نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

السادسة (١) : الواجب لذاته لا يكون مشتركا بين اثنين ، وإلّا لزم تركّب كل واحد منهما ، لاشتراكهما في الوجوب الذاتي ، فيجب امتياز كلّ منهما عن صاحبه بأمر مغاير لما وقع به الاشتراك ، فيكون كلّ واحد منهما مشتملا على ما به الاشتراك وما به الامتياز ، فيكون مركّبا ، فيكون ممكنا ، ولأنّ الجزءين (٢) إن لم يكن بينهما تلازم ، أمكن انفكاك كلّ واحد منهما عن صاحبه ، فيكون اجتماعهما معلول علّة منفصلة ، هذا خلف. وإن كان بينهما ملازمة ، فإن استلزمت الهوية الوجوب ، كان الوجوب معلولا ، هذا خلف ، وإن كان بالعكس (٣) لزم المطلوب ، إذ يكون كلّ واجب (٤) هو هو ، فما (٥) ليس هو لم يكن واجبا.

اعترض (٦) : بأنّ الوجوب ليس وصفا ثبوتيا وإلّا لزم التسلسل ، وكذا التعين (٧).

ولأنّ الواجب يشارك الممكن في الوجود ، ويخالفه في الوجوب ويعود التقسيم (٨).

ولأنّ الاشتراك هنا لفظي لا معنوي.

__________________

(١) هذا البحث في تقرير البرهان على توحيد واجب الوجود ، راجع كتب ابن سينا ، منها النجاة ، قسم الإلهيات : ٢٣٠ ـ ٢٣٤.

(٢) ق : «الجزئي» وهو خطأ.

(٣) أي كان الوجوب مستلزما لتلك الهوية.

(٤) ق : «واحد» والصواب ما في المتن من نسخة : م.

(٥) م : «فبما» والصواب ما في المتن من نسخة : ق.

(٦) الاعتراض من الرازي ، انظر المحصل : ٩٧.

(٧) ق : «التعلّق» والصواب ما أثبتناه في المتن من نسخة : م. وقد مرّ البحث في «الوجوب» في البحث الثاني ، ص ٩٤.

(٨) هذا اعتراض بإيراد النقض ، والجواب الحلّي عنه جعل الاشتراك لفظيا.

١٠١

ولأنّ الوجوب وصف لا جزء ، ولا يلزم من الاشتراك في الأوصاف التركيب.

ولأنّ الامتياز بعارض ، فلا يكون مركبا.

والجواب : البحث في مفهوم واجب الوجود ، ولا يمكن أن يكون وصفا اعتباريا.

والاشتراك في الوجود إن كان ، فهو في (١) وصف عارض ، فلا يجب به التركيب.

والاشتراك هنا معنوي ، لأنّ المفهوم واحد فيما يفرض اشتراكه فيه.

والوجوب إذا جعلناه وصفا لم يلزم كون الواجب وصفا ، والبحث في الواجب. على أنّا أخذنا مفهوم الواجب ، وجعلناه منظورا فيه لا معروضه.

والامتياز إذا كان بعارض (٢) ، أمكن زواله ، فخرج هذا الواجب عن كونه واجبا ، هذا خلف.

قال أفضل المحقّقين : «كون استلزام الهوية الوجوب خلفا ، فيه نظر ؛ لأنّ الخلف يكون لو كان الواجب معلول الغير ، لا الوجوب. أمّا إن كانت هويته مستلزمة لوجوبه ، وكان وجوبه محتاجا إلى هويته ، لم يلزم منه كون الهوية معلول الغير (٣) ، بل يلزم منه كون الهوية غير واجبة بانفرادها ، إنّما تكون واجبة بصفة (٤) تقتضيها ذاتها» (٥).

وفيه نظر ، لأنّ إمكان الوجوب يستلزم إمكان الواجب ، فإنّ الواجب إنّما

__________________

(١) م : «في» محذوفة.

(٢) م : «عارض».

(٣) وفي المصدر «معلولا للغير».

(٤) في المصدر «لصفة».

(٥) نقد المحصل : ١٠٠.

١٠٢

هو واجب بذلك الوجوب ، فإذا أمكن زواله ، أمكن خروج الواجب عن كونه واجبا ، فلا يكون واجبا لذاته. وكون الهوية واجبة (١) بصفة (٢) تقتضيها ذاتها ، يستلزم الدور ، لأنّ وجوب الصفة تابع لوجوب الموصوف ، فلا (٣) يمكن أن يكون متبوعا.

ثمّ أجاب عن المعارضة بكون الواجب مساويا للممكن في الوجود ، بأنّ اشتراكهما في الوجود ليس بالتواطؤ.

وفيه نظر ؛ فإنّ قصد المشك وجود أمرين في واجب الوجود ، فيلزم التركيب.

وإنّما الجواب الحق ، ما بيّناه ، من أنّ الاشتراك في الصفات لا يلزم منه التركيب.

ثمّ قال (٤) : «والواجب أن نقول (٥) : «الواجب لذاته يستحيل أن يكون محمولا على اثنين ، لأنّه (٦) إمّا أن يكون ذاتيا لهما ، أو عرضيّا لهما ، أو ذاتيا لأحدهما عرضيّا للآخر. فإن كان ذاتيا لهما ، فالخصوصيّة التي بها يمتاز كلّ واحد من الآخر لا يمكن أن يكون داخلا في المشترك ، (٧) وإلّا فلا امتياز ، فهو خارج ، فيضاف (٨) إلى المعنى المشترك ، فإن كان في كلّ واحد منهما ، كان كلّ واحد منهما ممكنا من

__________________

(١) م : «غير واجبة».

