نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

المقصد الثالث

في التقسيم بالنسبة إلى الماهية والجزء

والخارج والكلّي والجزئي

اعلم : أنّ كلّ معقول فإمّا أن يكون نفس الماهيّة أو جزءها أو خارجا عنها.

وأيضا ، فإمّا أن يكون كليا أو جزئيا ، فهنا فصول :

الفصل الأوّل :

في مباحث الماهيّة

البحث الأوّل : في تحقيق الماهية (١)

لكلّ شيء حقيقة هو بها ما هو ، وتلك الحقيقة هي الماهيّة بالذات ومغايرة

__________________

(١) راجع : الفارابي ، فصوص الحكم : ٤٧ ؛ المباحث المشرقية ١ : ١٣٩ ـ ١٤٢ ؛ كشف المراد : ٨٥. وعرفها الجرجاني وقال : «الأمر المتعقل ، من حيث إنّه مقول في جواب ما هو يسمى : ماهية ، ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى : حقيقة ، ومن حيث امتيازه عن الأغيار : هوية ، ومن حيث حمل اللوازم له : ذاتا ، ومن حيث يستنبط من اللفظ : مدلولا ، ومن حيث إنّه محلّ الحوادث : جوهرا ... ماهية الشيء : ما به الشيء هو هو ، ومن حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة ، ولا كلي ولا جزئي ، ولا خاص ولا عام» (التعريفات : ٢٥١).

١٦١

لها بالاعتبار ، فإنّ الماهيّة إذا أخذت ثابتة في الأعيان ، سمّيت حقيقة ، وإن أخذت معقولة، سمّيت ماهيّة ، وهي مشتقّة عمّا هو ، وهي ما به يجاب عن السؤال بما هو. وتلك الماهية إذا أخذت من حيث هي هي ، ولم يضم إليها في الاعتبار شيء من صفاتها (١) ، من وحدة أو تعدّد أو غيرهما من الصفات اللازمة أو المفارقة ، كانت نفس الماهية مغايرة لجميع الصفات ، فالفرسيّة إذا أخذت من حيث هي فرسية لم تكن شيئا غير الفرسيّة ، وهي مغايرة للوحدة والكثرة والوجود والعدم. فإذا ضممت قيدا زائدا إليها ، كالوحدة ، صارت فرسية وشيئا آخر هو الوحدة ، فصارت باعتبار الوحدة فرسية واحدة وتغاير الاعتباران.

وإذا أخذت الفرسيّة من حيث تطابق بحدها أمورا كثيرة (٢) ، صارت عامّة ، وهي في نفسها ليست إلّا الفرسيّة ، ومفهوم الوحدة والكثرة مغايران لمفهومها ، وإلّا لو كانت مفهوم أحدهما ، لم تصدق على مقابله.

فإن سألنا عن الفرسيّة بطرفي النقيض ، لم يكن الجواب إلّا السلب ، على أن يكون قبل «من حيث» لا على أنّه (٣) بعد «من حيث» (٤).

ولو سألنا عنها بموجبتين في قوة النقيضين ، بحيث لا تخلو عنهما ، كالواحد والكثير ، لم يلزم الجواب.

__________________

(١) انتهى السقط حيث كان بدايته «الأثر» في ص ١٥٤.

(٢) م : «كثيرة» ساقطة ، والعبارة في المباحث المشرقية كذا «من حيث إنّها تطابق أمورا كثيرة ، تجدها عامّة».

(٣) م : «أنّه» حذفت سهوا.

(٤) أي يكون السلب قبل الحيثية ، حتى يفيد سلب المقيّد ـ أي وجود المقيد بمرتبة الذات ـ دون السلب المقيّد. ويذكر السبزواري وجه التقديم بقوله :

وقدّمن سلبا على الحيثية

حتى يعمّ عارض الماهية

شرح المنظومة : ٩٤.

١٦٢

والفرق ظاهر (١) ، لأنّ الكثير هنا (٢) وقع موقع السلب بعد «من حيث» ؛ فإنّا إذا قلنا : الفرسيّة من حيث هي فرسيّة واحد أم ليس؟ كان الجواب : ليس الفرسية من حيث هي فرسيّة واحدا ، وهو جواب صحيح.

ولو قلنا : الفرسيّة من حيث هي فرسيّة واحد ، أو كثير ، فقلنا : واحد ، أو كثير ، لم يكن جوابا صحيحا. وكان الحق : ليست الفرسيّة من حيث هي فرسيّة ، واحدا ولا كثيرا لأنّ قولنا : ليست الفرسيّة من حيث هي فرسية واحدا يصدق مع كونه واحدا بخلاف قولنا : الفرسيّة من حيث هي فرسيّة كثير. فالفرسيّة من حيث هي فرسيّة ، لا يدخل في مفهومها الواحديّة والكثيريّة ، وإن وجب اتّصافها بأحدهما ، لكن لا من حيث مفهوم الفرسيّة ، بل باعتبار ما ينضمّ إليها.

وإذا قيل : الإنسانيّة التي في زيد من حيث هي إنسانيّة ، لا تغاير التي في عمرو ، كان حقّا. ولا يلزم منه أن يقال : فهما واحد بالعدد ، لأنّا عنينا بهذا السلب «أنّ تلك الإنسانية من حيث هي إنسانيّة ، إنسانيّة فقط ؛ وكونها غير التي في عمرو شيء من خارج».

وإذا قيل : الإنسانيّة التي في زيد من حيث هي إنسانيّة ، هل هي التي في عمرو؟ فالجواب «ليس» قبل «من حيث» لأنّ قولنا : من حيث هي إنسانيّة أسقط اعتبار كونها في زيد (٣) ، لأنّه قيد خارج عن الإنسانيّة من حيث هي إنسانيّة.

