نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

وأمّا الثاني (١) فلوجوه :

الوجوه الأوّل : لو كان الوجود جزءا لكان جنسا إذ هو أعمّ الذاتيات ، فيكون فصله موجودا لأنّه علّة للموجود فيكون الجنس داخلا في طبيعة الفصل.

وفيه نظر (٢) ؛ لاحتمال صدق الجنس عليه صدق العارض.

الوجه الثاني : لو كان جنسا لكان فصله علّة لوجوده ، فيكون للوجود وجود آخر ويتسلسل.

الوجه الثالث : لو كان جنسا لافتقر واجب الوجود في وجوده إلى فصل.

وفيه نظر ؛ لأنّ البحث ليس إلّا في الوجود الممكن.

الوجه الرابع : الوجود مقول بالتشكيك ، فإنّه في الواجب أولى وأقدم وأشد ، فلا يكون جزءا.

لا يقال : جاز أن يكون جنسا في الممكنات.

لأنّا نقول : لا يجوز (٣) أن يكون الجنس في أنواعه أضعف منه في معروضه ولأنّ في الممكنات جوهرا وعرضا وعلّة ومعلولا.

__________________

(١) وهو أن يكون الوجود جزء الماهية ، كما قال : لكان إمّا نفس الماهية أو جزءها ، والقسمان باطلان ، هذا والعنوان في عبارات الرازي في هذا الموضع هكذا : «فأمّا الأدلة الدالة على أنّ الوجود بعد أن ثبت أنّه مشترك بين الماهيات لا يجوز أن يكون جنسا لها فهي ستة أمور». المباحث المشرقية ١ : ١١٧ ـ ١١٨ ؛ راجع أيضا ابن سينا ، المباحثات : ٢٤٨ (الرقم : ٧٢٨).

(٢) الاستدلال من الرازي ، والمصنّف يجيب عليه ، وهو نظير جواب الاشكال على بساطة الفصول : بأن ليست فصول الجواهر جواهر ، بمعنى كونها مندرجة تحت معنى الجوهر اندراج الأنواع تحت جنسها ، بل كاندراج الملزومات تحت لازمها الذي لا يدخل في ماهيتها ، وإنّ جنس الجوهر صادق عليها صدق العرض العام على الخاصة.

(٣) م : «يجوز».

٤١

الوجه الخامس : لو كان جزءا لامتنع افتقار إثباته إلى برهان.

وفيه نظر ؛ لوروده في جوهرية النفس وهيولى الجسم.

الوجه السادس : لو كان جنسا ، فإن كان في نفسه غنيا عن الموضوع كان جوهرا وهو جزء من العرض ، فكان العرض جوهرا ، هذا خلف. وإن لم يكن غنيا عنه وهو جزء من الجوهر كان الجوهر عرضا ، هذا خلف. واعترض بمنع استلزام جوهرية الجزء جوهرية الكلّ.

وفيه نظر ؛ لأنّه حينئذ محمول بالمواطاة على أنّه داخل ، لكن يشكل بمنع جوهريته على تقدير استغنائه ، إذ لا ماهية له زائدة على وجوده ؛ لاستحالة أن يكون للوجود وجود.

واحتجّ المانعون من الزيادة (١) بوجوه (٢) :

الأوّل : ما ذكره «أبو الحسين» (٣) وهو أنّه لو كان وجود الجوهر صفة زائدة على كونه متحيّزا ، لصحّ أن نعلمه متحيّزا من دون أن نعلمه موجودا ، أو نعلمه على صفة الوجود من دون أن نعلمه متحيّزا ، إذ لا تعلّق بينهما يمنع من ذلك ، فلمّا لم نعلمه موجودا إلّا وقد علم متحيّزا ، ولا يعلم متحيّزا إلّا (٤) وقد علم موجودا ، علمنا أنّ وجوده وتحيّزه واحد. وإنّما قلنا أنّه لا تعلّق بينهما ، لأنّه لو كان أحدهما متعلّقا بالآخر ، بأن يكون أحدهما أصلا للآخر ـ إذ يمتنع كون كلّ منهما

__________________

(١) وهم أبو الحسن الأشعري وأبو الحسين البصري وأتباعهما.

(٢) ونقل الرازي بعض هذه الوجوه وأجاب عليها. المباحث المشرقية ١ : ١٢٨ ، وذكر الطوسي الاستدلال الرابع من الخصم مع الجواب عليه بقوله : «وقيامه بالماهية من حيث هي هي». راجع كشف المراد : ٢٧. وذكر الايجي ثلاثة من الوجوه وأجاب عليها. المواقف : ٤٨.

(٣) هو أبو الحسين البصري المذكور آنفا.

(٤) ق : «إلّا» ساقطة.

٤٢

أصلا للآخر ، وإلّا دار ـ لصحّ العلم بذلك الأصل دون فرعه ، وهذا غير ثابت في المتحيّز والوجود ، كما تقدّم.

الثاني : لو كان الوجود زائدا على الماهية لصحّ أن نعلم الماهية حاصلة متحقّقة مع الذهول عن وجودها ، أو نعقل وجودها مع الذهول عنها ، والتالي باطل ، فكذا المقدّم. وهي كالأوّلي. (١)

الثالث : لو كان الوجود زائدا ، لكان إمّا ثابتا فيتسلسل ، أو غير ثابت ، فلا يكون زائدا.

الرابع : لو كان الوجود زائدا ، لكانت الذات قابلة له ، لكن قبول الذات له يستدعي تعيّن تلك الذات وتحصّلها حتّى يصحّ لها القبول ، وذلك التحصّل هو الوجود ، فتكون الذات موجودة قبل اتّصافها بالوجود ، هذا خلف.