(٢) ق : «بصفتها».

(٣) ق : «ولا».

(٤) المحقّق الطوسي.

(٥) في المصدر : «أن يقول كما قال غيره من الحكماء».

(٦) هذه العبارة إلى الخاصية السابعة قوله : «لذاته فيكون ممكنا» ساقطة في نسخة : م.

(٧) في المصدر : «في المعنى المشترك».

(٨) في نسخة من المصدر «فينضاف» وفي نسخة أخرى «منضاف».

١٠٣

حيث هو موجود ممتاز (١) عن الآخر ، وإن كان في أحدهما فهو ممكن. وإن كان عرضيّا لهما أو لأحدهما ، فمعروضة في ذاته لا يكون واجبا».

لا يقال : الواجب لذاته هو المعنى المشترك فقط.

لأنّا نقول : المعنى المشترك لا يوجد في الخارج من حيث هو مشترك من غير مخصّص(٢) يزيل اشتراكه.

لا يقال : المخصّص سلبي ، وكل واحد منهما مختصّ بأنّه ليس الآخر.

لأنّا نقول : سلب الغير لا يحصل (٣) إلّا بعد حصول الغير ، وحينئذ يكون كلّ واحد منهما (٤) بعد حصول الغير ، فيكون ممكنا» (٥).

السابعة : وقوع لفظ الواجب على الواجب لذاته والواجب لغيره بالاشتراك اللفظي ، وإلّا لزم تركيب الواجب لذاته ، فيكون ممكنا ، ولأنّ القدر المشترك إن كان غنيا عن الغير ، لم يكن تمام ماهية الوجوب بالغير عارضا للغير ، هذا خلف. وإن كان مفتقرا ، لم يكن تمام ماهيّة الوجوب بالذات غنيّا عن الغير.

اعترض بإمكان التقسيم إليهما (٦) ، ومورد التقسيم مشترك.

قال أفضل المحقّقين : لا يلزم من كون الوجوب مشتركا بين الوجوب بالذات والوجوب بالغير ، كون الوجوب بالذات مركبا ، لأنّ تعقل الوجوب بالذات لا يفتقر إلى تعقل غير الذات. أمّا الوجوب بالغير فيفتقر تعقّله إلى انضياف تعقّل

__________________

(١) ق : «وممتاز».

(٢) في المصدر «تخصيص».

(٣) في المصدر «لا يتحصّل».

(٤) في نسخة من المصدر «هو» وفي الأخرى «هو هو» بدلا عن «منهما».

(٥) نقد المحصل : ١٠٠ ـ ١٠١.

(٦) أي تقسيم الوجوب إلى الواجب لذاته والواجب لغيره.

١٠٤

الغير إلى تعقّل الوجوب.

ثمّ لو كان الوجوب الذي هو «أمر حاصل في العقل عند اسناد متصوّر إلى الوجود(١) الخارجي» مركّبا لم يلزم منه تركيب المسند إليه ، كما لا يلزم من كونه محتاجا إلى موصوف به ، كون الموصوف به محتاجا إلى غيره.

وأيضا الامتناع مشترك بين الامتناع بالذات والامتناع بالغير ، ولا يلزم من تركّبه تركّب في الممتنع لذاته (٢) الذي يكون نفيا (٣) محضا.

وقوله (٤) : «القدر المشترك إن كان غنيا عن الغير لم يكن تمام ماهية الوجوب بالغير عارضا للغير ، هذا خلف».

فيه نظر ؛ لأنّه لا يلزم منه الخلف ، فإنّ من استغناء الجزء لا يلزم استغناء المركّب ، بل إنّما يلزم من افتقار الجزء افتقار المركّب» (٥).

وفيه نظر ؛ فإنّ كلّ معنى معقول كلّي إذا أخذ مخصّصا ، استدعى تركيبا عقليا ممّا وقع به الاشتراك وما وقع به التخصص (٦) سواء كان ذلك الكلّي جنسا أو نوعا ، فإنّ أفراد النوع مشتركة في معنى كلّي إذا أخذ مع مشخّصات خاصة ، كان المجموع مركّبا من ذلك المعنى الكلّي ومن قيد التشخّص ، والوجوب هنا أخذ مشتركا ، فيكون الوجوب بالذات مركّبا منه ومن قيد الخصوصيّة.

وقوله : «الوجوب بالذات لا يفتقر إلى تعقّل غير الذات» ، لا يضرّ في

__________________

(١) م : «الوجوب» والصواب ما في المتن من نسخة ق والمصدر.

(٢) ق : «بذاته» وما في المتن من نسخة : م مطابقا للمصدر.

(٣) وفي المصدر «منفيا».

(٤) الرازي في المحصل.

(٥) أنظر نقد المحصل : ١٠١ ـ ١٠٢.

(٦) ق وم : «التخصيص».

١٠٥

الدليل ، فإنّ الذات مغايرة للوجوب ، والتركيب لم يلزم من الافتقار إلى تعقّل غير الذات ، بل من وجوب وجود مخصّص زائد على القدر المشترك.

ثمّ قوله : «إنّه غير مفتقر إلى تعقّل غير الذات» ممنوع ، بل يفتقر إلى تعقّل نسبته(١) إلى الذات ، وهو أمر مغاير لذلك المعنى الكلّي ، كما أنّ الوجوب بالغير يفتقر إلى انضياف تعقّل الغير إلى تعقّل الوجوب.