فإن قيل : الإنسان من حيث هو إنسان ، إذا كان موجودا في زيد ، فإمّا أن

__________________

(١) بين أن نسأل بطرفي النقيض ، وبين أن نسأل عنها بموجبتين في قوة النقيضين. راجع الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من إلهيّات الشفاء ، ومن أراد التفصيل فليراجع التعليقة على الشفاء ، لصدر المتألّهين : ١٨١ ـ ١٨٢ ، وأوائل الأسفار : ج ٢.

(٢) ق : «هنا» ساقطة والمراد منها السؤال الثاني.

(٣) م : «اسقط كون اعتبارها في زيد» ، وهي في المباحث المشرقية : «اسقط عنها اعتبار كونها في زيد».

١٦٣

يكون خاصّا به ، فلا يكون غيره إنسانا ، ولم يكن الإنسان بما هو إنسان موجودا فيه ، بل إنسان ما. وإن لم يكن خاصّا به ، كان شيء واحد بالعدد موجودا في محالّ (١) متعددة وهو محال ؛ فإذن يمتنع أن يكون الإنسان من حيث هو موجودا في الأشخاص ، فيكون مفارقا.

فالجواب : الإنسان من حيث هو موجود في الشخص ، فيكون إنسانا ما. وإذا كان المعيّن (٢) موجودا ، فالإنسان من حيث هو ، موجود ، لأنّ المعيّن (٣) إنسان وشيء ، ووجود المركب يستلزم وجود أجزائه. وإذا كان إنسان ما موجودا ، فالإنسان الذي هو جزء من إنسان ما موجود ، فاعتبار الإنسان بذاته جائز ، وإن كان مع غيره ، لأنّ ذاته مع غيره (٤) ذاته ، وذاته له بذاته ، وكونه مع غيره عارض له ، وهذا الاعتبار مقدم في الوجود على الإنسان الشخصي والكلّي العقلي تقدم البسيط على المركب ، وهو بهذا الاعتبار لا جنس ولا نوع ، ولا واحد ولا كثير ، بل انسان فقط ، لكن يلزمه إحدى هذه الأوصاف من خارج ذاته ، وليس من هذه الجهة فرسا ما (٥) وإن كان يلزمه أن يكون فرسا ما (٦).

وأيضا (٧) لا يصحّ قوله : «الإنسان الموجود في الأشخاص إمّا خاص أو عامّ» ؛ لأنّ الإنسان من حيث هو لا عامّ ولا خاصّ.

واعلم : أنّ الكلّي قد يوجد باعتبارات ثلاثة :

الأوّل : الماهيّة من حيث هي هي ، وتسمّى الطبائع ، أي طبائع أعيان الموجودات ونفس حقائقها. وتسمّى الأمر الإلهي ، كما يؤخذ الحيوان لا بشرط

__________________

(١) ق وج : «حال».

(٢) و (٣) م : «المعنى». ق وج : «العين» ولعلّ الصواب ما أثبتناه وفقا للسياق.

(٤) ق : «غير».

(٥) و (٦) كذا ، والصواب «انسانا ما».

(٧) هذا جواب عن الإشكال الثالث.

١٦٤

شيء (١).

الثاني : الماهيّة بشرط التجرّد عمّا سواها ، كأخذ الحيوان بشرط لا شيء ، بل مجرّدا عن غيره. والأوّل موجود في الخارج ، بخلاف الثاني ، فإنّ وجوده ذهني ، على أنّ ذلك خارج عنه أيضا ، فإنّ شرط تجرّده ينافي اعتبار وجوده ذهنا (٢) ، لا وجوده ذهنا (٣).

الثالث : الماهيّة بشرط عروض اللواحق الخارجيّة (٤) عنها بها ، من الفصول ، فتكون أنواعا ، ومن العوارض ، فتكون أصنافا وأشخاصا. وهي بهذا الاعتبار موجودة في الخارج ، بل هي المقصودة بالذات بالوجود ؛ فإنّ الغرض والغاية الحقيقيّة يتعلّقان بوجود الأنواع (٥).

والفرق بين أخذ الشيء بشرط لا ، وبين أخذه لا بشرط ، إنّما يظهر في الخارج عن الماهيّة ، لا في الماهيّة ولا في مقوّماتها ، بل الماهيّة ومقوّماتها دائما توجد بشرط لا ، إذ لو أدخلت في الحقيقة قيدا أو أخرجت عنها قيدا ، لم تكن تلك الحقيقة ، بل صارت حقيقة أخرى. أمّا لوازم الحقيقة ، فتارة تؤخذ بشرط لا ، وتارة تؤخذ لا بشرط. فإذا أخذت الحقيقة بالنسبة إلى تلك اللوازم بشرط لا ، فقد أخذت الحقيقة مجردة عن تلك العوارض ، وهو ممكن ، بخلاف المقوّمات. وإذا أخذت الحقيقة بالنسبة إلى تلك اللوازم لا بشرط ، فقد أخذت الحقيقة صالحة لعروض أمر زائد عليها ولعدمه.

__________________

(١) من هنا إلى قوله : «وجوده ذهنا» مشوشة في النسختين : م وق ، فأثبتنا الصحيح منهما.

(٢) م : «ذهنيا».

(٣) م : «لا وجوده ذهنا» ساقطة.

(٤) وتسمى الأولى المطلقة ، والثانية المجردة ، والثالثة المخلوطة. انظر البحث في الأسفار ٢ / ١٦ وما بعده ، وشرح الإشارات ، قسم المنطق : ٤٣ وما بعده.

(٥) م : «العرض والأنواع».