الخامس : لو كان الوجود زائدا على الماهية لكان قيام الوجود بالماهية إن توقّف على كون الماهية موجودة لزم إمّا كون الشيء شرطا في نفسه أو التسلسل ، وإن لم يتوقف لزم قيام الصفة الثبوتية بالمحلّ المعدوم وهو محال.

والجواب عن الأوّل : أنّه في غاية الاختلال ، فإنّه لا يلزم من المغايرة الانفكاك في التصوّر ولا شكّ أنّ الغلط هنا من باب إيهام (٢) العكس ، فإنّ الأمور التي تنفك بعضها عن بعض في التصوّر متغايرة.

سلّمنا وجوب الانفكاك لكن لم قلتم باستحالته؟ فإنّا قد نتصوّر جوهرا متحيّزا غير موجود.

__________________

(١) أي هذه الحجّة كالحجّة الأولى في كيفيتها.

(٢) اصطلاح منطقي في باب المغالطة من المغالطات المعنوية يوضع أحد جزئي القضية مكان الآخر بتوهّم أنّه إذا صدق كل «ب» «ج» صدق كل «ج» «ب» أيضا. انظر : أساس الاقتباس ، المقالة السابعة ، الفصل الثاني.

٤٣

وعن الثاني : بذلك أيضا ، ولأنّه مغالطة فإنّ الوجود هو كون الماهية محصّلة في الخارج ، فإذا عقلنا الماهية محصّلة في الخارج فقد عقلناها موجودة فيستحيل حينئذ الغفلة عن كونها موجودة.

وعن الثالث : الثابت ينقسم إلى ما لا مفهوم له وإلى ما له مفهوم آخر وراء كونه ثابتا ، فإن كان له مفهوم وراء كونه ثابتا كان الثبوت زائدا عليه. وإن لم يكن له مفهوم وراء الثبوت لم يكن الثبوت زائدا عليه. وبالجملة فالقسمة المذكورة باطلة كما في قولنا : الإنسان إمّا أن يكون إنسانا أو لا.

وعن الرابع : التعيّن لا يستدعي الوجود الخارجي.

وعن الخامس : أنّ الوجود قائم بالماهية من حيث هي هي ، لا من حيث إنّها موجودة ولا من حيث إنّها معدومة ، ولا يلزم من عدم إدخال الوجود في الاعتبار إدخال العدم فيه.

تنبيه (١) : لا نعني بكون الوجود زائدا على الماهية ما نعنيه (٢) بقولنا : السواد زائد على ماهية الجسم ، فإنّ الجسم يوجد في الخارج منفكّا عن السواد فيحكم حينئذ بزيادته عليه في الخارج وليس الوجود بالنسبة إلى الماهية كذلك ، فإنّه من المستحيل أن يوجد الجسم في الخارج منفكا عن الوجود ، ثمّ يحلّ فيه الوجود حلول السواد في الجسم ، فإنّ كون الجسم في الخارج هو وجوده ، والماهية لا تتجرّد عن الوجود إلّا في العقل ، لا بأن يكون في العقل منفكّة عن الوجود ، فإنّ الكون في العقل وجود عقلي كما أنّ الكون في الخارج وجود خارجي ، بل نعني أنّ للعقل أن يلاحظ الماهية وحدها من غير ملاحظة الوجود ، فاتّصاف الماهية بالوجود أمر

__________________

(١) التنبيه مستفاد من الطوسي حيث قال : «فزيادته في التصوّر».

(٢) وفي هامش نسخة ق «نريد» بدلا عن «نعنيه».

٤٤

عقلي بخلاف اتّصاف الجسم بالسواد ، فإنّ الماهية ليس لها وجود منفرد ولعارضه المسمّى بالوجود وجود آخر ، ويجتمعان كاجتماع المقبول والقابل ، بل الماهية إذا كانت فكونها هو وجودها ، فالماهية إنّما تكون قابلة للوجود عند كونها في العقل.

البحث السادس : في الوجود الذهني (١)

اختلف الناس في ثبوته ، ونفاه قوم ، وأثبته آخرون ، وهو الحقّ.

لنا (٢) أنّا نتصوّر أمورا لا ثبوت لها في الخارج ، ونحكم عليها بأحكام ثبوتية والمحكوم عليه بالحكم الثبوتي يجب أن يكون ثابتا ، وإذ ليس بثابت في الخارج ، فهو ثابت في الذهن. فهنا مقدمات :

الأولى : تصوّر أمور لا ثبوت لها في الخارج وهي ظاهرة ، فإنّا نتصوّر بحرا من زئبق ، وجبلا من ياقوت وغير ذلك من المركّبات التي لا تحقّق لها في الخارج.

الثانية : أنّا نحكم عليها بأحكام ثبوتية وذلك ، لأنّا نحكم بامتياز إحدى

__________________

(١) لقد استحدث هذا البحث في القرن السابع والثامن ، حيث لم يكن له من أثر قبل ذلك ، حتى في كتب الشيخين «الفارابي» و «ابن سينا». نعم تعرّض له الشيخ الرئيس مستطردا في ردّ القائلين بالثابت والحال ، ولم يعنون له فصلا مستقلا. أنظر الفصل الرابع من المقالة الأولى من إلهيات الشفاء. والظاهر أن أوّل من طرح البحث مستقلا هو الرازي «المتوفى ٦٠٦ ه‍» في المباحث المشرقية ١ : ١٣٠ ، ثم المحقّق الطوسي «المتوفى ٦٧٢ ه‍» في التجريد ، ثم الإيجي «المتوفى ٧٥٦ ه‍» في المواقف : ٥٢ ، وراجع الأسفار ١ : ٢٢٦ ـ ٣٦٣. وسبب طرح هذه المسألة هو الردّ على شبهات القائلين بثبوت المعدوم ، والحال.

