نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

البحث التاسع : في ترتّب الأجناس في الحمل (١)

لمّا كان الجنس هو المقول على كثيرين ، وجب أن يكون محمولا عليها. فإنّ المقوليّة هي الحمل ، فإذا فرض للنوع جنسان مترتّبان أحدهما أعمّ من الأخر ، كان حمل الجنس القريب الأخص (٢) على النوع علّة لحمل البعيد عليه ، فإنّ حمل الحيوان علّة لحمل الجسم على الإنسان ، (إذ يستحيل أن يكون الجسم محمولا على الإنسان) (٣) ، إلّا بعد صيرورته حيوانا ، لأنّا قد بيّنا أنّ الجنس أمر مبهم عند العقل وفي نفس الأمر ، وإنّما يتحصّل بالفصول ، وإذا توقّف تحصّله في الذهن والخارج على فصوله ، فحمله أولى بالتوقّف.

ولمّا كان الجسم الذي ليس بحيوان مسلوبا عن الإنسان ـ لا أنّه (٤) موجب عليه ـ وجب أن يكون المحمول عليه (٥) هو الجسم الذي هو الحيوان. فلمّا كانت الحيوانيّة شرطا في حمل الجسميّة على الإنسان كان حمل الحيوانيّة على الإنسان أقدم من حمل الجسميّة عليه.

لا يقال : الجنس البعيد جزء من الجنس القريب ، والجزء مقدّم على الكلّ ، فكان أقدم منه في الحمل.

لأنّا نقول : ليس تقدّم الجزء في الوجود مقتضيا لتقدّمه في الوجود للنوع ، فإنّه لا استبعاد في أن يكون الشيء متقدّما على آخر في نفس الأمر والوجود ، ويكون

__________________

(١) راجع : المباحث المشرقية ١ : ١٦٢.

(٢) م : «الأخص» ساقطة.

(٣) م : ما بين الهلالين ساقطة.

(٤) ق : «لأنّه».

(٥) في المخطوطات «علته» والصواب ما أثبتناه ليتسق الكلام.

٢٠١

ذلك الآخر المتأخّر علّة في ثبوت المتقدّم لشيء ثالث ، فيكون المتقدّم في وجوده المطلق ، متأخّرا في (١) وجوده لذلك الثالث.

وكذا حمل الجنس القريب على النوع علّة لحمل الفصل القريب عليه ، لأنّ تأثير الناطق أوّلا في وجود الحيوان ، ثمّ إذا وجد الحيوان ، صار مجموع الحيوان الناطق إنسانا ، فالناطق يؤثّر أوّلا في الحيوان وبواسطته في الإنسان.

__________________

(١) ق : «وفي» ولعل الزيادة من الناسخ.

٢٠٢

الفصل الثالث :

في الخارج عن الماهيّة

الوصف الخارج عن الماهيّة قد يكون لازما كسواد القار. وقد يكون مفارقا ، إمّا سريع المفارقة كحمرة الخجل ، أو بطيء المفارقة كسواد اللحية. وأيضا إمّا سهل الزوال أو عسيره.(١) واللازم قد يكون لازما للماهيّة كزوجيّة الاثنين ، وقد يكون لازما للوجود كحدوث الجسم.

ولازم الماهيّة قد يكون بوسط وهو ما يقترن بقولنا : «لانّه» حين يقال (٢) لأنّه كذا ، كإمكان العالم اللازم بواسطة كثرته. وقد يكون بغير وسط ، بل بمقتضى طبعه كالانقسام للعدد. واللازم بغير وسط يجب أن يكون بيّنا ، لأنّ الماهيّة لمّا اقتضت ذلك اللازم ، اقتضته مطلقا ، سواء كانت ذهنية أو خارجيّة ، لأنّ الماهيّة حال كونها ذهنية هي الماهيّة حال كونها خارجيّة ، وإنّما يزيد الخارج عليها بالوجود ، وهو عارض خارجي ، ولو كانت إنّما تقتضيه في الخارج لكان الوجود وسطا في اللزوم ، وقد فرضناه بغير وسط. وإذا كانت لما هي هي مقتضية لذلك اللازم ، وهي من

__________________

(١) ج : «عسره».

(٢) ق : «بقولنا : حتى يقال».

٢٠٣

حيث هي هي ثابتة في الذهن ، فاقتضت ثبوت لازمها لها ذهنا (١) ، ولا نعني بالبيّن سوى ذلك.

لا يقال : لو كان كذلك لزم من تصوّر الشيء تصوّر أمور غير متناهية ، لأنّ لكلّ ماهيّة لازما وأقلّه أنّها ليست غيرها.

