نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

والوجه في الجواب : أن نقول : العشرية ليست من الأمور الخارجية ، بل هي أمر ذهني يلحقه الذهن بالآحاد إذا اعتبر ضمّ بعضها إلى بعض وكذا المجموعية والكلّية.

قيل : الكلّ بما هو كلّ موجود في الأجزاء لا في آحادها ، بل في مجموعها ، والمجموع من حيث هو ذلك المجموع أمر واحد ، فالكلّ من حيث هو كلّ موجود في شيء لا في أشياء فيكون الكل عرضا.

وأجيب : بأنّ نسبة الكلّ إلى (١) الأجزاء ليس إلى كلّ واحد ، وإلّا لكان كلّ واحد من الكل كلّا ، ولا إلى مجموع الأجزاء ، لأنّه نفس المجموع.

ووجود الكلي في جزئياته كالحيوان الموجود في أنواعه ، والنوع في أشخاصه ، ليس وجودا في شيء ، بل في أشياء فلا يكون عرضا.

الثاني : قولنا : «غير متقوّم به» احترزنا به عن الصورة في المادة ، فإنّ المادة متقوّمة بها فليست الصورة عرضا.

الثالث : قولنا : «لا كجزء منه» احترزنا به عن وجود الكل في الجزء ، ووجود الجنس في النوع والنوع في الشخص وكلّ من الصورة والمادة في المركب ، فإنّ هذه كلّها موجودة في أشياء هي أجزاء لها. وكذا وجود النوع في عموم الجنس ، فإنّ النوع جزء من عموم الجنس ، فيكون النوع الموجود في الجنس موجودا في جزء منه.

الرابع : قولنا : «ولا يصحّ قوامه دون ما هو فيه» نريد به : أنّه يمتنع وجود ذلك الشخص بما هو ذلك الشخص إلّا في ذلك المحلّ المعيّن ، فإن كان هذا الامتناع ليس لوجود ذلك (٢) الخاص ، بل لأمر آخر عرض له في ابتداء تكونه ،

__________________

(١) ق : «يعني» ، م : «نفى» قبل «إلى» وهو اشتباه من النّساخ.

(٢) ق : «بوجود» ، و «ذلك» ساقطة.

٢٨١

فصار لأجله بحيث يمتنع انفكاكه عمّا هو فيه ، فذلك لا يوجب كونه عرضا. وبهذا يقع الفرق بين وجود العرض في الموضوع ، ووجود الجسم في المكان ، أو في الزمان ، أو في العرض ، وكون الشيء في غايته كالإنسان في السعادة ، وكون المادة في الصورة ، فإنّ الجسم قد يفارق مكانه وزمانه وعرضه وغايته ، مع بقاء جسميته (١) وإنسانيته. وكذا المادة قد تفارق بعض صورها مع بقاء وجودها متقوّمة بحسب صورة وصورة.

لا يقال : الجسم لا يفارق المكان والزمان المطلقين ، ولا العرض المطلق ، فأيّ فارق بينه وبين العرض؟

لأنّا نقول : معنى قولنا ـ ولا يمكن مفارقته عمّا هو فيه ـ هو أنّ الشخص من العرض بشخصيته يقتضي ذلك المحلّ ، بخلاف وجود الجسم في الزمان والمكان المطلقين ، فإنّ الأمور الكلّية لا وجود لها في الخارج ، فيمتنع وجود الجسم فيها (٢) في الخارج ، وكلامنا في كون العرض في الموضوع وجودا خارجيا لا ذهنيا.

لا يقال : الأجسام الإبداعية يمتنع عليها مفارقة أمكنتها الخاصة ، فتكون أعراضا.

لأنّا نقول : هذا محال عندنا ، ولا جسم إبداعي في الوجود ، ولا جسم يمتنع مفارقته لمكانه. وأمّا على رأي القوم فإنّهم يفرّقون : بأنّ الأعراض تتشخص بموضوعاتها المعيّنة ، والإبداعيات لا تتشخص بحصولها في تلك الأحياز ، فإنّ نوعها في شخصها ، فسبب تشخصها طبيعة نوعها ، ثمّ يتبع شخصها حصولها في تلك الأحياز.

