نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

وهو باطل بالضرورة ، وإن حصل التفاوت فإمّا أن يكون من الطرف المتناهي وهو محال ، لأنّا فرضنا التطبيق بين أوّل أحد الخطين وأوّل الثاني وهكذا ، فيبقى التفاوت إذن في الطرف الغير المتناهي ، فينقطع الناقص ويستمر التام ليحصل التفاوت من تلك الجهة ، فيتناهى الناقص ، وكذا التام ؛ لأنّه لا يزيد عليه إلّا بالقدر المقطوع ، وذلك شيء متناه ، والزائد على المتناهي بمقدار متناه يكون بالضرورة متناهيا فقد (١) تناهي الامتدادان وهو المطلوب.

اعترض (٢) بأنّ تطبيق نهاية الزائد على نهايته الناقص إنّما يمكن على أحد وجوه ثلاثة:

١ ـ أن يتحرك الناقص بكلّيته عن جهة نهايته حتى تنطبق نهايته على نهاية الزائد ، أو يتحرك الزائد بكلّيته عن جهة نهايته حتى تنطبق نهايته على نهاية الناقص.

٢ ـ أن يزداد الناقص حتى ينطبق طرفه على طرف الزائد ، أو ينتقض طرف الزائد وينزل (٣) حتى ينطبق على طرف الناقص.

٣ ـ أن يبقى الزائد والناقص كما كانا ، ولكنّه توضع نهاية الزائد على نهاية الناقص ، فتظهر في الزائد فضلة لا تنطبق [على الناقص بل تبقى متجافية عليها وذلك مثل] (٤) خطين يتفاوتان في نهايتهما ، فإذا أطبقا (٥) بين نهايتهما حدثت في الزائد فضلة [متجافية] لا تنطبق على الناقص ، ثمّ لا تزال تزيد تلك الفضلة وتبعدها إلى الجانب الآخر ، إلى أن تظهر الفضلة من [الجانب] الآخر.

__________________

(١) م : «بعد» وهو خطأ.

(٢) والمعترض هو الرازي في المباحث المشرقية ١ : ٣٠٧.

(٣) في النسخ : «يزيد» ولعل الصواب ما أثبتناه من المصدر.

(٤) ما بين المعقوفتين من المصدر.

(٥) في المصدر «فانا إذا طبقنا».

٣٦١

فإن ادّعينا صحّة التطبيق بين نهايتي المقدارين على الوجه الأوّل لزمنا المصادرة على المطلوب ؛ لأنّ الخط إنّما يمكن أن يتحرك بكلّيته إذا خلّى مكانا وشغل غيره ، وإنّما يصحّ ذلك لو كان متناهيا من كلّ الجهات.

وإن ادّعينا ذلك على الوجه الثاني فحينئذ يصير كلّ واحد منهما بعد (١) النمو والذبول مساويا للآخر ، ولا يلزم منه محال.

وإن ادّعينا ذلك على الوجه الثالث ، فللخصم أن يقول : الزائد والناقص يمتدان إلى غير النهاية وتبقى في الزائد تلك الفضلة الغير المنطبقة أبدا ، ولا ينتهي إلى حيث تزول تلك الفضلة فإذن هما يمتدان إلى غير النهاية ، [ولا يلزمني أن أجعل الناقص مساويا للزائد لأنّ تلك الفضلة أبدا] (٢) موجودة مع الزائد (٣).

وأيضا ينتقض (٤) بالنفوس الحادثة من زمان الطوفان إلى ما لا يتناهى من الماضي ، فإنّها أقل من النفوس الحادثة من زماننا إلى ما لا يتناهى في الماضي ، مع أنّه لا بداية لها عندكم.

أجاب الأوائل عن النقض : بأنّ كل كثرة تجتمع أجزاؤها ويكون لها ترتيب في الطبع كالعلل ، أو الوضع كالمقادير ، فدخول ما لا نهاية فيها ممتنع ، أمّا ما انتفى عنه أحد الوصفين ، كالحركات التي لا توجد معا والأزمنة ، فلا يمتنع فيه أن يكون غير متناه ، وكالنفوس الموجودة دفعة ، لكن لا ترتيب بينها بالطبع ولا في الوضع ، لعدم إمكان فرض المطابقة فيها.

__________________

(١) في المصدر «مع».

(٢) ما بين المعقوفتين من المصدر.

(٣) انتهى كلام الرازي ، وقد تعرض صدر المتألهين لهذه الوجوه الثلاثة وأجاز التطبيق على كل واحد منها ، راجع الأسفار ٤ : ٢٤.

(٤) أي ينتقض برهان التطبيق.

٣٦٢

وفي هذا الجواب نظر ؛ فإنّ النفوس الحادثة أيضا بينها ترتيب لكون كلّ سابقة معدة للاحقة.

وقد اعترض جماعة من الأوائل عليه.

فقال بعضهم : النفوس لا بقاء لها ، وإلّا لكانت النفوس الآن غير متناهية فالأبدان كذلك ، لامتناع التناسخ ، لكنّ عدم تناهيها محال (١) لأنّها قابلة للزيادة والنقصان.

ومنهم من قال بوجوب تناهي الحركات ، لأنّ النفوس متناهية لقبولها الزيادة والنقصان ، والتناسخ باطل ، فيلزم تناهي الأبدان ، فيلزم تناهي الحوادث.

ومنهم من قال بالتناسخ لأبدان غير متناهية ونفوس متناهية.