قوله : «تركيب (٢) الوجوب لا يلزم منه تركيب المسند إليه».

قلنا : نسلّم (٣) ، بل يلزم منه إمكانه على ما تقدّم (٤).

قوله : «كما لا يلزم من كونه محتاجا إلى موصوف به ، كون الموصوف به محتاجا إلى غيره».

قلنا : مسلّم أنّه لا يلزم من افتقار الصفة افتقار الموصوف ، لكن هنا يلزم ذلك ، فإنّ الموصوف إنّما هو واجب بهذه الصفة ، فإذا كانت ممكنة ، كان الموصوف ممكنا. والتركيب العقلي كما هو ثابت في الواجب ، كذا في الممتنع ، وكونه نفيا محضا لا ينافي التركيب العقلي.

وقوله : «لا يلزم من استغناء الجزء استغناء المركّب».

قلنا : حق ، لكنّا نحن ادعينا أنّ المشترك إذا كان غنيّا ، لم يكن تمام ماهية الوجوب بالغير عارضا للغير ، (٥) وهو صحيح ، فإنّ العارض حينئذ لا يكون تمام الماهية ، بل جزئها.

__________________

(١) ق : «نسبة».

(٢) ق : «تركّب».

(٣) ق : «مسلّم».

(٤) في الخاصة السادسة ، ص ١٠٥.

(٥) ق : «عارضا للغير» ساقطة.

١٠٦

وأيضا ، فإنّ الوجوب المشترك حينئذ يكون جنسا فإذا افتقر الفصل إلى الغير ، كان الجنس الذي هو معلوله أولى بالافتقار.

وأيضا الواجب لغيره هو الذي يجب وجوده عند حصول ذلك الغير ، فإذا كان الوجوب المشترك بين هذا الممكن وبين الواجب لذاته مستغنيا عن الغير ، كان ذلك الممكن مستغنيا عن الغير ، هذا خلف.

الثامنة : الواجب لذاته واجب في جميع صفاته الحقيقية ، لامتناع افتقاره إلى الغير على ما يأتي بيانه (١) :

أمّا الصفات الإضافيّة (٢) فإنّها أمور اعتباريّة متوقّفة على المضافين ، وليست حاصلة في الخارج ، بل في الذهن ، فجاز توقّفها على الغير ، ولا يثلم ذلك غناه (٣).

التاسعة : الواجب لذاته لا يمكن عدمه ، وإلّا لم يكن واجبا لذاته ، إذ معناه هو الذي لا يمكن عدمه. وقيل (٤) : «لو صحّ عليه العدم ، لكان وجوده متوقّفا على عدم سبب عدمه ، والمتوقّف على الغير ممكن بالذات».

قال : أفضل المحقّقين (٥) : «عدم واجب الوجود ممتنع لذاته لا لغيره (٦) ،

__________________

(١) راجع النجاة : ٢٢٨ ؛ نقد المحصل : ١٠٢ ؛ الأسفار ١ : ١٢٢.

(٢) هذا دفع إشكال مقدّر وهو النقض على الخاصة بالنسب والإضافات اللاحقة من قبل أفعاله المتعلقة بالممكنات كالخلق والرزق. وقد جوّز الشيخ اتصاف الواجب بالذات اتصافه بالإمكان بهذه النسب والإضافات اللاحقة. انظر إلهيات الشفاء ، الفصل السابع من المقالة الثامنة. واعترض عليه صدر المتألهين في الأسفار : ١ : ١٢٦ ـ ١٢٨.

(٣) كذا في ج ، وفي ق وم بالعين المهملة.

(٤) والقائل هو الرازي نقد المحصل : ١٠٣.

(٥) نقد المحصل : ١٠٣.

(٦) ق : «بغيره».

١٠٧

فالتعليل «بعدم توقف وجوده على عدم سبب عدمه» تعليل ما ثبت للشيء (١) لذاته بعلّة غير ذاته».

العاشرة : قال أفضل المتأخّرين (٢) : الواجب لذاته يجوز أن تعرض له صفات تستلزمها ذاته ، فيكون الوجوب الذاتي حصة لتلك الهويّة فقط ، وسائر النعوت واجبة لوجوب (٣) تلك الهوية ، وتكون الوحدة حصة لتلك الهوية من حيث هي هي ، وإن كانت إذا أخذت مع الوحدة لم تبق واحدة».

قال أفضل المحقّقين : «هذا ممتنع عند الحكماء ، لأنّهم يقولون «الواحد من حيث هو واحد لا يكون مصدرا لأكثر من واحد».

وقوله : «وسائر النعوت واجبة لوجوب تلك الهوية» معناه أنّ صفاته المتكثّرة ممكنة لذواتها ، فالواحد لا يكون إلّا الذات ، مع أنّها مع الوحدة لا تكون أيضا واحدة ، ومع الصفات تكون كثيرة وهذا ليس ممّا ذهب إليه الحكماء ولا المتكلّمون ، إلّا الأشاعرة ، كما سيجيء شرحه.

وقوله : «الوحدة حصّة لتلك الهويّة وإذا أخذت مع الوحدة لم تبق واحدة» يجري مجرى قول من يقول : «إذا علم الإنسان الواحد ، كان ذلك الواحد مع علمه به اثنين ، فإنّ الوحدة هي تعقّل العقل لعدم (٤) انقسام تلك الهويّة» (٥).