لأنّا نقول : لو سلّم أنّ لكلّ ماهيّة لازما ، لكن لا يجب أن يكون بيّنا ، فإنّ اللوازم قد يمكن أن يستمر الاندفاع فيها ما لم يطرأ على الذهن ما يوجب إعراضه عن تلك المتلازمات (٢) والتفاته إلى غيرها ، لكن مثل هذه اللوازم قليلة في الوجود.

أمّا اللوازم التي لا تنحصر ، فإنّها تحصل عند تصوّر الأمور التي إليها يقاس الموضوع كمساواة زوايا المثلّث لقائمتين. وتصوّر تلك الأمور التي هي شرط في حصولها ، ليس بواجب الحصول على الترتيب المؤدّي إلى وجود تلك اللوازم المترتبة. وكون الماهيّة ليست غيرها ، ليس لازما بيّنا يلحق الماهيّة لذاتها ، بل بالقياس إلى ذلك الغير. ولو لم يلحظه الذهن لم يحكم بالسلب ، لكن تصوّر ذلك الغير ليس بواجب من تصوّر الماهيّة ، واللازم بوسط (٣) إنّما يجب تصوّره مع تصوّر ذلك الوسط.

وللبيّن تفسيران : أحدهما الذي يلزم من تصوّر ملزومه تصوّره. والثاني الذي يلزم من تصوّر الماهيّة وتصوّر ذلك اللازم تصوّر اللزوم. (٤) والأوّل أخصّ.

وقد اعترض على اللزوم بأنّه لو ثبت ، فإمّا أن يكون عدميّا أو وجوديا ، والقسمان باطلان ، فتحقّق اللزوم باطل ، والشرطية ظاهرة.

__________________

(١) م : «ذهنا» ساقطة.

(٢) ق وج : «بل تلك المتلازمات».

(٣) في هامش ج : «كذا في المنقول منه واصفا قوله بخطه». والعبارة في النسخ مشوشة ، ولعلّ الصحيح ما أثبتنا منها.

(٤) في النسخ : «الملزوم» ، ولعلّ الصحيح ما أثبتناه.

٢٠٤

وبيان بطلان الأوّل : أنّه لا يبقى حينئذ فرق بين عدم اللزوم ولزوم عدمي ، لاستحالة التمايز في العدمات ، لأنّ التمايز من خواصّ الوجود.

وبيان بطلان الثاني : أنّه لو كان وجوديا ، فإمّا أن يكون نفس الملزوم (١) أو اللازم وهو محال ؛ لإمكان تعقّلهما من دون تعقّله وبالعكس ، ولأنّه نسبة وإضافة بين المتلازمين فيتأخّر عنهما ، فيتأخّر عن كلّ واحد منهما ، فلو كان نفس أحدهما لزم تأخّر الشيء عن نفسه بمرتبتين ، ولأنّه يستلزم كون كلّ واحد من كلّ متلازمين نفس هذه النسبة والإضافة ، وهو محال. وإمّا أن يكون مغايرا لهما وهو محال ، وإلّا لزم التسلسل ، أو عدم التلازم بين ما فرض ثبوته فيهما ، والتالي بقسميه باطل ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطيّة : أنّ ذلك الزائد إمّا أن يكون لازما أو لا ، فإن كان لازما كان لزومه زائدا عليه ، والكلام في ذلك الزائد كالكلام في اللزوم الأوّل ، وهكذا إلى ما لا يتناهى ، وهو أحد قسمي التالي. وإن لم يكن لازما جاز زواله ، وحينئذ ينتفي اللزوم بين المتلازمين ، لأنّهما إنّما تلازما باعتبار هذا اللزوم ، فإذا زال انتفى التلازم بين ما فرض ثبوته فيهما ، وهو القسم الثاني من قسمي التالي.

وأيضا لو تحقّق اللزوم ثابتا بين المتلازمين ، لزم اتّصاف المعدوم بالموجود ، والتالي باطل بالضرورة ، فكذا المقدم.

بيان الشرطية : أنّ شيئا ما من الأشياء لو كان لازما لغيره لكان عدم الملزوم لازما لعدم اللازم ، فيكون اللزوم الثبوتي حاصلا بين العدمين وصفة لهما ، فيكون الوصف الثبوتي قائما بموصوف معدوم ، وهو باطل.

والجواب : أنّ اللزوم وصف اعتباري عقلي لا ثبوت له في الخارج ، بل حكمه في الثبوت والانتفاء واحد.

__________________

(١) م : «اللزوم».

٢٠٥

قوله : لو كان عدميا لم يبق فرق بين عدم اللزوم وبين لزوم عدمي.