١٦٥

واعلم : أنّ الجنس قد يمكن أن يؤخذ باعتبارين معا ، فإنّ الحيوان يمكن أخذه بشرط لا شيء ، فإنّ شرط الشيء هنا يراد به ما من شأنه أن يدخل في مفهوم الحيوان عند صيرورته محصّلا ، فإنّ المعاني الجنسيّة إنّما تتحصل بالفصول.

البحث الثاني : في تقسيم الماهية (١)

الماهيّة إمّا أن تكون بسيطة ، وإمّا أن تكون مركّبة. وللبسيط تفسيران :

أحدهما : الذي لا تلتئم حقيقته من أمور.

والثاني : الذي تتساوى أجزاؤه في الاسم والحدّ.

والمراد هنا الأوّل.

والمركّب هو الذي تلتئم حقيقته من عدة أمور. والحسّ دلّ على وجوده.

ولا بدّ من وجود البسيط ، وإلّا لزم تركّب كلّ ماهيّة من أمور غير متناهية كلّ واحد من تلك الأمور مركّب من أمور غير متناهية. وهكذا إلى ما لا يتناهى ، وهو غير معقول ، لاستلزامه وجود الكثرة من دون الوحدات.

والضرورة قاضية ، بأنّ كلّ كثرة سواء كانت متناهية أو غير متناهية ، فإنّ الواحد فيها(٢) موجود ، لأنّه جزء ، ولا وجود للكلّ بدون جزئه ، ثمّ ذلك الواحد إن كان مركّبا لم يكن واحدا ، هذا خلف ، وإلّا فالمطلوب.

قال أفضل المتأخّرين : مجموع أجزاء الماهيّة نفسها ، وإلّا لكان إمّا داخلا فيها ، وهو محال (٣) ، وإلّا لكان هناك جزء آخر ، فلم يكن ما فرضناه مجموع

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية : ١ : ١٤٢ ؛ لمواقف : ٦١.

(٢) ق وج : «منها».

(٣) ق : «إمّا داخلا فيها وهو محال» ساقطة.

١٦٦

الأجزاء ، هذا خلف ، أو خارجا عنها ، فتكون الأجزاء عوارض ، وهو محال.

وليس بجيد ، لأنّ هنا قسما آخر وهو أن يكون مجموع الداخل ، لأنّ كلامه يشعر بأنّه أراد بالداخل بعض الأجزاء.

وقيل : لو كان مجموع الأجزاء نفس الماهيّة ، لم تكن للمركّب علّة تامة ، لأنّها ليست مجموع الأجزاء ، لأنّ التقدير أنّها نفسه (١) ، ولا بعضها ، لافتقاره إلى الآخر (٢) ولا الخارج ، لافتقاره إلى الأجزاء. ولا إلى (٣) جميع الأجزاء والخارج ، وإلّا لكان نفس الماهيّة جزء علّتها. ولا بعض الأجزاء والخارج ، لافتقاره إلى البعض الآخر ، وهذا الإيراد من فوائد «المولى الأعظم الوزير خواجه رشيد الملّة والدين» وهو لازم لا جواب عنه إلّا المعارضة.

وهذه الآحاد إنّما تتركّب منها الماهيّة لو كان بعضها محتاجا إلى البعض الآخر ، إذ لو كان كلّ واحد منها (٤) غنيّا عن صاحبه لم تتركّب منها حقيقة واحدة ، وكان بمنزلة جلوس الإنسان على الحجر ، فإنّه لمّا انتفت الحاجة بينهما ، امتنع تركّب حقيقة منهما. والمعجون وإن استغنى كلّ واحد من أجزائه عن البواقي ، لكنّ الصورة الحاصلة من تركيب تلك الأجزاء الماديّة محتاجة إليها ، وتلك الصورة المعجونية جزء من المعجون ، وكذا الصورة (٥) العددية ، كالعشرية المحتاجة إلى آحادها ، والصناعية كذلك ، كالحائط المستغني كلّ واحد من أجزائه المادّية عن الآخر ، واحتياج صورته إليها ، ولا يمكن احتياج كلّ واحد منها إلى الآخر من الجهة الواحدة ، وإلّا لزم الدور ، بل إن احتاج كلّ منهما إلى الآخر فمن جهتين

__________________

(١) ق : بزيادة جملة «لأنّ التقدير أنّها ليست مجموع الأجزاء» قبل «لأن التقدير أنّها نفسه».

(٢) كذا في المخطوطة.

(٣) م : «إلى» ساقطة.

(٤) ق : «منها» ساقطة.

(٥) م : «الصور».

١٦٧

متغايرتين ، كالمادة والصورة.

قيل : إنّه لا يكفي احتياج بعض الأجزاء إلى ما يحتاج إليه الآخر وإن استغنى عن الآخر ، وإلّا لتمت الحقيقة بالمحتاج والمحتاج إليه ، دون الآخر ، فلا يكون الآخر جزءا ، بل ما احتاج إليه الآخر ، مثلا الحيوان غير متقوّم بالضاحك ، وإن احتاج إلى ما يحتاج إليه الضاحك وهو الناطق. والملازمة ممنوعة.

البحث الثالث : في أنّ البسائط هل هي مجعولة أم لا؟ (١)

اختلف الناس في ذلك ، بعد اتفاقهم على أنّ وجود الممكن البسيط إنّما يحصل بالفاعل ، فليس النزاع في أنّ وجود البسيط هل يحصل بالفاعل أم لا ، بل في ماهيته ، مثلا : هل السواد سواد بالفاعل أم لا؟.

فذهب أكثر الأوائل وقدماء المعتزلة إلى أنّها غير مجعولة.

وذهب آخرون ، خصوصا من جعل الوجود نفس الماهية ، إلى أنّها مجعولة (٢).