(٢) راجع المباحث المشرقية ١ : ٤١. تجد فيه نفس الدليل وما قيل في الاعتراض عليه والجواب عنه. ثمّ راجع التجريد ، يذكر دليلا آخر بقوله «وإلّا بطلت الحقيقية». وقد جعله «الايجي» ثالث الأدلّة المنقولة من الحكماء ، المواقف : ٥٢.

٤٥

الصورتين عن الأخرى وبمخالفتها لها ، وأنّ لها تعيّنا وتخصّصا ليس لما عداها ، وأنّ الجبل والبحر المذكورين أجسام. وهذه أحكام ثبوتية.

الثالثة : المحكوم عليه بالحكم الثبوتي يجب أن يكون ثابتا ، وذلك لأنّ ثبوت شيء لغيره فرع على ثبوت ذلك الغير في نفسه ، وهو ضروري.

لا يقال : الوجود صفة ثبوتية ، ولا يستدعي حصولها للماهية كون الماهية ثابتة وإلّا لزم التسلسل.

ولأنّا (١) نحكم على السلب بمقابلته للإيجاب ، وليس في السلب ثبوت في نفسه ولا في الذهن ، لأنّه (٢) من حيث هو ثابت في الذهن لا يقابل الثبوت المطلق ، بل هو قسم منه ، فهو من حيث إنّه مقابل لمطلق الثبوت لا يكون ثابتا ، ولأنّا نحكم على الممتنع بالامتناع (٣) ، ولأنّا نحكم على العدم بامتناع الحكم عليه وذلك مناقضة.

لأنّا نقول : الضرورة قاضية بالفرق بين اتّصاف الشيء بالثبوت واتصاف الشيء بثبوت آخر له ، فإنّ العقل قاض بعدم اشتراط الأوّل بالثبوت وإلّا لزم التسلسل ، وباشتراط الثاني بالثبوت ، وإلّا لجاز قيام الصفات الثبوتية بالمحل المعدوم ، وذلك يفضي إلى السفسطة ، فإنّا إنّما نشاهد من الأجسام أعراضها من الكم والكيف وغير ذلك ، فلو سوّغنا قيام الموجود بالمعدوم جاز قيام هذه الصفات بأجسام معدومة وذلك باطل بالضرورة.

والتحقيق : ما تقدّم من أنّه ليس في الخارج ماهية ووجود قائم بها قيام السواد بالجسم ، بل الذهن يفصّل الشيء الموجود والمعقول إلى ماهيّة ووجود ،

__________________

(١) من هنا يبدأ القائل بذكر ثلاثة موارد من النقض.

(٢) وهذا دفع دخل مقدّر ، وهو أن للسلب ثبوتا في العقل ، بما له من الصورة العقلية.

(٣) مع أنّه لا ثبوت له.

٤٦

ويميّز بينهما ، ويحكم بزيادة الوجود وحلوله في الماهية ذهنا وتعقّلا لا خارجا. والوجود الذهني وإن كان عبارة عن كون الماهية في الذهن فهو كالخارجي أيضا ؛ لأنّ الذهن قد يعقل الماهية خالية عن الوجود الذهني ويفرض لها وجودا آخر يكون شرطا لهذا الوجود ، وهكذا إلى أن ينقطع بانقطاع الاعتبار. والوجود المطلق (١) مشروط بالوجود الخاص الذهني أو الخارجي ، ولا استبعاد في كون الخاص علّة وسببا لوجود العام في غيره.

وإذا (٢) استحضر الذهن صورة غير مستندة إلى الخارج وحكم عليها بأنّه لا مطابق لها في الخارج كان ذلك هو تصوّر السلب ، ثم إذا استحضر صورة أخرى وحكم عليها بأنّ لها في الخارج مطابقا كان ذلك هو تصوّر الإيجاب ، ثم يحكم على إحداهما بأنّها مقابلة للأخرى، لا من حيث إنّهما حاضرتان في العقل ، بل من حيث استناد إحداهما إلى الخارج دون الأخرى ، فالمحكوم عليه بالتقابل صورتان عقليّتان موجودتان في الذهن ، وهذا معنى قولهم (٣) «تقابل السلب والإيجاب : إنّما يتحقّق في القول والضمير (٤) لا في الخارج».

ويمكن اعتبار ذلك أيضا في الصورة الذهنية فإنّ للذهن أن يعتبر رفع (٥) جميع الأشياء حتّى رفع نفسه فإذا تصوّر شيئا لا وجود له في الخارج بصورة حلّت فيه ، أمكنه تصوّر عدمها وحكم بالتقابل بينهما من حيث إنّ الصورة أخذت ثابتة في الذهن تارة ومسلوبة عنه أخرى ، وإن كان لا بدّ في السلب من ثبوت ذهني ، لكن باعتبار آخر ، فالحكم هنا بالتقابل على صورتين ثابتتين في الذهن لا باعتبار

__________________

(١) ق : «المطلق» ساقطة.

(٢) هذا جواب عمّا قاله المستشكل في تصوّر السلب.

(٣) أي الحكماء.

(٤) أي في العقل ، وكذا في اللفظ والقول بنوع من المجاز.

(٥) م : «رفع» ساقطة.

٤٧

ثبوتهما في الذهن ، بل من حيث إنّ احداهما أخذت موجودة بالوجود الذهني (١) والأخرى أخذت مسلوبا عنها الوجود الذهني (٢).

وإذا استحضر الذهن صورة وحكم عليها بالامتناع ، كان حكما على صورة ذهنية بامتناع وجودها في الخارج ، لا بامتناع وجودها في الذهن ، والمحكوم عليه بهذا الامتناع ليس تلك الصورة من حيث إنّها ذهنية ، فإنّ ذلك غير مختصّ بالممتنع ، بل كلّ صورة ذهنية يمتنع وجودها في الخارج ، بل المحكوم عليه حقيقة تلك الصورة الموجودة في الذهن.

