقتهما ومشتركان في الحالية ، لكن الحالية ليست صفة ثبوتية ، لأنّه لا معنى للحال إلّا ما لا يكون موجودا ولا معدوما. وإذا كان الاشتراك واقعا في وصف سلبي ، لم يلزم أن تكون الحالية صفة قائمة بالموجود ، فلم يلزم أن تكون للحال حال آخر (٤).

اعترضه أفضل المحقّقين (٥) بأنّ الحال ليس سلبا محضا ، فإنّ المستحيل عندهم ليس بموجود ولا معدوم وليس حالا ، (٦) وإنّما الحال وصف ثبوتي يلزمه أن لا يكون موجودا ولا معدوما فهو يشتمل على معنى غير سلب الوجود والعدم عنه يختص بتلك الأمور التي يسمّونها حالا وتشترك الأحوال فيه (٧) ولكونها غير مدركة بانفرادها لا يحكمون عليها بالتماثل والاختلاف ، فإنّهم يقولون : المثلان ذاتان يفهم منهما معنى واحد ، والمختلفان ذاتان لا يفهم منهما معنى واحد ، والحال ليس بذات ولا ذات ذات ، فلا توصف بالتماثل والاختلاف. فإنّ الذات هي ما تدرك بالانفراد ، والحال لا يدرك بالانفراد ، فكيف يكون المدرك (٨) من كلّ

__________________

(١) وهو التزام التسلسل.

(٢) ق : «والامتياز به».

(٣) م : «وجودين».

(٤) أنظر المحصل : ٨٩.

(٥) هو المحقّق الطوسي.

(٦) كما ادّعاه الرازي ونسبه إليهم.

(٧) م : «فيه» محذوف.

(٨) ق : «فكيف ما يدرك».

٨٣

حال هو المدرك من حال آخر؟ فإنّ كلّ حال مدرك مع شيء آخر ، والمشترك ليس بمدرك بالانفراد ، حتى يحكم عليه بأنّ المدرك من أحدهما هو المدرك من الآخر أو ليس ، وأنتم قلتم كلّ أمرين يشير العقل إليهما ، فإمّا أن يكون المتصوّر منهما واحدا أو لا يكون ، والحال ليس بأمر يشير العقل إليه إشارة لا تكون إلى غيره معه (١).

والجواب عن الثاني : أنّ جهتي الاشتراك والامتياز وجوديتان (٢) ، ولا يلزم قيام العرض بالعرض ، فإنّ الصفات المشتركة إن كانت ثبوتية وكانت داخلة في مفهومات ما يشترك في تلك الصفات ، كاللون المشترك بين السواد والبياض ، وهو جزء من مفهوم السوادية والبياضية ، لم يكن عرضا قائما بعرض قائم بالمركب ، فانّ الجزء ليس بعرض قائم بالمركب منه ومن غيره ، فلا يلزم من اتّصاف المختلفات به قيام العرض بالعرض. وإن لم تكن داخلة ، كالعرض الذي يوصف به السواد والحركة ، وهو عارض لهما غير داخل في مفهومهما وعروض الشيء للشيء لا يكون قيام عرض بعرض ، ولا يلزم من كون صفة مشتركة عارضة لمختلفين قيامها بهما إلّا بدليل منفصل.

وإن كانت سلبيّة (٣) فهي غير ثابتة ولا يلزم من الاتصاف بها قيام عرض بعرض.

سلّمنا ، لكن قيام العرض بمثله جائز ، فإنّ السرعة والبطء كيفيّتان قائمتان بالحركة ، والتزامه أقرب من التزام هذا المحال.

وللأوائل (٤) طريق آخر ، وهو أنّ الأجناس والفصول التي بها تتقوّم الأنواع

__________________

(١) انتهى كلامه ، زيد في علو مقامه ، نقد المحصل : ٨٩ ـ ٩٠.

(٢) من هنا تنفرد نسخة ق وج إلى صفحة ٩٤ قوله (والحق لنا وجوه) ، فهذه الصفحات غير موجودة في نسخة : م.

(٣) أي وإن كانت الصفات المشتركة سلبيّة ، وهي عدل قول المصنف : «فإنّ الصفات المشتركة إن كانت ثبوتية».

(٤) مراد المصنف من «الأوائل» في هذا الكتاب هو الحكماء والفلاسفة ، فليكن في ذكرك.

٨٤

البسيطة في الخارج موجودات في الذهن لا في العين.

اعترضه أفضل المتأخّرين فقال : الذهني إن طابق الخارج عاد كلام مثبتي الحال ، وإلّا كان جهلا.