وقيل (٢) : العلم بأن كل ما يحتمل الزيادة والنقصان يكون متناهيا ، إمّا أن يقال : إنّه من الأوليات أو من النظريات. وباطل أن يكون من الأوليات لاختلاف العقلاء فيه ، فمنهم من ذهب إلى تركّب الجسم من أجزاء غير متناهية بالفعل. ومنهم من ذهب إلى أنّ العالم مركّب من أجزاء كرية الشكل صلبة لا نهاية لها. ومنهم من قال بالخليط الغير المتناهي. والمتكلمون (٣) اتفقوا على أنّ معلومات الله تعالى أزيد من مقدوراته ، مع عدم تناهيهما. ومنهم من زعم أنّ الأكوان المقدورة لله تعالى غير متناهية ، والجزء الذي لا يتجزأ عندهم يمكن حصوله في أحياز غير متناهية على البدل ، ويمكن أن تقوم (٤) به أفراد غير متناهية من نوع واحد على البدل. ومنهم من أثبت في العدم ذوات غير متناهية. ومنهم من أثبت لله تعالى

__________________

(١) أي كون النفوس غير متناهية محال ، فهي غير باقية.

(٢) والقائل هو الرازي.

(٣) في المصدر : «والمسلمون».

(٤) في المصدر : «تتقوّم».

٣٦٣

صفات غير متناهية. وأيضا نعلم بالبديهة أنّ مراتب الأعداد غير متناهية. ونعلم بالضرورة أنّ تضعيف الألف مرارا غير متناهية أقل من تضعيف الألفين كذلك. ونعلم أنّ الحركات الحادثة في المستقبل أو (١) التي يمكن حدوثها لا نهاية لها مع احتمالها للزيادة والنقصان.

فإذن هذه المقدمة برهانية ، وإنّما يتم البرهان مع التطبيق ، لأنّ الموجب للتناهي هو أنّه يجب انتهاء الناقص إلى حد لا يبقى منه شيء ويبقى بعده من الزائد ، وهذا إنّما يجب لو تعذّر وقوع جزء من الجملة الناقصة في مقابلة الجزءين من الجملة الزائدة ، فإن كان ذلك ممكنا لم يجب انتهاء الناقص إلى حد لا يبقى منه شيء ويبقى بعده من الزائد شيء. وذلك إنّما يتحقق فيما يحتمل الانطباق ؛ لأنّه إذا فرض جزء من الجملة الزائدة منطبقا على جزء من الجملة الناقصة استحال أن ينطبق جزء آخر من الجملة الزائدة على ذلك الجزء من الجملة الناقصة ، لاستحالة حصول الجسمين في حيّز واحد ، فإذا صار جزء من الجملة الناقصة مشغولا بمماسة جزء من الجملة الزائدة ، استحال أن يصير هو بعينه مشغولا بمماسة جزء (٢) آخر ، بل المشغول بمماسة جزء آخر من الجملة الزائدة جزء آخر من الجملة الناقصة، وذلك يوجب أن ينتهي الناقص إلى حدّ ينقطع ويبقى بعد ذلك من الجملة الزائدة مقدار الزيادة. فأمّا الأمور التي لا يفرض فيها الانطباق فليس هناك بين أجزاء الجملتين مماسة حتى تكون مماسة جزء جزءا تمنعه من أن يماسّه جزء آخر ، بل ليس بينهما نسبة إلّا باعتبارين :

الأوّل : كون كلّ واحد منهما مثلا لصاحبه ، لكن لا يلزم من كون الشيء مثلا لشيء أن لا يكون مثلا لغيره. أمّا في المقادير فإنّ الجزء المشغول بمماسة جزء

__________________

(١) في المصدر : «أي».

(٢) في النسخ «جسم» ولعل الصواب ما أثبتناه من المصدر.

٣٦٤

يمتنع أن يكون هو بعينه في تلك الحالة مشغولا بمماسة جزء آخر ، فلا جرم كانت المماسة والانطباق كاشفين (١) للفضل الخالي عن العوض.

الثاني : أن يفرض في الذهن تقابل إحدى الجملتين بالجملة الأخرى ، وذلك أيضا على وجهين : فإنّه إمّا يفرض تقابل إحدى الجملتين بالجملة الأخرى من حيث هما جملتان ، فلا يكون في ذلك إلّا مقابلة شيء واحد بشيء واحد. وإمّا أن يفرض تقابل آحاد إحدى الجملتين بآحاد الجملة الأخرى ، وذلك محال ، لأنّ العقل لا يقوى على استحضار أعداد لا نهاية لها على التفصيل ، وأمّا إن قابل بعض آحاد إحدى الجملتين ببعض آحاد الجملة الأخرى ، فلا يلزم منه وقوع النقصان في الكل. وظاهر مما مرّ أنّ الفضل الخالي عن العوض إنّما يلزم عند وجود الانطباق ، فثبت أنّ احتمال الزيادة والنقصان لا يوجب التناهي إلّا بهذا الشرط (٢).

وفيه نظر ؛ لأنّ التطبيق لا يشترط فيه الوضع عند الأوائل ، بل الترتيب ـ طبعا كالعلل أو وضعا كالمقادير ـ والاجتماع في الوجود ، ولهذا حكموا بأنّ النفوس والحركات لو وجد فيها الشرطان امتنع عدم التناهي فيها.

والنقض بتركّب الجسم من أجزاء غير متناهية غير وارد ، لعدم الحكم هنا بالزيادة والنقصان ، وكذا القائل بتركب العالم من أجزاء غير متناهية ومن الخليط ، وكذا الأكوان والمعدومات ومراتب العدد.

وأمّا المعلومات والمقدورات ، فليست وجودية ، بل هي أمور مفروضة على معنى أن كلّ شيء نتصوره ممكنا فإنّا نحكم عليه بكونه مقدورا ومعلوما ، وكلّ شيء نفرضه ممتنعا نحكم عليه بأنّه معلوم غير مقدور ، ويمكننا في كلّ واحد من الفرضين فرض ما زاد عليهما إلى ما لا يتناهى.

__________________

(١) في المصدر : «مظهرين».