احتجّ الأوّلون بوجوه :

الأوّل : علّة الحاجة إلى المؤثر إنّما هي الإمكان ، وهو أمر إضافي لا يعقل تحقّقه بالنسبة إلى شيء واحد ، لاحتياج الإضافة إلى مضافين ، إذ من خاصّيتها (٣) التعاكس. وإذا لم يعقل عروض الإمكان للواحد إلّا باعتبار حصول شيء آخر له كوجود أو عدم ، استحالت الحاجة عليه لانتفاء علّتها (٤).

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ١٤٣ ـ ١٤٤ ؛ لمواقف : ٦٢ ـ ٦٣ وقد قال فيه : «إنّ هذه المسألة من المداحض».

(٢) راجع كشف المراد : ٨٩.

(٣) م : «خاصتها».

(٤) م : «علّته».

١٦٨

الثاني : تأثير الشيء في غيره إنّما يكون بعد احتياجه إلى ذلك الشيء ، واحتياجه إلى ذلك (١) الشيء نعت من نعوته ، والنعت متأخّر عن المنعوت ، فإذن حقيقته مقدّمة على تأثير الشيء فيه ، فيستحيل أن يكون للشيء فيه تأثير.

الثالث : لو تعلّقت سوادية السواد بغيره ، لم يكن السواد سوادا عند فرض عدم ذلك الغير ، وهو محال ؛ لأنّ السواد سواد لذاته سواء تحقّق غيره أو لا.

وفي الأوّل نظر ؛ لأنّ الماهيّة وجعل الفاعل لها أمران متغايران ، فصحّ عروض الإمكان بالنسبة إليهما.

وفي الثاني : لأنّ الاحتياج وصف اعتباري ، وإن كان منسوبا إلى الماهيّة ، لكنّ ذلك لا يقتضي كونه وجوديا ، لأنّه منسوب إليها حال كونها ذهنيّة بالحاجة (٢) عند كونها خارجية.

وفي الثالث : لأنّه المتنازع ، فإنّ من يجعل السواد سوادا بالفاعل ، يعترف برفع حقيقة السواد عند ارتفاع الفاعل ، لا بأن يثبت السواد ويرتفع عنه كونه سوادا ، بل بأن لا تبقى له حقيقة البتّة.

احتجّ الآخرون : بأنّه لو انتفت مجعولية البسيط انتفت المجعولية مطلقا ، لأنّ الماهية إذا لم تكن مجعولة ، لم يكن الوجود أيضا مجعولا ، بعين ما تقدّم من الأدلّة ، فلا تكون الماهيّة الموجودة مجعولة ، فلا يستند الممكن الموجود إلى المؤثر ، فلا يكون ممكنا بل واجبا ، هذا خلف.

لا يقال : المستند إلى الفاعل هو موصوفية الماهيّة بالوجود ، وهو أمر مغاير للماهيّة والوجود.

لأنّا نقول : أوّلا : الموصوفيّة ليست ثبوتيّة وإلّا لزم التسلسل ، لاستحالة

__________________

(١) ج : «ذلك» ساقطة.

(٢) كذا في النسخ ، ويبدو أنّ الصحيح : «بلا حاجة» أو «فلا حاجة».

١٦٩

قيامها بذاتها ، فإنّه لا يعقل لها تأصّل في الوجود واستغناء (١) عن القيام بالغير ، وإذا كانت صفة للغير كان اتّصاف الغير بها أمرا زائدا عليهما فكان (٢) للموصوفيّة موصوفية أخرى ويتسلسل. وإذا لم تكن ثبوتية استحال اسنادها إلى المؤثر.

وثانيا : أنّ البحث في الموصوفية كالبحث في الماهيّة ، بأن نقول : لو كانت الموصوفية بالفاعل لزم ارتفاعها بارتفاع الفاعل ، لكن خروج الموصوفيّة عن كونها موصوفيّة محال ، كاستحالة خروج السواد عن كونه سوادا.

وثالثا : أنّ موصوفية الماهيّة بالوجود إن كانت نفس الوجود عاد الإشكال ، وإن كانت مغايرة له ، فإن لم تكن ثبوتيّة استحال اسنادها إلى الفاعل ، وإن كانت ثبوتيّة ، فإن كانت بسيطة عاد الإشكال ، وإن كانت مركّبة ، كان الكلام في بسائطها وتركّبها ، كالكلام في الماهيّة والوجود وانتساب أحدهما [إلى] (٣) الآخر.

واعترض أفضل المحقّقين (٤) : بأنّ تأثير المؤثر ، في جعل الماهية موصوفة بالوجود ، كما هو رأي القائلين بشيئية المعدوم ، ولا يتعلق ذلك بموصوفيّة الماهيّة بالوجود ، لأنّ ذلك أمر إضافي يحصل بعد اتّصافها به. والمراد من تأثير المؤثّر هو ضم الماهيّة إلى الوجود ، ولا يلزم من ذلك محال (٥).

وفيه نظر ، لعود البحث في الضم وجعل الماهيّة موصوفة بالوجود ، وغير ذلك من العبارات ، فإنّ المستند إلى الفاعل كيفما كان إمّا بسيط أو مركّب (٦).

__________________

(١) م : «استغناها». ق : «استغنائها».

(٢) م : «وكان».

(٣) م وج : «بالآخر» ، ق : «في الآخر».

(٤) وهو المحقّق الطوسي «رحمه‌الله».

(٥) نقد المحصل : ١١٨.

(٦) وقد استوفى القوشجي البحث في هذا الموضوع ، فراجع شرحه على تجريد الاعتقاد : ٩٩ ـ ١٠٢.