لا يقال : مادة الفلك موجودة في صورته ، والصورة متحصلة القوام ،

__________________

(١) م : «جسمانيته».

(٢) في جميع النسخ : «فيه» ، أصلحناها طبقا للسياق.

٢٨٢

وليست جزءا منها ، ولا يصحّ قوام تلك المادة دون ما هي فيه ، أعني تلك الصورة.

لأنّا نقول : ليست المادة في الصورة بمعنى صفة العرض بالنسبة إلى الجسم ، لأنّ هذه صفة ناعتة بخلاف تلك ، فإنّ المادة لا تكون ناعتة للصورة (١) ومقصودنا هذه الصفة.

البحث الثاني : في أنّ العرض ليس بجنس

اتفقت كلمة العقلاء من المتكلّمين والحكماء على ذلك ، فإن أطلقوا عليه لفظة الجنس ، لا باعتبار المعنى ، بل باعتبار عارض صادق على كثيرين. ويدل عليه وجوه (٢) :

الوجه الأوّل : أنّا نتصوّر الأعراض الجزئية كالسواد والبياض والسطح والخط وغيرها ، ونشك في عرضيتها ، فلا تكون العرضية مقوّما ، لامتناع تصوّر الشيء بدون تصوّر مقوّماته.

وفيه نظر ؛ لأنّا نمنع تصوّر الأعراض الجزئية بحقائقها ، بل ببعض عوارضها ولوازمها ، فلا يجب تصور مقوّماتها حينئذ.

لا يقال : لا نعني بالسواد إلّا الهيئة التي أدركناها وعرفناها.

لأنّا نقول : نحن نسلّم أنّكم أدركتم هيئة وسميتموها سوادا ، فلم قلتم : إنّ تلك الهيئة المدركة هي حقيقة السواد في نفس الأمر؟ فإنّ ذلك لا يستفاد من العناية والتفسير.

__________________

(١) في جميع النسخ : «فإنّ الصورة لا تكون ناعتة للمادة» ، وهو خطأ ، والصحيح ما أثبتناه طبقا للمعنى والمباحث المشرقية ١ : ٢٤٠.

(٢) انظر الوجوه في المباحث المشرقية ١ : ١٥٠ ـ ١٥١.

٢٨٣

قيل : الشك في عرضية هذه الأشياء بعينه ، شك في الجوهرية ، فإن اقتضى هذا الدليل خروج العرض عن الجنسية ، اقتضى خروج الجوهر (١) عنها ، فيلزم أن لا يكون الجوهر جنسا.

وفيه نظر ؛ فإنّا نلتزم أنّ الجوهر ليس جنسا لهذه الأعراض. وما ذكرتموه إنّما يقتضي نفي كون الجوهر جنسا لهذه الأعراض خاصّة ، لا للجواهر ، وذلك مسلّم لا شك فيه.

الوجه الثاني : معنى كون السواد عرضا ليس إلّا نسبته بالحلول في الموضوع ، والجنس إنّما يستند إلى أمر داخل في الذات ، لا إلى نسب عارضة للذات.

وفيه نظر ؛ فإنّه جاز أن يكون ذلك لازما للعرض لا نفس العرض ، كما أنّ الموجود لا في موضوع أمر لازم للجوهر وعارض له ، وبهذا أبطلتم طعن من منع كون الجوهر جنسا.

الوجه الثالث : العرضية مقولة على ما تحتها بالتشكيك ، والجنس غير مقول على ما تحته بالتشكيك. والكبرى ظاهرة ، وبيان الصغرى : أنّ تعلّق بعض الأعراض بالموضوع أكثر (٢) من تعلّق بعض ، فإنّ الإضافات والنسب أشد حاجة إلى الموضوع من البعض. (٣)

اعترض بأنّ الحكماء قالوا : إنّ بعض الجواهر قبل البعض ، ولكنّ ذلك التقدم لمّا كان في الوجود لا في الجوهرية لم يلزم اخراج الجوهر عن أن يكون جنسا ، وكذلك بعض الأعداد وإن كان متقدما على البعض ، لكنّ ذلك التقدم في الوجود

__________________

(١) م : «الجوهرية».

(٢) في المباحث المشرقية : «آكد».

(٣) أي من سائر الأعراض.

