نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

وأمّا الثاني : فإنّ هذه الأعراض تستند إلى الفاعل المختار ، أو إلى المبدأ الفياض عندهم بشروط عدميّة ، أو إلى كيفية ثبوتية غير الحرارة.

وذهب جماعة من المتكلّمين لا مزيد تحصيل لهم ، من جملتهم سعيد بن زرارة إلى أنّه ليس في النار حرارة ، ولا في الزيتون زيت ، بل الحرارة تحدث فيها عند قربنا منها ، والزيت يحدث عند العصر. وربّما قالوا : بل تحدث الحرارة فينا نحن عند قربنا منها. وهذه جهالة ظاهرة. قال بشر بن المعتمر شعرا : (١)

يا سعيد بن زرارة وحمار ابن حمارة

ليس في الزيتون زيت ، ليس في النار حرارة

المسألة الثالثة : في تعديد أصناف الحار والبارد

الحار قد يقال على ما يحس بحرارته ، كالنار. وقد يقال على ما لا يكون كذلك ، بل يكون ظهور تلك الكيفية منه موقوفا على ملاقاته لبدن الحيوان ، كما يقال للغذاء والدواء إنّهما حارّان. وعليه يقاس البارد.

وللقسم الثاني منهما ـ وهو الذي لا نحس فيه بالحرارة والبرودة ، بل يكون ظهورهما موقوفا على ملاقاة البدن ـ علامات بعضها تجريبيّة وبعضها قياسية. وهو من وجوه : أضعفها اللون ، وتارة الطعم وأخرى الرائحة ، وتارة سرعة الانفعال وعسره ، فإنّ المتخلخل أسرع انفعالا عمّا يلاقيه من المتكاثف ، لضعف جرميّة المتخلخل وقوة جرميّة المتكاثف. فالأجسام إذا تساوت في القوام ثمّ تفاوتت في قبول الحرارة من فاعل واحد فالأقبل يكون في طبعه أسخن ، لأنّه لمّا تساوى نسبة الفاعل والقابل منهما ، لو لم يختص الأقبل بما يعاضد الخارجي ، لم يكن الأثر

__________________

(١) بشر بن المعتمر الهلالي البغدادي ، أبو سهل : فقيه معتزلي مناظر ، من أهل الكوفة ، تنسب إليه الطائفة «البشرية» منهم. له مصنفات في «الاعتزال» ومات ببغداد سنة ٢١٠ ه‍ (الزركلي ، الأعلام ٢ : ٥٥).

٤٨١

الحاصل فيه أقوى. وإن تفاوتت المنفعلات في القوام فالأقوى قواما إن انفعل أسرع ، ففيه ما يقتضي تلك الكيفية ، بل هو أولى من المساوي. وأمّا الأضعف فلا يدل سرعة انفعاله على شيء ؛ لاحتمال أن يكون ذلك لأجل ضعف قوامه.

وتارة بالاشتعال والجمود ، فإنّ المتماثلين في القوام إذا عرضا على فاعلين متساويين في القوة ، فالأسرع جمودا أبرد ، والأسرع اشتعالا أحر ، وإن اختلفا قواما فإن كان المتكاثف أشد اشتعالا فهو أسخن ؛ وإن كان المتخلخل (١) ، فلا دلالة لجواز استناد السخونة إلى رقة القوام.

المسألة الرابعة : في خواص الحرارة والبرودة

للحرارة خواص أربعة :

أوليها : من شأن الحرارة إفادة الميل المصعّد وبواسطته التحريك. ولمّا اختلفت المركبات في اللطافة والكثافة ، وكلّ ما كان ألطف كان أقبل للخفة من الحرارة ، فإنّ الهواء أسرع قبولا لذلك من الماء الذي هو أسرع فيه من الأرض ، لا جرم إذا عملت الحرارة في المركب بادر الأقبل منها للتصعيد قبل الأبطأ فيعرض تفرق المختلفات ، فتجتمع المتجانسات بمقتضى طبائعها ؛ لأنّ الجنسية علّة الضم (٢).

ثانيتها : تسويد الرطب وتبيض اليابس ، وإنّما تفعل الحرارة في الرطب سوادا ، لا صعادها للأجزاء المشفة (٣) وتحليلها للرطوبات ، فخلصت الأجزاء

__________________

(١) العبارة كذا في النسخ ، والظاهر أنّ فيها سقطا.

(٢) راجع المباحث المشرقية ١ : ٣٨٣.

(٣) المشف : جرم ليس له في ذاته لون ، ومن شأنه أن يرى بتوسّطه لون ما وراءه (رسالة الحدود لابن سينا : ٣٧).

٤٨٢

الكثيفة ، كما تفعل في الحطب والأشربة المحترقة ، وفي بشرة الإنسان إذا لاقتها الشمس كثيرا وتفعل في اليابس بياضا لتفريق أجزائها واخراج ما يقبل الإصعاد منها وتكثير سطوح الأجزاء الباقية منها القابلة لانعكاس النور من بعضها إلى بعض ، كما تفعل في الأملاح والأسباخ ، وفي الفحم أجزاء رمادية. وقد يظن أنّ بياض الجص منه لا من مداخلة الهواء ، وإلّا بلغ السحق والتصويل (١) بحجر الجص إلى ذلك البياض. والبرودة بالعكس منها.

ثالثتها : إفادة القوام كما في بياض البيض.

رابعتها : أنّها تحدث بالحركة ، للتجربة.

وأنكره أبو البركات ، لأنّ العناصر الثلاثة في وسط الأثير والأفلاك كالقطرة في البحر المحيط ، فلو كانت الحركة مسخّنة لأثّرت الحركات السريعة التي في الأفلاك مع الأثير في تسخين هذه العناصر الثلاثة ، حتى كان يصير الكل نارا (٢).