١٧٠

البحث الرابع : في الفرق بين الجزء وغيره (١)

للجزء خواص ثلاثة : إضافيتان وحقيقية هي : (٢) تقدّمه (٣) في الوجودين والعدمين ، لأنّ الماهية معلولة للأجزاء ، والعلّة متقدّمة على المعلول ، وعدم العلّة متقدّم أيضا على عدم المعلول ، لكونه علّة له. فالعشرة إنّما توجد إذا وجدت آحادها بأجمعها ، وعدم أيّ واحد كان منها علّة في عدمها (٤) فكلّ واحد من الأجزاء علّة ناقصة في تحقّق العشرية ، وعدم كلّ واحد علّة تامّة في عدمها.

والفرق ، أنّ الوجود لمّا توقّف على تحقّق جميع الأجزاء توقّف المعلول على علّته ، وكان عدم العلّة الناقصة ، علّة تامة في عدم المعلول ، لزم توقّف الوجود على الجميع والعدم على عدم أيّ واحد كان. ولمّا وجب التطابق بين الصورة العقليّة والخارجية ـ وإلّا لم تكن الصورة المعقولة (٥) صورة للخارجية ـ وكانت الأجزاء لذاتها متقدّمة في الوجود الخارجي على الماهيّة ، وجب أن يكون في العقل أيضا كذلك ، فإنّه يستحيل تعقّل الماهيّة مفصّلة ، إلّا بعد تعقّل جميع أجزائها ، إذ لو عقلت الحقيقة مفصّلة بدون جزئها لم يكن ذلك جزءا (٦) لها ، بل وصفا خارجيا عنها.

والحاصل : أنّ الماهيّة ليست إلّا مجموع تلك الأجزاء ، وحصول المجموع

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ١٤٤ ـ ١٤٦ ؛ كشف المراد : ٩٠.

(٢) أي الخاصة الحقيقية.

(٣) ق : «متقدمة» ، والصواب ما أثبتناه من : م.

(٤) م : «عدم كل واحد منها علّة في عدمها».

(٥) ق : «المعلومة».

(٦) م : «الجزء».

١٧١

متأخّر عن حصول الأجزاء ، ولمّا كان التقدّم من لوازم الجزء لذاته ، وتعقّل الملزوم يستلزم تعقّل اللازم القريب ، وجب أن يتصوّر الذهن تقدم الجزء ، فتصوّره متقدّم ، وتقدمه متصوّر.(١) أمّا لو عقلنا الماهيّة غير مفصّلة ، بل بحسب عوارضها ، لم يجب تصوّر الجزء معها ولا تقدّم تصوّره ، لأنّ ذلك في الحقيقة ليس تصوّرا لتلك الماهيّة بل لعارضها. فالأجزاء لكونها متقدمة في الوجود الذهني ، يلزمها كونها بيّنة الثبوت للماهيّة ، أي لا تفتقر إلى وسط بينها وبين الماهيّة ، ولكونها متقدّمة في الخارج تستغني عن السبب الجديد ، لأنّ تحقق الماهيّة إذا تأخر عن تلك المفردات ، فمتى تحققت الحقيقة فقد كانت تلك المفردات متحققة أوّلا ، وحينئذ لا يجوز استنادها إلى سبب آخر جديد ، لاستحالة تحصيل الحاصل. وكذا في الذهن ، لما تأخر حصول الحقيقة فيه عن تصوّر المفردات ، استغنى عن السبب الجديد أيضا ، وهذا الاستغناء الثاني (٢) هو المراد بالتبيّن. وخاصيّة (٣) التقدّم أخص من الخاصية التي هي الاستغناء عن السبب ، لأنّ الأولى هو الحصول المتقدّم ، والثانية هي مطلق الحصول. فلهذا قالوا : «لا يلزم من كون الوصف بيّن الثبوت للشيء وكونه غنيا عن السبب كونه ذاتيا».

لا يقال : لو اقتضى عدم الجزء عدم الكلّ ، لزم اجتماع العلل الكثيرة على المعلول الشخصي ، أو الترجيح من غير مرجح ، والتالي باطل بما يأتي ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّه لو عدمت الأجزاء دفعة ، فإمّا أن يستند عدم الماهيّة إلى

__________________

(١) والعبارة مشوشة في المخطوطات ، فرتّبناها بأخذ الصواب من النسختين ، والمراد ، أنّه كما يجب تصوّر تقدّمه يجب تقدّم تصوّره أيضا.

(٢) أي الاستغناء في الذهن عن المحصّل الجديد هو المراد بكونها بيّنة الثبوت.

(٣) ق : «خاصته».

١٧٢

عدم كلّ جزء ويلزم الأوّل ، أو إلى أحدها وهو ترجيح من غير مرجح.

وأيضا ، لو كان كذلك لزم إمّا تحصيل الحاصل ، أو تخلف المعلول عن علّته التامة ، والتالي بقسميه باطل ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّه لو عدم جزء ، ثم عدم بعده آخر ، فالعدم الثاني إن اقتضى عدم الماهيّة ، وقد كان حاصلا بالعدم (١) الأوّل لزم الأوّل ، وإن لم يقتض ، مع أنّه علّة تامة لزم الثاني.

لأنّا نجيب عن «أ» من وجوه :

الأوّل : عدم الماهيّة يستند إلى أسبق (٢) الأجزاء عدما (٣) ، ولا يلزم تعدد العلل.

الثاني : عدم الماهيّة يستند إلى عدم أي جزء اتفق ، أي عدم أحد الأجزاء لا بعينه ، فإذن عدم المعيّن اقتضى عدم المركب لا من حيث إنّه معيّن ، بل من حيث اشتماله على أحد الأجزاء مطلقا (٤).

الثالث : لا نسلّم أنّ المعلول هنا شخصي ، حتى يستحيل تعدد علله.