قلنا : ممنوع ، فإنّ الأوّل نفي مطلق اللزوم ، سواء كان ثبوتيا أو عدميّا. والثاني ثبوت لزوم عدمي وبينهما فرق وإن اشتركا في كونهما عدميّين. وأعدام الملكات قد تتمايز باعتبار تمايز ملكاتها ، ولو صحّ هذا الدليل لصحّ فيما علم بالضرورة بطلانه كالامتناع والعدم. والتمايز من خواص مطلق الوجود الشامل للذهني والخارجي ، فكما يقع بين الأمور العينيّة كذا يقع بين الأمور الذهنيّة ، وإمكان الانفكاك في التعقل يدلّ على الزيادة فيه ، لا على الزيادة في الخارج ، كما في الأجناس والفصول ، فإنّهما متغايران في التعقّل وإن اتّحدا في الوجود الخارجي. وبالجملة ، فالتحقيق في الجواب ما تقدّم من أنّ اللزوم اعتباري.

تتمّة : كلّ وصف فإنّه بالضرورة يستدعي موصوفا ينسب إليه ويكون محلّا له. لكن من الأوصاف ما هو ثابت في الأعيان ، فيجب ثبوت موصوفه في الأعيان لامتناع قيام الوصف بذاته ، ومنها ما هو ثابت في الذهن وهو ينقسم إلى ما يجب ثبوت الموصوف به في الأعيان أيضا ، كالوجوب ومنها ما لا يجب ، بل ولا يثبت.

٢٠٦

الفصل الرابع :

في الكلي والجزئي (١)

كلّ مفهوم فإمّا أن يمنع نفس تصوّر معناه من وقوع الشركة فيه ، ويسمّى الجزئي الحقيقي كزيد ، أو لا يمنع ، ويسمّى الكلّي كالإنسان ، فإن كان هذا الكلّي مندرجا تحت غيره ، سمّي أيضا جزئيا إضافيا ، بالنظر إلى ذلك الغير ، وهو أعمّ (٢) من الحقيقي مطلقا ، لاندراج كل حقيقي تحت ماهيته المعرّاة عن المشخصات وتحت الأمور العامّة ، وليس جنسا لانفكاكه عنه تصوّرا.

وإذا نسب الكلي إلى الوجود انقسم إلى ستة (٣) :

أ : ما يمتنع وجوده ، كشريك الباري تعالى.

ب : ما يمكن وجوده ولا يوجد ، كجبل من ياقوت (٤).

__________________

(١) راجع الفصل الخامس من المقالة الأولى (المدخل) من منطق الشفاء ١ : ٢٤ ؛ منطق النجاة : ٦ ؛ إلهيات النجاة : ٢٢٠ ؛ الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من إلهيات الشفاء : ٣٩٢ ؛ المعتبر ١ : ١٦ ـ ٢٢ ؛ كشف المراد : ٨٦ ـ ٨٧ ؛ جوهر النضيد : ١٢ وما يليها.

(٢) م : «أعم» ساقط.

(٣) انظر الأقسام في شرح الإشارات ١ : ٣٧ ـ ٣٨ ؛ الفصل الثاني من المقالة الخامسة من إلهيات الشفاء ؛ الجوهر النضيد : ١٢.

(٤) وكالعنقاء والغول.

٢٠٧

ج : ما يكون الموجود منه واحدا مع امتناع تكثّره ، كواجب الوجود تعالى.

د : ما يكون الموجود منه واحدا مع امكان تكثّره ، كالشمس.

ه : ما يتعدّد أفراده في الوجود مع تناهيها ، كالكوكب.

و : وما تتعدد أفراده في الوجود مع عدم تناهيها (١).

والكلّي والجزئي يقالان بالذات للمعنى ، وبالعرض للفظ. والكليّة والجزئيّة من ثواني (٢) المعقولات لا تأصّل لهما في الوجود ، وهما مغايران لما يصدقان عليه من الماهيّة ؛ فإنّ الحيوان لو كان نفس كونه كلّيا أو جزئيا لم يصدق على الآخر ، فهما إذن متغايران. ولأنّ الكليّة إضافيّة ، وليس الحيوان اضافيا.

فالكليّة العارضة للحيوان يقال له كلّي منطقي ، لأنّ بحث المنطقي عنه وهو أمر عقلي. ومعروضه وهو الحيوان يقال له كلّي طبيعيّ ، لأنّه نفس حقيقة الشيء وطبيعته ، وهو موجود في الخارج ، لأنّه جزء من هذا الموجود ، لأنّ الجزء إمّا الحيوان من حيث هو ، أو (٣) حيوان ما ، والحيوان جزء من حيوان ما وجزء الموجود موجود. والمجموع المركّب منهما عقلا يسمّى الكلّي العقلي ، ولا وجود له إلّا في العقل ، لأنّ جزئه عقلي ، ولأنّ الحيوان الكلّي مشترك فيه ، ولا شيء من المشترك فيه بموجود في الخارج من حيث هو مشترك فيه ، لأنّ عمومه يستدعي وجوده في محالّ متعدّدة ، ويمتنع وجود شيء واحد في أكثر من محلّ واحد(٤).