وهو ضعيف ؛ لأنّ الأجرام الفلكية وإن كانت متحركة لكنّها غير قابلة للسخونة ، والشيء كما يعتبر في حصوله الفاعل يعتبر فيه أيضا القابل ، فلا يلزم من حصول الحركة في الأجرام العلوية كونها متسخنة. وأيضا فإنّ مقعر الفلك ومحدب النار سطحان أملسان (٣) ، فلا يلزم من حركة أحد السطحين حركة الآخر ، فإذن أجرام الأفلاك غير متسخّنة حتى يلزم من سخونتها سخونة العناصر. ولا يلزم أيضا من حركاتها حركات هذه العناصر ، حتى يلزم من حركاتها سخونتها. فإذن لا يلزم من حركة الأفلاك مع عظمها وسرعتها ، سخونة هذه العناصر على صغرها.

__________________

(١) صوّله أي نقاه وأخرج ما فيه من تراب.

(٢) راجع شرح المواقف ٥ : ١٨٠.

(٣) الأملس : هو جرم سطحه ينقسم إلى أجزاء متساوية الوضع (رسالة الحدود لابن سينا : ٣٦).

٤٨٣

تذنيب : لا شك في مضادة الحرارة للبرودة ، ولهذا تضادت آثارهما. وهل يضادهما ثالث؟ فيه احتمال إن جوزنا كثرة الأضداد ، وإلّا فلا. وإنّما فعلت البرودة في الرطب بياضا ، لاجماد أجزائه وتكثيفه وتحصيل فرج خالية فيما بينها يملأها الهواء. وتتكثر سطوح أجزائه التي ينعكس النور من البعض إلى البعض ، كما تفعل في الثلج والصقيع والأجسام المتكرجة (١) التي قد حللت رطوباتها الحرارة ، ثمّ عقدتها البرودة ، لينحل (٢) عليها تكرجا أبيض. وتفعل في اليابس سوادا لتكثيفه وقبضه واخراج ما في خلله من الجسم المشف بالقسر ، كما تفعل في الأشجار والزروع إذا أصابها البرد الشديد ، فيقال لها أحرقها البرد. وتفعل في أعضاء الحيوان مثل ذلك. وكما تفعل في الأخلاط السوداوية في أبدان الحيوانات ، وفي الحماة تحت الطين ، فإنّ الغالب على طبيعتهما اليبس ، ولاستيلاء البرد عليهما يسودّان ، وكما في الأحجار السود في الجبال وغيرها.

المسألة الخامسة : في الحرارة الغريزية (٣)

اختلف الأوائل في الحرارة الغريزية ، فذهب بعضهم إلى أنّها مخالفة بالنوع للحرارة النارية. قال الشيخ في «القانون» : الحار الخارجي إذا حاول إبطال الاعتدال فإنّ الحار الغريزي أشد الأشياء مقاومة له ، حتى أنّ السموم الحارة لا تدفعها إلّا الحرارة الغريزية ، فإنّها آلة للطبيعة تدفع ضرر الحار الوارد بتحريك الروح إلى دفعه ، وتدفع ضرر البارد الوارد عليه بالمضادة. وليست هذه الخاصية للبرودة ، فإنّها إنّما تنازع وتعاوق الحار الوارد بالمضادة فقط ، ولا تنازع البارد الوارد.

__________________

(١) تكرّج أي فسد وعلته خضرة ، وتكرّج الطعام : إذا أصابه الكرج (تاج العروس ٦ : ١٧٢ ـ ١٧٣).

(٢) كذا في م ، وفي س : مشوشة.

(٣) الموجودة في أبدان الحيوانات التي هي آلة للطبيعة في أفعالها كالجذب والهضم وغير ذلك ، ولذلك نسب إليها «كدخدائية البدن». (شرح المواقف ٥ : ١٧٧).

٤٨٤

فالحرارة الغريزية هي التي تحمي الرطوبات الغريزية عن أن يستولي عليها الجفاف (١) ، ولهذا يقال : حرارة غريزية ، ولا يقال : برودة غريزية (٢).

وحكى في «حيوان الشفاء» (٣) عن المعلم الأوّل أنّه قال : الحرارة المنويّة التي بها تقبل علاقة النفس ليس من جنس الحار الاسطقسي (٤) الناري ، بل من جنس الحار الذي يفيض من الأجرام السماوية ، فإنّ المزاج المعتدل بوجه ما مناسب لجوهر السماء ؛ لأنّه منبعث عنه. وفرق بين الحار السماوي والحار الأسطقسي ، واعتبر ذلك بتأثير حرّ الشمس في أعين العشي (٥) دون حرّ النار ، وبسببها صار الروح جسما إلهيا نسبته من المني والأعضاء نسبة العقل من القوى النفسانية ، فالعقل أفضل المجردات والروح (٦) أفضل الأجسام.

وذهب آخرون (٧) إلى أنّها من جنس الحرارة النارية ، فالنار إذا خالطت العناصر ، وكانت تلك النار تفيد ذلك المركب طبخا واعتدالا وقواما ، ولم تبلغ في الكثرة إلى حيث تبطل قوامها وتحرقها ، ولم تكن في القلة بحيث تعجز عن الطبخ

__________________

(١) في المصدر : «الحرارة الغريبة».

(٢) وقال أيضا : «ولا ينسب إلى البرودة من كدخدائية البدن ما ينسب إلى الحرارة» (القانون في الطب ، لابن سينا ١ : ١١٨).