أجاب أفضل المحقّقين : بأنّ الأجناس والفصول ليست بتصديقات ، بل هي تصوّرات مفردة ، ولا يجب فيما لا يشتمل على الحكم بمطابقة الخارج أن يكون مطابقا له وإلّا كان جهلا مركّبا ، فإنّ الجهل المركّب حكم على الخارج بخلاف الواقع. وفي التصوّر المفرد لا تعتبر المطابقة ولا عدمها ، بل [تعتبر] فيما له أجناس وفصول أن تكون فيها حيثيات يمكن للعقول تعقل الأجناس والفصول منها ، ولذلك يسلبان عن واجب الوجود ، لامتناع أن تكون فيه حيثيتان. وليس معنى الاشتراك إلّا أنّ المعقول من أحد المشتركين هو المعقول من الآخر فيما يشتركان فيه ، لا أن يكون شيء واحد في الخارج موجودا في شيئين معا ، أو نصف منه في أحدهما ونصفه في الآخر ، أو خارجا عنهما وهما متّصفان به (١).

وفيه نظر ، فإنّ أفضل المتأخّرين ، لم يقل إنّ الأجناس والفصول تصديقات ، بل الحكم بأنّ لهذه الماهيّة جنسا وفصلا تصديق ، فإن كان مطابقا لزم وجود الجنس والفصل في الخارج ، وإلّا كان جهلا بمعنى أنّ الذهن حكم على ماهية بأنّ لها في نفس الأمر جنسا وفصلا ولم يكن في الخارج شيء منهما. واعترافه بأنّ لتلك الماهية حيثيتين هو المقصود من المطابقة في الخارج. وتحقيق هذا البحث ليس هذا موضعه.

تذنيب : قال مثبتوا الحال : ثبوت الحال للشيء قد يكون معلّلا بموجود قائم بالشيء ، كالعالميّة المعلّلة بالعلم وهو الحال المعلّل ، وكالمتحركيّة فإنّها حالة معلّلة بالحركة. وقد لا يكون كسوادية السواد وهو الحال غير المعلّل. واتّفقوا على

__________________

(١) انظر كلامهما في نقد المحصل : ٩٠ ـ ٩١.

٨٥

أنّ الذوات بأسرها متساوية ، ومختلفة بهذه الأحوال. واختلفوا في أمر الوجود ، فالقائلون بالأحوال من الأشاعرة ذهبوا إلى أنّه نفس الذات. وقالت المعتزلة : إنّه زائد عليها. والقول بتساوي الذوات باطل سواء قلنا الوجود نفس الذات أو زائد عليها لأنّ الأشياء المتساوية تشترك في اللوازم ، فيصح انقلاب القديم محدثا والجوهر عرضا ، وبالعكس ، وهو باطل بالضرورة. ولأنّ اختصاص الذات المعينة بالصفة المخصوصة إن لم يكن لأمر ، يرجّح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح (١) ، وإن كان لأمر نقلنا الكلام إليه ولزم التسلسل. أمّا إذا جعلنا ما به الاشتراك صفة وما به الامتياز ذاتا ، اندفعت هذه المحاذير ، لجواز اشتراك الأشياء المختلفة في لازم واحد ، ولا يجوز اختلاف المتساويات في اللوازم.

اعترض أفضل المحقّقين :

أوّلا : بأنّ الحيوانية المشتركة بين الإنسان والفرس ، يرد عليها ما قلت من صحّة انقلاب الإنسان فرسا وبالعكس.

وثانيا : بأنّه لازم على الأجناس والفصول ، بل في الأشخاص التي تحت نوع واحد ، فإنّك إن جعلت الفصول والمشخّصات ذواتا والحيوان والإنسان لوازم ، لم تكن الحيوانية والإنسانية جزءا للماهيّة ولا نفسها ، فإنّ اللوازم إنّما تلزم بعد تقوّم الملزومات (٢).

وفيه نظر ؛ فإن الحيوانية لازمة والفصول ملزومة ، فلا يلزم إمكان الانقلاب. ولهذا قالوا : «إنّ الفصول علل الطبيعة الجنسيّة» والحيوان إذا جعلناه لازما للناطق لم يناف كونه جزءا من الإنسان ، وأشخاص النوع الواحد تختلف بعوارض مستندة إلى أسبابها.

__________________

(١) وهو محال.

(٢) نقد المحصل : ٩١ ـ ٩٢.

٨٦

المقصد الثاني

في التقسيم

بالنسبة إلى الوجوب والإمكان والامتناع (١)

اعلم : أنّ الضرورة قاضية بأنّ كلّ معلوم فإمّا أن يكون واجب الوجود لذاته ، أو ممكن الوجود لذاته ، أو ممتنع الوجود لذاته. فهنا فصول :

الفصل الأوّل :

في أنّ تصوّر هذه الأشياء ضروري (٢)

ذهب من لا تحقيق له إلى أنّ هذه الأشياء قد تعرّف.