وبيانه : أنّ العدم غير متشخص في نفسه ، ولا متميز عن غيره ، وإنّما يتمايز أفراده باعتبار ملكاته تمايزا غير حقيقي ، بل باعتبار إضافته إلى ملكته. ثمّ عدم الماهيّة بعدم جزء من أجزائها ، مغاير لعدمها بعدم جزء آخر مغاير له ، أو بعدم جزءين ، أو بعدم جميع الأجزاء.

وعن ب : بأنّا نختار القسم الثاني ، ونمنع كون الثاني علّة تامّة لعدم الماهيّة ، لأنّه إنّما تكون علّة تامة لو كان جزءا للكلّ ونمنع كونه جزءا للكلّ بعد عدم

__________________

(١) ق : «في العدم».

(٢) ق : «سبق».

(٣) م : «عدمها».

(٤) هكذا العبارة في المخطوطات.

١٧٣

الأوّل ، إذ بعدم الأوّل يعدم الكلّ ، والجزء مضاف إلى الكلّ وإذا عدم أحد المضافين عدمت الإضافة ، فيلزم عدم الجزئية عن الثاني ، فتنتفي الخاصّية عنه.

أو نقول : لم لا يجوز أن يكون علّة لا مطلقا؟ بل بشرط وجود الأوّل ، فإذا انتفى الأوّل انتفى شرط عليّة (١) العدم الثاني.

أو نقول : لم لا يجوز أن يكون عدم الأوّل مانعا للثاني عن تأثير عدمه في عدم الماهيّة؟ فهذا تحقيق الخاصّة المطلقة للجزء.

وأمّا الإضافيّتان : فإحداهما : أنّه لا يعلّل بعلّة مغايرة لعلّة الكلّ ، فإنّ السواد هو لون لذاته لا لشيء آخر يجعله لونا ، فإنّ ما جعله سوادا جعله لونا.

والثانية : أنّ الجزء يمتنع رفعه عمّا هو ذاتي له وجودا وتوهّما.

وإنّما كانتا إضافيّتين لمشاركة بعض اللوازم العرضيّة فيهما ، فإنّ الاثنين لا يحتاج في اتّصافه بالزوجيّة إلى علّة غير ذاته. ولا يمكن رفع الزوجيّة عنه وجودا وتوهما ، إلّا أنّ الجزء يلحق المركّب قبل ذاته ، فإنّه من علل ماهيّته ، والعرضي اللازم يلحقه بعد ذاته ، فإنّه من معلولاته. وأمّا غير الجزء ، فإنّه لا يوجد له صفة التقدم في الوجودين والعدمين سواء كان لازما أو لا.

البحث الخامس : في الفرق بين التركيب الذهني والخارجي (٢)

أجزاء الماهيّة إمّا أن تكون محمولة عليها حمل المواطاة أو لا.

والأوّل ، إنّما تكون أجزاء في الذهن لا غير ، كتركّب السواد من جنسه الذي

__________________

(١) م وق : «علّة» والصحيح ما أثبتناه من ج.

(٢) راجع المباحث المشرقية ١ : ٥٦ ـ ٥٨ ؛ كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٩١ ، وقد تعمّق اللاهيجي في هذه المباحث وذكرها مفصلا في شوارق الإلهام : ١٥٩ ـ ١٦٤ ، وشرحه على «أحكام أجزاء الماهية».

١٧٤

هو اللون ومن فصله الذي هو قابضيّة البصر ، فإنّ السواد لمّا شارك البياض في اللونيّة وامتاز عنها بالقابضيّة ، جزم العقل بالفرق بينهما ، لقضاء الضرورة بأنّ جهة الاشتراك مغايرة لجهة الامتياز. وإنّما كان هذا التركيب ذهنيا (١) لامتناع وجود لونية مطلقة في الخارج ، وقابضيّة تنضم إليها تحصل منهما هيئة السواد ، لأنّهما إمّا محسوستان أو لا.

فإن كانتا محسوستين ، فإن ماثلا السواد امتنع تقوّمه (٢) بهما. وإن خالفاه كان لونا مخصوصا مخالفا للسواد في خصوصيته ، فيكون نوعا آخر من اللون المطلق ، ولا يكون هو اللونيّة المطلقة ، لأنّ اللونيّة المطلقة إذا كانت محسوسة فإذا انضافت القابضيّة (٣) إليها ، فإمّا أن تحدث هيئة أخرى مخصوصة أو لا. فإن لم تحدث كان المحسوس هو اللونية المطلقة و (وطبيعة الجنس هي) (٤) طبيعة النوع ، وإن حدثت هناك هيئة أخرى ، لم يكن إحساسنا بالسواد إحساسا بهيئة واحدة ، بل بهيئتين ، وهو محال.

وإن لم تكونا محسوستين فعند اجتماعهما إمّا أن تحدث هيئة محسوسة أو لا. فإن لم تحدث لم يكن السواد محسوسا. وإن حدثت هيئة محسوسة ، فتلك الهيئة المحسوسة معلولة لاجتماع اللونية والقابضيّة وهي خارجة عنهما مغايرة لهما. ولا نعني بالسواد إلّا نفس تلك الماهيّة المحسوسة ، فتكون اللونيّة والقابضيّة خارجتين لا مقومتين ، فثبت امتناع تميّز أحد جزئي السواد عن صاحبه ، بل ذلك التميّز إنّما يكون في الذهن وفي نفس الأمر ، إذ لو لا تميّز الجنس عن الفصل في نفس الأمر

__________________

(١) قال القوشجي في شرحه على تجريد الاعتقاد للطوسي ص ١٠٥ : «قد تحيّرت أفهام العلماء في كيفية تركّب الماهية من الأجزاء المحمولة».

(٢) ق وج : «ثبوته».

(٣) في النسخ : «القابلية». أصلحناها طبقا للسياق.

(٤) ق وم : ما بين الهلالين ساقط.

١٧٥

وتغايرهما ، لكان الذهن قد حكم بالتركيب فيما لا تركيب فيه ، وهو جهل.