(٣) في الفصل الأوّل من المقالة السادسة عشرة ٣ : ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٤) الاسطقس : هو اجتماع الجسم الأوّل مع الأجسام التي تخالفه في النوع ، فيقال له إنّه اسطقس لها ؛ ولذلك قيل : إنّه أصغر أجزاء ما ينتهى إليه تحليل الأجسام ، فلا توجد فيه قسمة إلّا إلى أجزاء متشابهة. (رسالة الحدود لابن سينا : ١٩).

(٥) لفظ الأعشى وقع موقع الأجهر ، لأنّ الأعشى هو الذي يبصر نهارا ولا يبصر ليلا ، والأجهر بالعكس وسبب العشي بخار حاصل بسبب ما يكدر نور الباصرة ليلا ، وبالنهار يذوب بسبب حرارة الشمس فيبصر نهارا ، وسبب الجهر ضد ذلك ، فالأعشى لا يضرّه حرارة الشمس ، بل تنفعه ، وتضر الأجهر. (شرح المواقف ٥ : ١٧٨).

(٦) قال الطوسي : «الروح جسم مركّب من الأبخرة والأدخنة المرتفعة من الدم المحتبسة في الشرائر» ، (نقد المحصل : ٣٨٧).

(٧) منهم «جالينوس» وأتباعه من الأطباء كما في (شرح المواقف ٥ : ١٧٩) ، وإليه ذهب الرازي.

٤٨٥

الموجب للاعتدال ، فتلك هي الحرارة الغريزية. وإنّما تدفع الحرّ الغريب لما يحاول الحار الغريب التفريق وتلك الحرارة الغريزية أفادت من النضج والطبخ ما يعسر عنده على الحرارة الغريبة تفريق تلك الأجزاء ، فلهذا السبب تدفع الحرارة الغريزية الحرارة الغريبة ، فالتفاوت بين تلك الغريزية وتلك الغريبة ليس في الماهية ، بل في كونها جزءا من المركب ، والغريبة ليست كذلك. فلو توهّمت الحرارة الغريبة جزءا من المركب ، والغريزية خارجة عنه ، لكانت الغريزية عند ذلك تفعل فعل الغريبة ، والغريبة تفعل فعل الغريزية (١).

والمعتمد عندي الأوّل فإنّ الحرارة التي في النار غير ملائمة للحياة ، والتي في بدن الحيوان ملائمة لها. وهنا حرارة أخرى هي الفائضة عن الأجرام الفلكية. وتأثير الحرارة الشمسية في أعين العشي الإبصار دون حر النار ، فعلمت المباينة بين هذه الأنواع. ومن المعلوم أيضا أنّ الحرارة الغريزية تفتقر إلى البنية (٢) ولا يكفي فيها المحل الواحد ، بل لا بدّ فيها من مزاج مخصوص. والحرارة النارية لا تفتقر إلى شيء من ذلك (٣).

المسألة السادسة : في بقايا أحكامهما على رأي المتكلمين

وهي : أوّلا : أنّهما باقيتان ، للدليل العام على بقاء الأعراض. وربّما التجأ بعضهم في ذلك إلى الضرورة ، فإنّا نعلم قطعا أنّ برودة الماء وحرارة النار لا يتجددان حالا فحالا ، كما نعلم ذلك في الجسم المحسوس.

__________________

(١) المباحث المشرقية ١ : ٣٨٦ ـ ٣٨٧.

(٢) الكلمة مشوّشة في المخطوطة ، ولعل الصواب ما أثبتناه. وهي عبارة عن أجزاء حصلت فيها شرائط حلول الحياة (الحدود لأبي جعفر النيسابوري المقري : ٦٤).

(٣) انظر أصناف الحرارة واختلافها واتفاقها ومشابهة بعضها لبعض ومباينته في كتاب المعتبر لأبي البركات البغدادي ٢ : ١٩٨ ـ ٢٠٢.

٤٨٦

ثانيا : طريق إدراكهما لمس محلهما. وإذا قيل : إنّهما مدركان لمسا فالمراد ملامسة المحل؛ لأنّ اللمس لا يقع إلّا بين الجسمين. ويكفي في ادراكهما كلّ محل فيه حياة من غير حاجة إلى حاسّة مخصوصة ، وهو ممنوع. وسيأتي تتمة البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.

وإذا أدركناهما بمحل الحياة فإنّما ندركهما في غيره ، بخلاف الألم الذي يدرك بالحياة في محلّها ؛ لأنّ الواحد منّا إنّما يدرك حرارة بدنه بلمسه ببعض آخر.

ثالثا : ذهب أبو القاسم الكعبي إلى أنّ الحرارة والبرودة مقدورتان للعباد ، لأنّ الواحد منّا يحك خشبة بأخرى فتحصل حرارة.

وذهب آخرون إلى أنّ تلك الحرارة كامنة في الخشبة يظهر بالحك ، لا أنّها تحدث بالحك ، وإلّا لحصلت عند حك الجليد بالجليد. وهؤلاء منعوا من استحالة الماء إلى الحرارة ، أو الحار إلى البرودة ، وعلّلوا الحرارة والبرودة بمجاورة النار أو الهواء البارد. وسيأتي البحث معهم في إبطال الكمون إن شاء الله تعالى.

رابعا : قال أبو القاسم الكعبي : إنّ الهواء قد يصير نارا مما يفعله أحدنا في القدح من الحجر والحديد. ومنعه آخرون وقالوا : إنّ النار كانت كامنة فيهما ، إذ لو استند إلى القدح لم تختلف الأجسام في ذلك. وربّما علّلوا ذلك بأنّ الحجر يكتسب النارية من حرارة الشمس على طول الدهر ، وكذا الخشبة ، وهما باطلان.