ونحن نقول : لا يمكننا تعريف كلّ واحد من هذه الأمور الثلاثة ، إلّا بما

__________________

(١) وهذه الثلاثة تسمى في مباحث المنطق ب «مواد القضايا» ، وهي كيفيات للنسب الحكمية وثبوت الشيء للشيء ، والمهم في المباحث الفلسفية هو الوجوب والامكان ، لأنّها تبحث عن أحوال الوجود وأمّا الكلام في الامتناع والمتصف به فهو استطرادي.

(٢) راجع في هذا الفصل ، الفصل الخامس من المقالة الأولى من إلهيات الشفاء ؛ التحصيل : ٢٩١ ؛ المباحث المشرقية ١ : ١١٣ ؛ المواقف : ٦٨ ؛ الأسفار ١ : ٨٣ ؛ كشف المراد للمصنف : ٢٥ ـ ٢٦.

٨٧

يشتمل على الدور ، فإنّا إنّما نعرّف كلّ واحد من هذه بسلب الآخرين عنه. فنقول : «الممكن : هو الذي لا يجب وجوده ولا يمتنع» ، أو «الذي ليس بضروري في طرفي وجوده وعدمه» ثمّ نقول : «الواجب : هو الذي لا يمكن عدمه» ، أو «الذي يستحيل عدمه»، و «الضروري : هو الذي لا يمكن عدمه (١) ، أو لا يمكن وجوده» (٢). و «الممتنع : هو الذي لا يمكن وجوده».

فقد ظهر لك لزوم الدور في هذه التعريفات. فان قبلت هذه التعريفات على سبيل التعريف اللفظي أمكن ، ولكن لا يكون تعريفا حقيقيا.

واعلم أنّ هذه الأمور الثلاثة متفاوتة عند العقل ، فإنّ كلّ ما هو أقرب إلى طبيعة الوجود كان أعرف عند العقل ، وما كان أقرب إلى طبيعة العدم كان أبعد ، ولمّا كان الوجوب هو تأكّد الوجود ، كان أقرب إليه ، وكان أعرف عند العقل. ولمّا كان الامتناع أبعد ، كان الإمكان متوسطا بينهما.

فإذا أريد التعريف اللفظي فليؤخذ الوجوب بيّنا (٣) ، ثمّ يعرّف الإمكان بسلب الضرورة عن الطرفين ، والامتناع بإثبات الضرورة على السلب.

__________________

(١) إذا كان ضروري الوجود.

(٢) إذا كان ضروري العدم.

(٣) حاصله أن يعرّف الإمكان والامتناع بالوجوب ، لأنّه أعرف عند العقل ، ولأنّه أقرب إلى الوجود ، دون أن يعرّف الوجوب بهما.

٨٨

الفصل الثاني :

في مباحث الوجوب

البحث الأوّل : في تفصيله (١)

الوجوب قد يكون بالذات وقد يكون بالغير ، فالأوّل : ما يقتضي ذات الموصوف به وجوب وجودها لماهيّتها ، لا باعتبار أمر آخر وهو واجب الوجود لذاته. والثاني : ما لا يقتضي ماهيّته الوجود ، وإنّما يستفيد الوجود من غيره حال فرض وجود السبب ، كالممكنات حال وجود عللها وأسبابها.

فللواجب الأوّل أمران : أحدهما : كونه مستحقّا للوجود من ذاته. والثاني : عدم توقّفه في وجوده على الغير. وهذا الاعتبار الثاني كالمعلول للأوّل ؛ فإنّ الواجب لمّا استحقّ الوجود لذاته استغنى عن غيره ، فإنّ الحاجة إلى الغير إنّما هي بسبب الإمكان.

__________________

(١) أنظر المباحث المشرقية ١ : ٢٠٧.

٨٩

البحث الثاني : أنّ الوجوب ثبوتي أو لا؟

قد بيّنا أنّ للواجب اعتبارين : أحدهما : عدم توقّفه على الغير. والثاني : استحقاقه للوجود من ذاته. فإن جعلنا الوجوب هو الأوّل كان عدميا قطعا ، ويكون وصفا اعتباريا ذهنيّا لا تحقّق له في الخارج. وإن جعلناه عبارة عن الثاني فهل هو ثبوتي أم لا؟

اضطرب قول أفضل المتأخّرين فيه فتارة جعله ثبوتيا وتارة جعله عدميّا ، (١) وهو الحق(٢). لنا وجوه (٣) :

الوجه الأوّل : لو كان الوجوب ثبوتيّا في الخارج لزم التسلسل ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطيّة : أنّ كلّ موجود في الخارج ، فإنّه مساو لسائر الموجودات في الوجود وممتاز عنها بخصوصيته (٤) ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فيكون

__________________

(١) أنظر المباحث المشرقية ١ : ٢٠٨ ـ ٢١١ ، وقال في آخر البحث : «هذه كلمات مشكلة نسأل الله تعالى التوفيق لتحقيق الحق فيها» ثم انظر شرحه على الإشارات ، النمط الرابع في الوجود وعلله ، في ذكر الدلالة على التوحيد ، حيث أطنب الكلام في الاحتجاج على كونه سلبيا مطلقا. وذهب إليه أيضا في معالم أصول الدين : ٣١.