(٢) المباحث المشرقية ١ : ٣٠٩ ـ ٣١١.

٣٦٥

وأمّا تضعيف الألف والألفين مرات غير متناهية ، فإنّ قبولهما للزيادة والنقصان لا ينافي عدم تناهيهما ، لأنّ الزيادة والنقصان ليس باعتبار ما حصل لهما من عدم التناهي في العدد ، وإنّا إذا قابلنا كلّ واحد من آحاد الألف المتضاعفة إلى غير النهاية بكل واحد من آحاد الألفين المتضاعفة إلى غير النهاية أيضا لم يتفاوتا في العددية ، بل تفاوتا في مقابلة كلّ واحد باثنين ، فالتفاوت حصل لهما عرضا ، وعدم التناهي طولا ، وكان بالحقيقة كفرض ثلاثة آلاف في مرتبة واحدة تضاعف كلّ ألف منها إلى ما لا يتناهى.

د (١) : لو كانت الأبعاد غير متناهية لكان فيها حيثيات غير متناهية ، ونقط غير متناهية. وكلّ حيث في غير المتناهي بينه وبين كلّ واحد من الحيثيات الأخرى ، إمّا أن يتناهى أو لا يتناهى ، فإن تناهى ما بين كلّ واحد وواحد من الحيثيات الأخرى (٢) ـ أيّ واحد كان مع أيّ واحد ـ فليس فيه عددان من الحيثيات المستغرقة لعدم النهاية ، قربت أو بعدت ، اشتملت على أجزائها أو ما اشتملت إلّا وبينهما متناه ، فالكلّ متناه ، وإن كان بين حيثيّة وحيثية لا يتناهى فقد انحصر ما لا يتناهى بين حاصرين ، وهو محال.

وفيه نظر ؛ لعدم التلازم بين الحكم على الكل وكلّ واحد.

ه (٣) : لو كانت الأبعاد غير متناهية لكان ما لا يتناهى محصورا بين حاصرين ، والتالي باطل بالضرورة فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّه يمكن فرض خطين خرجا من نقطة واحدة كساقي مثلث على زاوية هي ثلثا قائمة ، ثم يمتدان إلى غير النهاية ، فيكون الوتر مساويا لهما ،

__________________

(١) هذا هو البرهان الرابع.

(٢) م : «الأخرى» ساقطة.

(٣) وهذا هو البرهان الخامس.

٣٦٦

فيلزم انحصاره مع عدم تناهيه لوجوب مساواته لهما حيث تساوت الزوايا بين الخطين.

وفيه نظر ؛ فإنّ برهان اقليدس (١) على المساواة إنّما هو في الخطوط المتناهية بحيث تنطبق نهايتا كلّ خطّ ووسطه على نهايتي مساويه ووسطه (٢).

احتجوا بوجوه (٣) :

الأوّل : الفطرة شاهدة بأنّ كلّ بعد يتناهى (٤) فإنّ وراءه بعد آخر ، إمّا خلاء أو ملاء ، وأنّ فيه حيثيات وجهات متغايرة ، وهذا الحكم غير قابل للتشكيك ، ولو قبله لم يبق وثوق بامتناع حصول الجسم في مكانين ، وامتناع اجتماع المتناقضين ، وذلك يرفع الوثوق بالقضايا البديهية بأسرها.

لا يقال : الفطرة وإن شهدت بالقضية المذكورة كما شهدت بالضروريات ، إلّا أنّها شهدت بصحّة ما ينتج نقيضها ، بخلاف باقي الضروريات ، فلهذا رددناها دون القضايا البديهية.

لأنّا نقول : لو جاز ذلك لارتفع الوثوق بجميع الضروريات ، لأنّ الفطرة إذا شهدت بصحّة قضية ثمّ تبيّن لنا فسادها بوجه من الوجوه ، زال الوثوق بحكمها فلزم الشك في جميع الضروريات ، وإذا لم نجد ما يدل عل فساد القضية لم يجب الحكم بصحتها ، لجواز كونها باطلة ولا نعرف وجه بطلانها ، بل ولو دلّ دليل على صحتها لم يفد ؛ لأنّ الدليل إنّما يفيد العلم لو تركّب من الأوليات ابتداء

__________________

(١) اقليدس المغاري (نحو ٤٣٠ ـ ٣٦٠ ق. م) من أصحاب سقراط مؤسس المدرسة المغارية ، عاد إلى وطنه «ميغارا» بعد وفاة سقراط. الموسوعة الفلسفية : الدكتور عبد المنعم الحفني.

(٢) ذكر الإيجي لاثبات التناهي سبع حجج منها برهان الترسي الذي ابتكره شيخ الإشراق. راجع المواقف : ٢٥٣ ـ ٢٥٥.

(٣) وهي ستة وجوه في إثبات أبعاد غير متناهية : لاحظها والجواب عليها في المباحث المشرقية ١ : ٢٩٨ ـ ٣٠١.

(٤) س وق : «متناهى».

٣٦٧

أو بواسطة تنتهي إليها ، فإذا جوّزنا الشك في الضروريات امتنع الجزم بشيء من الكسبيات ؛ لأنّ الضروريات أصل الكسبيات ، والطعن في الأصل يستلزم الطعن في الفرع ، فإذن لا يجوز تطرّق الشك إلى شيء من الضروريات.

الثاني : الواقف على طرف العالم إن لم يمكنه مدّ يده إلى خارجه كان ذلك لممانعة الأجسام له ، فوراء العالم أجسام تمانع المتحرك عن الحركة وهكذا إن تناهت تلك الأجسام ، وإن أمكنه فهناك أحياز وجهات قابلة للمساواة والمفاوتة والتجزئة ، لأنّا نعلم أنّ الحيّز الذي يتسع لليد مساو له ، وأنّه أزيد من نصفه ، وأقل من ضعفه ، فإذن هناك أبعاد غير متناهية.