٢٨٤

لا في معنى العددية (١) ، فلا يقتضي خروج العدد عن الجنسية لأنواعه ، فكذلك هنا جاز أن يقال : الأعراض متساوية في حمل العرضية عليها ، والتفاوت الذي ذكرتموه عائد إلى وجوداتها ، فلا تكون مقولية العرض على أنواعه بالتشكيك.

وأجيب : بأنّ هذا إنّما يلزم ، لو كان للعرضية مفهوم آخر سوى كونه موجودا في الموضوع ، وأمّا إذا لم يكن للعرضية معنى سوى وجوده في الموضوع ، فمتى وقع التفاوت فيه فقد وقع في نفس مفهوم العرضية.

اعترض : بأنّه ليس من شرط كون العرض عرضا ، أن يكون موجودا في الخارج ويكون مع (٢) ذلك في موضوع ، بل من شرطه أن يكون بحيث لو وجد في الخارج كان في موضوع ، كما قيل في الجوهر : أنّه الذي إذا وجد كان غنيا عن الموضوع ، لا الموجود في الخارج بالفعل لا في موضوع. فعلى هذا يكون كون العرض عرضا مغايرا لوجوده ، ويعود الإشكال.

البحث الثالث : في استحالة الانتقال على الأعراض (٣)

اعلم أنّ المتكلّمين والحكماء اتفقوا على استحالة الانتقال على الأعراض ، واحتجوا عليه بوجوه :

الأوّل : المعقول من الانتقال : هو الحصول في حيّز بعد الحصول في حيّز آخر ، وذلك إنّما يعقل في المتحيّز.

__________________

(١) م : «المعدوم» وهو خطأ.

(٢) م : «مع» ساقطة.

(٣) انظر الفصل السابع من المقالة الثالثة من إلهيات الشفاء ؛ نقد المحصل : ١٧٧ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٢٥٣ ؛ شرح المواقف ٥ : ٢٧ وما يليها ؛ شوارق الإلهام ، المسألة ٨ ، الفصل ١ ، المقصد ٢.

٢٨٥

وفيه نظر ؛ فإنّه إن كان المراد بهذا التفسير الحصول في حيّز بالذات بعد الحصول في حيز آخر بالذات فهو مسلّم ، فإنّ نفي الانتقال بهذا المعنى عن الأعراض ضروري ، لأنّ العرض لا يحصل في الحيّز إلّا تبعا لحصول محلّه فيه ، ولا يعقل فيه التحيّز بالذات ، لكنّ النزاع ليس في ذلك ، بل في مطلق الانتقال سواء كان بالذات حاصلا في الحيّز الأوّل أو بالعرض. وليس المقصود من نفي الانتقال إلّا امتناع انتقال العرض من محلّ إلى محلّ آخر وهذا الدليل لا يعطيه.

الثاني : العرض إمّا أن يكون غنيا عن الموضوع ، أو يكون محتاجا إليه ، فإن كان غنيا عن الموضوع ، امتنع أن يعرض له ما يصيّره محتاجا إلى الموضوع ، فإنّ الغني بذاته عن الشيء يستحيل أن يصير محتاجا إليه باعتبار عارض يعرض له. وإن كان محتاجا فلا يخلو : إمّا أن يكون محتاجا إلى موضوع معيّن ، أو غير معيّن والثاني محال ، لأنّ الشيء المعيّن لا يقتضي أيّ شيء كان ، فإذن لا بدّ له من موضوع معين ، فإذن خصوصيّته متعلقة بذلك الموضوع ، فإذن يمتنع أن يفارق ذلك الموضوع.

اعترض : بجواز كونه غنيا عن المحلّ لذاته.

قوله : «فحينئذ لا (١) يعرض له ما يحوجه إليه».

قلنا : العرض لا يصدق عليه أنّه يجب أن لا يكون في المحلّ حتى يكون ذلك منافيا لحصوله في المحل بسبب منفصل ، بل يصدق عليه أنّه بالنظر إلى ذاته لا يجب أن يكون في المحل ، وهذا لا ينافيه الحصول في المحل لسبب منفصل.

وفيه نظر ؛ لأنّ الحلول يستدعي حاجة الحالّ إلى المحلّ بالضرورة ، ويمتنع أن تكون الحاجة عارضة بسبب أمر خارج ؛ لأنّه يكون منافيا لمقتضى الذات.