ولا (٣) تناقض في الحكم على العدم بامتناع الحكم عليه ، لتغاير الجهة ، فإنّه من حيث هو في الذهن مقيّد بقيد العدم الخارجي يحكم عليه بامتناع الحكم ، فالحكم عليه من حيث ثبوته في الذهن ، وامتناع الحكم عليه ، باعتبار كونه عدما مطلقا (٤).

احتج النافون بوجوه (٥) :

الأوّل : لو ثبت الوجود الذهني لزم أن يكون الذهن حارا باردا ، مستديرا مستقيما ، وهو باطل بالضرورة. ولعدم اجتماع الضدين.

الثاني : الصورة الذهنية إن لم تطابق الخارج كانت جهلا ، وإن طابقت بطل أصل الدليل.

__________________

(١) ق : «بالوجود الخارجي».

(٢) ومن هنا يبدأ جوابه على إشكال الحكم على الممتنع.

(٣) هذا دفع إشكال الحكم على العدم.

(٤) فمن جهة المفهوم والحمل الأوّلي يخبر عنه بأنّه لا يخبر عنه ، وأمّا من جهة المصداق والحمل الشائع لا يخبر عنه ، ففيه تغاير الجهة والحمل.

(٥) راجع كشف المراد : ٢٨ ؛ المواقف : ٥٣ ؛ الأسفار ١ : ٣٠٨.

٤٨

الثالث : يجوز أن تكون الصور الخياليّة قائمة بأنفسها ، كما يقوله افلاطون.

الرابع : الوجود الذهني إن ثبت فإنّما يثبت في ما لا وجود له خارجا ، أمّا في ما له وجود في الخارج فلا.

والجواب عن الأوّل : (١) أنّ الموجود في الذهن ليس نفس الحرارة والبرودة ، بل صورتهما ومثالهما ، وهما لا يوجبان التسخين والتبريد ، ولا يلزم حرارة الذهن ، ولا اجتماع الضدّين ، ولأنّ الذهن غير قابل للكيفيّات المحسوسة ، فلا يلزم أن يكون متسخّنا.

وفيه نظر ؛ لأنّ الصورة والمثال إن كانت عين الحرارة لزم الإشكال ، وإلّا كان قولا بعدم ثبوت الحرارة في الذهن وهو المطلوب ، ولا نعني بالانفعال عن الحرارة إلّا وجود هذه الكيفية في المحل ، وإذا لم يكن الذهن قابلا لهذه الكيفية ، لم يكن محلا لها.

وعن الثاني : أنّ الجهل إنّما هو في الحكم بالمطابقة مع عدمها ، أمّا في نفس وجود الصورة الذهنية فلا.

وعن الثالث : أنّ الضرورة قاضية بنفي الممتنعات.

وعن الرابع : أنّ الوجود الخارجي غير كاف في الحكم على الشيء ، فإنّ الضرورة قاضية بأنّ الحاكم على الشيء يجب أن يحضره المقضي عليه.

واعلم أنّا لا نعني بالوجود الذهني ثبوت الشيء نفسه في الذهن فإنّ ذلك معلوم البطلان بالضرورة ، بل نعني به وجود مثال له وصورة مساوية لا من كلّ وجه. وسيأتي تحقيق ذلك في باب العلم إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) حاصل الجواب : أنّ الموجود في الذهن من البرودة والحرارة وغيرهما هو كذلك بالحمل الأوّلي لا الشائع.

٤٩

البحث السابع : في أنّ الوجود هل يقبل الشدة والضعف أم لا؟ (١)

وقبل الخوض فيه لا بدّ من تقديم معنى الشدّة والضعف أوّلا.

فنقول : فسّر أفضل المحقّقين (٢) الاشتداد بأنّه اعتبار المحل الواحد (٣) الثابت إلى حالّ فيه غير قارّ تتبدّل نوعيّته ، إذا قيس ما يوجد منها في آن [ما] (٤) إلى ما يوجد في آن آخر ، بحيث يكون ما يوجد في كلّ آن متوسطا بين ما يوجد في آنين يحيطان بذلك الآن ، ويتجدّد جميعها على ذلك المحلّ المتقوّم دونها من حيث هو متوجه بتلك المتجدّدات إلى غاية ما. ومعنى الضعف هو ذلك المعنى بعينه ، إلّا أنّه يؤخذ من حيث هو منصرف بها عن تلك الغاية ، فالآخذ في الشدة والضعف هو المحل ، لا الحالّ المتصرم المتجدّد (٥).

إذا عرفت هذا فنقول : اختلف الناس في أنّ الوجود هل يقبل الشدة والضعف أم لا؟ فأثبته قوم ونفاه آخرون.

احتج المثبتون : بأنّ معنى الاشتداد ثابت في الوجود ، فإنّه كما أنّ السواد يشتد باعتبار كونه كيفية يفرض العقل لها طرفين ، ووسائط تقرب بعضها من أحد الطرفين وبعضها من الآخر ، فأحد الطرفين هو السواد البالغ في السوادية ، الذي لا يوجد فوقه مرتبة زائدة عليه في السوادية ، والطرف الآخر البياض ، وأقرب

__________________

(١) راجع : كشف المراد : ٢٩ ؛ الأسفار ١ : ٤٢٣ ، فصل ٤ «في أنّ الوجود هل يجوز أن يشتد أو يتضعّف أم لا»؟

(٢) وهو الخواجة نصير الدين محمّد بن محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة (٦٧٢ ه‍).

(٣) وليس «الواحد» في كلمات الخواجة.

(٤) ق وج وم : «في آن إلى» والأصح ما أثبتناه.

(٥) وقد شرح المصنف معنى الاشتداد في الجوهر النضيد : ٢٧ (الفصل الثاني من المقولات).