خامسا : قال جماعة من المتكلّمين : إنّ النار إنّما تحرق لأجل ما يختص به من الاعتماد دون الحرارة ، لأنّ الحرارة لا جهة لها فكيف تولد في غير محلها؟! والإحراق يحصل في غير محل الحرارة. وأيضا الإحراق تفريق مخصوص ، وهو مقدور لنا ، فلو ولّدته الحرارة لقدرنا عليها ؛ لأنّ القادر على المسبب قادر على سببه.

٤٨٧

وقال جماعة من الأشاعرة : إنّ الإحراق لا يحصل من النار ، بل من الله تعالى ، ولا أثر للنار فيه ، بل نسبة النار إليه كنسبة الجمد إليه ، ونسبة البرد إلى الجمد كنسبته إلى النار.

وهذان القولان ضعيفان. والمعتمد استناده إلى قوة مودعة في النار حادثة بعناية الله تعالى ومقتضى حكمته.

سادسا : نقل عن الأوائل توقف إحراق النار لما يحرقه على هواء يتخلل بين النار وبين ما يحترق بها ، وتقف حركتها على الهواء ؛ لأنّ الثوب إذا وضع على جسم صقيل لم يحترق لعدم تخلل الهواء.

ومنعه المتكلّمون ، لأنّ المولد للتفريق هو الاعتماد ، سواء كان هناك هواء أو لا ، بل المانع هناك صقالة الجسم فإنّها تمنع من تخلل النار فيه. وأمّا امتناع اشتعال النار في البئر وامتناع اشتعال المصباح إذا وضع عليه ما يمنع الهواء ، فلأنّ كثافة هواء البئر تطفي السراج ، كما تطفي إذا ديس تحت الرجل ، وإذا وضع عليه حب وشبهه لم يجد منفذا فيتراجع.

٤٨٨

الباب الثاني

في الرطوبة واليبوسة

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في تعريفهما

قد عرفت في ما تقدم أنّ الأمور المحسوسة أرفع من أن تعرّف بحد أو رسم ؛ لأنّ كلّ ما يقال في تعريفها فهو أخفى منها. وتعريفاتها لا يمكن أن تشتمل إلّا على إضافات واعتبارات لازمة لها لا يدلّ شيء منها على ماهيّاتها بالحقيقة ، فهي لا تفيد في تعريفها ما يفيد الإحساس بها (١). نعم قد يحصل الاشتباه بينها وبين غيرها فنذكر بعض الخواص في إزالة ذلك الاشتباه. وقد وجدنا للرطوبة وصفين (٢) أحدهما : أنّها كيفية بها يكون الجسم سهل الالتصاق بالغير سهل الانفصال عنه. وثانيهما : أنّها كيفية بها يكون سهل التشكّل بشكل الحاوي الغريب سهل الترك له.

قال الشيخ في الشفاء : إنّ الجمهور يظنّون أنّ الجسم إنّما يكون رطبا إذا كان

__________________

(١) راجع : شرح الإشارات ٢ : ٢٤٣ ـ ٢٤٤.

(٢) في النسخ : «وصفان» ، أصلحناها طبقا للسياق.

٤٨٩

بحيث يلتصق بما يلامسه ، ويعتقدون أنّ الرطوبة حقيقتها هذا. وهو باطل ، لأنّ الجسم كلّما كان أرقّ كان أقل التصاقا بما يلامسه ، وكلّما كان أغلظ كان أشدّ ملازمة. فلو كان الالتصاق بالغير لأجل الرطوبة لكان الأرطب أشد التصاقا وهو باطل ، فإنّ الماء اللطيف الجيد إذا غمس فيه الإصبع كان ما يلزم الإصبع منه أقل ممّا يلزم من الماء الغليظ أو الدهن أو العسل ، فثبت أنّ الالتصاق لازم للكثافة والغلظة. ولما بطل هذا الاعتبار بقي للرطوبة واليبوسة الوصف الثاني ، وهو سهولة التشكّل بشكل غيره مع سهولة تركه له ، ولليابس عسر قبول الأشكال الغريبة وعسر تركه لها. فالرطوبة إذن هي «الكيفية التي بها يكون الجسم سهل التشكّل بشكل الحاوي الغريب ، وسهل الترك له». واليبوسة هي : «الكيفية التي يعسر بها قبول الشكل الغريب ، وبها يعسر تركه له» (١).

وقال في الحدود : الرطوبة «كيفية انفعالية تقبل الحصر والتشكّل الغريب بسهولة ، فلا يحفظ ذلك ، بل يرجع إلى شكل نفسه [ووضعه اللّذين بحسب حركة جرمه في الطبع]». واليبوسة «كيفية انفعالية عسرة القبول [للحصر و] للتشكل [الغريب ، عسرة الترك له والعود إلى شكله الطبيعي]» (٢). واعترض بوجهين (٣) :

الأوّل : جعل الرطوبة قابلة للتشكّل ، وهو محال ، فإنّ الرطوبة غير قابلة للتشكّل ، بل الجسم يقبل التشكّل بسببها.

__________________

(١) طبيعيات الشفاء ، الفصل التاسع من الفن الثالث. والرازي جعل هذا الرسم أولى ممّا قاله في رسالة الحدود ، ووافق الآمدي على هذا التعريف بإضافة قيد «الحصر» حيث قال : «الرطوبة : فما كان من الكيفيات بها يسهل قبول الجسم للانحصار والتشكل بشكل غيره ، وكذا تركه. وأمّا اليبوسة فمقابلة للرطوبة» المبين : ٩١ ـ ٩٢.

(٢) ما بين المعقوفتين في الموضعين مأخوذ من المصدر (رسالة الحدود : ٣٥ ـ ٣٦).

(٣) على تعريف الشيخ في الحدود ، والمعترض هو الرازي.