__________________

(١) ج : «لا» مشطوبة ، وق : «لا يعرضه».

٢٨٦

وبأنّ (١) هذا يبطل بالجسم المعيّن ، فإنّه لا بدّ وأن يكون له حيّز معيّن ووضع معيّن ، ومع ذلك فإنّه لا يقتضي وضعا (٢) معينا شخصيا ولا حيزا معيّنا شخصيا بحيث يمتنع انتقاله(٣) عنه.

وأيضا المادة محتاجة إلى صورة ما ، لا إلى صورة معينة ، بل إلى أي صورة كانت ، فجاز أن يكون العرض كذلك.

وأيضا العرض الواحد بالشخص مفتقر إلى موضوع واحد بالنوع ، والواحد بالنوع معيّن في نفسه ، متخصّص في طبيعة نوعه ، غير مبهم ، ولا يحتاج إلى المحل الواحد بالشخص ، فحاجة العرض الواحد بالشخص إنّما هو إلى المحلّ الواحد بالنوع وإن كان مبهما من حيث التشخّص غير متعيّن فيه ، إلّا أنّ التعيّن الشخصي في الموضوع غير محتاج إليه ، فأمكن أن يفارق محلّه إلى آخر من نوعه ، كما يمكن ذلك في الجسم.

وأيضا النفس تحتاج في حدوثها إلى مادة معينة ، ثمّ إنّها تفارق تلك المادة مع بقاء النفس ، ولا تعدم النفس بسبب مفارقة ما احتاجت إلى شخصه ، فلم لا يجوز مثله في العرض؟

الثالث : تشخص كلّ عرض زائد على ماهيته على ما تقدم (٤) ، فإن كانت علّته ماهية العرض كان نوعه منحصرا في شخصه ، وكذا إن كانت علّته لازما من لوازمه ، ولأنّه(٥) كان يستغني عن جميع الموضوعات ويكون قائما بذاته ، لاستغنائه

__________________

(١) عطف على «اعترض بجواز الخ» ، وهي إشكالات على استحالة الانتقال.

(٢) في النسختين : «وصفا».

(٣) ق وج : «انفكاكه».

(٤) في بحث التشخص صفحة ١٨١ وما بعدها.

(٥) م : «فلأنّه» ، والصحيح ما أثبتناه من ج وق.

٢٨٧

في تعيّنه بذاته عن كلّ موضوع ، فوجب أن تكون الشخصية مستندة إلى علّة من خارج.

فنقول : إن كانت العلّة محلّه امتنعت مفارقته عنه ، وهو المطلوب ، وإن كانت حالّة فيه لزم استغناؤه عن الموضوع ؛ لأنّه يكون مكتفيا في وجوده بموجده وفي تشخصه بما يحلّ فيه. وإن كانت مفارقة عنه لا حالّة فيه ، ولا محلّا له ، كانت نسبته إليه كنسبته إلى غيره ، فلا تكون علّة التشخص معيّنة ، فلم تبق علّة التشخص إلّا الموضوع ، فإذا فارقه بطل ذلك التشخص. وحينئذ تخرج الإشكالات المذكورة.

أمّا الجسم : فتعيّنه لتعيّن صورته النوعية ، وتعيّن تلك الصورة لتعيّن الصورة السابقة على هذه وهكذا لا إلى أوّل ، وليس تعيّن الجسم بسبب الوضع والحيّز المعيّن ، فلا جرم أمكنه أن يفارق وضعه وحيّزه مع بقاء شخصيته.

وأمّا المادة : فإنّها محتاجة إلى الصورة من حيث هي لا إلى صورة معينة ، والصورة من حيث هي صورة أمر معيّن.

لا يقال : جاز أن يكون العرض محتاجا إلى الموضوع من حيث هو موضوع نوعي ، وهو من حيث هو موضوع نوعي متعيّن ، كما قلتم في المادة بالنسبة إلى الصورة من حيث هي صورة مطلقة لا شخصية.