__________________

(١) وفي بعض نسخ المصدر «ماهية الشيء» بدل «ما ثبت للشيء».

(٢) نقد المحصل : ١٠٣.

(٣) ق : «بوجوب».

(٤) ق : «بعدم».

(٥) نقد المحصل : ١٠٣.

١٠٨

الفصل الثالث :

في مباحث الإمكان (١)

البحث الأوّل :

الممكن له أمران : أحدهما : أنّه ليس له في ذاته اقتضاء الوجود ولا اقتضاء العدم ، وهو اعتبار مغاير لاقتضاء العدم ، فإنّ اقتضاء العدم يدخله في الممتنع ، بخلاف عدم اقتضاء الوجود والعدم.

والثاني : احتياجه في وجوده وعدمه إلى الغير ، وهذا الاعتبار الثاني معلول للأوّل.

وبينهما فرق ، فإنّا إذا حكمنا على شيء بالحاجة إلى الغير طلب العقل لذلك علّة ، فإن علّل بعدم اقتضاء الوجود والعدم قنع بذلك. وإنّما يصحّ التعليل لو

__________________

(١) انظر البحث في المحصل ونقده : ١٠٤ وما بعدها ؛ المباحث المشرقية ١ : ٢٠٧ ؛ والمواقف : ٧١ ـ ٧٤ ؛ كشف المراد : ٧٦ ـ ٧٧.

١٠٩

تغاير الاعتباران ، ولأنّ عدم اقتضاء ذاته للوجود والعدم اعتبار حاله (١) من حيث هو مع قطع النظر عن وجود غيره وعدمه ، وأمّا تعلّقه بالغير وتوقّفه عليه فذلك اعتبار حاله بالنسبة إلى الغير (٢).

البحث الثاني : في أقسامه (٣)

الإمكان بالنسبة إلى الضرورة ، كالعدم بالنسبة إلى الحقيقة. ولما كانت أقسام العدمات تابعة لأقسام الملكات ، كان الإمكان تابعا للضرورة في التقسيم. ولما كانت الضرورة إمّا ذاتية أو غير ذاتية. والذاتية إمّا بالنظر إلى الوجود أو بالنظر إلى العدم ، كان سلبها كذلك.

فالإمكان وضع في اللغة بإزاء سلب الضرورة ، فإن سلب ضرورة الوجود ، كان إمكانا عاما سلبيا ، وإن سلب ضرورة العدم ، كان إمكانا عاما إيجابيا ، وإن سلب الضرورتين معا ، كان إمكانا خاصا. وإن سلب الضرورة الذاتية والمشروطة ، كان إمكانا أخصّ. وإن أخذ ذلك باعتبار المستقبل كان إمكانا استقباليا.

فالإمكان العام ، إن أخذ بالنظر إلى الوجود ، كان ممكن الوجود هو «الذي لا يمتنع وجوده» وهو يشمل أمرين : وجوب الوجود ، وإمكان الوجود والعدم.

وإن أخذ بالنظر إلى العدم ، كان ممكن العدم هو «الذي لا يجب وجوده» وهو يشمل أمرين : وجوب العدم أعني الممتنع ، وإمكان الوجود والعدم.

__________________

(١) ق : «حالة» والصواب ما أثبتناه في المتن من نسخة : م.

(٢) فظهر الفرق بين اعتبار الشيء من حيث هو هو واعتباره من حيث تعلّقه بالغير ، ففي الأوّل اعتبار الشيء وحده وفي الثاني اعتباره مع غيره. راجع المباحث المشرقية ١ : ٢٠٧.

(٣) لاحظ تفصيل الكلام في شرح الإشارات ١ : ١٥١ وما بعدها ؛ الأسفار ١ / ١٤٩ ـ ١٥٤ ، الفصل السابع «في استقراء المعاني التي يستعمل فيها لفظ الإمكان».

١١٠

والأشياء بحسب هذا الاعتبار قسمان : ممكن ، وضروري مقابل له.

وأمّا الإمكان الخاص ، فإنّه يقابل الضرورتين معا.

والأشياء بحسبه ثلاثة : واجب ، وممتنع ، وممكن خاص. ويصدق عليه الإمكان باعتبارين أحدهما : دخوله تحت الأوّل. والثاني : الوضع بإزائه.

واعلم : أنّ الإمكان عند الأوائل يقال بالاشتراك اللفظي على معنيين.

أحدهما : ما يقابل الامتناع ، وهو الإمكان الراجع إلى الماهية ، وهو عندهم صفة عقليّة يوصف بها كلّ ما عدا الواجب والممتنع من المتصوّرات (١).

والثاني : الاستعداد وهو عندهم صفة موجودة من جملة أنواع مقولة الكيف ، عرضي غير باق بعد وجود المستعد إلى (٢) الفعل.

البحث الثالث : في أنّ الإمكان العام سلبي (٣)

الحقّ : أنّه اعتبار عقليّ ، لا تحقّق له في الأعيان وإلّا لزم التسلسل ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله.

بيان الشرطية : أنّ كل ثابت ، فإمّا واجب أو ممكن ، فلو كان الإمكان ثابتا ، لكان أحدهما ، فيكون له إمكان (٤) آخر ، إذ نسبة وجوده إليه لا يخلو عن هاتين الكيفيتين.