والكلّي والجزئي الإضافي يحاذيان العام والخاص. والعموم إمّا مطلق أو من وجه. فالعام المطلق وجودا أخص عدما ، لأنّ العامّ والخاص لا بدّ من تواردهما

__________________

(١) وقد مثل له في الجوهر النضيد ب «النفوس الناطقة».

(٢) م : «ثواني» ساقطة.

(٣) ق : «أو» ساقطة.

(٤) وقال السبزواري (في منطق شرح المنظومة : ٢٠)

ويوصف الكلّي بمنطقي

وبالطبيعي وبالعقلي

٢٠٨

على محل واحد ، وإلّا لتباينا ، ويتخلّى الخاص عن العام في موارد أخرى ، وإلّا لتساويا ، ففي تلك الموارد التي تخلّى الخاص عنها يوجد فيها نقيضه مع وجود عين العام فيها. وكلّ صورة ينتفي العام عنها ينتفي عنها الخاص ، وإلّا لكان أعمّ ، فإذا وجد نقيض الخاص في كلّ موضع يوجد فيه نقيض العام ، من غير عكس ، كان نقيض العام مطلقا أخص من نقيض الخاص مطلقا.

وأمّا العام من وجه ، فليس بين نقيضه ونقيض الأخص عموم مطلقا ، ولا من وجه ، بل مباينة جزئيّة ، لثبوت هذا العموم ، بين عين العام ونقيض الخاص مع التباين الكلّي بين نقيض العام وعين الخاص. ولمّا وجد كلّ منهما في صورة واحدة وعدم كلّ منهما مع وجود الآخر في غير تلك الصورة لا جرم كانت المباينة جزئية.

وبين نقيضي المتساويين وهما اللذان يصدق كلّ منهما على كلّ (١) ما صدق عليه الآخر مساواة أيضا ، إذ لو وجد أحدهما بدون صاحبه كان الموجود أعمّ من صاحبه لصدقه في تلك الصورة مع كذب الآخر.

وبين نقيضي المتباينين وهما اللذان لا يصدقان على شيء البتة تباين جزئي ، لأنّ نقيضيهما إن اقتسما طرفي النقيض لم يصدقا على شيء البتة ، كالموجود والمعدوم تباينا كلّيا. وإن لم يقتسماهما ، بل صدق عدمهما على ما يغايرهما ، كان بين نقيضيهما مباينة جزئية ، لصدق نقيض كلّ منهما على ما يغايرهما وصدقه على عين الآخر وكذب نقيض الآخر على عينه.

ولمّا كان الكلّي أعمّ من الجزئي ، وكان وجود الخاص في موارد يوجد فيها العام ، ويوجد العام في موارد لا يوجد فيها الخاص من صور ، أمكن وقوف العقل

__________________

(١) م : «ضد» وهو خطأ.

٢٠٩

على الصور التي تخلّى عنها الخاص من صور العام ، ولم يمكن وقوفه على صور الخاص إلّا مع وقوفه على العام ، لا جرم كان الكلّي أعرف من الجزئي.

والكلّي إمّا ذاتي أو عرضي (١).

والذاتي يقال على معان متعددة بالاشتراك ، يراد منها هنا معنيان ، أحدهما المقوّم لما يحمل عليه ، بأن يكون جزءا منه. والثاني نفس طبيعة ما يحمل عليه.

والأوّل لا اشكال فيه ، لامكان النسبة فيه ، بخلاف الثاني ، فإنّ الشيء لا ينسب إلى نفسه ، بل أطلق على نفس الماهيّة لفظة الذاتي بنوع من الاشتراك ، وإن كان بعضهم خصّ الذاتي بالأوّل (٢).

ومنهم من أطلق الذاتي على كلّ ما هو بيّن الثبوت للشيء ، سواء كان جزءا للماهية أو خارجا. ومنهم من فسّره بأعمّ ، وهو الذي يمتنع زواله عن الشيء ، سواء كان بيّن الثبوت له أو لا. والنزاع لفظي. لكن من فسّر اللفظ بأمر وجب عليه رعاية ذلك التفسير وأن يحترز عن الغلط الواقع بسبب الاشتراك.

والذاتي إمّا جنس : وهو الكلّي المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو من حيث هو كذلك.