٤٩٠

الثاني : أنّه قال : «كيفية انفعالية قابلة للتشكّلات» ، وهو يدل على الانفعال ، فيجب حذفه ، فإذا حذف وحملنا قوله «قابلة للتشكّلات» على أنّها هي التي لأجلها يقبل الجسم التشكّلات ، صار هكذا : الرطوبة هي الكيفية التي لأجلها يقبل الجسم التشكّلات ، وهو ما ذكره في الشفاء.

وقيل لو فسّرت الرطوبة «بما من شأنه أن يسهل التصاقه بغيره وانفصاله عنه» ، كان أولى ، لاتفاق الجمهور على أنّ الرطب يفيد اليابس المختلط به استمساكا عن التشتت ، ولا يمكن ذلك إلّا بأن يلتصق بما يلامسه ، فإنّ الهواء لو اختلط بالتراب اليابس لم يفده استمساكا ، بل زيادة تشتت ، ولو فسّرنا اليبوسة «بالكيفية التي باعتبارها يعسر قبول الأشكال» ، لم يبق بينها وبين الصلابة فرق ، فكان يجب أن تكون النار صلبة يابسة ، وذلك باطل ، فإنّ النار ألطف العناصر وأكثرها رقة وأبعدها عن الكثافة ، وإذا كان كذلك فالنار أقبل العناصر للأشكال الغريبة بسهولة ، فكان يجب أن تكون النار أرطب العناصر ، وهو ممّا لا يقول به عاقل.

وقال بعضهم : إذا أوقدنا في تنوّر شهرا أو شهرين ، فإنّ الهواء الذي في داخل التنور ينقلب أكثره نارا ، فكان ينبغي أن يظهر من ذلك في الهواء ممانعة ، لأنّ النار يابسة ، واليابس ممانع ، ولكنّا إذا أدخلنا فيه جسما لم نجد فيه ممانعة أصلا ، بل ربّما صار ذلك الهواء عند استحالته نارا ألطف وأقبل للخرق ، فبطل ما قالوه.

وقول الشيخ : «لو كانت الرطوبة لأجل الالتصاق ، كان الأكثر التصاقا أشد رطوبة» ، إن عنى بكثرة الالتصاق سهولته ، فلا شك أنّ الشيء كلّما كان أرطب كان أسهل التصاقا بالغير ، ولكنّ العسل ليس أسهل التصاقا بغيره من الماء ، بل الماء أسهل. وأيضا العسل أعسر انفصالا ، وكلّ ما كان كذلك كان أعسر اتصالا ، فلا يلزم أن يكون العسل أرطب من الماء. وإن عنى بكثرة الالتصاق دوامه ، فنحن لا

٤٩١

نفسّر الرطوبة بدوام الالتصاق حتى يلزم أن يكون الأدوم التصاقا أرطب ، وكيف نقول ذلك والأدوم التصاقا لا بدّ وأن يكون أعسر التصاقا؟ وذلك ضدّ ما جعلناه تفسيرا للرطوبة ، وهو سهولة الالتصاق.

فالحاصل : أنّ المحال الذي ذكره إنّما يلزم لو فسرنا الرطوبة بدوام الالتصاق ، فأما إذا فسّرناها بسهولة الالتصاق لم يلزم ما قالوه (١).

لا يقال : لو كان الالتصاق معتبرا في حقيقة الرطوبة بأي اعتبار كان لزم أن يكون الأدوم التصاقا أرطب.

لأنّا نقول : لا نذهب إلى أنّ الرطوبة نفس الالتصاق ، وكيف والالتصاق من باب المضاف والرطوبة من باب الكيف؟! بل الرطوبة [هي] الكيفية التي باعتبارها يستعدّ الجسم للالتصاق بالغير ، وتلك الكيفية تلزمها لا محالة سهولة الانفصال المنافي لصعوبة الانفصال ، كما أنّهم لا يقولون : الرطوبة هي الشكل نفسه ، حتى يكون الأثبت شكلا ، وهو اليابس ، أرطب ، بل يقولون : الرطوبة سهولة قبول الشكل ، وكذا هنا. فإذن ما يكون عسر الانفصال يكون عسر الاتصال ، ونحن إذا جعلنا سهل الاتصال رطبا ، لا يلزمنا أن نجعل عسر الانفصال (٢) رطبا ، فثبت أنّ الرطوبة هي «الكيفية التي يستعد الجسم باعتبارها لسهولة الالتصاق بالغير وسهولة الانفصال عنه» (٣).

واعلم أنّ الجمهور يفسّرون الرطوبة بالبلّة ، ولهذا لا يطلقون الرطب على الهواء ، بل على الماء فتكون اليبوسة بهذا الاعتبار هي الجفاف (٤).

__________________

(١) كذا.

(٢) في المصدر «الاتصال».

(٣) المباحث المشرقية ١ : ٣٨٨ ـ ٣٩٠.

(٤) هذا من شرح الطوسي على الاشارات ، واعترض قطب الدين الرازي عليه بانّه خطأ في النقل وانه لا يطابق عبارة الشيخ في الفصل التاسع من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء (شرح الاشارات ٢ : ٢٤٦).

٤٩٢

وقال في الشفاء : البلّة هي «الرطوبة الغريبة الجارية على ظاهر الجسم» كما أنّ الانتفاع هي «الرطوبة الغريبة النافذة إلى باطنه» والجفاف «عدم البلّة في ما من شأنه أن يبتلّ». وأمّا اليبوسة فقد فسّرها الشيخ بأنّها «الكيفية التي بها يعسر قبول الأشكال الغريبة وتركها» (١) وهذا بالصلابة أولى.