ولأنّ صحّة وجود الماهية سابقة على حصوله ، فتلك الصحّة لو كانت صفة ثبوتية ، لكان ثبوت الصفة الثابتة للشيء سابقا على ثبوت الشيء في نفسه.

__________________

(١) ويسمّى ب «الامكان الذاتي».

(٢) كذا.

(٣) أنظر البحث في المباحث المشرقية ١ : ٢١١.

(٤) ق : «موجود».

١١١

ولأنّه محمول على الممكن الخاص الذي يجوز أن يكون معدوما ، وما يجوز حمله على العدم كان عدميا ، فالإمكان العام عدميّ.

ولأنّ المفهوم منه سلب الضرورة ، وسلب الضرورة داخل تحت مطلق السلب.

ولأنّ إمكان الوجود هو بعينه إمكان العدم ، إذ مفهومه واحد فيهما (١) ، وإمكان العدم عدمي ، لاتّصاف العدم به ، فيكون إمكان الوجود كذلك.

احتجّ المخالف : بأنّه نقيض الامتناع العدمي ، فيكون ثبوتيّا.

والجواب ، كما أنّه نقيض الامتناع باعتبار ، فكذا هو نقيض الوجوب (٢) باعتبار ، فيكون عدميّا.

والحق : أنّه اعتبار عقلي وحكم ذهني يتعلّق بنسبة المحمول إلى الموضوع.

واعلم : أنّه كما أنّ الإمكان العام ليس بثبوتي ، فكذا ليس بجنس وهو ظاهر ، فإنّ العدمي لا يقوّم غيره. وقد بيّنا أنّه أمر اعتباري.

ولأنّه لو كان جنسا لكان امتياز الواجب عن الممكن بفصل ، فيكون الواجب مركّبا.

البحث الرابع : في أنّ الإمكان الخاص (٣) سلبي

أكثر الأوائل على أنّ الإمكان الخاص ثبوتي ، واحتجّ «ابن سينا» عليه : بأنّه لو كان عدميّا لما بقي فرق بين قولنا : لا إمكان له ، وبين قولنا : إمكانه عدميّ ، لعدم الامتياز في العدميّات ، ولمّا كان الفرق ثابتا وجب أن يكون الإمكان ثبوتيّا.

__________________

(١) ق : «منها».

(٢) ق : «الوجود».

(٣) قد حمله بعض على الامكان الذاتي ، وآخرون على الامكان الاستعدادي ، ولذا وقع في الأدلة والمباحث خلط بين الامكانين ، فراجع شرح الاشارات ، نمط «الصنع والإبداع».

١١٢

وهذه الحجّة عظيمة الاختلال ، فإنّ الملازمة كاذبة ، لأنّ الفرق واقع في العدميّات ، كالوجوديّات ، ومنقوضة بالامتناع ، فإنّ الحجّة التي ذكرها في الإمكان ، آتية في الامتناع ، إذ لقائل أن يقول : لو لم يكن الامتناع ثبوتيا لم يبق فرق بين قولنا : لا امتناع له ، وبين قولنا : امتناعه عدميّ ، ولمّا لم يدلّ ذلك على ثبوت الامتناع ، فكذا الإمكان (١).

ثمّ الذي يدلّ على كونه عدميّا وجوه :

الوجه الأوّل : لو كان الإمكان ثبوتيا لزم التسلسل ، أو وجوب الممكن لذاته ، والتالي باطل بقسميه ، فكذا المقدّم (٢).

بيان الشرطية : أنّه لو كان ثابتا ، لكان قد شارك غيره من الموجودات في الوجود ، وامتاز عنها بخصوصيّة ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فيكون وجوده زائدا على ماهيته ، فاتّصاف ماهيّته بوجوده إمّا أن يكون واجبا أو ممكنا.

فإن كان واجبا لزم كون الممكن الموصوف بالإمكان أولى بالوجوب ، لأنّ شرط الواجب لذاته واجب. ولأنّ وجوب الإمكان غير معقول. أمّا أوّلا : فلأنّه صفة والصفة لا تعقل قائمة بذاتها ، بل قائمة بغيرها ، فلا يعقل وجوبها. وأمّا ثانيا : فلأنّه أمر نسبي لا يعقل إلّا بعد ثبوت منتسبيه.

وإن كان ممكنا كان له إمكان زائد على ماهيته ، لأنّه نسبة بين ماهيته ووجوده (٣) والنسبة مغايرة للمنتسبين وهو ثبوتي ، فيكون له إمكان آخر ويتسلسل. وأمّا بطلان التالي فظاهر.

__________________

(١) أنظر الجواب والوجوه التالية في المباحث المشرقية ١ : ٢١٢ ـ ٢١٤. ثم أنظر المناقشة في بعضهما في حكمة العين ١٤٦ وما بعدها.

(٢) أنظر الوجه والجواب عليه في شرح الإشارات ٣ : ١٠٤ ـ ١٠٥.

(٣) ق : «ووجوده» ساقطة.