وأقسامه أربعة :

العالي : وهو الذي لا جنس فوقه ، وتحته جنس ، ويسمّى جنس الأجناس (٣).

والسافل : وهو الذي فوقه جنس ، وليس تحته جنس.

__________________

(١) راجع الإشارات ١ : ٣٨ ـ ٣٩ ؛ النجاة ٦ ـ ٧ ؛ جوهر النضيد : ١٦ ـ ١٧ والمراد هنا هو الذاتي في كتاب ايساغوجي. وانظر معاني الذاتي في منطق الشفاء ١ : ٣٣.

(٢) هذا رأي الجمهور ، وقد أنكره قطب الدين الرازي وأجاب على الاشكال بقوله : (فانّ الشيء لا ينسب إلى نفسه). شرح الإشارات ١ : ٣٩ ـ ٤٠.

(٣) كالجوهر.

٢١٠

والمتوسّط : وهو الذي فوقه جنس وتحته جنس.

والمفرد : وهو الذي ليس فوقه جنس ولا تحته جنس.

لا يقال : المقول على كثيرين جنس للجنس ، فهو جنس خاص من حيث إنّه جنس للجنس ، فيكون أخصّ ، لكنّه أعمّ من مطلق الجنس ، فإنّ كلّ جنس أعمّ من نوعه ، ولأنّه محمول ، وإلّا لم يكن مقولا على كثيرين ، فإنّ المقوليّة نفس الحمل ، ولا شيء من الجزء بمحمول ، فلا شيء من الجنس بجزء ، فليس مقوّما بل عارضا. ولأنّه ليس في الخارج ، وإلّا لكان شخصا غير مقول على كثيرين ، ولا في الذهن لامتناع تقوّم الأنواع الخارجيّة بأمور ذهنية.

لأنّا نقول : المقول على كثيرين أعمّ من الجنس باعتبار ذاته ، وأخصّ باعتبار عروض الجنسيّة له. ولا استبعاد في صيرورة ما هو أعمّ ، باعتبار عروض عارض أخصّ أو مساويا ، كالجنس والمضاف والحدّ وحده. والحيوان المحمول ليس هو الجزء وإن اتّحدا في الذات ، لكنّهما متغايران بالاعتبار ، وهو موجود في الخارج لا باعتبار أنّه جنس أو كلّي ، بل من حيث هو هو. فمعروض الجنسيّة موجود لا من حيث العروض ، بل من حيث اعتبار الذات من حيث هي هي. وهو من حيث عروض الجنسيّة موجود في الذهن لا غير ، وليس هو من تلك الحيثيّة بمقوّم.

وإمّا نوع (١) : ويقال بالاشتراك على الحقيقي ، وهو الكلّي المقول على كثيرين متّفقين بالحقيقة في جواب ما هو من حيث هو كذلك. وعلى الإضافي ، وهو أخصّ الكليّين المقولين في جواب ما هو. وهما متغايران ، لامتناع الجنسيّة في الأوّل وامكانها في الثاني ؛ والاكتفاء بالمحموليّة في الأوّل دون الثاني ؛ وامكان بساطة الأوّل وامتناعها في الثاني ؛ واستغناء الأوّل أحيانا عن فصل أو جنس بخلاف الثاني. ولا يتلازمان ، لوجود الأوّل في الحقائق البسيطة دون الثاني ، وبالعكس في

__________________

(١) عطف على قوله : «والذاتي إمّا جنس» ، راجع شرح الإشارات ١ : ٧٩ ـ ٨٢.

٢١١

الأجناس المتوسّطة. والأوّل هو أحد الخمسة (١) ، وإلّا صارت القسمة مسدّسة ، لوجود الحقيقي في البسيط (٢).

ومراتب الإضافي أربع : العالي : وهو الذي تحته نوع ، وليس فوقه نوع.

والسافل : وهو الذي ليس تحته نوع ، بل فوقه ، ويسمّى نوع الأنواع (٣).

والمتوسّط : وهو الذي فوقه نوع ، وتحته نوع.

والمفرد : وهو الذي ليس فوقه نوع ، ولا تحته نوع.

وقد تتوارد بعض هذه المراتب وبعض مراتب الجنس على محلّ واحد ، هو كلّ ماهيّة اختلفت أفرادها في الحقيقة واندرجت تحت مثلها.

ولا وجود للمفرد والسافل إلّا في الحقيقي. ولا وجود للجنس العالي والمفرد إلّا فيما باين (٤) مراتب النوع. والطبيعة الجنسيّة إذا أخذت معقولة مجردة عن فصولها كانت نوعا حقيقيا ، وإنّما يكون جنسا لو التفت إلى فصولها التي تتحصّل بها أنواعا مختلفة في الأعيان.