فالواجب إذن أن نقول : نرى من الأجسام ما تتفرّق أجزاؤه وتنفرك (٢) بسهولة ، ومنها ما لا يكون كذلك. والثاني هو الصلب ، والأوّل على قسمين : منها ما تكون مركبة من أجزاء صغار لا يقوى الحس على إدراك كلّ واحد منها منفردا ، وكلّ واحد منها يكون صلبا ، ولا يكون سهل الانفراك ، ولكن البعض منها متصل بلحامات سهلة الانفراك ، ومنها ما يكون كلّ الجسم في طبيعة تلك اللحامات في سهولة الانفراك ، كالمدر الخالص الأرضية الترابي ، فالأوّل الهش والثاني اليابس ، فاليبوسة هي «الكيفية التي يكون الجسم معها سريع التفرّق عسر الاجتماع» (٣).

والوجه أنّ الكفية إن اقتضت سهولة الاتصال والانفصال فهي الرطوبة وإن اقتضت عسرهما فهي اليبوسة. وإن اقتضت سهولة الانفصال وعسر الاجتماع فهي الهشاشة والسلاسة (٤). وإن اقتضت عسر الانفصال وسهولة الاتصال فهي اللزوجة. فاللزوجة «كيفية تقتضي سهولة التشكّل مع عسر التفريق ، والشيء بها يمتد متصلا ، وتحدث من شدّة امتزاج الرطب الكثير باليابس القليل» (٥).

__________________

(١) نفس المصدر من الشفاء.

(٢) فركته عن الثوب : هو أن تحكه بيدك حتى يتفتت وينقشر (المصباح المنير ٢ : ١٤٥). وفرك الثوب والسنبل دلكه فانفرك. (القاموس ٣ : ٤٦٠).

(٣) هذا ما وجده الرازي في مباحث المترجم الشهير ثابت بن قرة (المباحث المشرقية ١ : ٣٩٠).

(٤) قال الطوسي : «والسلاسة والهشاشة اسمان لما يقابلهما» (شرح الاشارات ٢ : ٢٤٩). وقال الشيخ : «والهش الذي يخالفه [اللّزج] هو الذي يصعب تشكله ويسهل تفريقه ، وذلك لغلبة اليابس فيه وقلّة الرطب مع ضعف المزاج» (نفس المصدر من الشفاء).

(٥) نفس المصدر من الشفاء.

٤٩٣

المسألة الثانية : في إثبات الرطوبة واليبوسة

قيل (١) : إذا جعلنا الرطوبة «ما لأجله يسهل قبول الجسم للأشكال» فذلك كلام مجازي ؛ لأنّ السهل والصّعب من باب المضاف ، والرطوبة واليبوسة ليستا من المضاف.

وفيه نظر ، فإنّه لا استبعاد في صدور الإضافي عن غير المضاف نعم المحال تحديد غير المضاف بالأمر الإضافي ، فالاعتراض لازم لو قلنا الرطوبة سهولة قبول الأشكال (٢).

ثمّ قالوا : بل الرطب هو «الذي لا مانع له في طباعه عن قبول التشكّلات الغريبة ، وعن رفضها». واليابس هو «الذي في طباعه مانع يمنع من ذلك مع إمكانه» فيكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، لأنّ الرطوبة صارت مفسّرة بعدم المانع ، ويكون الإحساس بها ليس إلّا أن لا يرى مانع ولا معاوق ، وباليبوسة ما يرى مانع. فالرطوبة بانفرادها لا تدل على وجود الجسم ، واليبوسة تدل (٣).

ثمّ إنّ الرطوبة إمّا أن تكون قابلية الأشكال ، فلا تكون أمرا وجوديا ، لأنّ قابلية الشيء للشيء لو كانت زائدة لافتقرت إلى قابلية أخرى ، لأنّها تكون عرضا قائما بالذات. أو تكون علة القابلية وهو محال ؛ لأنّ الجسم قابل لكل الأشكال لذاته ـ ولذلك فإنّ القبول حاصل لليابس ـ ولمّا كانت قابلية الجسم للأشكال حكما ثبت له لذاته استحال أن يستدعي علّة زائدة ، فالرطوبة بهذا التفسير

__________________

(١) والقائل هو الرازي في المباحث المشرقية ١ : ٣٩١.

(٢) قال الطوسي : «وقد صرّح في الشفاء بأنّ الرطوبة ليست هي سهولة التشكّل لأنّها غير اضافية ، وسهولة التشكّل اضافية ، وأنّها إنّما يفسّر بها على ضرب من التجوّز» (شرح الاشارات ٢ : ٢٤٨).

وانظر عبارة الشيخ في الفصل الثالث عشر من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء.

(٣) طبيعيات الشفاء ، الفصل الثالث عشر من الفن الثالث.

٤٩٤

لا تكون وجودية.

وقيل (١) : لو كانت الرطوبة على تفسيرهم وجودية فالأشبه أنّها غير محسوسة ، لأنّ الهواء رطب بذلك المعنى ، فلو كانت محسوسة لكان يجب أن يكون الهواء المعتدل الذي لا حرّ فيه ولا برد ولا حركة له مدركا باللمس ، لرطوبته ، ولو كان كذلك لكان الهواء دائما محسوسا ، فلا يقع شك في أنّ الفضاء الذي بين السماء والأرض ملاء لا خلاء. ولمّا لم يكن كذلك عرفنا أنّ الرطوبة على تفسيرهم غير محسوسة. ولو عنينا بها الكيفية التي معها يكون الجسم سهل الالتصاق فهي محسوسة وجودية. وقد اختلف قول الشيخ ، ففي «القانون» أنّها غير محسوسة ، ولعلّه أراد بذلك سهولة قبول الأشكال. وفي كتاب «النفس» (٢) أنّها محسوسة ولعله أراد الرطوبة بمعنى سهولة الالتصاق (٣).