١١٣

اعترضه أفضل المحقّقين : «بأنّ الإمكان أمر عقلي ، فمهما اعتبر العقل للإمكان ماهية ووجودا ، حصل فيه إمكان امكان وانقطع عند انقطاع الاعتبار. فإنّ كون الشيء معقولا ينظر فيه العقل ويعتبر وجوده ولا وجوده ، غير كونه آلة للعاقل ، ولا ينظر فيه من حيث ينظر فيما هو آلة لتعقّله ، بل إنّما ينظر به ، مثلا العاقل يعقل السماء بصورة في عقله، ويكون معقوله السماء ، [و] (١) لا ينظر حينئذ في الصورة التي بها يعقل السماء ، ولا يحكم عليها بحكم ، بل يعقل أنّ المعقول بتلك الصورة هو السماء وهو جوهر. ثمّ إذا نظر في تلك الصورة ، أي يجعلها معقولا (٢) منظورا إليها ، لا آلة في النظر إلى غيرها ، وجدها عرضا موجودا في محلّ هو عقله ممكن الوجود (٣). وهكذا «الإمكان» هو كآلة للعاقل بها يعرف حال الممكن في أنّ وجوده كيف يعرض لماهيته ، ولا ينظر في كون الإمكان موجودا أو غير موجود ، أو جوهرا أو عرضا أو واجبا أو ممكنا. ثمّ إن نظر في وجوده أو إمكانه أو وجوبه أو جوهريّته أو عرضيّته ، لم يكن بذلك الاعتبار إمكانا لشيء ، بل كان عرضا في محلّ هو العقل ، وممكنا في ذاته ، ووجوده غير ماهيته. وإذا تقرّر هذا ، فالإمكان من حيث هو إمكان لا يوصف بكونه موجودا أو غير موجود أو ممكنا أو غير ممكن. وإذا وصف بشيء من ذلك لا يكون حينئذ إمكانا ، بل يكون له إمكان آخر» (٤).

وهذا الكلام على طوله لا يفيد مطلوبه ، بل هو تسليم لما قلناه ، فإنّه إذا كان أمرا عقليا كان عدميا في الخارج لا تحقّق له فيه ، وهو المراد.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من المصدر.

(٢) كذا.

(٣) وهكذا ورد في تفسير حقيقة الدنيا وذمّها «من أبصر بها بصّرته ومن أبصر إليها أعمته» خذ واغتنم ، نهج البلاغة خطبة ٨٢.

(٤) نقد المحصل : ١٠٧ ـ ١٠٨ ؛ شرح الاشارات ٣ : ١٠٤ ـ ١٠٥.

١١٤

ثمّ قوله : «إذا اعتبر العقل للإمكان ماهية ووجودا حصل فيه إمكان امكان» ، إن قصد بذلك ثبوت وجود خارجي لزم التسلسل ، ولم يكن اعتبارا عقليّا ، وهو ضد ما قاله أوّلا. وإن قصد بذلك ثبوت وجود ذهني ، فهو مسلّم ، ونحن لا نتنازع في الثبوت الذهني. وإن قصد أنّه موجود في الخارج باعتبار كونه ثابتا في الذهن ويعرض له حينئذ إمكان آخر ذهني ، فهو تسلّم (١) لما قلناه أيضا.

الوجه الثاني : لو كان الإمكان ثبوتيا لزم أحد محالات أربعة : إمّا كون الإمكان جوهرا ، أو قيام الموجود بالمعدوم ، أو قيام الصفة بغير الموصوف ، أو سبق الوجود على الإمكان ، والكلّ باطل ، فالمقدم كذلك.

بيان الشرطية : أنّ الإمكان الثابت للحادث إمّا أن يثبت قبل وجوده أو لا. فإن كان الثاني ، لزم سبق الوجود على الإمكان. وإن كان الأوّل ، فإمّا أن يكون قائما بذاته فيكون جوهرا ، إذ لا معنى للجوهر إلّا المستغنى في وجوده عن محلّ يقوم به. (٢) وأمّا أن يكون قائما بغيره ، فذلك الغير إمّا الموصوف ، فيلزم قيام الموجود بالمحلّ المعدوم ، أو غيره (٣) ، فيلزم قيام الصفة بغير موصوفها. وأمّا بطلان الأقسام فظاهر ، فإنّ الإمكان أمر نسبي يتوقّف على ثبوت المنتسبين ، فلا تعقل جوهريّته وقيامه بذاته واستقلاله بالوجود عن محلّه. والضرورة قاضية بسبق الإمكان على الوجود ، فإنّ الشيء يمكن أن يوجد ، ثمّ يوجد بفاعله. ولا يصحّ أن يقال : يوجد ، ثمّ يمكن وجوده. ولو جوّزنا قيام الموجود بالمعدوم ، لجوّزنا كون الأجسام عدمية ، لأنّ المشاهد منها ليس إلّا الأعراض ، وذلك عين السفسطة. ولو جوّزنا قيام الصفة بغير الموصوف ، لجوّزنا أن يكون زيد عالما قادرا ذا لون مخصوص وكم

__________________

(١) م : «مسلّم».

(٢) ق وج : «يقوّمه».

(٣) في جميع النسخ : «بغيره» ، وأصلحناه طبقا للمعنى والسياق.

١١٥

مخصوص بعلم وقدرة ولون ، وكم قائمة بالغير ، وذلك ظاهر البطلان.

اعترضه أفضل المحقّقين (١) بأنّ «إمكان الشيء قبل وجوده حالّ في موضوعه» ، فإن معناه كون ذلك الشيء في موضوعه بالقوّة ، وهو صفة للموضوع من حيث هو فيه ، وصفة للشيء (٢) من حيث هو بالقياس إليه. فبالاعتبار الأوّل يكون كعرض في موضوع ، وبالاعتبار الثاني يكون كإضافة لمضاف إليه (٣) ، ولمّا لم يكن وجود مثل هذا الشيء إلّا في غيره لم يمتنع أن يقوم إمكانه أيضا بذلك الغير» (٤). ولأنّ الإمكان صفة للمتصوّر المستند إلى الوجود الخارجي ، والشيء حال عدمه يكون متصوّرا ، فيكون موصوفا بالإمكان.