وإمّا فصل (٥) : وهو الكلّي المقول على الشيء في جواب أيّما هو في جوهره. فمنه قريب وبعيد ، وهو بالنسبة إلى الجنس خاصّة ، كما أنّ الجنس بالنسبة إليه

__________________

(١) أي أحد الكلّيات الخمسة.

(٢) والمصنف جعل النسبة بينهما عموما من وجه حيث قال : وقد يتّفقان في التوارد على حقيقة واحدة كالنوع السافل فبينهما عموم من وجه ، الجوهر النضيد ٢١ ، وانظر مورد الاشتراك وتباينهما في شرح قطب الدين الرازي على شرح الإشارات ١ : ٧٩ ـ ٨٠.

(٣) كالإنسان. راجع الفصل الحادي عشر من المقالة الأولى (المدخل) من منطق الشفاء.

(٤) كذا في ق وفي م : بزيادة «من» بعدها. ولم أهتد للقراءة الصحيحة

(٥) عطف على قوله : «والذاتي إمّا جنس» و «إمّا نوع» ، راجع الفصل الثالث عشر من المقالة الأولى (المدخل) من منطق الشفاء ؛ الجوهر النضيد : ٢١.

٢١٢

عرض عام. ومقوّم العالي مقوّم للسّافل من غير عكس. (١) ومقسّم السافل مقسّم العالي من غير عكس. وللعالي فصل مقسّم لا يتقوّم (٢) ، والسّافل بالعكس ، والمتوسّطات لها فصول مقوّمة ومقسّمة.

وأمّا العرضي (٣) ، فإمّا خاصّة : وهي الكلّي المقول على أفراد حقيقة واحدة من حيث هو كذلك فقط قولا عرضيا ، سواء كانت تلك الحقيقة جنسا عاليا أو سافلا أو متوسطا أو نوعا حقيقيا.

والخاصّة إمّا مطلقة لا توجد في غير أفراد ما قيل له إنّه خاصّة له ، أو إضافية توجد في بعض ما غايره دون بعض. وهي إمّا شاملة لجميع أفراد الحقيقة ، أو قاصرة ، بسيطة أو مركّبة من أمور كلّ واحد منها أعمّ ويجتمع من المجموع مساو كقولنا في الخفاش : إنّه الطائر الولود. والمفيد في التعريفات الخاصّة اللازمة الشاملة البيّنة.

وإمّا عرض عام (٤) ، وهو الكلّي المقول على أفراد حقيقة واحدة وعلى غيرها قولا عرضيا من حيث هو كذلك. وهو مغاير للعرض القسيم للجوهر.

وقد ذكرنا أنّ الجنس والنوع يقالان في جواب ما هو ، لكنّ الجنس إنّما يقال في جواب ما هو حال الشركة ، لأنّ الجنس جزء الماهيّة ، والسائل بما هو إنّما سأل عن كمال الحقيقة ، فلا يجوز الجواب إلّا بذكر جميع المقوّمات. وإذا سئل عن جماعة من الأنواع صلح الجنس للجواب ؛ لأنّ السائل إنّما سأل عن كمال المشترك ، والحدّ يقال في جواب ما هو حال الخصوصيّة. والنوع يقال في جواب ما هو

__________________

(١) راجع الفصل الأوّل من المقالة الثانية من الفن الثاني من منطق الشفاء.

(٢) كذا في جميع النسخ ، ولعلّ الصحيح : «لا مقوّم».

(٣) راجع الفصل الرابع عشر من المقالة الأولى (المدخل) من منطق الشفاء ؛ الفصل الأوّل من مقولات الجوهر النضيد ٢٢.

(٤) عطف على قوله : «وأمّا العرضي فإمّا خاصّة».

٢١٣

بحسب الشركة والخصوصيّة معا ، لأنّه يقال في جواب السؤال عن فرد واحد ، وعن جميع الأفراد (١).

وفرق بين المقول في جواب ما هو الذي هو نفس الماهيّة وبين الداخل في جواب ما هو الذي هو جزء الماهيّة ، والواقع في طريق ما هو الذي هو الجزء الأعمّ (٢).