٥٠

المراتب إلى الطرف الأوّل شديد وأبعدها عنه ضعيف ، وتؤخذ مراتب غير متناهية بين الطرفين. وكذا الوجود له طرفان : الوجوب والعدم ، ووسائط هي وجودات الممكنات ، فكلّ ما كان أقرب إلى الوجوب كان أشدّ من الآخر ، فيكون قابلا للشدة والضعف.

واحتج المانعون : بأنّ الوجود معنى معقول بسيط لا يعقل فيه مراتب باعتبار كونه وجودا. ولأنّه بعد الاشتداد إن لم يحدث شيء لم يكن اشتدادا ، بل هو باق كما كان ، وإن حدث لم يكن اشتدادا أيضا للموجود الواحد ، بل يكون حاصله أنّه حدث شيء آخر معه. وهذه الحجة تبطل الاشتداد في جميع الأعراض.

٥١

الفصل الثاني :

في مباحث العدم

البحث الأوّل : في أنّ تصوّره بديهي

البحث هنا كما قلنا في الوجود ، فإنّا كما نعلم بالضرورة وجود ذواتنا ، كذا نعلم بالضرورة ارتفاع ذلك الوجود وعدمه. ولأنّ التصديق الضروري ، بأنّه لا يخلو الشيء عن الوجود والعدم ، مسبوق بتصوّر الوجود والعدم ، والسابق على البديهي أولى أن يكون بديهيا.

واعلم : أنّ العدم إمّا مطلق أو مضاف ، والأوّل لا يعلم ولا يخبر عنه ، إذ لا تعيّن له ولا تخصّص ولا امتياز ، والعلم يستدعي ذلك كلّه ، وما لا هويّة له كيف يشير العقل إليه بأنّه هو. أمّا المضاف فإنّه يعلم بواسطة ملكته.

لا يقال : العدم المطلق جزء من المضاف ، والشيء ما لم يعلم جزؤه لا يعلم ، ولأنّ قولنا : العدم لا يخبر عنه إخبار عنه.

لأنّا نقول : العدم لا يعقل جزءا من غيره ، وإنّما ذلك اعتبار عقلي. والإخبار

٥٢

عن العدم بعدم الإخبار عنه غير متناقض للتغاير في الموضوعات ، فإنّ ما ليس بثابت في الذهن له ثبوت ذهني ، لأنّ هذا السلب متصوّر والمنسوب إليه هذا السلب ليس له ثبوت أصلا. فهنا اعتباران : سلب الثبوت ذهنا ، والمنسوب إليه هذا السلب ، فبالاعتبار الأوّل أمكن الحكم عليه دون الاعتبار الثاني من غير تناقض ، لعدم اتّحاد الموضوع فيهما ، وإنّما حصل لنا تصوّر سلب الثبوت المطلق ، لأنّ للذهن أن يتصوّر جميع الأشياء حتّى عدم نفسه ، فإذا تصوّر الوجود المطلق وتصوّر عدمه فقد تصوّر سلب الثبوت المطلق (١).

البحث الثاني : في أنّ المعدوم ليس بشيء (٢)

هذه مسألة عظيمة وقع الخلاف فيها بين النفاة والمثبتين مع أنّها ظاهرة.

وتقرير الكلام في ذلك أن نقول : المعدوم إمّا أن يكون ممتنع الثبوت ، ولا

__________________

(١) راجع تجريد الاعتقاد ، المسألة السابعة والثلاثون من الفصل الأوّل ، والأسفار ١ : ٢٣٨ و ٣٤٤ ـ ٣٥٠.

(٢) أنظر مقالات الإسلاميين : ١٥٨ ؛ المحصل : ٧٨ ؛ المباحث المشرقية ١ : ١٣٤ ؛ معالم أصول الدين : ٣٠ ؛ تجريد الاعتقاد ، المسألة الحادية عشرة من الفصل الأوّل ؛ المواقف : ٥٣ ؛ الأسفار ١ : ٧٥ ؛ شوارق الإلهام : ٥٧ ؛ الفصل الرابع من المقالة الأولى من إلهيات الشفاء ، وتعليقة صدر المتألهين عليه ص ٢٦.

أقول : هذه المسألة تختلف مع مسألة الحال ، لأنّ المعتزلة كانوا يعبّرون عن الصفات والأسماء الثابتة للموجودات بالأحوال ، وفي ما نحن فيه يثبتون الشيئية نحوا من الثبوت للمعدومات الممكنة ، فالموضوع في مسألة الحال صفات الموجود مثل السوادية والبياضية والقادرية وغير ذلك ، ممّا لا يوصف بالوجود ولا العدم ، وسمّوها الحال ، وهي واسطة بين الوجود والعدم.

وأمّا الموضوع هاهنا فهو المعدوم الممكن المقابل للمعدوم الممتنع. هذا ، وقد جعل الشهرستاني بين المسألتين نحوا من الاتحاد ، وابتناء احداهما على الأخرى ، ثم حكم بالتناقض بين قولهم بشيئية المعدوم والقول بالحال ، نهاية الاقدام في علم الكلام : ١٥٨ ـ ١٥٩ ولكن الحقّ اختلاف المسألتين لاختلاف موضوعهما ، كما عرفت.

٥٣

نزاع في أنّه نفي محض.

وإمّا أن يكون ممكن الثبوت ، فعندنا أنّه كذلك (١) ، وهو مذهب الأوائل وجماعة من المتكلّمين «كأبي الهذيل» (٢) و «هشام الفوطي» (٣) و «هشام البردعي» (٤) و «أبي الحسين البصري» و «الخوارزمي» و «القاضي أبي بكر الباقلاني» (٥) وغيرهم.

وذهب آخرون إلى أنّه شيء ، بناء على أنّ الوجود زائد على الماهية ، وأنّه يجوز خلو تلك الماهية عن الوجودين وتبقى ثابتة في الأعيان ، فجعلوا الوجود غير الثبوت ، وهو مذهب «أبي يعقوب الشحّام» (٦) و «أبي علي الجبائي» (٧) و «أبي

__________________

(١) هذا مذهب الإماميّة كافة من أوّلهم إلى عصرنا الراهن. راجع أوائل المقالات : ٩٨.