(٢) وهو مختار المحقّق نصير الدين الطوسي أيضا ، راجع تجريد الاعتقاد مع شرح المصنف عليه : ٤٩ ولكن ليس مراده العدم المطلق ، بل عدم وجوده في الأعيان ، وأنّه موجود باعتبار العقل ، كما صرّح بذلك في شرحه على الإشارات بقوله : «والحق أنّ الوجوب والإمكان والامتناع أوصاف اعتبارية عقلية حكمها في الثبوت والانتفاء واحد» شرحي الإشارات ١ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧ «النمط الرابع في الوجود». وانظر نقد المحصل : ٩٤ ؛ المواقف: ٦٨ ـ ٦٩.

(٣) انظر مناقشة الوجوه في حكمة العين : ١٣٧ وما بعدها ، وقد اختار أنّ الوجوب ثبوتي واستدل بوجوه.

(٤) ق : «بخصوصية» والأصح ما في المتن من نسخة م ، ومراده ماهية الوجود.

٩٠

وجوده زائدا على ماهيته ، فاتّصاف ماهيّته بذلك الوجود إمّا أن يكون واجبا ، أو ممكنا ، فإن كان الأوّل نقلنا الكلام إلى ذلك الواجب ولزم التسلسل ، وإن كان الثاني لزم خروج الواجب عن كونه واجبا ، فيكون ممكنا ، هذا خلف.

لا يقال : لا يلزم من إمكان الوجوب إمكان الواجب.

لأنّا نقول : إمكان الوجوب يستلزم إمكان عدمه عن الواجب ، وإذا انتفى الوجوب عن الواجب تعالى بقي إمّا ممكنا أو ممتنعا وهما محالان.

الوجه الثاني : الوجوب متقدّم على الوجود ، لأنّه عبارة عن استحقاق الوجود ، واستحقاق الوجود متقدّم على نفس الوجود ، فلو كان الوجوب وصفا ثبوتيا ، لزم أن يكون ثبوت الصفة للماهيّة سابقا على ثبوت نفس الماهيّة وهو محال.

الوجه الثالث : لو كان الوجوب ثبوتيا لكان إمّا نفس الماهية ، أو جزءها ، أو خارجا عنها والكلّ باطل ، أمّا الأوّل والثاني ، فلأنّ الوجوب عبارة عن استحقاق الماهية للوجود ومفهوم هذا المعنى «نسبة الماهية إلى الوجود» ، والنسبة بين الشيئين متأخرة عنهما ، فيكون هذا المعنى متأخّرا بالاعتبار عن الماهية ، فلا يكون نفسها ولا جزءا منها. والثالث باطل ، لأنّ الخارج عن الماهيّة إذا كان صفة لها كان محتاجا إليها ، فيكون الوجوب بالذات ، ممكنا بالذات ، واجبا بوجوب سببه (١) ، فللماهيّة وجوب آخر قبل هذا الوجوب ويلزم التسلسل. ولأنّ اقتضاء الماهية للوجود ، لو كان وصفا ثبوتيا ، لكان اقتضاء الماهية لذلك الوصف أيضا زائدا عليه ولزم التسلسل.

الوجه الرابع : الوجوب نسبة بين الماهية والوجود. وسيأتي بيان أنّ النسب عدمية.

__________________

(١) ج : «لوجوب سبقه».

٩١

احتج المخالف بوجوه :

الأوّل : استحقاق الوجود ، نقيض لا استحقاق الوجود ، ولا استحقاق الوجود أمر عدمي فيكون استحقاق الوجود ثبوتيا. والمقدمة الأولى ظاهرة. وأمّا الثانية ؛ فلأنّ لا استحقاق الوجود يصدق على الممتنع وهو واجب العدم ، وعلى الممكن وهو جائز العدم ؛ فإذن لا استحقاق الوجود صادق على المعدوم ، والصادق على المعدوم يمتنع أن يكون ثبوتيا ، لاستحالة اتّصاف المعدوم بالوصف الثبوتي ، فإذن لا استحقاق الوجود وصف عدمي ، فيكون الاستحقاق وصفا ثبوتيا ، ضرورة اختلاف النقيضين بالسلب والإيجاب.

الثاني : استحقاق الوجود عبارة عن نسبة خاصة للماهية إلى الوجود ، وتلك النسبة ليس (١) تحققها بحسب فرض العقل ، فإنّ الشيء في نفسه واجب سواء اعتبره العقل أو لا ؛ ولو جاز أن لا يكون (٢) اقتضاء الوجود وصفا ثبوتيا ـ مع أنّه في نفسه نسبة محققة محصّلة ـ لجاز أن يقال : نسبة الجسم إلى الجهة والحيّز بالحصول فيه ، ليست أمرا ثبوتيا ، بل أمرا عدميا.