والتحقيق أن نقول : الرطوبة قد تطلق على البلّة ، وهي المعنى المتعارف عند الجمهور ، وقد تطلق على تقبل الانعطاف والميل بسهولة كالأغصان. وفيما ذكروه أوّلا نظر ، فإنّ جعل الرطوبة أمرا عدميا باطل ، لأنّ الحسّ يفرّق بينها وبين اليبوسة ، وعدم المنع من قبول الشك أمر مبدؤه الرطوبة لا نفس الرطوبة. والرطوبة إذا فسّرت بأمر عدمي افتقرت إلى محل وجودي يقوم به ؛ لأنّها حينئذ تكون عدم ملكة ، وأعدام الملكات يفتقر إلى محالّ ملكاتها. وقابلية الأشكال ليست نفس الرطوبة ، بل الرطوبة كيفية بها يقبل الجسم الأشكال بسهولة ، والقبول وإن كان لازما لطبيعة الجسم ، لكن كونه بسهولة ليس لذاته ، بل بواسطة الرطوبة.

__________________

(١) ذكره الشيخ في ضمن الشكوك في الفصل العاشر من نفس المصدر.

(٢) طبيعيات الشفاء ، الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفن السادس.

(٣) المباحث المشرقية ١ : ٣٩١ ـ ٣٩٢. وسبب الترجّي إشعار عبارة الشيخ بذلك.

٤٩٥

المسألة الثالثة : في سبب كون الحرارة والبرودة فعليّتين وكون الرطوبة واليبوسة انفعاليّتين

قيل الحرارة والبرودة قد يحصل بينهما تفاعل وتأثير وتأثّر ، كما يحصل بين الرطب واليابس ، فلما ذا كانت الحرارة والبرودة فعليتين ، والرطوبة واليبوسة منفعلتين (١)؟! أجيب: بأنّ السبب في ذلك أمور ستة (٢) :

السبب الأوّل : الأضداد لا يجب أن تكون كلّها متفاعلة ، فإنّ الخفة والثقل ضدان ولا يؤثر ثقل الثقيل في خفة الخفيف مع بقاء طبيعته ، بل تغيّر خفة الخفيف وثقل الثقيل تابع لتغيّر طبيعة كلّ منهما. وكذا الرطب إذا خالط اليابس بلّه ، ولم ينقل اليابس عن يبوسته إلى الرطوبة فإنّه لم يثبت ذلك بالبرهان ، وكذا اليابس إذا خالط الرطب نشّفه ، فأمّا أن ينقله عن الرطوبة إلى اليبوسة ، مع بقاء طبيعته ، فلم يثبت بالبرهان أيضا. أمّا الحرارة والبرودة فإنّ البرهان قائم على انقلاب الحار باردا وبالعكس من غير أن يخالط كلّ منهما صاحبه ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى في باب الكون والفساد.

السبب الثاني : الحار والبارد يفعلان في الرطب واليابس دون العكس ، فإنّ الحرّ يفيد الترقيق والرطوبة ، والبرودة تفيد التكثيف واليبس ، فالحرارة والبرودة كلّ واحدة منهما فاعلة في الأخرى ، وهما فاعلتان في الرطوبة واليبوسة. وأمّا الرطوبة واليبوسة فليس لواحدة منهما فعل في الأخرى ولا في الحرارة والبرودة ، فلهذا جعلت الحرارة والبرودة فاعلتين دون الرطوبة واليبوسة.

السبب الثالث : لو سلّمنا أنّ بين الرطوبة واليبوسة تفاعلا كما بين الحرارة

__________________

(١) طبيعيات الشفاء ، الفصل العاشر من الفن الثالث.

(٢) انظر الأجوبة في نفس المصدر ، والمباحث المشرقية ١ : ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

٤٩٦

والبرودة ، فإذا أردنا تعريف الحرارة لم نعرّفها بفعلها في ضدها ؛ لأنّا لا نعقل فعله في ضده إلّا بعد تعقل ضده ، وإنّما نعقل ضده بفعله فيه ، (١) فيلزم الدور ، بل المعرّف للحرارة لوازم فعلية ، وهي الصعود إلى الفوق ، والجمع بين المتشاكلات ، والتفريق بين المختلفات. وكذا البرودة بأفعال أخر تضاد تلك الأفعال ، وأمّا الرطوبة واليبوسة فإنّهما نعرّفهما بسهولة قبول الأشكال وعدمه ، وهي لوازم انفعالية. فلما عرّفنا الحرارة والبرودة باللوازم الفعلية ، والرطوبة واليبوسة باللوازم الانفعالية ، جعلنا الأوليين فعلية والأخريين انفعالية.

السبب الرابع : الكيفية لا تكون منفعلة البتة ، بل المنفعل إنّما هو الموضوع المستقل بنفسه ، والكيفية ليست كذلك ، بل الكيفية قد تكون علّة لصيرورة الموضوع مستعدا للانفعال ، وقد تكون علّة لصيرورته مستعدا نحو الفعل ، والرطوبة واليبوسة من قبيل الأوّل ، فسميتا بالانفعاليّتين ، والحرارة والبرودة من قبيل الثاني فسميتا بالفعليّتين.

السبب الخامس : إذا نسبنا الحرارة والبرودة إلى الرطوبة واليبوسة وجدناهما فاعلتين فيهما ، والرطوبة واليبوسة لا تفعلان فيهما إلّا بالعرض ، كالخنق (٢) المنسوب إلى الرطوبة ، وذلك إمّا بسبب أنّ الرطوبة تجمع الحار على شكل مضاد للطبيعة ، وإمّا لأنّ الأرطب (٣) الكثير لا ينفعل عن الحار ولا يستحيل إلى المادة الصالحة لحفظ الحرارة فلا يتولّد حار بعد حار ، فإذا انفصل الأوّل لم يعقبه الثاني ، كما يعرض عند كثرة دهن السّراج.