الثالث : لو كان العالم متناهيا لكنّا إذا فرضناه أزيد ممّا هو عليه الآن بذراع لكان أكبر مما هو الآن ، ولو فرضناه أزيد ممّا هو الآن بنصف ذراع لكان أقل من الأوّل ، ولو فرضناه أزيد مما هو الآن بذراعين لكان أكبر من الجميع. فإذن خارج العالم أحياز قابلة للتفاوت ، فتكون أبعادا وجودية ، أو ذوات أبعاد.

الرابع : الجسم من حيث هو جسم كلي لا يمنع وقوع الشركة فيه إلى ما لا يتناهى ؛ لامتناع انحصار نوعه في شخصه وتناهي الشركة فيه لعدم الأولوية ، وإذا لم يمنع مفهوم البعد الشركة إلى ما لا يتناهى ، كان عدم التناهي ممكنا ، والمبدأ الفيّاض عام الفيض ، لا يمنع مستحقّا عن مستحقّه ، فيجب إفاضة جميع الأفراد الممكنة للجسم ، لكنها غير متناهيّة.

الخامس : الزمان لا بداية له ولا نهاية ، فالكون لا بداية له ولا نهاية ، فالأبعاد كذلك.

السادس : الأعداد لا تتناهى في الزيادة ، والمقدار لا يتناهى في النقصان ، فالأبعاد لا تتناهى قياسا عليهما.

والجواب عن : الأوّل : أنّا نمنع استناد ذلك إلى الفطرة ، بل إلى القوّة الوهمية ،

٣٦٨

والإنسان في بدو نظره يعجز عن التمييز بن القضايا الوهمية والعقلية ، لأنّ أكثر القضايا التي يحكم بها الإنسان مستندة إلى الوهم ، فإذا تدبّر الإنسان وراجع عقله وفكره ، عرف استناد كلّ قضية إلى قوة ، فحكم بصحّة بعض القضايا وفساد الباقي. وأيّ ضرورة شهدت عند الفطرة بذلك؟!

وعن الثاني : أنّه لا يمكنه مد يده لا لشغل البعد بالجسم ، بل لعدم الشرط وهو الحيّز والمكان ، فإنّ شرط خروج اليد خارج العالم وجود مكان وحيّز لها ، والعالم وراءه عدم صرف لا خلاء ولا ملاء ، نعم قد يعجز الوهم عن تحصيل ذلك ، فالمرجع فيه إلى العقل.

وعن الثالث : أنّه أمر وهمي غير حاصل في الوجود فلا عبرة به.

واعلم : أنّ حكمهم بكون هذا الحكم وهمي لا عقلي (١) ، مع حكمهم بأنّ التفاوت الحاصل في الزمان المقدّر (٢) المفروض في الحركات المختلفة بالسرعة والبطء المفروضة أيضا عقلي ، لا وجه له لتساويهما في الفرض والتقدير. والحقّ أنّهما وهميان.

وعن الرابع : أنّ الكلي لا يمنع الشركة فيه من حيث المفهوم ، وإن جاز أن يمتنع لخارج عن مفهومه لازم له أو زائل ، ولا يكفي في عدم الامتناع أن لا يكون الشيء الواحد بعينه مانعا منه ، لجواز أن يمتنع لأمر آخر ، كما هو هنا.

وعن الخامس : بمنع عدم تناهي الزمان.

سلّمنا ، لكن نمنع دلالة عدم تناهي الكون على عدم تناهي الجسم ، لإمكان أن يتشكل الجسم بأشكال غير متناهية مختلفة في أحوال مختلفة.

__________________

(١) العبارة كذا في النسخ ، والصحيح طبقا للسياق أن نقول : «إن حكمهم بانّ هذا الحكم وهمي لا عقلي» أو «إنّ حكمهم بكون هذا الحكم وهميا لا عقليّا».

(٢) في النسخ : «القدر» ، أصلحناها طبقا للمعنى.

٣٦٩

وعن السادس : بأنّ القياس (١) لا عبرة به في الأمور القطعيّة ، مع أنّه لو اشتمل على الجامع لكان مفيدا للظن ، فإذا خلا عنه لم يثمر شيئا أصلا ، وقياسهم هنا خال عن الجامع.

قال بعضهم : كما أنّ الجسم لا ينتهي في الصغر إلى حدّ لا يوجد ما هو أصغر منه وإن امتنع خروج جميع الانقسامات الغير المتناهية إلى الفعل ، كذا كل عظم نفرضه للجسم يمكنك فرض ما هو أزيد منه ، ولا يجب أن ينتهي في العظم إلى حدّ لا يمكن أن يوجد ما هو أعظم منه ، وإن استحال وجود ما لا يتناهى من العظم (٢).

واعلم : أنّ مرادنا بتناهي الأبعاد ليس إلّا ما اعترف به من استحالة وجود ما لا يتناهى في العظم.

قال الشيخ : إنّه يصحّ من وجه دون وجه. أمّا وجه الصحّة ؛ فلأنّ أحد نصفي الخط إذا أضيف إليه أحد نصفي الآخر (٣) ، ثمّ أحد نصفي نصفيه ، وهكذا إلى ما لا يتناهى ، فإنّه يزداد ذلك النصف إلى غير النهاية ، مع أنّه لا يبلغ الخط المنقسم أولا ، وهكذا الفرض من الزيادات لا يبلغ الجسم كلّ عظم اتّفق ، بل له حد لا ينتهي إليه فضلا عن أن يزيد عليه.