فاللونيّة والقابضيّة متغايران في الحقيقة والوجود الذهني لا في الوجود الخارجي ، فكلّ واحد منهما لا يتميّز عن الآخر في الخارج ، بخلاف التركيب الخارجي ، فإنّ كلّ واحد من أجزائه موجود متميّز بنفسه عن صاحبه لا يبطل ببطلانه.

لا يقال : الفصل علّة الجنس ، فله تقدم واستقلال حين يفيد الوجود لغيره.

لأنّا نقول : هذا أمر يعتبره العقل لا في الخارج.

لا يقال : ما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، لأنّ الذي به الاشتراك هو اللونية ، والذي به الامتياز هو القابضيّة ، ومفهوم أحدهما غير مفهوم الآخر ، فلا يتقدّم أحدهما على الآخر في الوجود (١) ، لأنّه إمّا أن لا (٢) يكون كلّ واحدة من الماهيتين غنيّة عن الأخرى فيدور. أو يكون أحدهما محتاجا ، فيكون المشترك متقدما حتّى يلحقه التميّز ، فيستدعي وجودا متقدّما ووجودا لاحقا.

لأنّا نقول : التقدّم ليس بالوجود ، فإنّ أجزاء الماهيّة متقدمة على الماهيّة لا بالوجود.

لا يقال : إذا حملنا الحيوان على الإنسان ، فإن أردنا اتّحادهما في المفهوم ، لزم الكذب ، وانتفت فائدة الحمل ، ورجع إلى صدق الألفاظ المترادفة بعضها على بعض. وإن أردنا اتّصاف ماهيّة الإنسان بالحيوان ، لزم الكذب ؛ لأنّ الحيوان لمّا كان مقوّما امتنع أن يكون صفة ، لتقدّم الجزء وتأخّر الصفة.

لأنّا نقول : معنى «الإنسان هو الحيوان» أنّ الحيوان والإنسان وإن تغايرا في

__________________

(١) في المباحث المشرقية : «فوجب أن يكون لأحدهما تقدم على الآخر في الوجود».

(٢) ق : «لا» ساقطة.

١٧٦

الماهيّة ، لكنّهما متّحدان في الوجود ، أمّا التغاير فظاهر ، وأمّا الاتّحاد فلأنّه لا وجود لحيوان مطلق ما لم يتقيّد بقيد سلبيّ أو وجودي ، كالناطق واللاناطق ، وإذا استحال عروض الوجود إلّا للمركّب ثبت الاتّحاد في الخارج.

قيل : لا يجوز عروض الوجود الواحد لماهيّتين وإلّا لجاز قيام العرض الواحد بمحلّين وحصول الجسم في مكانين ، مع أنّ القيد السلبي لا يجوز أن يكون جزءا من ماهية القابل للوصف الوجودي ، فيستحيل أن يقبل الحيوان اللاناطق الوجود.

والتحقيق : أنّ معنى الحمل : الصدق ، والامتناع في صدق الجزء على الكلّ لا من حيث إنّه جزء ، بل معروض الجزئية.

البحث السادس : في التشخّص (١)

كلّ ماهيّة معقولة ، فإنّ نفس تصوّرها لا يمنع من حملها على كثيرين. ومن ادّعى حملها على كثيرين موجودين طولب بالبرهان من غير تناقض. ومن ادّعى حصرها في شخص واحد لم تكن دعواه ضروريّة ، بل يطالب بالبرهان.

وأمّا الشخص المعيّن ، فإنّ نفس تصوّره يمنع من وقوع الشركة فيه. ولا يحتاج في العلم بفساد من ادّعى صدقه على كثيرين ، ولا في العلم بصحّة من ادّعى حصره ، إلى برهان. فبالضرورة قد انضم إلى الحقيقة من حيث هي هي أمرا زائدا (٢) عليها ، فماهية الشخص هي ماهيّة النوع منضمّا إليها شيء آخر.

بقي هنا بيان أنّ ذلك المنضم الذي حصل به التعيّن والتشخّص

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية : ١ : ١٦٤ وما بعدها. ثمّ انظر البحث والأدلّة من الطرفين في شرح القوشجي على تجريد الاعتقاد للطوسي : ١١٩ وما بعدها ؛ شوارق الإلهام : ١٨١ (في تشخص الماهية).

(٢) كذا منصوبان.

١٧٧

أمر ثبوتي (١) ، فنقول : اختلف الناس في ذلك ، فذهب الأوائل إليه ، وأنكره المتكلّمون.

احتج الأوائل بوجهين (٢) :

أ : تعيّن الشيء وخصوصيته نفس هويّته ، والشخص من حيث هو هو ثابت ، والهويّة جزء منه وجزء الثابت ثابت فالتعيّن ثابت.

ب : لو كان التعيّن عدميّا ، فإمّا أن يكون عبارة عن اللالاتعيّن (٣) مطلقا أو عن لا تعيّن غيره ، والأوّل محال ، لأنّ اللاتعيّن مطلقا عدميّ ، فعدمه عدم العدم فيكون ثبوتيا. والثاني ، إن كان تعيّن غيره عدميا كان هو ثبوتيا ، لكنّ تعيّنه كتعيّن غيره ، فتعيّن غيره أيضا ثابت ، وإن كان تعيّن غيره ثبوتيا كان هو ثابتا لأنّه كهو.

احتج المنكرون بوجوه :

الأوّل : لو كان التعيّن ثبوتيا زائدا على الماهية ، لكان له ماهيّة نوعيّة مقولة على أشخاص التعيّنات ، لاشتراك جميع التعيّنات في الماهيّة المسمّاة بالتعيّن ، وحينئذ يمتاز كلّ واحد منها عن صاحبه بخصوصيّة ، فتكون شخصيّة كلّ نوع زائدة على ماهيته ، فيلزم التسلسل ، وبهذا سقط قول من قال : التعيّن يتعيّن لذاته.