السبب السادس : اللمس يتأثر عن الحار والبارد ، ولا يتأثر عن الرطب واليابس إن قلنا إنّهما غير محسوستين.

__________________

(١) الضمائر كلّها كذا بالتذكير.

(٢) في النسخ : «الحقن» والصواب ما أثبتناه من المصدر.

(٣) كذا ، وفي المصدر «الرطب».

٤٩٧

المسألة الرابعة : في بقايا مباحث الرطوبة واليبوسة :

وهي ثلاثة :

الأوّل : قيل : الرطوبة جنس لرطوبة الماء ورطوبة الدهن ورطوبة الزيتون وغيرها ، فإنّ رطوبة الماء مخالفة لرطوبة الدهن ، وهي مخالفة لرطوبة غيرها. ولا دليل لهم على ذلك. وقيل إنّها نوع ، وزعم أنّ الاختلاف إنّما هو بسبب اختلاط اليابس والرطب. ولا دليل أيضا عليه.

الثاني : لا شك في التضاد بين الرطوبة واليبوسة ، فإنّ عدم اجتماعهما معلوم بالضرورة وبينهما غاية التباعد ، لأنّهما طرفان. وقيل لهما ضد ثالث. إن منعنا من تكثّر ضد الواحد لم يكن لهما ثالث ، وإن سوّغناه أمكن ، لكن لا دليل على ثبوته.

لا يقال : الخشونة ضد الرطوبة والملاسة ضد اليبوسة.

لأنّا نقول : سيأتي إن شاء الله تعالى أنّهما ليستا من باب الكيف الملموس.

الثالث : السيلان عبارة عن حركات توجد في أجسام متفاصلة في الحقيقة متواصلة في الحس لدفع بعضها بعضا كالتراب والرمل ، والوجه عدم اشتراط التفاصل فالسيلان غير الرطوبة وغير مشروط بها.

٤٩٨

الباب الثالث

في اللطافة والكثافة

واللزوجة والهشاشة والصلابة واللين

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في اللطافة والكثافة (١)

اللطافة يقال بالاشتراك على رقة القوام (٢) ، وهي سهولة قبول الأشكال الغريبة وتركها. وعلى قبول الانقسام إلى أجزاء صغيرة جدا (٣). وعلى سرعة التأثر من الملاقي (٤). وعلى الشفافية (٥). والكثافة يقال لمقابلات هذه.

قال الشيخ : التّخلخل (٦) يشبه اللطيف بالمعنى الأوّل ، إلّا أنّ التخلخل يستدعي معنى زائدا على الرقة ، وإن كان تابعا لها حتى تكون الرقة تدل عليه دلالة

__________________

(١) انظر البحث في طبيعيات الشفاء ، الفصل التاسع من الفن الثالث ، والمباحث المشرقية ١ : ٣٩٤ ـ ٣٩٦.

(٢) كما في الماء والهواء.

(٣) كما في القند.

(٤) كما في الورد.

(٥) كما في الفلك. والأمثلة مأخوذة من شرح المقاصد للتفتازاني ٢ : ٢٣٦.

(٦) عرّفه الآمدي بأنّه «عبارة عن زيادة حجم الجرم من غير زيادة في نفسه لورود خارج عنه. وامّا التكاثف ففي مقابلته» المبين : ٩٤.

٤٩٩

الملزوم ، والتخلخل يدل عليه دلالة التضمن ، فإنّه يفيد الرقة مع الزيادة في الكم ، حتى لو لم يوجد ذلك كان الأولى بالمعنى اسم اللطافة والرقة.

وفيه نظر ، فإنّ مفهوم التخلخل الحقيقي ليس إلّا «خلع المادة مقدارا ولبسها مقدارا أكبر» وذلك غير مختص في المفهوم بالرقيق وإن كان في الوجود مختصا به في الأكثر.

ويقال التخلخل ، ويراد به تباعد أجزاء الجسم بعضها عن بعض على فرج يشغلها ما هو ألطف منها ، وليس مرادا هنا.

ثمّ إنّ اللطيف والمتخلخل بالمعنى الأوّل غير نافع في الفعل والانفعال إلّا بالعرض ، وهما جاريان مجرى الثقل والخفة ، ويكاد أن يتلازما حتى أنّ كلّ ما هو أثقل فهو أغلظ وأشد تكاثفا.

وقد يقال (١) تخلخل للانفشاش ، كالصوف المنفوش. ويقال لما إذا صار الجسم إلى قوام أقبل للتقطيع والتشكيل من غير انفعال يقع فيه. ويقال لقبول المادة حجما أكبر. فالأوّل من الوضع والثاني من الكيف والثالث كم ذو إضافة ، أو إضافة في كم. وقد يظن اتحاد الثاني والثالث. وهو غلط ، فإنّ النار أشد تخلخلا من الهواء بمعنى زيادة الحجم ، وليس أقبل منه للتشكيل والتقطيع ، فإنّ الهواء رطب جدا والنار يابسة ، والهواء إذا استحال نارا ازداد حجمه وقلّت رقته.

واعترض (٢) على قول الشيخ : «إنّ اللطيف والمتخلخل بالمعنى الأوّل غير نافع في الفعل والانفعال إلّا بالعرض» ، والمعنى الأوّل هو الرقة التي فسّرها بسهولة قبول التقطيع والتشكيل ، وهذا هو الذي فسّر الرطوبة به ، فأخرج

__________________

(١) والمعترض هو الرازي.

(٢) راجع الفصل السادس من المقالة الخامسة من مقولات الشفاء.

٥٠٠