الثالث : الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فالوجوب سابق على الوجود ، فإنّه لا بدّ من تقدّم جهة الاستحقاق على حصول المستحق ، وجهة الاستحقاق في الواجب هو كونه مستحقا للوجود من ذاته ، ووجود الشيء سابق على أوصافه السلبية ، فإنّ الصفات السلبية لا تعيّن ولا تخصص (٣) لها في أنفسها ، بل تعيّنها وتخصّصها (٤) تبع لتخصص محالها (٥) الموجودة الموصوفة بها ؛ فحينئذ وجود الشيء سابق على

__________________

(١) م : «تلك الماهية» و «ليس» محذوف والصواب ما في المتن ، كما في نسخة ق والمباحث المشرقية.

(٢) ق : «لا يكون» م : «أن يكون» وما في المتن مطابق لعبارة الرازي في المباحث المشرقية.

(٣) و (٤) و (٥) م : «تحصص» ، «تحصصها» ، «لتحصص ملكاتها» ، وفي ق : «لتخصيص مكانها».

٩٢

سلب غيره عنه ، وإذا كانت السلوب بأسرها متأخرة عن وجود الشيء ، وكان الوجوب متقدما عليه لم يكن سلبيا ، وإلّا لكان متقدّما متأخرا ، هذا خلف.

الرابع : الوجوب تأكد الوجود ، والشيء لا يتأكّد بنقيضه ، فيكون الوجوب ثبوتيا.

الخامس : الوجوب نقيض الامتناع ، والامتناع عدمي ـ وإلّا لكان الموصوف به ثابتا ـ فيكون الوجوب ثبوتيا (١).

والجواب عن الأوّل : أنّ استحقاق الوجود أمر اعتباري حكمه في الثبوت والانتفاء واحد ، وإذا كان أمرا اعتباريا لم يكن وجوديّا ولا يلزم أن يكون نقيضه ثبوتيا ، كما أنّ الامتناع أمر اعتباري ، ونقيضه قد يصدق على المعدوم.

ولأنّ قولكم اللااستحقاق محمول على الممتنع والممكن ، وهما معدومان مغالطة ؛ لأنّ الممتنع إن كان له في نفسه تخصص (٢) أمكن وصفه بالامتناع والوصف الثبوتي ، وإن لم يكن له في نفسه تخصص (٣) بحيث يستعدّ للموضوعية (٤) ، ولا الامتناع أمرا معقولا بحيث يستعدّ للمحمولية ، لم يكن الحكم بالامتناع على الممتنع ، إلّا من حيث إنّ الذهن يستحضر ماهية ثم يحكم عليها بامتناع حصول الوجود الخارجي لها ، فالمحكوم عليه بهذا الحكم هو تلك الماهية المحصّلة في الذهن ، والحكم هو امتناع حصول الوجود الخارجي لها ، وحينئذ يكون المحكوم عليه بالامتناع أمرا ثبوتيا في الذهن (٥).

__________________

(١) أنظر الوجوه في «المباحث المشرقية» ١ : ٢٠٨ ؛ لمواقف : ٦٩ ـ ٧٠.

(٢) و (٣) ق : «تخصيص».

(٤) ق : «الموضوعية» ، وفي عبارات الرازي «للموضوعية» وهو الصواب.

(٥) راجع المباحث المشرقية ١ : ٢٠٨.

٩٣

قال أفضل المحقّقين (١) : «إذا كان الوجوب سلبيّا لم يلزم منه أن يكون نقيضا للوجود ، لأنّ السلبي هو «سلب شيء عن شيء» وسلب شيء عن الوجود لا يكون (٢) حمل العدم عليه. وأيضا إن كان الوجوب واللاوجوب نقيضين يعني يقتسمان (٣) جميع الاحتمالات ، والوجود والعدم كذلك ، وكان المعدوم (٤) محمولا على اللاوجوب ، فلا يلزم أن يكون الوجود محمولا على الوجوب حملا كليّا ، لأنّه من الجائز أن يكون بعض ما هو وجوب عدميا ، فإنّ الممكن العام والممتنع نقيضان بالوجه المذكور ، والممتنع عدميّ ، فلا يجب أن يكون كلّ ما هو ممكن بالإمكان العام وجوديا ، بل بعضه وجودي وبعضه عدمي»(٥).

وفيه نظر ؛ فإنّ الوجود والعدم متناقضان وإذا صدق أحدهما على شيء استحال صدق الآخر عليه ، فيصدق على نقيضه. والنقض بالممكن العام والممتنع ، فيه مغالطة ، فإنّ المدّعى «أنّ الوصف إذا كان ثبوتيا كان نقيضه عدميا» لا ما صدق عليه الوصف من الماهيات الموضوعة لذلك الوصف.