واعلم : أنّ الكلّ مغاير للكلّي والجزء مغاير للجزئي ، لأنّ الكلّ من حيث هو كلّ موجود في الخارج ، والكلّي من حيث هو كلّي لا يوجد إلّا في الذهن. ولأنّ الكلّ يعدّ بأجزائه ، والكلي لا يعدّ بجزئياته. ولأنّ الكلّي مقوّم للجزئي ، والكلّ متقوّم بالجزء ، ولأنّ الكلّ لا يكون كلّا لكلّ جزء وحده ، والكلّي يكون كليا لكلّ جزئي وحده. ولأنّ الكلّ أجزاؤه متناهية ، وجزئيات الكلّي غير متناهية. ولأنّ الكلّ محتاج إلى حضور أجزائه جميعا ، والكلّي لا يحتاج إلى حضور جزئيّاته جميعا. ولأنّ طبيعة الكلّ لا تصير هي الجزء ، أمّا طبيعة الكلّي فإنّها بعينها جزئية (٣) كالإنسان (٤).

__________________

(١) راجع شرح الإشارات ١ : ٦٩ ، وما يليها.

(٢) قال الطوسي : ... القوم لم يفرّقوا بين نفس الجواب الذي هو الماهية وبين الداخل فيه ، والواقع في طريقه الّذي هو جزء الماهية يعني الذاتيّ. شرح الإشارات ١ : ٦٧ ـ ٦٨.

(٣) الكلمة غير منقوطة في النسخ ، والصحيح ما أثبتناه ، ويمكن قراءتها : «جزئيه».

(٤) إذا صار هذا الإنسان مشار إليه ، وهذه سبعة فروق راجعها في المباحث المشرقية : ١ : ٥٧٥.

٢١٤

القاعدة الثانية

في تقسيم الموجودات

وفيه نوعان :

٢١٥
٢١٦

النوع الأوّل

في التقسيم على رأي المتكلّمين (١)

اعلم : أنّ الموجود إمّا أن يكون قديما لا أوّل لوجوده ، وهو الله تعالى ، أو محدثا لوجوده أوّل ، وهو ما عداه. فهنا فصول.

الفصل الأوّل :

في القدم والحدوث

وفيه مباحث :

البحث الأوّل : في تحقيقهما

القديم : هو الموجود الذي لم يسبقه العدم ، أو الموجود المساوق (٢) لأزمنة

__________________

(١) راجع أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ٥١ ؛ المعتبر ٣ : ٤١ ؛ كشف الفوائد : ٦٧ ؛ نقد المحصل : ١٢٢ وما بعدها ؛ شوارق الإلهام ، المسألة السادسة والعشرون من الفصل الأوّل. وانظر أنواع الحدوث وتقاسيم الوجود بحسبها في القبس الأوّل من القبسات.

(٢) م : «المساوي».

٢١٧

مقدّرة لا نهاية لها. وأمّا المحدث فله تفسيران : أحدهما : أنّه المسبوق بالعدم ، والثاني : أنّه المسبوق بالغير. وعلى كلا التفسيرين فالسبق هنا عند المتكلّمين إنّما هو بتقدير أزمنة لا نهاية لها.

قال الأوائل (١) : مفهوم قولنا : «كان الله تعالى موجودا في الأزل» إن كان عدميّا كان نقيضه وهو «ما كان الله تعالى في الأزل» ثبوتيا ، لكن قولنا «ما كان» عدمي ، ولأنّه إذا كان قولنا : «ما كان الله تعالى موجودا في الأزل» ثبوتيا كان المعدوم في الأزل موصوفا بوصف ثبوتي ، وهو محال.

وإن كان قولنا : «كان الله تعالى في الأزل» ثبوتيا ، فإمّا أن يكون نفس ذات الله تعالى ، أو مغايرا لها. والأوّل باطل ؛ لأنّ كونه في الأزل نسبة وإضافة لا تقوم بذاته ، بل إنّما يعقل وصفا لغيره ، فلا تأصّل له في الوجود ، بل هو من ثواني المعقولات ، والله تعالى قائم (٢) بذاته. ولأنّ كونه في الأزل نسبة له إلى الأزل ، والنسبة بين الشيئين متأخّرة عنهما ، والمتأخّر عن الشيء لا يمكن أن يكون نفس ذلك الشيء. ولأنّ كونه في الأزل ليس بحاصل الآن ، وإلّا لكان كلّ حادث الآن ، بل في كلّ آن سابق أو (٣) لاحق ، فلا تقدّم ولا تأخّر لبعض الموجودات على البعض ، وهو محال ، والله تعالى موجود الآن ، فتغايرا.

وبالجملة ، فالحكم بالتغاير ضروري أظهر من هذه البراهين ، فذلك المتغاير إن كان موجودا في الأزل ، فقد كان مع الله تعالى في الأزل غيره ، وهو محال عندكم. ولأنّ ذلك الغير هو الذي يلحقه معنى «كان» و «يكون» لذاته ، وهو الزمان ، فالزمان أزلي.

__________________

(١) وهم الفلاسفة.

(٢) م : «موجود» بدل «قائم».