والجواب : أنّ موضوع الشيء مغاير له ، فلا يعقل قيام صفة الشيء به.

اللهم إلّا أن يقول : إنّ الموضوع لمّا كان محلّا للشيء كان محلّا لصفاته ، فنقول حينئذ يستحيل قيام تلك الصفات بذلك الموضوع بالاستقلال ، وإنّما تقوم به (٥) تبعا لقيام موصوفها به ، لكن قيام موصوفها به يستدعي وجوده ، فيلزم أن يكون قبل وجوده لا صفة له في موضوعه.

ثمّ قوله : «إنّه صفة للموضوع من حيث هو فيه ، وصفة للشيء (٦) من حيث هو بالقياس إليه» ضعيف ؛ فإنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يكون وصفا لأمرين

__________________

(١) لا يغفل عن محط النظر في كلمات الطوسي وهو الإمكان الاستعدادي ، وقد تبتني عليه أكثر أجوبته في هذا البحث.

(٢) ق وج : «الشيء».

(٣) ق وم : «المضاف إليه». وما أثبتناه في ج والمصدر.

(٤) ولا بدّ من التوجّه إلى أنّ هذا الغير ليس أجنبيّا ، شرح الإشارات ٣ : ١٠٦ ، وقوله : «ولأنّ الإمكان الخ» غير موجود فيه.

(٥) ق : «له».

(٦) ق : «الشيء».

١١٦

متغايرين ، بل إنّما هو صفة للمنسوب إليه ، فلا يعقل قيامه بالاستقلال في موضوعه.

وقوله : «ولمّا لم يكن وجود مثل هذا الشيء إلّا في غيره ، لم يمتنع أن يقوم إمكانه أيضا بذلك الغير» ضعيف ؛ لأنّ إمكانه إنّما يقوم بذلك الغير تبعا لقيامه بذلك الغير كما بيّنا. ثمّ تخصيص الإمكان بالقائم بالغير ممنوع ، فإنّ كل حادث على الإطلاق يسبقه إمكان حدوثه.

لا يقال : الحوادث منحصرة في الصور والأعراض والمركّبات.

لأنّا نقول : سيأتي بطلان ذلك في باب الحدوث إن شاء الله تعالى.

وقوله : «الإمكان صفة للمتصوّر المستند إلى [الوجود] الخارجي ، والشيء حال عدمه يكون متصوّرا ، فيكون موصوفا بالإمكان» تسليم (١) للمنازع ، فإنّا ما سعينا إلّا لإثبات كون الإمكان أمرا اعتباريا لا تحقّق له في الخارج.

الوجه الثالث : لو كان الإمكان ثبوتيا لزم تأخّر الشيء عن المتأخّر عنه ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّ الإمكان أمر إضافي ، متوقّف وجوده على وجود مضافيه ، فيكون متأخرا عن ثبوت الماهية والوجود ، فيكون الوجود المتأخّر عن الإمكان متقدّما عليه ، هذا خلف (٢).

اعترضه أفضل المحققين : بأنّ الإمكان من حيث كونه صفة إضافية إنّما يتحقّق عند ثبوت المضافين (٣) ، ولكن يكفيه ثبوتهما في العقل ، ولا يجب من ذلك تقدمهما عليه في الخارج ، لكنّه من حيث تعلّق معروضيه الثابتين في العقل بأمر

__________________

(١) م : «مسلّم» ، وهو خطأ.

(٢) المباحث المشرقية ١ : ٢١٤ ؛ شرح الإشارات ٣ : ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٣) وفي المصدر : «المتضائفين».

١١٧

وجوديّ في الخارج يستدعي لا محالة موضوعا موجودا في الخارج (١).

وليس بجيّد ، فإنّ الإضافات تابعة لوجود المضافات ، فإذا كانت الإضافة ثابتة في الخارج ، وجب ثبوت مضافها فيه. وإذا ثبت المضافان في العقل استحال ثبوت الإضافة في الخارج ، فلا يكون للإمكان ثبوت في الخارج ، بل في العقل ، وهو المطلوب.

قوله : «لكن من حيث تعلّق معروضيه الثابتين في العقل بأمر وجودي في الخارج ، يستدعي لا محالة موضوعا موجودا في الخارج» ضعيف ، فإنّ معروضيه هما الماهية والوجود ، وهما عقليان على ما فرضهما ، فكيف يتعلقان بأمر خارجي قبل وجودهما فيه.

الوجه الرابع : لو كان الإمكان ثبوتيا لزم تسلسل المواد وثبوت المادة للمجرّدات ، والتاليان باطلان ، فالمقدم كذلك (٢).

بيان الشرطية : أنّ الصور والأعراض كما أنّها ممكنة ، كذلك المواد والنفوس والعقول ممكنة أيضا ، فإن استدعى الإمكان الأوّل موضوعا ، استدعى الثاني.

اعترضه أفضل المحقّقين : بأنّ كلّ إمكان فهو بالقياس إلى وجود. والوجود إمّا بالعرض كوجود الجسم أبيض (٣) ، أو بالذات كوجود البياض. أمّا الإمكان بالقياس إلى وجود بالعرض (٤) ، فهو يكون للشيء بالقياس إلى وجود شيء آخر له ، أو بالقياس إلى صيرورته موجودا آخر ، كما يقال : الجسم يمكن أن يكون أبيض ،

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ : ١٠٧.