وعن الثاني : أنّ الصفات اللازمة للماهية ، والأحكام الثابتة لها ، لا تتوقف على وجود تلك الماهية في الذهن أو في الخارج ، بل هي مستندة إليها سواء فرضها فارض أو لا ، فإنّ الممتنع ممتنع في نفسه ، بمعنى أنّه متى عقل الذهن ماهية الممتنع بجميع لوازمها ، عقل لها الوصف بالامتناع ، لا بمعنى كون الامتناع ثابتا في الخارج ، ولا بمعنى كونه ثابتا في الذهن غير مطابق للخارج بحيث يكون جهلا ، بل بمعنى أنّه وصف لازم لها. وكما لا يلزم من اقتضاء ماهية الممتنع

__________________

(١) م : «وقال» وهو المحقّق الطوسي ، كما ذكرنا في المقدمة.

(٢) كذا في النسخ المخطوطة.

(٣) ج : «يقسمان»

(٤) وفي المصدر : العدم.

(٥) نقد المحصل : ٩٥.

٩٤

وصف الامتناع ، كون الامتناع أو الممتنع ثبوتيا في الخارج ، كذا البحث في الوجوب.

وعن الثالث : أنّ الوجوب من حيث إنّه سابق على الأوصاف الثبوتية ، لا يكون ثابتا.

وعن الرابع : أنّ الوجوب تأكّد النسبة ، سواء كانت النسبة للوجود أو العدم ، فإنّه يدلّ على وثاقة الربط بأيّ محمول كان ، وكما يؤكّد الوجود كذا يؤكّد العدم.

وعن الخامس : ما تقدّم ، والنقض بالإمكان (١).

البحث الثالث : في تقسيم الواجب (٢)

الواجب إمّا أن يكون واجبا لذاته ، وهو الله تعالى لا غير. وإمّا أن يكون واجبا لغيره ، وهو كلّ ممكن اتّصف (٣) بالوجود.

وأمّا الواجب لذاته ، فوجوبه قد بيّنا أنّه أمر اعتباري (٤).

ومن ذهب إلى ثبوته في الخارج ، منع من كونه خارجا عن الذات ، لأنّه إن استقل بذاته امتنع أن يكون وصفا لغيره ، لعدم استقلال الوصف بذاته ، فإنّه لا يعقل إلّا تابعا للموصوف. وإن لم يستقل كان ممكنا لأنّه لو فرض ارتفاع الموصوف

__________________

(١) أنظر الأسفار الأربعة لصدر المتألّهين ١ : ١٣٩ ـ ١٤٠.

(٢) أنظر البحث في المقالة الثانية من إلهيات النجاة : ٢٢٥ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٢١٤.

(٣) ق : بإضافة «له» قبل «اتصف».

(٤) كما ذهب إليه الطوسي في شرح الإشارات وتجريد الاعتقاد. وقد مرّ : أنّه أمر موجود في الأعيان بوجود موضوعه.

٩٥

ارتفع. وكلّ ما كان قوامه متوقّفا على غيره ، فإنّه لما هو هو مع قطع النظر عن غيره يكون ممكنا ، وكلّ ممكن يصحّ عدمه ، فلو امتنع عدمه ، لم يكن ذلك الامتناع لنفس مفهومه ، بل لامتناع سببه الذي هو الذات ، فهو متردّد بين صحّة العدم وامتناعه ، لكنّ صحّة عدمه يستلزم صحّة عدم الواجب ، هذا خلف. وامتناع عدمه يستلزم وجوب الذات ، فإنّ وجوب المعلول تابع لوجوب العلّة ، فيكون للماهية وجوب مثل (١) هذا الوجوب ويتسلسل. ولو جاز لقلنا : الذات إن اقتضت لما هي هي وجوبا ، لم يكن بين الذات وبين ذلك الوجوب وجوب آخر ، وإن لم تقتض لزم نفي الوجوب عن الذات بالكلّية ، فيثبت انّ الوجوب بالذات يمتنع أن يكون خارجا عن الماهيّة. ولا يمكن أن يكون جزءا من الماهية ، وإلّا لزم تركيب الواجب لذاته هذا خلف. فوجب أن يكون نفس الماهية.

والتحقيق يقتضي نفي النزاع هنا. فإنّ من جعل الوجوب أمرا اعتباريا ، سلّم أنّه ليس أمرا خارجا عن الذات ولا جزءا منها. ومن جعله نفس الذات ، إن قصد أنّ مفهوم النسبة ، وهي «كيفية الرابطة بين الوجود والماهية» نفس الذات لم يصب. وإن قصد أنّه ليس شيئا زائدا على الذات في الخارج ، فهو مسلّم.

