نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

مقدار ، ولا امتناع فيه ، ولا يلزم أن يتحرك المكان.

وعن ـ د ـ أنّه لا يرد على القائل بكون المكان بعدا ، بل على القائل بأنّه السطح. ويمكن الجواب :

بأنّ الموجب للمكان ليس مطلق الانتقال ، بل الانتقال الذي يكون بالذات لا بالعرض ، فانتقال الشيء بالذات ـ وهو أن يفارق ما يحيط به مفارقة من ذاته لا بسبب لزومه للمفارق بذاته ـ هو الموجب للمكان ، أو مفارقته لبعد يحلّ فيه بجملة أجزائه وأقطاره ، هو المحوج إلى المكان ، والسطح والخط والنقطة ، لا استقلال لها في المفارقة ، بل يتبع الجسم الذي هو محلها.

البحث الثالث عشر : في الخلاء (١)

وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : في أنّه هل هو ثابت أم لا؟

اعلم أنّ الخلاء يفسّر بأمرين :

أحدهما وجودي ، هو عبارة عن الأبعاد الثلاثة التي إذا حلّت في المادة

__________________

(١) عرّفه الجرجاني بأنّه : «البعد المفطور عند أفلاطون ، والفضاء الموهوم عند المتكلّمين ، أي الفضاء الذي يثبته الوهم ويدركه من الجسم المحيط بجسم آخر ، كالفضاء المشغول بالماء أو الهواء في داخل الكوز ، فهذا الفراغ الموهوم هو الذي من شأنه أن يحصل فيه الجسم ، وأن يكون ظرفا له عندهم ، وبهذا الاعتبار يجعلونه حيّزا للجسم ، وباعتبار فراغه عن شغل الجسم إيّاه يجعلونه خلاء ، فالخلاء عندهم هو هذا الفراغ مع قيد ألّا يشغله شاغل من الأجسام ، فيكون لا شيئا محضا ، لأنّ الفراغ الموهوم ليس بموجود في الخارج ، بل هو أمر موهوم عندهم ، إذ لو وجد لكان بعدا مفطورا ، وهم لا يقولون به. والحكماء ذاهبون إلى امتناع الخلاء ، والمتكلّمون إلى إمكانه» التعريفات : ١٣٥.

٤٠١

حصل الجسم منهما (١) ، وإن لم يحلّ فيها كان ذلك خلاء.

والثاني عدمي ، وهو الفراغ المتوهم ، وهو عبارة عن وجود جسمين لا يتلاقيان ولا يكون بينهما ما يلاقيهما (٢) ، وهي مسألة من الطبيعيات بحث المتكلمون عنها ليدفعوا شبه الفلاسفة في المعاد ، وفي إمكان خلق عالم آخر.

وقد اختلف الناس في ثبوت الخلاء ونفيه على التفسيرين ، فالمتكلمون على إثباته ، وهو مذهب جماعة من الأوائل (٣) ، وباقي الأوائل على نفيه ، وهو قول أبي القاسم الكعبي(٤).

لنا على ثبوت الخلاء وجوه (٥) :

الوجه الأوّل : لو كان العالم ملاء لامتنعت الحركة على شيء من الأجسام في الأين ، والتالي باطل بالضرورة ، فإنّا نشاهد الأجسام تتحرك وتنتقل من جهة إلى أخرى ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّ الجسم لو انتقل فإمّا أن ينتقل إلى مكان مملوء أو فارغ ، فإن كان فارغا فهو المطلوب ، وإن كان مملوءا ، فإمّا أن يبقى الجسم المالئ للمكان المنتقل إليه على حاله أو ينتقل ، فإن بقى لزم التداخل ، وهو باطل بالضرورة. وإن

__________________

(١) م : «منهما» ساقطة.

(٢) قال الطوسي : «هذا تعريف للخلاء الذي يكون بين الأجسام وهو الذي يسمّى بعدا مفطورا ولا يتناول الذي لا يتناهى» شرح الاشارات ٢ : ١٦٥.

(٣) قال الرازي : «الخلاء جائز عندنا وعند كثير من قدماء الفلاسفة ، خلافا لارسطاطاليس وأتباعه» تلخيص المحصل : ٢١٤.

(٤) وهو مذهب أكثر الفلاسفة كأرسطو والفارابي وابن سينا والطوسي ، وكذا فلاسفة الغرب منهم ديكارت حيث قال : «إنّ الكون كلّه ملاء لا يتخلّله خلاء» الموسوعة الفلسفية للدكتور عبد المنعم الحفني : ١٧٥.

(٥) راجع الفصل السادس من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ، قوله : فمن الحجج على ذلك [وجود الخلاء] ؛ المعتبر لأبي البركات البغدادي ٢ : ٤٤ ـ ٦٧.

٤٠٢

انتقل فإمّا إلى مكان الأوّل فيلزم الدور ؛ لأنّ حركة الجسم الأوّل إلى المكان الثاني تتوقف على انتقال الجسم الثاني إلى المكان الأوّل ، ولكن انتقال الجسم الثاني إلى المكان الأوّل يتوقف على فراغ المكان الأوّل بحركة الجسم الأوّل عنه إلى المكان الثاني وأيضا لو أمكن أن يتحرك كلّ من الجسمين إلى مكان صاحبه ، لأمكن أن نأخذ كوزين مملوءين من الماء ، فينتقل الماء من أحدهما إلى الآخر في حال انتقال الماء من الكوز الآخر إلى الأوّل. وإمّا إلى مكان آخر (١) ، وننقل الكلام إليه ، فيلزم حركة جميع الأفلاك والعناصر من حركة البقة ، وهو ضروري البطلان.

الوجه الثاني (٢) : إذا وضعنا سطحا أملس على مثله ، بحيث يلاقي كلّ واحد من السطحين بجملة أجزائه جميع السطح الآخر بجملة أجزائه ، وذلك ممكن بالضرورة ، ولأنّه لو لم يمكن تلاقي السطوح لزم الخلاء وهو المطلوب ثمّ رفعنا أحد السطحين عن صاحبه دفعة ، ارتفعت جميع أجزائه ، إذ لو بقى من أجزائه شيء ملاق للأسفل لم يرتفع لزم تفكك الأعلى ، لأنّ ارتفاع الجزء الأوّل يقتضي حصوله في جهة فوق وبقاء الثاني على حاله يقتضي عدم مصاحبته له في الارتفاع ، بل يبقى مماسا للأسفل كما كان أوّلا ، وهذا عين التفكّك.