(٢) المصدر نفسه ، وقد نشأ الإشكال من الخلط بين الإمكانين الذاتي والاستعدادي.

(٣) في المصدر : «الأبيض» وهو من خطأ الناسخ. فيقال : إمكان وجود الجسم أبيض ، بقياس الإمكان إلى وجود بالعرض.

(٤) م : «العرض».

١١٨

أو يوجد له البياض ، أو يقال : الماء يمكن أن يصير هواء ، والمادة يمكن أن تصير موجودة بالفعل (١). وظاهر : أنّ جميع هذه الإمكانات محتاجة إلى موضوع موجود معها ، وهو محلّها (٢). وأمّا الإمكان بالقياس إلى وجود بالذات ، فيكون للشيء بالقياس إلى وجوده. ولا يخلو إمّا أن يكون ذلك الشيء ممّا يوجد في موضوع ، أو مادّة ، (٣) أو مع مادّة (٤) ، كما يقال : البياض يمكن أن يوجد أو يكون ، وكذلك الصورة والنفس. وحكم هذا الإمكان في الاحتياج إلى موضوع حكم القسم الأوّل (٥) ، ويكون موضوعه حامل وجود ذلك الشيء. وأمّا ما لا يكون كذلك ، بل يكون ذلك الشيء قائما بنفسه ، لا علاقة له بشيء من الموضوع والمادة ، فإنّه لا يكون محدثا ، وإلّا لسبقه إمكانه. ولا يمكن أن يتعلّق بموضوع دون موضوع ، إذ لا علاقة له بشيء. فإمكانات الحوادث تكون قبل وجودها ، ويعبّر عنها بالقوّة ، فيقال : هذه الموجودات في موادّها بالقوّة ، وهي تختلف بالبعد والقرب ، ويزول عنها مع خروج الوجودات (٦) من القوّة إلى الفعل. وإنّما يقع اسم الإمكان عليها بالتشكيك. وأمّا إمكان (٧) الموجودات الممكنة في أنفسها ، فهي أمور لازمة لماهيّاتها عند تجرّدها عن الوجود والعدم بالقياس إلى وجوداتها ، وكذلك الوجوب والامتناع.

فقد ظهر الفرق بين الإمكانين عند تعلّقهما بما في الخارج ، وأنّ إمكان مثل

__________________

(١) والمادة قبل انطباع الصورة فيها تكون بالقوّة بالنسبة إليها.

(٢) عبّر ب «المحلّ» لأنّه اسم مشترك بين الموضوع للعرض ، والمادة للصورة.

(٣) في المصدر : «أو في مادة».

(٤) وهي النفس التي ليست منطبعة في المادة كالصورة ، ولذا قال : «مع مادّة».

(٥) أي الإمكان بالقياس إلى وجود بالعرض.

(٦) في المصدر : «الموجودات».

(٧) هذا هو الإمكان الذاتي ، وما مرّ في عباراته السابقة هو الإمكان الاستعدادي.

١١٩

هذه الأشياء المجرّدة صفة لماهيّاتها المجرّدة عن الوجود والعدم في العقل ، وهي من حيث ثبوتها في العقل موضوع. والإمكان بهذا الاعتبار ، كعرض في موضوع ، وهو أيضا صفة لوجوداتها ، ويكون بهذا الاعتبار كاضافة لمضاف إليه (١).

والجواب : قد بيّنا ضعف حلول إمكان الشيء في موضوعه ، للتغاير بين الموضوع والحال ، إلّا على سبيل التبعيّة ، وحينئذ يلزم المحذور الذي فرّ منه (٢).

وقوله (٣) : «ما لا يكون كذلك لا يكون محدثا وإلّا لسبقه إمكانه».

قلنا : الإمكان سابق إمّا بالزمان أو بالذات قطعا ، لكن لا في الخارج ، لما بيّنا من كون الإمكان أمرا اعتباريا ، وجعل الإمكان واقعا بالتشكيك لا يفيده شيئا (٤) على تقدير ثبوته. وباقي كلامه سبق جوابه.

الوجه الخامس : لو كانت الإمكانات ثبوتية لزم وجود ما لا يتناهى دفعة مع ترتيب عقلي ، والتالي باطل ـ لما سيأتي في بطلان التسلسل ـ فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّ الحوادث غير متناهية في المستقبل ، فتكون لها إمكانات لا تتناهى ، ولمّا كانت الحوادث مترتبة ترتّبت (٥) إمكاناتها ، وهو محال. ثمّ نقول هذه الإمكانات لا يمكن اجتماعها ، فإنّ الإمكان ـ من حيث طبيعة الإمكان ـ لا تختلف أفراده ، ومن حيث المادة الحاملة لها لم تختلف ، فليس اختلاف الإمكانات الغير المتناهية إلّا لاختلاف ما هي امكاناته ، وهي الحوادث المعدومة ، ويستحيل

__________________

(١) م : «بمضاف إليه». انتهى كلام الطوسي ، شرح الإشارات ٣ : ٩٩ ـ ١٠٨ ، مع تلخيص العبارات.

(٢) م : «فرضه».

(٣) أي قول الطوسي الذي مرّ آنفا.

(٤) ق : «يفيد شيئا».

(٥) ق : «ترتيب» وهو من خطأ الناسخ.

١٢٠