(٣) م : «و» بدل «أو».

٢١٨

أجاب المتكلّمون : بأنّ معنى كون الله تعالى قديما ، أنّا لو قدّرنا أزمنة لا نهاية لها لكان الله تعالى موجودا معها بأسرها ، ولا يحتاج هذا المعنى إلى تحقّق الزمان ووجوده ، بل تقدير وجوده ، لأنّه لو اعتبر الزمان في ماهيّة القدم والحدوث لكان ذلك الزمان إمّا قديما أو حادثا ، فإن كان قديما ، فإن احتاج قدمه إلى زمان يصحبه ، وجب أن يكون له زمان آخر ، فللزمان زمان وهكذا إلى ما لا نهاية له. وإن لم يحتج قدم الزمان إلى اعتبار آخر (١) ، لم يجب اعتبار الزمان في معنى القديم ، فيكون القدم معقولا من غير اعتبار الزمان ، وإذا عقل ذلك في موضع ، فليعقل في جميع المواضع. وإن كان ذلك الزمان حادثا ، فإن اعتبر في حدوثه الزمان تسلسل ، وهو محال. وإذا لم يعتبر الزمان في الحدوث في نفس الزمان ، فليعقل مثله في جميع المواضع. ولأنّ القديم يمتنع اعتبار الزمان الحادث في تحقّقه.

قال أفضل المحقّقين : «لا يجب أن يكون نقيض العدميّ ثبوتيا ، بل منقسما إلى الثبوتي والعدميّ. وأيضا قولنا : «كان الله تعالى موجودا في الأزل» نقيض «ما كان موجودا في الأزل» وهي قضية ، ولا يكون شيء من المعدومات موصوفا بهذه القضيّة. وان جعل بإزائه «ما كان معدوما ما موجودا في الأزل» حتى يصير ذلك المعدوم موصوفا بأنّه لم يكن في الأزل ، لم تكن هذه القضيّة نقيضا للأولى ، لتخالف موضوعيهما. وإن أراد بذلك أنّ الكون واللاكون متناقضان ، والكون محمول على الله ، واللاكون محمول على المعدوم (٢) ، فيكون الكون وجوديا ، كان إيراد قضيّتين بدل مفردين حشوا. وما نقله (٣) عن المتكلّمين غير مرضي عند الكلّ منهم (٤) ، فإنّ كون الشيء مع الشيء لا يتحقّق إلّا فيما كان في زمان أو تقدير زمان.

__________________

(١) أي إلى اعتبار زمان آخر.

(٢) في المصدر «العدم».

(٣) أي الرازي.

(٤) «منهم» ساقطة في المصدر.

٢١٩

والمحقّقون منهم يقولون : معناه أنّه غير مسبوق بغيره.

لا يقال : إنّ السبق أيضا لا يتحقّق إلّا بتقدير زمان ، لأنّهم يقولون : «سلب السبق عنه (١) لا يقتضي كونه زمانيا» (٢).

وفيه نظر ، لأنّه ليس المقصود ما صدق عليه النقيض حتى يكون منقسما إلى ثبوتي وعدميّ ، بل نفس مفهوم النقيض ، وذلك غير منقسم.

والتحقيق : أنّ من المعقولات ما يوجد في الخارج فلا ينفك الخارج عنه وعن نقيضه بالضرورة ، لامتناع الخلو عن النقيضين. ومنها ما لا وجود له إلّا في الذهن ، ومثله حكم النقيضين فيه بالنسبة إلى الخارج سواء ، لأنّ أحدهما إذا أخذناه على أنّه ثبوتي لم يرد به الثبوت العيني ، بل الذهني. وهنا يكون أحدهما موجبا والآخر سالبا ، ولا يجب أن يكون أحدهما موجودا في الخارج ، والآخر معدوما ، بل موضوعاته.

وقولنا : «كان الله تعالى موجودا في الأزل» وإن كان قضيّة ، فليس المراد إلّا : الكون في الأزل هل هو ثبوتي أم لا؟ وكذا نقيضه الذي هو اللاكون.

والمتكلّمون لا يسلّمون افتقار المعيّة إلى الزمان ، كما لا يسلّمون أنّ التقدّم إنّما يكون بالزمان. والسبق أيضا عندهم لا يفتقر إلى الزمان.

البحث الثاني : في التفسير على رأي الحكماء الأوائل (٣)

فسّروا الحدوث بأمرين :

__________________

(١) في المصدر «منه».

(٢) نقد المحصل : ١٢٣.

(٣) لاحظ المباحث المشرقية ١ : ٢٢٧ ؛ شرح المواقف ٤ : ٢ وما بعدها.

٢٢٠