أمّا الوجوب بالغير ، فإنّه معلول لذلك الغير ، فصحّ (٢) أن يكون خارجا عن الماهية.

لا يقال : وجوب الوجود وصف للوجود (٣) ، والوصف منفصل عن الموصوف ، فلا يمكن جعله نفسه ، ولأنّ الواجب لذاته يساوي سائر الموجودات

__________________

(١) م : «قبل» وهو الصواب.

(٢) ق : «يصحّ» وما أثبتناه في م وج.

(٣) ق : «للموجود».

٩٦

في الوجود ويخالفها في الوجوب ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فالوجود غير الوجوب.

ولأنّا ندرك تفرقة بين قولنا : موجود واجب وبين قولنا : موجود موجود ، ولو كان الوجود هو الوجوب لم يبق بينهما فرق ، فيثبت (١) أنّ الوجود مغاير للوجوب. فإن لم يكن بينهما تلازم أمكن انفكاك أحدهما عن الآخر ، فيجوز تحقّق الوجوب من دون الوجود ، فيخرج الواجب عن كونه واجبا ، هذا خلف. ويجوز تحقّق الوجوب من دون الوجود ، فتوجد الصفة من دون الموصوف ، هذا خلف.

وإن تلازما ، فإمّا من الطرفين وهو دور ، أو يكون (٢) الوجود ملزوما ، فكلّ موجود واجب ، هذا خلف. ويلزم أيضا افتقار الوجوب لصيرورته معلولا ، فيلزم افتقار الواجب والتسلسل ، لأنّ المعلول واجب لعلّته ، فقبل هذا الوجوب وجوب آخر. أو يكون الوجود لازما وهو محال وإلّا جاء الدور ؛ لأنّ الوجوب نعت للوجود ، فلو كان الوجود تابعا لزم كون الوجود تابعا متبوعا. أو يكونا معلولي علّة واحدة ، لأنّ تلك العلّة إن كانت موصوفة بهما ، كان ما ليس بموجود ولا واجب علّة للوجوب والوجود ، فالمعدوم الممكن علّة للموجود الواجب ، هذا خلف. ويلزم (٣) كون الوجوب معلولا. وإن كانت صفة لهما عاد الإشكال في كيفية ذلك اللزوم. أو لا موصوفة ولا صفة ، فيكون الموجود الواجب لذاته مفتقرا إلى علّة منفصلة ، هذا خلف.

لأنّا نقول : الشيء إذا أخذ بشرط وجوده صار ممتنع العدم ، وما كان مانعا للعدم كان مانعا لإمكان العدم والوجود ، فإذن الوجود من حيث هو وجود يمنع

__________________

(١) ج : «فثبت».

(٢) ج : «لكون».

(٣) م : «فيلزم».

٩٧

الإمكان ، وما كان مانعا من الإمكان لزمه الاستغناء عن المقتضي ، فالوجود بشرط التجرّد عن الماهية أولى بالمنع من الإمكان ، لأنّ الشيء الذي له اعتبار الإمكان إذا أخذ مع الوجود دخل في الوجوب ، فالذي لا اعتبار له إلّا الوجود هو أولى بالوجوب.

والتغاير بين الوجود والوجوب اعتباريّ ، لما بيّنا من كون الوجوب والإمكان والامتناع أمورا معقولة ، تحصل في العقل من اسناد المتصوّرات إلى الوجود الخارجي ، وهي في أنفسها معلولات للعقل بشرط الإسناد المذكور ، وليست أمورا متحقّقة في الخارج بحيث يرد عليها التقسيم بأنّها إمّا علل للأمور التي يستند إليها أو معلولات لها ، كما أنّ تصوّر زيد وإن كان معلولا لمن يتصوّره ، لا يكون علّة لزيد ولا معلولا له. وكون الشيء واجبا في الخارج ، هو كونه بحيث إذا عقله عاقل مسندا إلى الوجود الخارجي لزم في عقله معقول هو الوجوب. ولما كان الوجود مقولا بالتشكيك لم يجب تساوي مقتضياته ، فانّ المعاني المشتركة على سبيل التشكيك لا يقتضي استلزام بعضها لشيء استلزام غير ذلك البعض لذلك الشيء ، فإنّ نور الشمس يستلزم زوال العشي وسائر الأنوار لا تقتضيه ، لكون النور مشتركا بين نورها وسائر الأنوار بالتشكيك.

وفيه نظر ؛ فإنّ المشكك يوجد فيه اشتراك معنويّ ، وإذا اقتضى لذاته شيئا وجب وجود ذلك الاقتضاء في جميع موارده. أمّا إذا اقتضى لا لذاته ، بل لأجل انضمام ما حصل فيه من الاختلاف ، لم يجب عموم الاقتضاء ، وزوال العشي لا يستند إلى النور المطلق ، بل إلى النور المستند إلى الشمس خاصّة إمّا لشدّته أو لمعنى مختص به ، حصل باعتباره مخالفته لسائر الأنوار (١).