(٢) محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي ، مولى عبد القيس ، أبو الهذيل العلّاف : من أئمة المعتزلة. ولد في البصرة واشتهر بعلم الكلام. كفّ بصره في آخر عمره ، وتوفي بسامراء. وفيات الأعيان ١ : ٤٨٠ وفيه أقوال في وفاته سنة ٢٣٥ و ٢٢٦ و ٢٢٧ ؛ لسان الميزان ٥ : ٤١٣ ؛ مروج الذهب ٢ : ٢٩٨ ؛ تاريخ بغداد ٣ : ٣٦٦.

(٣) هو هشام بن عمرو الفوطي الشيباني من أهل البصرة وقد تفرّد بمسائل. وقال ابن النديم في الفهرست : وهو هشام بن عمرو الفوطي مسكن الواو كذا يجب في العربية ، وقال السمعاني في الأنساب : الفوطي بضم الفاء وفتح الواو ، وفي آخرها الطاء المهملة هذه النسبة إلى الفوطة وهي نوع من الثياب ، طبقات المعتزلة : ٦١ ؛ الأنساب ٤ : ٤٠٨.

(٤) ق وج : «الودعي».

(٥) أبو بكر محمد بن الطيب المعروف بالباقلاني البصري المتكلّم المشهور ، كان على مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وناصرا طريقته ، توفي ببغداد سنة ٤٠٣ ه‍. وفيات الأعيان ٤ : ٢٦٩ ، يقول : «المعدوم لا هو مثبت ولا هو شيء» التمهيد : ٤٠ ، مراجعة الخضيري.

(٦) يوسف بن عبد الله ، أبو يعقوب الشّحام : مفسّر معتزلي ، من أهل البصرة. انتهت إليه رئاسة المعتزلة في أيامه. أخذ عن أبي الهذيل وولي الخراج في أيام الواثق. عاش ٨٠ سنة ، وله كتاب في تفسير القرآن ، وتوفّي في عام ٢٨٠ ه‍. لسان الميزان ٦ : ٣٢٥ ؛ طبقات المعتزلة : ٧١ ـ ٧٢. وهو أول من قال بإمكان تسمية المعدوم شيئا. راجع : الشهرستاني : نهاية الإقدام ، في علم الكلام : ١٥١ ، حيث قال : «والشحّام من المعتزلة أحدث القول بأنّ المعدوم شيء وذات وعين».

(٧) هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي أحد أئمّة المعتزلة (٢٣٥ ـ ٣٠٣ ه‍). وفيات الأعيان ٤ : ٢٦٧.

٥٤

هاشم» و «أبي الحسين الخيّاط» (١) و «أبي القاسم البلخي» (٢) و «أبي عبد الله البصري» (٣) و «أبي اسحاق بن عياش» (٤) و «قاضي القضاة» (٥) و «أبي رشيد» (٦) [و] (٧) «ابن متّويه» وغيرهم.

لنا وجوه : أوّلا : لو كانت الماهيات متحقّقة في الخارج حال عدمها ، لكانت متشاركة في ذلك التحقّق ومتباينة بخصوصيّاتها ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فيلزم أن يكون تحقّق كلّ ماهية زائدا عليها ولا نعني بكونها موجودة

__________________

(١) هو عبد الرحيم بن محمد بن عثمان ، أبو الحسين ابن الخياط : شيخ المعتزلة ببغداد. تنسب إليه فرقة منهم تدعى «الخياطيّة». ذكره الذهبي في الطبقة السابعة عشرة ، توفي سنة ٣٠٠ ه‍ ، وراجع نظره في هذه المسألة ، الانتصار والرد على ابن الراوندي : ١٢٢ وما بعدها.

(٢) هو عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي ، من بني كعب ، البلخي الخراساني ، أبو القاسم : أحد أئمة المعتزلة كان رأس طائفة منهم تسمّى «الكعبية» وله آراء ومقالات في الكلام انفرد بها هو من أهل بلخ ، أقام ببغداد مدة طويلة وتوفي ببلخ (٢٧٣ ـ ٣١٩ ه‍). تاريخ بغداد : ج ٩ : ٣٨٤ ؛ وفيات الأعيان : ج ١ : ٢٥٢.

(٣) الحسين بن علي بن إبراهيم ، أبو عبد الله ، الملقب بالجعل : فقيه ، من شيوخ المعتزلة. كان رفيع القدر ، مولده في البصرة ووفاته ببغداد (٢٨٨ ـ ٣٦٩ ه‍). الزركلي : الأعلام ٢ : ٢٤٤.

(٤) هو إبراهيم بن محمد بن عياش البصري تلميذ أبي هاشم. قال القاضي : هو الذي درسنا عليه أوّلا.

وله كتاب في إمامة الحسن والحسين عليهما‌السلام وفضلهما. طبقات المعتزلة ص ١٠٧.

(٥) عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني الأسدآبادي ، أبو الحسين : قاضي ، أصولي. كان شيخ المعتزلة في عصره. وهم يلقبونه قاضي القضاة ، ولي القضاء بالريّ ومات فيها. (عام ٤١٥ ه‍).

الزركلي : الأعلام ٣ : ٢٧٣.

(٦) هو سعيد بن محمد أبو رشيد النيسابوري ، وكان بغدادي المذهب فاختلف إلى القاضي ودرس عليه وصار من أصحابه ، وإليه انتهت الرئاسة بعد قاضي القضاة ، انتقل إلى الري وتوفّي فيها (سنة ٤٤٠ ه‍). طبقات المعتزلة : ١١٦.