وأمّا وجه البطلان ، فهو أن يصل الجسم إلى كلّ حدّ من النمو والعظم ، وذلك ممتنع، وليس ذلك مثل الصغر المفروض ؛ لأنّ القسمة لا تحتاج إلى شيء خارج عن المقسوم، والزائد يكون إمّا بسبب أنّ المادة تنضم إلى الأصل ، وهو يوجب أن تكون مواد الأجسام بغير نهاية ، وإمّا بسبب تخلخل لا يقف ، فيكون هناك حيّز غير متناه ، وكلّ ذلك محال(٤).

__________________

(١) راجع النجاة : ٥٨.

(٢) راجع الفصل الثامن من المقالة الثالثة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء.

(٣) أي أحد نصفي النصف الآخر.

(٤) نفس المصدر (انتهاء الفصل) مع تغييرات في العبارات.

٣٧٠

البحث العاشر : في المسائل المتعلّقة بما لا يتناهى

وهي عشرة :

المسألة الأولى : في الوجوه التي يقال عليها اللانهاية (١)

إنّ ذلك تارة يقال بحسب الحقيقة ، وأخرى بحسب المجاز.

والأوّل : قد يقال على وجه السلب ، وقد يقال على وجه العدول.

والأوّل (٢) يصدق تارة بسلب الشيء الذي لأجله يصحّ أن يوصف الشيء بالنهاية كما نقول : الله تعالى لا نهاية له ، والنقطة لا نهاية لها ، حيث سلبنا عنهما المعنى المصحّح لدخول التناهي فيه وهو الكم ، وتارة يصدق على وجه العدول الذي نذكره ؛ لأنّ السالبة أعمّ من المعدولة.

والثاني (٣) أن يكون المعنى المصحّح لوصف الشيء بالنهاية حاصلا له ، لكن النهاية لا تكون حاصلة وهو على وجهين :

أ : أن يكون الشيء بحيث إذا أخذ منه أي شيء كان وجد شيء خارج عنه من غير حاجة إلى العود كقولنا الأجسام غير متناهية في العظم.

ب : أن يكون محدودا بمحيطه ، وليس في ذلك المحيط نقطة بالفعل ، كما في سطح الدائرة ، فيقال : إنّها غير متناهية لا بالمعنى الأوّل.

__________________

(١) راجع الفصل التاسع من المقالة الثالثة من الفن الأوّل ، من طبيعيات الشفاء. والمباحث المشرقية ١ : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

(٢) أي ما يقال على وجه السلب.

(٣) أي ما يقال على وجه العدول.

٣٧١

وأمّا الذي بحسب المجاز ، فقد يقال : لما لا يمكن سلوكه كالطريق بين السماء والأرض ، وقد يقال : لما يعسر ذلك فيه لبعده كالطريق بين المشرق والمغرب تشبيها بالأوّل.

المسألة الثانية : في معنى اللانهاية في الماضي (١)

اعلم أنّه سنثبت انتهاء الحوادث الماضية وأنّ دخول اللانهاية فيها ممتنع عند أهل الملل كافة ، أمّا الأوائل فأثبتوا حوادث لا نهاية لها في الماضي ، وسيأتي الكلام معهم إن شاء الله تعالى.

قالوا : إذا قلنا الأشخاص الماضية غير متناهية احتمل أمرين :

الأوّل : أنّ كلّ واحد من تلك الأشخاص غير متناه ، وهو معلوم البطلان ، وإنّما ذكر لئلّا يتوهّم إمكان الحمل عليه ، كما حكم به على الجملة ، كالحدوث.

الثاني : أنّ جملة الآحاد المجتمعة لها عدد غير متناه ، وهذا إمّا أن يفهم بحسب الوجود أو بحسب التوهّم ، فالأوّل إن أخذ بمعنى السلب ، بأن يقال : إنّ جملة الأشخاص الماضية ليست أمرا له عدد متناه فهو صادق عندهم ، لأنّ نقيضه ، وهو أنّ جملة الأشخاص الماضية أمر له عدد موجود متناه كاذب ، إمّا لكذب موضوعها ؛ لأنّ جملة أشياء كلّ واحد منها لا يثبت مع آخر ، بل يعدم مع وجوده لا يكون بما هي جملة موجودة ، إذ ليست موجودة في الخارج لفرض تنافيها فلا يمكن اجتماعها في الوجود في زمان ما ، أو لعدم تناهيها عندهم. وإن أخذ

__________________

(١) لاحظ الفصل الحادي عشر من المقالة الثالثة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء. وقارن طبيعيات النجاة : ١٢٥ ـ ١٢٦ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٣١١ ـ ٣١٤ ؛ الأسفار ٤ : ٢٩ ـ ٣٠.

٣٧٢

بمعنى العدول ، بأن يقال : جملة الأشخاص الماضية أمر له عدد غير متناه فهو باطل ، لأنّ موضوع المحمول الثبوتي يجب أن يكون ثبوتيا ، ومجموع الأشخاص الماضية غير موجودة في شيء من الأحوال البتة ، ولا في الذهن أيضا ، لقصوره عن استحضار عدد غير متناه بالفعل، و (١) إن قوى على استحضار وصف اللانهاية لوحدته (٢). وأمّا الثاني وهو المأخوذ بحسب الوهم ، فهو أن يقال : إنّ المتوهم من الأشخاص الماضية عدد أيّ واحد أخذته تجد واحدا غيره قد وجد من غير حاجة إلى التكرير ، ولا ينتهي الحساب إلى واحد غير مسبوق بغيره ، وهو ممكن عندهم.

المسألة الثالثة : في معنى اللانهاية في المستقبل (٣)

النظر في الأمور المستقبلة ، إمّا أن يكون في وجودها ، أو في تناهيها ولا تناهيها.