وبهذا الوجه استدل الأوائل على بطلان الجزء (٣) بوقوع التفكك في أجزاء الرحى ، حيث سكن الجزء القريب من القطب ، ولم يفارق مكانه حال مفارقة الجزء القريب من المنطقة ، والتفكّك باطل بالحسّ.

ولو سلّم قلنا : اللامماسة من الأمور الآنية ، فالجسمان المفروضان كانا أوّلا متماسّين ، فإذا صارا لا متماسّين ، فالذي صار لا مماسا دفعة ، إمّا أن يكون سطحا

__________________

(١) عطف على قوله : «فإمّا إلى مكان الأوّل».

(٢) قال الرازي : وهو الحجة القوية لمثبتي الخلاء.

(٣) أي الجزء الذي لا يتجزأ ، راجع المجلد الثاني (الفصل الأوّل في الجوهر الفرد).

٤٠٣

منقسما ، أو غير منقسم ، فإن كان منقسما فله جوانب وأطراف ، وقد ارتفع بجميع جوانبه وأطرافه دفعة عما كان مماسّا له من السطح الأسفل ، فيثبت جواز ارتفاع السطح الأعلى بجملته عن الأسفل ، وإن كان ذلك المرتفع غير منقسم ، لزم تركّب السطح من النقط وهو محال. وإذا أمكن ارتفاع أحد السطحين عن صاحبه دفعة ، لزم وقوع الخلاء في وسطه ، لأنّه لو كان بينهما جسم ، لكان :

إمّا سابقا على الرفع بينهما فيلزم عدم تلاقيهما ، مع أنّا فرضناهما متلاقيين ، هذا خلف ؛ لأنّه يلزم أن لا يكون بين جسمين مماسّة إلّا بثالث يتوسّطهما ، وننقل الكلام إلى الثالث ، فيلزم وجود ما لا يتناهى من الأجسام حالة المماسّة بين المتماسّين. وهو ضروري البطلان ، ومع ذلك فلا بدّ وأن يتلاقى منها جسمان ، وإلّا لم يكونا متلاقيين. فتلك السطوح المتلاقية ليس بينها شيء ، وهو كاف في الغرض.

وإمّا أن يكون حاصلا حال الرفع فنقول : ذلك المتوسّط إمّا أن ينتقل من مسامّ الأعلى والأسفل ، أو من الجوانب. والأوّل باطل ، لأنّ الأجسام وإن اشتملت على مسامّ ومنافذ ، لكن بين كلّ منفذين سطح متصل لا منفذ فيه ، وإلّا لم يكن في الجسم ذي الثقب سطح متّصل ، فيكون ذلك الجسم عبارة عن جواهر أفراد متفرقة متبددة ، وذلك محال ؛ لامتناع وجود الجوهر الفرد عندهم ، ولأنّه يلزم عدم الأجسام بالكلّية ، إذ الجسم هو الطويل العريض العميق ، وليس شيء من النقط المتفرقة كذلك ، ولا جسم هنا غيرها. ولأنّ تلك المنافذ إن كانت خالية ثبت المطلوب ، وإن كانت مملوءة ثبت انطباق جسم لا منافذ فيه ـ وهو الحاصل من النقط المتفرقة ومن الأجزاء المالئة لتلك المنافذ ـ وهو المطلوب. وإذا انتفت المنافذ استحال أن يقال : الهواء يدخل من المسام في ذلك الوسط.

وإمّا أن يدخل من الجوانب ، فنقول : لا يمكن حصوله في الوسط إلّا بعد مروره بالجوانب ، لكنّ حال مروره بالجوانب لا يمكن أن يكون في الوسط ؛

٤٠٤

واحد منهما سبب للآخر فهو باطل ، بل السبب في تحرك الثاني تحرك الأوّل ، وليس تحرك الثاني سببا لتحرك الأوّل. وإن أرادوا به أنّ تحرك كلّ واحد منهما مع تحرك الآخر فجائز ، فإنّ حركة الخاتم غير مفارقة لحركة الإصبع ، وإن كانت حركة الإصبع علّة لحركة الخاتم. والفرق بين هذين وبين الكوزين ، أنّه إذا كان كلّ واحد من الكوزين مملوءا ماء ، فعند انضمام فوهة كلّ واحد منهما على الآخر ، يتكافأ دفع كلّ واحد منهما للآخر ، فلم يخرج شيء من الماء عن مكانه لتكافؤ الدفع وحصم جنبات الكوز لكلّ قطعة من الماء من جانب من الكوز على الماء الذي في الكوز الآخر ، كان يمكن أن يخرج على جملة الكوز. (١) وأمّا إذا لم تنضم فوهة كلّ واحد من الكوزين على الآخر ، وأملنا كلّ واحد منهما ، فإنّ الماء يخرج حالة ما نميله ويرسب في الهواء. فأمّا الهواء الذي يتحرك فيه فليس كذلك ، لأنّه لا يجوز أن يرسب ، فلذلك يمكنه أن يتحرك إلى المكان الذي كان فيه. ثمّ يدل على إمكان هذا القسم ، تحرك السمكة في الماء ، فإنّ الماء يتحرك عن جنبها إلى مكانها.

والذي يقال من أنّ في الماء خللا خالية ، فإذا تحركت السمكة اندفع الماء إلى ذلك الخلل فحصل المكان للسمكة ، باطل.