لأنّا نقول : الفرق بينهما ظاهر ، فإنّ للمادة مبدأ معينا هو العقل الفعال ، وليست مستندة إلى شيء من هذه الصور ، والعقل الفعّال موجود متعيّن متشخص ، والصور شرائط في إمكان تأثيره في استبقاء هذه الهيولى ، ومن الجائز أن يكون المؤثر معينا ، ويكون تأثيره موقوفا على أشياء كثيرة تشترك في وجه ما ، بسبب ذلك المشترك يكون مؤثرا ، بحيث أيّ واحد حصل كفى ، كمن يمسك سقفا بدعامات متعاقبة ، يزيل واحدة ويضع غيرها ، فإنّ الوضع يكون محفوظا بواسطة

٢٨٨

تلك الدعامات المتعددة بالشخص ، المشتركة في الغاية المطلوبة من كلّ واحد منها. وأمّا هنا ، فقد بيّنا أنّ الذي هو سبب تعيّن العرض المتعين هو الموضوع المخصص باللواحق الجزئية ، فيمتنع أن تكون وحدته نوعية ، فإنّ الواحد بالنوع لا يتقرر في الخارج ، فلا بدّ وأن تكون علّة تعيّنه شيئا متعيّنا شخصيا.

وأمّا النفس : فإنّ البدن شرط في حدوثها ، وكانت في جوهريتها وتعيّنها غنيّة عن تلك المادة ، ولهذا لم تنطبع فيها.

وأمّا الأعراض : فإنّها كما احتاجت في حدوثها إلى المواد ، احتاجت أيضا في وجودها الحادث ـ الذي هو تعينها ـ إلى الموضوعات ، فإذا فارقتها عدمت.

وفيه نظر ؛ فإنّا نمنع استحالة انحصار نوع كل عرض في شخصه. والإحساس لا يدل عليه ، فإنّ الأشياء المختلفة بالحقائق قد تتفق في الإحساس وبالعكس. والاستغناء في التعيّن عن الموضوع لا يقتضي استغناؤه عنه ، فإنّ الحاجة في القيام والحلول إلى المحلّ لا يجب انحصاره في الحاجة إلى التعيّن ، وإلّا لكان العرض في ذاته غنيا عن المحل وإنّما يحتاج إليه في تشخصه ، وليس كذلك ، فإنّ العرض بما هو عرض لا يعقل قيامه إلّا في محلّه ، لا من حيث تشخصه.

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز استناده إلى المحل من حيث هو ، لا من حيث ذلك المحلّ الشخصي ، فجازت المفارقة عليه ، أو إلى الحال ، ولا يلزم استغناؤه عن الموضوع كما تقدم، ونمنع (١) تساوي نسبة المفارق إلى كلّ الأعراض.

وبعد هذا كلّه ، فالحق استناد تشخصه إلى الفاعل المختار. (٢) وسيأتي إبطال حوادث غير متناهية.

__________________

(١) م : «لمنع».

(٢) وهذا عند المتكلّمين ؛ وإلى العقل الفعّال ـ وهو العقل العاشر ـ عند الحكماء المشائين.

٢٨٩

والعقل الفعّال ؛ كما هو مبدأ معيّن للمادة بشرط الصورة من حيث هي ، جاز أن يكون مبدأ للعرض بشرط الموضوع من حيث هو ، ويستحفظ وجود ذلك العرض بموضوع بعد موضوع. ويكون المعيّن هو العقل المتشخص مع أيّ موضوع اتفق. واحتياج الأعراض في تعيّنها إلى الموضوعات نفس النزاع.

الرابع : العرض : هو الموجود الذي لا يتحقق وجوده الشخصي إلّا بما يحلّ فيه ، والشيء المحتاج في وجوده الشخصي إلى علّة لا يمكن أن يحتاج إلى علة مبهمة ، لأنّ المبهم لا يكون من حيث هو مبهم موجودا في الخارج ، وما لا يكون موجودا في الخارج لا يفيد (١) وجودا في الخارج بالبديهة. فالعرض إذن لا يتحقق وجوده إلّا بمحلّ بعينه (٢) يتحقق به وجوده الشخصي ويبطل بتبدّله ذلك الوجود ، ولذلك يمتنع انتقاله عنه.