أمّا الأوّل : فنقول لا شك في أنّ الأمور المستقبلة ليست موجودة بالفعل ، لأنّ الموجود في المستقبل هو الذي لم يوجد بعد ، بل هي موجودة بالقوة ، فنقول حينئذ : إمّا أن نعتبر كلّ واحد واحد من تلك الأمور ، أو نعتبر حال الجميع ، فإن اعتبرنا حال كلّ واحد واحد ، فإمّا أن يكون كلّ واحد منها موجودا بالقوّة في وقت واحد وهو صحيح ، وإمّا أن يكون كلّ واحد موجودا بالقوّة في كلّ وقت [وهو باطل] (٤) ، وإلّا لم يوجد في وقت من الأوقات شيء من الأشخاص ، ولا يمكن أن يبقى الحادث الواحد مستمرا أبدا. وإن اعتبرنا وجود الكلّ من حيث هو كلّ فذلك على وجهين :

__________________

(١) تكون «و» وصلية.

(٢) ق : «لوجد به».

(٣) راجع نفس المصادر.

(٤) أضفناها بمقتضى السياق والمعنى.

٣٧٣

أ : أن يكون ذلك الكلّ موصوفا دائما بأنّ بعضا منه موجود بالفعل وبعضا منه موجود بالقوّة ، فهو صحيح أيضا ، لأنّ الماهية ذات الآحاد المتعاقبة يصحّ أن يقال : إنّ ما تحمل عليه تلك الماهية دائما شيء موجود بالقوّة ، ولا يجوز أن يخرج إلى الفعل بحيث لا يبقى بعده منه شيء بالقوّة ، لكن يبطل باعتبار أنّ الكلّ بما هو كلّ غير موجود حتى يوصف بما هو ثبوتي.

ب : أن يكون ذلك الكل بحيث يكون كلّ واحد من المعدومين منه يكون موجودا بالقوّة بحسب وقت معين ، وإن لم يكن منه شيء بالفعل.

وأمّا الثاني : وهو النظر في تناهيها ولا تناهيها ، فاعلم أنّه يصحّ أن يقال للأشياء التي في طريق التكوّن : إنّها أبدا متناهية بالفعل ، باعتبار أنّها دائما تكون واصلة إلى حدّ معيّن ، فتكون بذلك الاعتبار متناهية ، وإنّها أبدا متناهية بالقوّة ، باعتبار النهايات الأخرى التي بالقوّة بعد النهاية الحاصلة بالفعل ، وإنّها غير متناهية لا بالقوة ولا بالفعل أبدا بالقياس إلى النهاية الأخيرة التي لا يحصل بعدها شيء آخر البتة ، فظهر صدق أنّها متناهية بالفعل ، بالقياس إلى النهاية الحاضرة ، ومتناهية بالقوّة ، بالقياس إلى ما سيحضر ، وأنّها غير متناهية بالقياس إلى نهاية لا نهاية بعدها ، فصحّ أنّ ما لا نهاية لا موجود بالفعل دائما ، أي من جهة أنّه غير متناه إلى نهاية أخيرة وصحّ أنّ ما لا نهاية له موجود بالقوة دائما ، أي من طبيعته دائما شيء بالقوّة لا يخرج إلى الفعل إلّا وتعقّبه شيء آخر.

المسألة الرابعة : في أنّ اللانهاية عدمية (١)

ذهب بعض من لا مزيد تحصيل له ، إلى أنّ اللانهاية من جملة

__________________

(١) راجع الفصل التاسع من المقالة الثالثة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٣١٤.

٣٧٤

المبادئ (١). ونحن نقرّر تحقيق ذلك فنقول : «ما لا نهاية» يعتبر على وجهين :

الأوّل : نفس هذا المفهوم.

الثاني : معروضه.

والثاني : راجع إلى الماهيات والمفهومات التي توصف بهذا الوصف ، ولا يمكن أن يكون مبدأ من حيث هذا المفهوم.

والأوّل : راجع إلى مجرّد اعتبار نسبي ليس له مفهوم مستقل ، ولا يمكن أن يعقل بالاستقلال ولا منفردا بالوجود ، فكيف يكون مبدأ لغيره. ولأنّها أمر عدميّ ، لأنّ طبيعة القوّة عنها لا تزول ، لأنّ الذي لا نهاية له لا ينتهي إلى زوال طبيعة القوّة عنه ، فحقيقة ما لا نهاية له ووجوده متعلّقة بالقوّة دائما ، والقوّة متعلّقة بالمادة لا بالصورة التي هي الفعل ، فلا يتحقّق للا نهاية كلّ وجملة ، لأنّ الكلّ صورة أو ذو صورة ، وهي منفية عنها.

المسألة الخامسة : في امتناع حركة ما لا يتناهى (٢)

اعلم أنّ الجسم يمتنع عليه عدم التناهي ، لكن لو فرض لامتنع عليه الحركة الاينيّة ، لأنّه إن كان غير متناه من جميع الجوانب لم يخل عنه مكان ، فلا تتحقّق الحركة الاينيّة ، لأنّها إنّما تكون من مكان إلى مكان خال عنه ، فإذا كان مشغولا به امتنعت حركته إليه. وإن كان متناهيا من جهة وغير متناه من أخرى ، فإنّه يمتنع أن يتحرّك في الأين إلى الجهة التي هو غير متناه فيها ، لعدم فراغ عنه ، ويمتنع أن يتحرّك في الأين إلى الجهة التي هو متناه فيها ، لأنّه إذا انتقل إلى الجهة الفارغة ، فإمّا

__________________

(١) أي مبادئ العالم.

(٢) راجع الفصل العاشر من المقالة الثالثة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٣١٤.

٣٧٥

أن ينتقل الجانب الآخر أو لا ، فإن انتقل خلا الجانب الآخر عنه ، فانقطع فيها ، فكان متناهيا في تلك الجهة ، وقد فرضناه غير متناه فيها ، هذا خلف. وإن لم ينتقل ولم يخل (١) ، لم تكن تلك حركة ، بل ازدياد في الجهة التي تناهى فيها.