أمّا أوّلا ، فلأنّه لو كان كذلك لما انحدر الماء إلى مكان السمكة ؛ لأنّه لمّا وجد فيما يلي مكان السمكة أماكن كثيرة غير المكان الذي كانت السمكة فيه ، فأيّ حاجة به إلى دخول ذلك المكان؟

وأمّا ثانيا ، فلأنّ الماء لطيف سيّال ، فلما ذا لم يدخل تلك الخلل الخالية؟

والجواب عن الأوّل : أنّه مبني على ثبوت المادة ، وسيأتي بيان بطلانه إن شاء

__________________

(١) في العبارة تشويش ولعلّ فيها سقطا ، وهي في المباحث كذا : «وحصر جنبات الكوز لكلّ قطعة من الماء ومنعها إيّاها من التحرك إلى جانب مخصوص. نعم لو اعتمد الماء من جانب الكوز على الماء الذي في الكوز الآخر كان يمكن أن يخرج من الجانب الآخر إلى الكوز الآخر».

٤٠٥

ويكون الوسط خاليا ، لامتناع دخول جسم فيه.

الوجه الثامن : لو ملأنا زقّا بجسم ثمّ شددنا رأسه ، ثمّ أدخلنا فيه مسلّة (١) ، فإنّها تدخل فيه ، ولو لا وجود الخلاء بين أجزائه لامتنع ذلك فيه.

الوجه التاسع : إذا ملأنا إناء من رماد وشبهه أمكننا أن نصب عليه الماء بقدر ما يملؤه ، فلو لا أنّ هناك خلاء لامتنع ذلك.

الوجه العاشر : أنّا قد نملأ دنّا (٢) شرابا ، ثمّ نخرجه منه ونجعله في ظرف ، ثمّ ندخله في الدّن ، فإنّه يسعهما ، فلو لا أن بين أجزاء الشراب خلاء انحصر فيه مقدار مساحة الظرف ، وإلّا لم يسعهما. (٣)

الوجه الحادي عشر : لو فرضنا خطا من ستة أجزاء ، ثمّ رفعنا الأجزاء التي بين الطرفين ، فإن التقى الطرفان في الحال لزم الطفرة ، وإن لم يلتقيا ثبت الخلاء.

الوجه الثاني عشر : يصحّ أن يوجد الله تعالى السماء والأرض ولا هواء بينهما ، لأنّهما لا يحتاجان إليه ، ولا يحتاج القديم تعالى في خلقهما إليه.

اعترض (٤) على ـ الأوّل ـ بأنّ المتحرك يدفع ما قدّامه من الهواء ، ويمتدّ ذلك إلى حيث لا يطبع فيه الهواء المتقدّم ، فيتكوّن الموج من المندفع وعن المندفع ، ويضطر إلى قبول حجم أصغر ، وأمّا خلفه فيكون بالعكس ، فيكون بعضه ينجذب معه وبعضه يعصي فلا ينجذب ، فيتخلخل ما بينهما إلى حجم أكبر. وأيضا ينتقل الجسم إلى مكان الهواء عند انتقال الهواء إلى مكانه.

وقولهم تتوقف حركة كلّ من الجسمين على حركة الآخر ، إن أرادوا به أنّ كلّ

__________________

(١) الابرة الكبيرة ، وجمعها «مسالّ».

(٢) وعاء كبير ، يستعمل للشراب.

(٣) كذا العبارة ، وفي المباحث بدل «وإلّا لم يسعهما» : «لاستحال ذلك».

(٤) راجع الفصل الثامن من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٣٥٤ ـ ٣٥٧. وبعد كل اعتراض يجيب العلّامة.

٤٠٦

لاستحالة حصول الجسم الواحد في مكانين دفعة ، وإذا لم يكن في الوسط لزم خلوّ الوسط ، وهو المطلوب.

الوجه الثالث : الجسم إمّا أن يجب فيه ملاقاة سطحه لسطح جسم آخر ، أو لا يجب ، فإن وجب لزم أن يكون كلّ سطح مماسّا بسطح آخر ، فيلزم وجود أجسام لا نهاية لها ، وهو باطل. وإن لم يجب جاز أن يوجد جسم لا يلقاه جسم آخر ، وذلك هو القول بالخلاء.

الوجه الرابع : النامي إنّما يتحقق فيه النمو لو نفذ فيه شيء ، فيكون ذلك النافذ ينفذ في الخلاء لا في الملاء.

الوجه الخامس : نرى الأجسام تتخلخل وتتكاثف من غير دخول شيء فيها أو خروجه عنها ، والتخلخل تباعد الأجزاء بعضها عن بعض بحيث يصير ما بينها خاليا ، والتكاثف رجوع الأجزاء إلى الأجزاء (١) الخالية.

الوجه السادس : القارورة (٢) إذا كبت في الماء لم يدخل فيها شيء منه ، ولو مصّت مصّا شديدا ، وختم رأسها ، ثمّ كبت فيه وأزيل الختم ، فإنّ الماء يدخلها ، ولو كان الهواء بعد المص موجودا كما كان قبله ، وكانت مملوءة به أو بغيره كما كانت أوّلا ، لم يفترق الحال فيها ، وكان لا يدخلها شيء بعده كما لا يدخل قبله.

الوجه السابع : إذا أخذنا زقّا (٣) خاليا وألصقنا أحد جانبيه على الآخر بحيث لا يبقى بينهما شيء من الهواء البتة ، ثمّ شددنا جوانبه شدا وثيقا وقيّرناه (٤) بما يمنع من نفوذ شيء من الهواء إليه ، ثمّ رفعنا أحد طرفيه عن الآخر ، فإنّه يرتفع ،

__________________

(١) كذا في النسخ ولعل الصواب «الأحياز».

(٢) القارورة جمعها قوارير : إناء يجعل فيه الشراب والطيب ونحوهما.

(٣) الزقّ : جمعه زقاق : جلد يجز ولا ينتف ويستعمل لحمل الماء.

(٤) القار والقير : مادة سوداء تطلى بها الطرق والشوارع وغيرها وهو الزفت.

٤٠٧

الله تعالى ، وعلى زيادة المقدار على الجسم ، وقد تقدم فساده.

وعن الثاني : فراغ المكان المنتقل إليه شرط في حركة الجسم إليه ، والشرط مقدّم بالذات على المشروط ، وإن قارنه بالزمان ، وحديث السمكة ضعيف ، لأنّ وجود الخلل بين أجزاء الماء ممكن محتمل ، والدور الذي ذكرناه قطعي ، فلا يعارضه المحتمل.