الثاني : اختصاص ذلك الزائد بذلك المتعيّن (٤) دون غيره ، إنّما يكون بعد

__________________

(١) قال في الأسفار : «إنّ تعيّن الشيء غير تشخصه ، إذ الأوّل أمر نسبيّ دون الثاني الخ».

(٢) راجع تعليقة صدر المتألهين على الشفاء : ٢٠٤.

(٣) وفي المباحث المشرقية ، وتعليقة صدر المتألهين على الشفاء : «عن عدم اللاتعين».

(٤) ق : «التعيّن».

١٧٨

امتياز ذلك المتعيّن عن غيره وإلّا لم يكن اختصاصه به أولى من اختصاصه بغيره ، أو اختصاص غيره به ، فيجب أن يكون اختصاص ذلك التعيّن (١) بذلك المتعيّن بعد تعيّنه ، فهو متعيّن قبل أن يكون متعينا ، هذا خلف.

الثالث : تشخّص الشخص الذي له ما يشاركه في نوعه إن كان أمرا زائدا ، فله علّة غير الماهية ، وإلّا انحصر نوعها في شخصها. وليست العلّة الفاعليّة ، لأنّ الفاعل ليس له إلّا الإيجاد ، وإيجاده له لا يقتضي أن يكون الحاصل هو ذلك بعينه ، ولا الصوريّة لتأخّر وجودها عن محلّها ، فلا تكون علّة لهويّته ولإيجاد الصورة في جميع أفراد النوع ، ولا الغائية لتأخّر وجودها عن وجود الشيء ، ولا القابليّة ، لأنّ الكلام في تعيّن ذلك القابل كالكلام في تعيّن ذلك الشيء ، فإن كان لتعيّنه دار ، وإن كان لتعيّن قابل آخر تسلسل. وإن كان لذاته ، فنوع كلّ قابل منحصر في شخصه ، وهو محال ، لاشتراك الأجسام في الجسميّة ، فإمّا أن لا يكون لها ما يقبلها ، فيلزم وجود أمور متّحدة في الحقيقة تشخّصت لا بسبب القابل ، وإن كان (٢) فتلك القوابل إن اشتركت في الماهيّة عاد الإلزام. وإن اختلفت كانت قوابل الأجزاء المفروضة في الجسميّة متمايزة بالفعل ، لكنّها غير متناهية ، فالقوابل المتمايزة بالفعل غير متناهية ، فالجسميّة الحالّة في كلّ واحد ، مغايرة للتي في غيره ، فالجسم مركّب من أجزاء غير متناهية (٣). ولا يمكن أن تكون ماهية كلّ من القابل والمقبول علّة لتعيّن الأخرى ، وإلّا لاستحال أن تحلّ في القابل الواحد إلّا حال واحد وهو محال (٤).

الرابع : لو كان التعيّن ثبوتيا لكان الموجود الواحد موجودين لا واحدا ،

__________________

(١) ق وج : «الغير».

(٢) أي كان لها ما يقبلها.

(٣) وهذا خلف.

(٤) وقد ذكر الإيجي وصدر المتألهين بعض الوجوه ، راجع المواقف : ٦٦ ـ ٦٧ ؛ والتعليقة على الشفاء : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

١٧٩

هذا خلف ، لأنّ الماهيّة التي انضاف إليها التعيّن إن كانت موجودة لزم كون الواحد اثنين. ولو سلّم إمكانه ، لكنّ الكلام في كلّ واحد منهما كالكلام في الآخر ، ويكون كلّ واحد منهما موجودا ، فكلّ شيء أشياء غير متناهية وهو محال. وبتقدير تسليمه فلا بدّ من الواحد ، لأنّ الكثرة إنّما تتحقق مع الواحد. وإن لم تكن الماهيّة موجودة ، كان التعيّن الموجود منضما إلى الماهيّة المعدومة وحالّا فيها ، وهو محال.

الخامس : لو كان التعيّن ثبوتيا استحال انضمامه إلى الماهيّة إلّا بعد وجودها ، لكن الماهيّة لا توجد إلّا بعد التعيّن ، فإن كان بهذا التعيّن لزم أن يكون الشيء (١) شرطا في نفسه وهو محال. وإن كان بغيره لزم تعدّد التعيّنات ، فكان الشيء الواحد متعينا مرّتين ، وهو محال.

والجواب عن الأوّل :

أنّ التعيّن إن كان له مفهوم زائد وراء المفهوم من المتعينية (٢) ، اقتضى أن يكون مفهوم المتعينيّة مقارنا لمفهوم آخر. وإلّا فيكون التعيّن متعيّنا لذاته ، ويكون تعيّنه نفس تعيّن (٣) ذاته لا زائدا ، ولا يلزم التسلسل.

وفيه نظر ، فإنّ النزاع وقع في أنّ التعيّن هل هو زائد على الماهية أم لا؟ لا في أنّه زائد على المتعينية (٤) أم لا؟ والتسلسل لازم أيضا على التقدير الأوّل.

والتحقيق أن نقول : إمّا أن يكون النزاع في التعيّن أو فيما به التعيّن. والأوّل أمر اعتباري «هو كون الماهيّة بحيث يمنع نفس تصوّرها من وقوع الشركة». وأمّا الثاني ، فلا يلزم من زيادته اشتراكه مع غيره ، إلّا في وصف اعتباري ، وهو صدور

__________________

(١) م : «الشيء» ساقطة.

(٢) م : «التعينية».

(٣) في المباحث المشرقية «تعيّن» ساقطة.

(٤) م : «التعينية».

١٨٠