والتحقيق في ذلك كلّه ، ما قلناه أوّلا من كون الوجوب اعتباريا.

__________________

(١) أنظر المباحث المشرقية ١ : ٢١٤ ـ ٢١٦ ؛ نقد المحصل : ٩٣ وما بعدها.

٩٨

البحث الرابع : في خواص الواجب لذاته وهي عشرة (١)

الأولى : لا يمكن أن يكون الشيء الواحد واجبا لذاته ولغيره معا ، لأنّ كلّ ما بالغير فإنّه يرتفع بارتفاع ذلك الغير ، وما بالذات لا يرتفع بارتفاع الغير ، فلو كان الواحد واجبا لذاته ولغيره معا ، لزم ارتفاعه عند ارتفاع ذلك الغير (٢) بالنظر إلى كونه واجبا بغيره ، وعدم ارتفاعه عند ارتفاع ذلك الغير بالنظر إلى كونه واجبا لذاته ، فيجتمع فيه النقيضان.

ولأنّ الواجب بذاته مستغن عن الغير ، إذ معنى الوجوب «استحقاق الوجود لذاته ، أو عدم توقّفه على الغير» (٣) ، والواجب بغيره مفتقر إلى ذلك الغير ، لاستحالة وجود المعلول بدون علّته ، والجمع بين الحاجة في الوجود والاستغناء فيه محال ، وهذا حكم غني عن البرهان (٤).

الثانية : الواجب لذاته بسيط ، لا يتركّب عن غيره ، وإلّا لكان ممكنا ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ كلّ مركب مفتقر إلى أجزائه ، والأجزاء مغايرة له ، فيكون مفتقرا إلى غيره ، وكلّ مفتقر ممكن ، وأمّا بطلان التالي ، فلامتناع اجتماع النقيضين.

__________________

(١) راجع الفصل السادس من المقالة الأولى من إلهيات الشفاء وشرحي الاشارات ، النمط الرابع في الوجود : ٢٠٩ ؛ المحصل ونقده للطوسي : ٩٦ ؛ تجريد الاعتقاد مع شرح المصنف «رحمه‌الله» عليه : ٦١ ـ ٦٢ ؛ المواقف : ٧٠. وهذا البحث قسم من مباحث الإلهيات بالمعنى الأخص.

(٢) عبارة «وما بالذات» إلى «ذلك الغير» ساقطة سهوا في نسخة : ق.

(٣) الترديد ب «أو» إشارة إلى اختلاف الاعتبار في معنى الواجب ، كما مرّ في البحث الأوّل من هذا الفصل.

(٤) راجع : النجاة ، قسم الإلهيات : ٢٢٥.

٩٩

لا يقال : يجوز أن يكون كل (١) جزء من الواجب واجبا ، فيستغني في أجزائه عن الغير ، وعند وجود الأجزاء يجب حصول المركّب ، فلا يكون مفتقرا إلى الغير لا في ماهيته ولا في أجزائه (٢).

لأنّا نقول : التركيب يستدعي الإمكان ، فإنّ كلّ مركب ممكن بالضرورة ، لافتقاره إلى أجزائه المغايرة له ، فلا يكون المركب واجبا وقد فرضناه واجبا ، هذا خلف.

الثالثة : الواجب لذاته لا يتركّب عنه غيره ، لأنّ التركيب إمّا معنوي أو خارجيّ ، والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل ، فلأنّه إنّما يحصل من الجنس والفصل ، وواجب الوجود يستحيل أن يكون جنسا ، وإلّا لافتقر إلى الفصول. ويستحيل أن يكون فصلا ، لأنّه صورة للجنس ، والصورة مفتقرة إلى المادة نوعا ما من الافتقار ، وواجب الوجود لا يفتقر إلى الغير.

وأمّا الثاني ، فلأنّه (٣) لا بدّ فيه من انفعال ما ، كما في الممتزجات (٤) ، وهو ممتنع في حق واجب الوجود.

الرابعة : الواجب لذاته لا يكون وجوده زائدا عليه ، وإلّا لزم أن يكون ممكنا ، لافتقار وجوده إلى ماهيته. وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.

الخامسة : الواجب لذاته لا يكون وجوبه زائدا عليه ، وقد تقدّم (٥).

__________________

(١) ق : «كل» حذف سهوا.

(٢) راجع شرح الإشارات ، النمط الرابع في الوجود : ٥٥ ، ثم كشف المراد : ٦١ ، في خواص الواجب.

(٣) م : «فانه».

(٤) م : «ممزجات».

(٥) في البحث الثاني (أن الوجود ثبوتي أو لا) ص ٩٤.

١٠٠