(٧) أضفنا «و» بينهما ، لأنّ أبي رشيد غير ابن متّويه وهي ساقطة في نسخة ق وم. وابن متّويه هو أبو محمد حسن بن أحمد بن متّويه ، الذي لخصّ بعض كتب القاضي وله كتاب التذكرة. طبقات المعتزلة : ١١٩.

٥٥

سوى ذلك ، فيلزم أن تكون موجودة حال فرضها معدومة ، وذلك باطل بالضرورة (١).

وفيه نظر ؛ لأنّهم سلّموا مغايرة الثبوت للوجود ، وأنّ الثبوت أمر مشترك زائد على الماهيّات ، ولا يلزم أن تكون الماهيات موجودة حال كونها معدومة ، بل أن تكون ثابتة حال كونها معدومة ، وهو محلّ النزاع.

والتحقيق : أن نقول : النزاع هنا ليس إلّا في إثبات معنى غير الثبوت وعدمه ، والحق عدمه ، لأنّ الثبوت هو الكون في الأعيان ، ونحن لا نعقل سوى الماهية والكون في الأعيان ، والوجود هو الكون في الأعيان.

ثانيا : لو كانت الذوات ثابتة في العدم ، لكانت إمّا متناهية أو غير متناهية ، والقسمان باطلان ، فالقول بكونها ثابتة في العدم باطل.

أمّا الأوّل : فبالاتفاق ، وإلّا لزم انحصار مقدور الله تعالى في عدد متناه.

وأمّا الثاني : فلأنّها بعد إخراج شيء منها إلى الوجود إمّا أن تبقى كما كانت وهو باطل بالضرورة ، وإلّا لزم أن يكون الشيء مع غيره كهو لا مع غيره ، وإمّا أن تنقص ، فيلزم تناهيها ، والذي خرج منها إلى الوجود متناه ، فيكون الكلّ متناهيا وقد فرض غير متناه ، هذا خلف (٢).

وفيه نظر ، فإنّه لا يلزم من القلّة التناهي ، فإنّ معلومات الله تعالى أكثر من مقدوراته، وتضعيف الألف مرارا غير متناهية أقلّ من تضعيف الألفين كذلك والكلّ غير متناه ، بل كلّ عدد غير متناه إذا أخذ أي عدد متناه كان منه ، فإنّ الباقي يكون غير متناه وأقلّ من الأوّل.

__________________

(١) استدل به الرازي في المحصل : ٧٨ ، وذكره الايجي في المواقف : ٥٤.

(٢) راجع شرح المصنف على تجريد الاعتقاد ، ذيل قوله : «وانحصار الموجود» ص ٣٣ ، ثم راجع المواقف : ٥٤.

٥٦

ثالثا : هذه الماهيات من حيث إنّها هي ممكنة لذواتها ، وكل ممكن محدث ، فهذه الماهيات من حيث هي هي محدثة ، فتكون مسبوقة بالنفي الصرف.

أمّا المقدمة الأولى ، فلأنّها لو كانت واجبة التقرّر في الخارج لذواتها ، لكانت واجبة الوجود ، وسيأتي بيان أنّه واحد.

وأمّا الثانية ، فسيأتي بيان أنّ كلّ ممكن محدث ، وأنّ كل محدث مسبوق بالعدم (١).

وفيه نظر ، فإنّهم يسلّمون أنّها ممكنة ومحدثة ، ولكن ليس معنى المحدث هو المسبوق بالنفي ، بل بالعدم. ولا يلزم من كونها واجبة التقرّر في الخارج كونها واجبة الوجود ، لأنّ التقرّر في الخارج هو الثبوت ، وليس واجب الوجود هو واجب التقرّر أو الثبوت ، بل واجب الوجود ، والوجود أخصّ من الثبوت على ما مرّ.

رابعا : الذوات أزليّة ، فلا تكون مقدورة ، والوجود حال ، فلا يكون مقدورا ، فتكون الذوات الموجودة غير مقدورة ، فتنتفي قدرة الله تعالى وهو محال (٢).

وفيه نظر ؛ فإنّهم يذهبون إلى أنّ القادر تأثيره في جعل الذوات موجودة ، ولا يندرج ذلك تحت ما ذكره من الأقسام.

خامسا : السواد المعدوم إمّا أن يكون واحدا أو كثيرا ، والقسمان باطلان ، فالقول بثبوته باطل. أمّا الأوّل ، فلأنّ وحدته إن كانت لازمة لماهيته امتنع تكثّره في الخارج ، وإن لم تكن لازمة أمكن عدمها ، فيحصل التعدّد ، لكنّه محال لتوقّفه على التباين بالهوية ، ثمّ ما به التباين إن كان لازما للماهية لزم اختلاف كل شيئين بالماهية ، فلا يوجد شخصان من نوع واحد ، هذا خلف. وإن لم يكن لازما كان

__________________

(١) انظر المواقف : ٥٤.

(٢) استدل به الرازي في المحصل : ٧٩ ، واعتمد عليه الايجي في المواقف : ٥٥.

٥٧

المعدوم موردا للصفات الزائلة (١) وهو محال ، وإلّا لجاز أن يكون محلّ الحركات والسكنات المتعاقبة معدوما ، وهو باطل بالضرورة (٢).

وهو ضعيف ؛ لأنّ السواد المعدوم لا يوصف بكثرة ولا وحدة.

سلّمنا ، لكن التباين إذا لم يكن من اللوازم لم يجب زواله ، وإن أمكن ، لكن كونه موردا للصفات الزائلة (٣) لازم للزوال لا لإمكانه.