ولأنّ تلك الحركة ليست طبيعية ، لأنّ الطبيعي هو الذي يطلب أينا طبيعيّا وحدّا معينا ، وكلّ حدّ فهو محدود ، والمحدود لا ينتقل إليه ما لا حدّ له ، ولا تكون قسرية ، لأنّ القسر على خلاف الطبع ، وحيث لا طبع فلا قسر.

وفيه نظر ، لأنّا نمنع أنّ الطبيعة فيما لا يتناهى تطلب حدّا متناهيا.

ولأنّ تناهيه من بعض الجوانب ، إن كان طبيعيا وجب تناهيه من الجميع ، لتساوي فعل الطبيعة الواحدة في جميع الجهات ، وإن كان بالقسر ، فإن أفاد القاسر ذلك الحد بأن قطعه لم يكن ذلك الانتهاء إلى فضاء ، بل إلى مقطوع من جنسه ، فلا يكون هناك مكان يتحرك إليه ، وإن أفاده حدودا من غير أن يقطع منه شيئا بواسطة التكاثف الحقيقي ، فيكون من شأن ذلك الجسم أن يكون متناهيا بذلك القاسر ، وغير متناه بمقتضى طبعه ، وهو محال. وهذا غير دال على المطلوب ، بل على امتناع وجود جسم هذا شأنه.

واعلم أنّه كما امتنعت الحركة على الجسم الذي لا يتناهى ، كذا تمتنع الحركة الطبيعية على أجزائه ، لأنّه إن كان غير متناه من جميع الجهات لم يكن المكان المتروك مخالفا للمكان المطلوب بالطبع ، فلا تعقل فيه حركة طبيعية ، وإن كان غير متناه من بعض الجهات بحيث يتحرك ذلك الجزء في الخارج عن ذلك الحد ، فتكون حركة ذلك الجزء إلى مكان مطلوب له طبعا ، وهو الذي يطلبه الكل ، لمساواته إيّاه في الطبيعة ، لكنّ الكل لا يطلب مكانا بالطبع، إذ لا محيط له حتى يطلبه ، وليس مطلوبه الخلاء لاستحالته ، فإذن ليس للكل حيّز مطلوب ، فلا يكون

__________________

(١) س وم : «ولم يخل» ساقطة.

٣٧٦

للجزء ذلك ، لمشابهته إيّاه في الطبيعة. فالأجسام التي لأجزائها حركات طبيعية إلى جهات محدودة كلّها متناهية.

المسألة السادسة : في امتناع وقوع فعل ما لا يتناهى أو انفعاله في زمان (١)

اعلم أنّ الجسم إذا كان غير متناه ، وجب أن يكون فعله وانفعاله واقعين في الآن لا في الزمان ، ومتى كانا زمانيّين وجب تناهيه.

أمّا بيان أنّه لا يجوز أن يكون الجسم الغير المتناهي فاعلا فعلا زمانيا ، فلأنّ المنفعل إن كان متناهيا وجب أن ينفعل جزء منه عن جزء من الفاعل ، فإذا فعل جزء من غير المتناهي في المتناهي ، أو في جزء منه وجب أن يكون نسبة زمان فعل ذلك الجزء في المنفعل إلى زمان فعل (٢) غير المتناهي إلى ذلك المنفعل ، كنسبة قوّة غير المتناهي إلى قوّة المتناهي ، لأنّ الجسم كلّما كان أعظم كانت قوّته أعظم ، فزمان أثره أقصر ، فإذا كان عظمه غير متناه وجب أن يقع أثره لا في زمان ، لأنّ كلّ زمان يفرض فإنّ الأثر في نصفه أقصر من الأثر في جميعه ، لكنّا فرضنا فعله في زمان ، هذا خلف.

وإن كان المنفعل غير متناه ، كان نسبة انفعال جزء منه إلى انفعال كلّه كنسبة الزمانين، فيقع انفعال كلّ جزء منه لا في زمان ، ويكون انفعال الجزء الأصغر أسرع من انفعال الجزء الأكبر ؛ لأنّ الصغر مقتض للسرعة فيكون أسرع من الكائن لا في زمان. وإذا عرف ذلك من جهة الفعل ، فليعرف مقابله من جهة الانفعال.

واعلم أنّ الصورة قد تشتد في تأثيرها ، على معنى : أنّ النار الكبيرة تأثيرها

__________________

(١) راجع نفس المصادر.

(٢) س وق : «محلّ».

٣٧٧

أشد من تأثير النار الصغيرة ، وليست هذه الزيادة زيادة الشدّة في الجوهر ، بل في الأثر باعتبار زيادة المقدار ، لا شدته ولا شدة الجوهر.

البحث الحادي عشر : في بقايا مسائل الكم

المسألة الأولى : في أنّ المقدار هل يوجد في الخارج منفكّا عن المادة أم لا (١)؟

اختلف الأوائل في ذلك على حسب اختلافهم في الخلاء ، فمثبتوه جوّزوا انفكاك المقدار عن المادة ، والمانعون هناك منعوا هنا.

احتجّ المانعون بأنّ هنا مقدارا حالّا في الأجسام ، فلو قدّرنا مقدارا مجردا عن المادة ، فإمّا أن يكون تجرّده لذاته ، أو لأمر لازم لذاته ، أو لأمر عارض لذاته ، والأوّلان باطلان ، وإلّا لكان كلّ مقدار مجرّدا عن المادة ، فلا يكون مقدار ما ملابسا للمادة ، لأنّ الذات إذا اقتضت التجرّد استحال حلولها في المحل لعارض.