وعلى ـ الثاني ـ بارتفاع أحد السطحين عند ارتفاع الآخر ، على ما يأتي من تلازم صفائح الأجسام.

والجواب : أنّه باطل بالحسّ ، فإنّا نرفع الأجسام الصقيلة بعضها عن بعض ، فانّ فرض اختلاف السطحين بالخشونة والملاسة ، واختلافهما بالوضع ، بحيث يكون في أحدهما ارتفاع بعض أجزائه عن بعض ، وفي الآخر انخفاض.

قلنا : لا بدّ في السطحين من سطوح ملس ، وإن كانت صغارا ، ومنها يحصل المطلوب.

وعلى ـ الثالث ـ بجواز أن يكون الجسم يقتضي أن يلقاه جسم آخر لا مطلقا ، حتى يلزم عدم تناهي الأجسام ، بل بشرط أن يوجد جسم آخر خارج عنه.

وهو ضعيف ، إذ العقل يشهد بعدم دخول هذا الشرط الذي ذكرتموه في الاقتضاء.

وعلى ـ الرابع ـ بأنّ الغذاء لو كان ينفذ في الخلاء لكان الحجم قبل الدخول وبعده متساويا ، وليس كذلك ، بل الغذاء ينفذ بين الأجزاء المتماسة من الأعضاء ، بأن يبعد جزءا عن جزء ويسكن فيما بينهما.

وهو ضعيف ، وإلّا لزم وقوع الألم لوجود سببه.

وعلى ـ الخامس ـ بأنّ التخلخل والتكاثف قد يكونان حقيقيّين بأن تتصف

٤٠٨

المادة بمقدار أكبر أو أصغر من غير انضياف شيء إليها ، أو انفصال شيء عنها وقد يكونان مشهوريين بأن ينفصل منه شيء ، أو تندمج أجزاءه ، أو ينضاف إليه شيء من خارج ، أو تتنفش (١) أجزاؤه ، وحينئذ يندفع الإشكال.

ويضعّف بأنّه مبني على المادة ، وسيأتي إبطالها.

وعلى ـ السادس ـ بأنّ العلّة لو كانت خلو القارورة لما وجب صعود الماء إليها ، لأنّ الهواء الخارج قد وجد مكانا فارغا في العالم ، وفراغ بعض القارورة أمر ممكن ، وليس من شأن الماء الصعود ، فلو لا امتناع الخلاء لما صعد ، فهو يدل على الملاء لا على الخلاء.

وتحقيق الجواب : أنّ المادة الواحدة قد تتصف بمقدار عظيم بعد صغير ، ولا بدّ وأن يكون أحدهما طبيعيا والآخر قسريا ، كما في الكيفيات من كون بعض الأجسام يستحق بطبعه الحرارة وبعضها البرودة ، فإذا خرج بعض الهواء من القارورة بالمصّ ، اكتسب الهواء الباقي في القارورة مقدارا أكبر بالقسر ، خصوصا وحركة المصّ توجب السّخونة المقتضية للتخلخل وعظم المقدار ، فلا يلزم الخلاء.

ولمّا كان هذا المقدار قسريا كان في طبيعة الهواء اقتضاء العود إلى المقدار الأوّل الطبيعي ، فإذا لقيه برد الماء تكاثف الهواء ، وعاد إلى مقداره الأوّل الطبيعي له ، فيتصاعد الماء لضرورة الخلاء. ويدل على هذا التخلخل والتكاثف بالمعنى الحقيقي هنا ، أنّا إذا جعلنا قارورة ضيّقة الرأس فنفخنا فيها ، ووضعنا الإصبع مع قطع النفخ سريعا على فمها لئلا يخرج ما نفخنا فيها ، دخل هواء أزيد مما كان قبل

__________________

(١) نقش القطن أو الصوف : فرّقه ، إذا مدّه حتى يتجوف. وكلّ شيء تراه منتبرا رخو الجوف ، فهو منتقش. (لسان العرب ، مادة نفش).

٤٠٩

النفخ فيه ، لأنّا متى غمسناها منكوسة والإصبع على فمها ، ثمّ رفعنا الإصبع يتبقبق (١) الماء، ولو لم ينفخ فيها لم يتبقبق ، فهذا الهواء الذي أدخلناه إن كان قد دخل في خلاء لم يخرج عن القارورة في الماء ولم يتبقبق ، فلما خرج علمنا أنّها كانت مملوءة ، وأنّا لما أدخلنا الهواء الجديد فيها تكاثف الهواء الذي كان فيها قسرا ، حتى حصل للداخل بالقسر مكان ، فلما زال القاسر خرج الهواء الجديد ، وعاد الهواء الأوّل إلى مقداره الطبيعي.

والجواب : أنّه لا يدلّ على نفي الخلاء لجواز أن يكون في الإناء قبل المصّ من الهواء شيء كثير بحيث يمانع دخول الماء فيه ، للتعاند الواقع بين العناصر ، وإن كان فيه أجزاء خالية ، وبعد المصّ يخرج من الهواء أكثره ، فلا يبقى للماء مانع من الدخول فيه ، ولا نسلّم أنّ صعود الماء لامتناع الخلاء. ولبس المادة مقدارا بعد خلع آخر ، يتوقف على ثبوت المادة وزيادة المقدار ، وهما ممنوعان. ولو كان للهواء مقدار طبيعي لوجب تشارك الكلّ من الهواء والجزء منه فيه. ثمّ إنّ صعود الماء قسري وبقاء الهواء على القدر الثاني قسري ، فلم كان أحدهما أولى؟!

وكثافة الهواء بسبب البرد إن اقتضت عود الهواء إلى مقداره الطبيعي وجب الخلاء عند دخول أوّل جزء من الماء لحصول البرد به (٢). وإن اقتضت زوال الهواء عن مقداره القسري لم يكن حصول بعض المقادير له أولى من غيره. وإن اقتضى طبعه حصول القدر المالى مطلقا ، فلم لا كان ذلك قبل الدخول؟! ولأنّه يستلزم أولوية الاختصاص مع عدم سببها (٣). ولأنّ مقتضى الطبيعة واحد ، والقدر المالئ غير واحد ، لاختلافه بسبب اختلاف الخلاء. ولأنّه لو كان البرد موجبا لكثافة

__________________

(١) البقبقة و (بق بق) : حكاية صوت الكوز في الماء.