سادسا : المعدوم إن ساوى المنفي أو كان أخصّ ، فكلّ معدوم منفي وكلّ منفي فليس بثابت فالمعدوم ليس بثابت. وإن كان أعم وجب أن لا يكون نفيا محضا ، وإلّا لم يبق فرق بين العام والخاص ، وإذا لم يكن نفيا كان ثابتا ، وهو مقول على المنفي (٤) فإنّ العام صادق على الخاص ، فيكون الثابت صادقا على المنفي ، هذا خلف (٥).

وفيه نظر ؛ لجواز المباينة ، فإنّهم يذهبون إلى أنّ المنفي هو الممتنع ، والمعدوم هو الممكن الثابت.

سابعا : المعدوم الثابت إمّا أن يكون وجوده ثابتا أو منفيا ، والقسمان باطلان ، فالقول بثبوت المعدوم باطل.

أمّا الأوّل ، فلأنّه إن لم يكن ثابتا له لزم ثبوت الصفة لغير الموصوف ، وهو غير معقول. وإن كان ثابتا له لزم أن يكون موجودا حال ما فرضناه معدوما ، هذا

__________________

(١) «المتزايلة» في المحصل للرازي : ٧٩.

(٢) هذا ما استدل به الرازي في المباحث المشرقية : ١٣٥ ـ ١٣٦ ؛ المحصل : ٧٩ ، وانظر المواقف : ٥٤.

(٣) م : «المتزايلة».

(٤) م : «النفي» والصحيح ما أثبتناه في المتن من نسخة ق.

(٥) أنظر الاستدلال بشكل قياسي واضح في المباحث المشرقية : ٤٦ ، واعتمد عليه الايجي في المواقف : ٥٥.

٥٨

خلف.

وأمّا الثاني ، فلأنّ المنفي ممتنع الثبوت عندهم فلا تكون الذوات المعدومة ممكنة الوجود ، هذا خلف.

ثامنا : المعدوم الممكن إمّا أن يكون موجودا أو ليس بموجود ، ولا ثالث لهما ، فإنّ أحدهما نفي والآخر إثبات.

والأوّل باطل ، وإلّا لزم أن يكون المعدوم موصوفا بالوجود ، وهو باطل بالضرورة.

والثاني يلزم منه أن يكون نفيا ، فيكون ممتنعا.

وفيه نظر ؛ فإنّه لا يلزم من كونه ليس بموجود أن يكون نفيا ، لأنّ ما ليس بموجود قد يكون ثابتا.

واعلم أنّ الضرورة قاضية بفساد هذا المذهب ، فإنّه لا يعقل شيء سوى الماهية والوجود ، ومن أثبت أمرا وراء الوجود أعمّ منه وسمّاه الثبوت ، فقد كابر مقتضى عقله.

احتج المخالف بوجوه :

الأوّل : المعدومات متميّزة في أنفسها وكلّ متميّز ثابت.

أمّا الصغرى ، فلأنّا نعلم طلوع الشمس غدا وهو معدوم الآن ، ونعلم الحركة التي يمكنني أن أفعلها والتي لا يمكنني فعلها ، ولهذا نحكم على إحداهما بإمكان الوقوع دون الأخرى. ولأنّا نقدر على الحركة يمنة ويسرة ، ولا نقدر على خلق السماء والأرض ، وهذا الامتياز حاصل قبل وجود هذه الأشياء. ولأنّا نريد اللذات ونكره الآلام وهي معدومة ، ولو لا امتياز بعضها عن البعض لاستحال

٥٩

تخصيص بعضها بالإرادة وبعضها بالكراهة ، فقد ثبت بهذه الوجوه أنّ المعدومات متميّزة.

وأمّا الكبرى ، فلأنّ معنى الثابت هو المتميّز عن غيره ، المتخصّص بتعيّنه عمّا سواه ، فإنّ ذلك إنّما يعقل بعد تحقّق تلك الحقائق ، فتكون الماهيّات متحقّقة وثابتة حال العدم.

الثاني : المعدوم الممكن موصوف بالامتياز عن الممتنع ، والامتناع ليس وصفا ثبوتيا ، وإلّا لكان محلّه ثابتا ، هذا خلف ، وإذا لم يكن الامتناع ثبوتيا ، كان الإمكان الذي هو مناف للامتناع ثبوتيا ، ضرورة كون أحد المتنافيين ثبوتيا ، فيكون المعدوم الممكن ثابتا.

الثالث : المقدور لا يوجد إلّا بإيجاد القادر إيّاه ، وإيجاد القادر إيّاه متوقّف على تعلّق القادر به ، وتعلّق القادر به دون غيره يتوقّف على تميّزه عن غيره ، فإذن وجوده يتوقّف على تميّزه بمراتب. أو نقول : المقدور محتاج إلى الموجد ، فلا بدّ من أمر متصف بالحاجة وليس المتّصف بالحاجة هو الموجود ؛ لأنّ الحاجة إلى القادر لأجل أن يجعل الشيء موجودا فالموجود يستحيل إيجاده ، فكيف يمكن أن يحتاج إلى الفاعل ليجعله موجودا. ولأنّه لو احتاج الشيء حال وجوده إلى المؤثّر لاحتاج حال بقائه إليه ، لأنّ وجوده في الحالين واحد ، ومقتضى الشيء الواحد من حيث هو حاصل في جميع أزمان حصوله لا يختلف ، فيثبت أنّ المتّصف بالحاجة إلى الفاعل هو المعدوم ، وكل ما اتّصف بصفة ليست حاصلة لغيره ، فإنّه لا بدّ وأن يكون متميّزا في نفسه وثابتا ، فيكون المعدوم ثابتا.

الرابع : لا نزاع بين العقلاء في وجود الممكنات ، والممكن هو الذي يصحّ عليه الوجود والعدم. والمعنى بقولنا : إنّه يصحّ عليه العدم ، أنّه يصحّ أن يقال : إنّه معدوم ، وهذا يقتضي تحقّق تلك الحقيقة عند كونها معدومة ، لأنّ الموصوف لا بدّ

٦٠