وإن كان لعارض فإمّا أن يكون المقدار المجرّد حالّا فيه ، أو يكون محلا له ، أو يكونا حالّين في محلّ ثالث ، أو يكون ذلك العارض لا حالّا في المقدار ولا في محلّه ، ولا يكون محلّا له. والأوّل باطل ؛ لأنّ ذلك المحل ، إن كان غنيا في ذاته عن الموضوع ، كان المقدار حالّا فيما هو غني عن الموضوع ، فلا يكون مجرّدا عن الموضوع. وإن كان محتاجا إلى الموضوع، كان المقدار الحالّ فيه حالّا في ذلك الموضوع ، فيكون أولى بالحاجة إلى الموضوع. ويستحيل أيضا أن يكون هذا المجموع غنيا عن الموضوع.

__________________

(١) راجع الفصل الرابع من المقالة الثالثة من إلهيات الشفاء ؛ شرح الإشارات ٢ : ٥٩ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٣١٨.

٣٧٨

والثاني باطل أيضا ؛ لأنّ المقدار إذا كان لذاته محتاجا إلى الموضوع استحال أن يستغني عنه بسبب عارض يحل فيه ، ولا يجوز أن يكون غنيا بذاته عن الموضوع ويعرض له ما يحوجه إليه ، لأنّ ما بالذات لا يزول بسبب العوارض.

والثالث باطل ، لأنّ المقدار حينئذ يكون ماديا ، مع أنّه قد فرض مجرّدا.

والرابع باطل ، أمّا أوّلا : فلتساوي نسبة المجرّد إلى جميع المقادير ، فلا يقتضي تخصيص بعضها بالتجرّد والاستغناء ، وبعضها بالحاجة والحلول في المادة. وأمّا ثانيا : فلأنّ المقدار حينئذ يكون لذاته محتاجا إلى الموضوع ، فلا يصير غنيا عنه بسبب غيره ، كغيره من الأعراض.

اعترض (١) بمنع استحالة تجرّد بعض المقادير لذاته ، وإن كان البعض الآخر قائما بالموضوع ، كما أنّ الحيوانية محتاجة إلى الناطقية في بعض المواضع دون البعض ، فكما استغنت الحيوانية التي في الفرس مثلا عن الناطقية ، واحتاجت الحيوانية التي في الإنسان إليها ، فليجز في بعض المقادير أن يحتاج إلى المادة ويستغني بعض المقادير في بعض الصور عنها.

وأجيب بالفرق بين المقدار والطبيعة الجنسية ، فإنّ الجسم طبيعة نوعية محصّلة وكذا السطح طبيعة أخرى نوعية ، والخط أيضا كذلك ، فلا يمكن أن يختلف مقتضى كلّ واحد منها بالحاجة والاستغناء المستندين إلى الذات باعتبار اختلاف المقارنات.

وأمّا الطبيعة الجنسية فإنّها أمر مبهم غير محصّل ، وإنّما تتحصّل بفصولها التي تضاف إليها ، وتتعيّن بها عند العقل ، ويكمل باعتبارها في العقل تصوّرها ، كالمقدار المطلق الذي هو جنس للجسم والسطح والخط ، فإنّه مبهم لا يفهم منه سرى أنّه شيء يقبل القسمة ، لكنّ هذا المفهوم غير محصّل ، ولا يكمل تصوّره إلّا

__________________

(١) راجع الفصل الرابع من المقالة الثالثة من إلهيات الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٣١٩.

٣٧٩

بما ينضاف إليه من الفصول كقبوله للقسمة في جهة واحدة أو جهتين أو ثلاث ، فحينئذ يفهم منه أنّه خطّ أو سطح أو جسم ، وأمّا قبل ذلك فلا يفهم منه إلّا أنّه شيء يمكن أن يكون جسما ، أو شيء يمكن أن يكون سطحا ، أو شيء يمكن أن يكون خطا ، فلا يتحقق له مفهوم محصّل عند العقل. وأمّا كون البعد بعضه قائم لا في مادة وبعضه قائم بالمادة ، فليس من الفصول المنوعية (١) للبعد ، بل طبيعة واحدة ، فيجب أن لا تختلف لوازم هذه الطبيعة.

واعترض (٢) بأنّ النقض إنّما ورد على أنّ الشيء إذا احتاج إلى موضوع في موضع وجب أن يحتاج في كلّ موضع ، ونحن قد نقضنا عليكم بالجنس المحتاج إلى فصل معيّن في موضع دون موضع ، مع وحدة ماهية الجنس ، فإذا جاز ذلك هنا فليجز هناك (٣).

والفرق بين طبيعة الجنس غير محصّلة وطبيعة البعد محصّلة ، لو سلّم كان فرقا في غير محلّ الجمع ، بل الجواب أنّ الجنس محتاج إلى فصل يقوّمه ، فكانت الحاجة لازمة له أبدا ، وتعيّن الفصول إنّما جاء من جانب الفصل لا الجنس.

وفيه نظر ، لأنّا نمنع كون كلّ واحد من هذه الأمور طبيعة نوعية ، بل جاز أن يكون كلّ واحد منها جنسا ، وكيف لا يكون كذلك وعندهم أنّ الجسمية التي للفلك يمتنع عليها الانفصال لصورة نوعية اقترنت بها ونوّعتها وجعلتها مخالفة للعنصريات بالذات ، كما يجعل الفصل الجنس مختلف الأنواع بالذات ، وكذلك السطح. والخط المستقيم عندهم مغاير للمستدير بالنوع.

سلّمنا ، كونه طبيعة نوعية ، لكن لا نسلّم أنّ الحلول والتجرّد من الأعراض

__________________

(١) ج وق : «النوعية».

(٢) والمعترض هو الرازي في المباحث المشرقية ١ : ٣١٩.

(٣) أي في البعد.

٣٨٠