(٢) م : «البرديّة».

(٣) م : «سبقها».

٤١٠

الهواء بحيث يصغر مقداره ، لوجب أن يختلف حال القارورة قبل المصّ بين وضعها على الماء الحار والبارد ، فإنّه في الثاني يحصل للهواء برد فيحصل له بسببه كثافة ، فيصغر مقداره ، فكان يجب أن يصعد من الماء قدر ما يملؤه من غير مصّ وليس كذلك. وخروج الهواء الجديد من القارورة التي نفخ فيها قسري ، وبقاء الهواء الذي كان أوّلا على المقدار الذي حصل له بعد النفخ قسري ، فلم كان أحدهما أولى من الآخر بالزوال ، والآخر أولى بالبقاء؟

وعلى ـ السابع ـ بالمنع من عدم رفع أحد طرفيه عند ارتفاع الآخر ، اللهمّ إلّا إذا كان فيه مسامّ يسيرة جدا لا تحسّ بها ، وينفذ قدر يسير من الهواء فيها ، حتى يدخل في الزق فيرتفع قدر يسير جدا.

والجواب : لو امتنع ذلك في الزق لامتنع الرفع في كلّ سطح أملس وضع على مثله ، وقد تقدم.

وعلى ـ الثامن ـ أنّ المسلّة إذا دخلت خرج بعض الهواء من مسام الزق ومنافذه الغير المحسوسة ، أو ترتفع أطراف الزق ارتفاعا يسيرا بقدر ما دخل من رأس المسلّة.

والجواب : أنّ الهواء جسم واحد متصل بالذات عندكم ، لا جزء له بالفعل ، فلا أولوية لاختصاص بعض الجوانب منه بالخروج من بعض.

وعلى ـ التاسع ـ بأنّه كذب ، إذ لو كان كذلك لكان الإناء كلّه خاليا لا رماد فيه.

والجواب : أنّا لا ندعي نفوذ قدر الإناء من الماء بل نفوذ قدر كثير منه في الإناء ، وهو كاف في المطلوب.

وعلى ـ العاشر ـ بجواز أن يكون المقدار الذي للزق لا يظهر تفاوته في

٤١١

الحبّ حسّا. ويجوز أن يكون الشراب ينعصر ، فيخرج منه بخار أو هواء فيصير أصغر. ويجوز أن يصغر بتكاثف طبيعي أو قسري.

والجواب : أنّ هذه كلّها أمور ظنية ، والتعويل على ما تقدم من البراهين.

واحتج النافون بوجوه (١) :

الوجه الأوّل : الخلاء قابل للتقدير والمساواة والمفاوتة ، وكلّ ما كان كذلك فهو أمر وجودي هو كمّ أو ذو كم. أمّا الصغرى فلأنّ الجسمين غير المتلاقيين إذا خلا ما بينهما أمكننا أن نقيسه إلى خلاء آخر بين جسمين آخرين ، وننسبه إليه بالمساواة والمفاوتة ، فإنّا نعلم بالضرورة ، أنّ ما بين السماء والأرض أزيد ممّا بين طرفي الجدارين ، وما بين طرفي الجدارين أقلّ ما بين السماء والأرض وأزيد ممّا بين طرفي الإناء ومساو لما بين طرفي جدارين مساويين لهما في التباعد. وأنّ كلّ ذلك يقبل التقدير بالأذرع وشبهها. وأنّ ما بين جسمين غير متلاقيين ، قد يكون بحيث يمتلئ بالذراع الواحد ، وقد يكون بحيث يفضل عن الذراع ، وقد يكون بحيث لا يتسع للذراع الواحد ، والذي بين جسمين آخرين قد يكون مخالفا لما بين الجسمين الأوّلين ، وقد يكون موافقا في احتمال الأجسام العظيمة والصغيرة.

وليست هذه أحكام وهمية كاذبة ، فإنّ اتساع ما بين الجسمين المفروضين تارة للذراع ، وتارة لما هو أقل ، وتارة لما هو أكثر ، وفضل البعد بين السماء والأرض على البعد بين الجدارين أمر حاصل في نفس الأمر واقع سواء فرضه فارض واعتبره معتبر أو لا. وقبول المساواة والمفاوتة والتقدير من خواص الكم ، فبطل بهذا مذهب من يرى أنّ الخلاء عدم صرف ، ونفي محض ، وفراغ متوهم.

__________________

(١) راجع شرح الاشارات ٢ : ١٦٤ ـ ١٦٦ ؛ الفصل الثامن من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٣٣٨.

٤١٢

ثمّ نشرع بعد ذلك في إبطال المذهب الثاني (١) فنقول :

قد ثبت أنّ الخلاء يمكن مسحه وتقديره ، وهو من خواص الكم ، فإمّا أن يكون كمّا متصلا أو منفصلا. والثاني باطل ؛ لأنّ المنفصل حصوله من الوحدات الغير القابلة للانقسام ، فكان يستحيل أن يحلّ فيه الجسم القابل للانقسام أبدا. ولأنّ المنفصل غير ذي وضع ، ومكان الجسم يجب أن يكون ذا وضع ، فهو (٢) كمّ متصل. فإمّا أن يكون كمّا متصلا بالذات أو بالعرض.

فإن كان كمّا متصلا بالذات ، ولا شك أنّه ذو وضع ، فيستحيل أن يوجد إلّا في المادة لما مضى من امتناع قيام المقدار بذاته مجردا عن المادة ، فيكون الخلاء جسما ، فلا يكون خلاء.

وإن كان متصلا بالعرض ، فإمّا أن يكون الخلاء حالّا في المقدار ، أو المقدار حالّا في الخلاء ، أو الخلاء والمقدار حالّين في ثالث ، فإن كان الأوّل كان الخلاء حالّا في المقدار ، والمقدار حالّ في المادة (٣) ، فيكون ملاء لا خلاء ، وكذا الثالث. وإن كان الثاني كان الخلاء جسما ، لأنّه لا معنى للجسم إلّا الذي فيه قابلية الأبعاد ، فيكون الخلاء ملاء. ولأنّ الخلاء لو حصل فيه الجسم لزم اجتماع مقدارين متماثلين في الماهية في مادة واحدة ، واجتماع المثلين محال. ولأنّ المانع من التداخل هو المقدار ، فلو كان الخلاء مقدارا منع دخول الأجسام فيه.

الوجه الثاني : الأبعاد متناهية على ما تقدم ، وكلّ متناه فله حدّ واحد يحيط به كالكرة ، أو حدود تحيط به كالمثلثات وما عداها ، وكلّ ما له حدّ أو حدود محيطة

__________________

(١) من القائلين بالخلاء وهو مذهب من يقول : إنّ الخلاء أمر وجودي.

(٢) أي الخلاء.

(٣) م : «فالخلاء حالّ في المادة».

٤١٣

به ، فإنّه يكون مشكلا (١) ، على معنى أنّ له هيئة إحاطة الحدّ أو الحدود به ، فلو كان الخلاء بعدا مجردا لكان متناهيا ذا شكل ، فالشكل إن حصل للمقدار لذاته لزم تساوي الكلّ والجزء فيه ، لتساويهما في الطبيعة والحقيقة ، وكلّ متساويين في الحقيقة يجب تساويهما في اللوازم ، فكان شكل الكل والجزء واحدا ، فلا يكون الكلّ كلّا ، ولا الجزء جزءا. ولأنّه لو ساوى الجزء الكلّ في الشكل كان شكل الكلّ لا لذاته ، فيصحّ توارد الأشكال عليه ، وكلّ ما كان كذلك كان جسما ، فالخلاء جسم ، هذا خلف.

وإن حصل الشكل للمقدار بسبب فاعل ، كان المقدار الواحد الجسماني مستقلا بقبول الفصل والوصل والتمدد ، لأنّ قبول الشكل إنّما يكون بواسطة ذلك ، لكنّ ذلك محال ، لأنّ المقدار إنّما يوجد في المادة. فتعيّن أن يكون ذلك الشكل حصل للمقدار بواسطة المادة ، فذلك المقدار مادّي ، والمادة الموصوفة بالمقدار تكون جسما ، فالخلاء جسم ، هذا خلف. ولأنّ الشكل إذا لم يكن للمقدار لذاته صحّ عليه توارد الأشكال المختلفة ، وكلّ ما صحّ عليه توارد الأشكال المختلفة يكون جسما ، فيكون الخلاء جسما ، وهو محال.

الوجه الثالث : لو كان الجسم حاصلا في الخلاء استحال أن يكون متحركا فيه بالطبع وبالقسر وبالإرادة (٢) ، أو ساكنا ، والتالي باطل بالضرورة فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ الخلاء إمّا أن يكون متشابه الأجزاء أو لا يكون. والثاني محال ، لأنّ مخالفة جزء منه لجزء آخر منه ، إمّا أن يكون لازما لذلك الجزء لذاته وماهيته فيلزم اختلاف المتساويات في الماهية بالماهية ، وهو ضروري البطلان ؛ لأنّ

__________________

(١) قال الجرجاني في تعريف الشكل : «هو الهيئة الحاصلة للجسم بسبب إحاطة حدّ واحد بالمقدار ، كما في الكرة ، أو حدود ، كما في المضلّعات من المربّع والمسدّس». التعريفات : ١٦٩.

(٢) أقسام الحركة ساقطة في م.

٤١٤

الخلاء إن كان عبارة عن عدم الأجسام استحال أن يكون فيه مخالفة ، بل استحال أن يكون فيه جزء مغاير لجزء ، بل لا جزء فيه البتة. وإن كان عبارة عن الأبعاد المفارقة ، لم يعقل فيه اختلاف البتة في نفس هذا المفهوم. أو يكون لازما لأمر يحلّ فيه ، وهو باطل ؛ لأنّ ذلك الحالّ (١) إن كان لازما لذلك الجزء من الخلاء فهو باطل ؛ لأنّ لوازم الماهية مشتركة بين أفرادها ، فلو لزم جزءا من الخلاء لازم ، كان لازما لكلّ جزء ، ولا يقع اختلاف بين جزء وجزء فيه ، وإن لم يكن لازما لم يكن التخالف بسببه لازما. أو لأمر يحلّ فيه ، وهو محال ؛ لأنّ الخلاء حينئذ يكون ملاء.

وإمّا أن لا يكون وجه المخالفة لازما البتة ، فيمكن زواله ، فيحصل التساوي بين أجزاء الخلاء. فتعيّن الأوّل ، وهو التساوي بين الأجزاء المفروضة في الخلاء.

وإذا ثبت تساوي أجزاء الخلاء امتنع أن يكون بعضها مكانا طبيعيا للجسم ، وبعضها غير طبيعي ، فاستحال أن يكون بعضها مطلوبا بالطبع ، وبعضها مهروبا عنه بالطبع ، لاستحالة أن يكون أحد المثلين مطلوبا بالطبع والآخر مهروبا عنه بالطبع ، فلا يكون (٢) متحركا بالطبع ، ولا ساكنا بالطبع ، لأنّه لا مكان طبيعي له يتخصص به من دون باقي الأمكنة ، لتساوي أجزاء الخلاء في الحقيقة.

ولا يكون له أيضا حركة إراديّة ، ولا سكون إرادي ، لاستحالة أن تختص الإرادة لأحد المثلين بحكم دون الثاني. ويستحيل أن تكون له حركة قسرية أيضا ، لأنّ القسر على خلاف الطبع ، وإذا انتفى الميل الطبيعي انتفى الميل القسري.

الوجه الرابع (٣) : لو كان الخلاء موجودا لكانت الحركة مع العائق أسرع منها مع غير العائق ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدم مثله.

__________________

(١) م : «الخلاء».

(٢) أي الجسم.

(٣) راجع نقد المحصل : ٢١٥.

٤١٥

وبيان الشرطية : أنّ الحركة في المسافة المملوءة بالعائق مختلفة باختلاف ذلك العائق في الرقة والغلظ وسهولة القطع وصعوبته. والمشاهدة تقتضي ذلك ، فإنّا نعلم قطعا أنّ المسافة إذا كانت مشغولة بالمعاوق الثخين ، فإنّ الحركة فيه تكون في زمان أطول من زمان الحركة لو كان العائق رقيقا. فنسبة رقة العائق إلى غلظه ، كنسبة قصر زمان الحركة في الرقيق إلى زمانها في الغليظ ، فكلما كان العائق أرق كان الزمان أقصر والحركة أسرع ، وكلما كان أغلظ كان الزمان أطول والحركة أبطأ. فسرعة الحركة وقصر الزمان في مقابلة الرقة ، وبطؤها وطول الزمان في مقابلة الغلظ.

إذا تقرر هذا فنقول : لنفرض متحركا تحرك مسافة معينة بقوّة معينة ذات ملاء أغلظ في عشر ساعات مثلا ، وتحركها بعينها بتلك القوة في خلاء في ساعة واحدة ، وتحركها بعينها بتلك القوّة في ملاء أرق من الأوّل ، ولنفرض رقته أزيد من رقة الأوّل عشرين مرة ، بحيث يكون فيه من المقاومة والمعاوقة نصف عشر مقاومة الأوّل ومعاوقته ، فيلزم أن تتحرك تلك المسافة في نصف عشر زمان حركة الملاء الأوّل ، فتقع حركته في جميع المسافة بتلك القوّة في نصف ساعة ، مع أنّه تحرك تلك المسافة في الخلاء ساعة ، فتكون الحركة مع العائق الرقيق أسرع منها مع الخلاء الذي هو عديم (١) المعاوقة.

الوجه الخامس : الحجر إذا رمي إلى فوق قسرا فإنّه يصعد بقوة ـ مودعة فيه ـ قسرية مستفادة من القاسر على ما يأتي.

فنقول : لو وقعت تلك الحركة في الخلاء لزم أن ينتهي الحجر بتلك القوة إلى مقعر الفلك ، ولا يهبط الحجر قبله ، لأنّ تلك القوة باقية ، وما دامت باقية فإنّها تحرّك الحجر إلى فوق ، لأنّ تلك القوة لا تعدم لذاتها ، وإلّا لما وجدت. ولا لطبيعة

__________________

(١) ق وس : «عدم».

٤١٦

الجسم لذلك أيضا ، بل إنّما تبطل بمصادمات الهواء الذي في المسافة ، فلو كانت المسافة خالية عن العائق لم يكن لتلك القوة ما يصادمها ويضعفها ويبطلها ، فكان أثرها باقيا إلى أن يتصل المتحرك إلى سطح الفلك. ولما لم يكن كذلك علمنا انتفاء الخلاء.

الوجه السادس : الإناء الضيق الرأس إذا كان في أسفله ثقبة ضيقة ، وملئ ماء وضمّ رأسه لم ينزل الماء ، وإن فتح رأسه نزل. فعدم النزول ليس لعدم علّة النزول ـ لأنّ علته طبيعة الماء فإنّها تقتضي نزوله عند خروجه عن مكانه الطبيعي ، وطبيعة الماء موجودة ـ بل لوجود المانع ، فإمّا أن يكون خارجا عن القارورة أو لا.

والأوّل إمّا انسداد المنافذ وهي تلك الثقبة بالأهوية المحتبسة فيها ، أو امتلاء العالم بحيث لا يبقى للماء خارج الإناء مكان. والأوّل باطل ، وإلّا لم ينزل حال فتح الرأس. ولأنّ الثقب إذا كانت واسعة كان يجب أن لا ينزل الماء ؛ لأنّه يجاوره من الهواء أكثر ، فكان أولى بعدم النزول ، لأنّ الهواء اليسير إذا أقلّ (١) جميع الماء في الآنية كان الهواء الكثير المجاور للثقب الواسع أولى. ولأنّه إذا كان خارج الآنية خلاء كان يجب أن ينزل الماء ويندفع الهواء بسببه إلى الأحياز الخالية ، لأنّ الماء أثقل من الهواء ، ومن شأن الثقيل إذا ضغط الخفيف أن يزيله عن مكانه ، كما تتحرك الأجسام في الأهوية.

والثاني قول أصحاب الملاء ، ولكن لا يدل على امتناع الخلاء ؛ لإمكان أن يكون الملاء حاصلا مع إمكان الخلاء.

وأمّا إن كان المانع ليس خارجا عن تلك القارورة ، فذلك إنّما يكون إذا كان سطح القارورة حافظا لما فيه من الماء ، ومعلوم أنّه لا يحفظه لخصوص كونه ماء ،

__________________

(١) كذا في النسخ.

٤١٧

لأنّه لو فتح رأس الإناء لنزل الماء ، فعلمنا أنّه إنّما يمسكه لأنّ سطحه يقتضي أن يماسّ سطح أيّ جسم كان ، أو لأنّ سطح الماء ملازم بالطبع لسطح الإصبع الذي لا يمكّن من النزول فيبقى الماء محبوسا بسبب ذلك. وكلّ ذلك يقتضي استحالة الخلاء.

لا يقال : يمتنع كون العلّة في عدم نزول الماء ما ذكرتم من تلازم السطوح ؛ لأنّه يلزم أن لا ينزل عند اتساع الثقب. ولأنّه كان يجب أن لا ينزل الزئبق لو ملئ به الإناء. ولأنّه إذا ملئ نصفه ماء ونصفه هواء ، ثمّ شددنا رأسه كان يجب أن ينزل الماء لإمكان أن ينبسط الهواء الذي فيه ، حتى يشغل كلّ الإناء.

لأنّا نقول : الأوّل غير لازم ، لأنّ الثقبة إذا كانت واسعة أمكن أن ينزل الماء من ناحية ، ويصعد الهواء من ناحية أخرى ، وهو مشاهد في القارورة الضيقة الرأس المكبوبة على الماء ، فإنّه يضطرب نزول الماء في رأس الإناء بمزاحمة صعود الهواء له.

وأمّا الثاني : فإن فرط ثقل الزئبق ربّما أوجب زيادة مدافعة الهواء المجاور للثقب ، فيضطره ذلك إلى التحرك ، فإذا لم يجد مكانا وراءه اضطره (١) ذلك إلى مزاحمة الزئبق ، ودخوله من ناحية من نواحي الثقب ، وإن تعذر ذلك احتبس الزئبق ولم ينزل.

وأمّا الثالث : فإنّ الطبيعة تفعل الأسهل ، ولا يمتنع أن يكون وقوف الماء أسهل على الطبيعة من تعظيم حجم الهواء.

الوجه السابع : الانبوبة إذا غمس أحد طرفيها في الماء ، ومصّ الطرف الآخر ، فإنّ الماء يصعد حال خروج الهواء ، ومعلوم أنّه ليس من شأن الماء الصعود. فبقي أن يكون ذلك لأنّ سطح الهواء يلازم سطح الماء ، فإذا مصّ الهواء

__________________

(١) في النسخ : «اضطر» ، ولعلّ الصواب ما أصلحناه.

٤١٨

انجذب فتبعه الماء ، وذلك كما نشاهد من ارتفاع اللحم عند مصّ المحجمة (١) ، ولا علة لذلك إلّا تلازم السطوح.

لا يقال : لو ارتفع اللحم لأجل وجوب الملاء ، لوجب إذا ألقينا المحجمة على الحديد، ثمّ مصصناها أن يرتفع الحديد.

لأنّا نقول : إذا وضعنا المحجمة على الحديد ولا خلاء بينهما ولا منفذ البتة (٢) فإمّا أن لا يخرج من الهواء شيء البتة بالمص ، وإمّا أن يخرج البعض فينبسط الباقي ويملأ جميع المكان. ولهذا إذا أفرط الإنسان في مصّ القارورة والمحجمة وكانت رقيقة انكسرت. ولو كان الخلاء ممكنا لما وجب الكسر ، وكذا إذا وضعنا المحجمة على السّندان (٣) ومصصناها ارتفع السندان بارتفاع المحجمة.

الوجه الثامن : إذا أدخلنا رأس أنبوبة داخل قارورة ، ثمّ سددنا الخلل بين عنق القارورة وعنق الانبوبة سدا محكما ، ثمّ جذبنا الانبوبة بحيث لا يدخل الهواء ، فإنّ القارورة تنكسر إلى داخل ؛ لاستحالة الخلاء. ولو أدخلت الأنبوبة إلى باطن القارورة بحيث لا يخرج الهواء عنها أكثر ممّا دخل ، انكسرت إلى خارج ، لأنّ الإناء كان مملوءا ، فإذا أدخلنا الانبوبة لم يحتملها فانشقّ الإناء إلى الخارج.

الوجه التاسع : لو أمكن الخلاء لجاز في بعض الأوقات أن تكبّ القارورة في موضع يكثر (٤) فيه الخلاء ، فينزل الماء بسهولة ، ويندفع الهواء إلى الأماكن الخالية ، ولا يصعد الهواء إلى القارورة ، حتى كنّا لا نرى النفاخات والبقابق ، لأنّ الهواء ما دام يجد المواضع الفارغة خارج الإناء فإنّه لا يتكلّف الصعود إليها ، ولا بدّ

__________________

(١) المحجمة : شيء كالكأس يفرغ من الهواء ، ويوضع على الجلد فيحدث تهيّجا ويجذب الدم.

(٢) ق : «إليه».

(٣) كلمة فارسية ، من آلات الحدّادين وهي ما يطرق عليها الحديد.

(٤) ج : ساقطة.

٤١٩

من اتصال الماء. ولجاز في بعض القوارير أن تكون خالية ، فإذا كببناها وغمسناها (١) في الماء واعتمدنا عليها ، وجب أن يصعد الماء من غير أن يخرج منها شيء من الهواء ، حتى لا تظهر البقابق والنفاخات. فهذه جملة ما وصل إلينا من أقوى حجج القوم.

الوجه العاشر : الطاس إذا وضع فارغا على الماء لم ينزل مع ثقله ، والسبب فيه الهواء المحتقن فيه ، فيلزم الملاء.

والجواب عن الأوّل : لا نسلّم أنّ الخلاء قابل للتقدير والمساواة والمفاوتة ، لأنّه عدم صرف ونفي محض ، والمقايسة التي ذكروها ليست بين أمرين حاصلين بالفعل ، بل هناك إمكان حصول ما لو حصل لكان قابلا للزيادة والنقصان. فلا نحكم بأنّ ما بين الجدارين أزيد مما بين طرفي الطاس إلّا على سبيل التوهّم ، فإنّه لو فرض بين الجدارين جسم ثابت بالفعل لكان ذلك الجسم أزيد من الجسم الذي يوجد بين طرفي الطاس ، وكذا المساواة والتقدير. فإن ادعيت حصول ما يقبل الزيادة والنقصان بينهما فهو مصادرة على المطلوب ، والذي يدل عليه أنّه يمكننا أن نفرض العالم واقعا بحيث يكون البعد بين محيطه ومركزه أكثر من البعد الذي وجد الآن بمقدار ذراع ويمكننا أن نفرضه واقعا على وجه يكون البعد بين محيطه ومركزه أكثر من البعد الذي وجد الآن بذراعين ، فيلزم وقوع الخلاء خارج العالم ، مع أنّهم يعترفون بنفيه. فإن أجابوا بأنّ الزيادة والنقصان من لواحق المقادير ، ولم يوجد خارج العالم شيء من المقادير ، فيستحيل الحكم عليها بالزيادة والنقصان في نفس الأمر ، بل الزيادة والنقصان المذكوران أمر في الوهم لا في الوجود ولا عبرة بالأمور الوهمية ، بل بالأمور المحققة ، كان هو بعينه جوابا لهم عن هذا السؤال. فيثبت أنّ ما ذكروه لا يقتضي كون الخلاء أمرا موجودا.

__________________

(١) ق : «غمسناها» ساقطة.

٤٢٠