أمّا الشيء المحتاج في صفة غير الوجود إلى غيره من حيث طبيعة ذلك الغير ، كالجسم المحتاج في التحيّز ـ لا في الوجود ـ إلى حيّز لا بعينه ، فلا يمتنع أن ينتقل من حيّز بعينه إلى حيّز آخر يساوي الحيّز الأوّل في معنى الحيّز ، وهكذا إذا تعيّن مكان الواحد بالنوع ، كان الواحد بالشخص من جملة ذلك النوع محتاجا إلى أحد أجزاء حيّز ذلك النوع لا بعينه ، ولذلك أمكن انتقاله إلى حيّز آخر.

وأيضا الوجود الشخصيّ الحاصل من سبب موجود معه يمكن أن تختلف شرائطه بحسب أزمنة مختلفة ، كالهيولى المحتاجة إلى صورة لا بعينها ، وذلك غير ما نحن فيه ، فإنّ تشخّص الهيولى لا يتبدّل بتبدّل أشخاص الصورة ، والعرض المعيّن لا يكون ذلك العرض (٣) عند تبدّل محلّه (٤). وهذا وإن رجع إلى ما تقدم ، لكن لا بدّ

__________________

(١) ق : «يعد» ، والصواب ما أثبتناه في المتن.

(٢) ق : «معينه» ، والصواب ما أثبتناه.

(٣) م : «للعرض» ، والصواب ما أثبتناه.

(٤) نقد المحصل : ١٧٨ ، والجملة اللاحقة ليست فيه.

٢٩٠

من البحث عنه.

فإنّ فيه نظرا ؛ فإنّ قوله : «العرض هو الموجود الذي لا يتحقق وجوده الشخصي ، إلّا بما يحلّ فيه» ، إن قصد بذلك محلا معينا فهو المتنازع. وإن عنى به محلا معينا شخصيا بالشخص المنتشر (١) فهو مسلّم ، لكنّ ذلك لا يمنع من انتقاله عنه. وليس الموضوع علّة فاعلية للعرض بحيث يمتنع فيها الإبهام ، بل هو علّة قابلية ، التي هي جارية مجرى الشروط ، فجاز أن يدخله الإبهام ، والمبهم من حيث إنّه مبهم ليس موجودا في الخارج ، أمّا من حيث هو هو لا باعتبار الإبهام ولا باعتبار التعيّن ، فإنّه موجود في الخارج ، وهو الطبيعة النوعية التي هي جزء من الموجودات. والعرض الشخصي جاز أن يحتاج إلى موضوع مبهم ، لا من حيث الإبهام ، بل من حيث هو هو.

وقوله : «ما لا يكون موجودا في الخارج لا يفيد وجودا (٢) في الخارج» مسلّم ، لكن قد بيّنا أنّ الموضوع لا يفيد الوجود ، بل يقبل العرض. ونمنع الفرق بين العرض والجسم ، بأنّ الجسم لا يحتاج في وجوده ـ بل في تحيّزه ـ إلى المكان ، والعرض يحتاج في وجوده إلى المحل، فجاز أن يحتاج العرض أيضا في حلوله إلى المحل لا في وجوده. وكونه لا يوجد إلّا حالّا ثابت للجسم ، فإنّه لا يوجد إلّا متحيّزا ،. فإن جعل ذلك لازما بعد تحقق الجسم فليجز جعل الحلول لازما بعد تحقق العرض.

واعلم : أنّ الحكم بامتناع الانتقال على العرض كالبيّن بذاته ، فإنّ ما لا يمكن قيامه بذاته ، ويمتنع استقلاله بالوجود منفردا عن محل يوجد فيه ، كيف يستقل بالانتقال.

__________________

(١) ق وم : «المتميز».

(٢) في النسختين : «موجودا».

٢٩١

البحث الرابع : في أنّ العرض هل يصحّ أن يقوم بعرض آخر أم لا؟

اختلف الناس في ذلك فذهب جمهور المتكلّمين إلى امتناعه ، وأكثر الفلاسفة إلى جوازه ، وهو قول معمّر (١) من المتكلّمين.

احتج المانعون : بأنّ معنى حلول الشيء في غيره ، حصوله في الحيّز الذي حصل فيه تبعا لحصول محلّه فيه ، وليس على سبيل الاستقلال ، فإذا لم يكن للمحل استقلال بالحصول في الحيّز ، بل كان تابعا لغيره ، ساوى الحالّ فيه في الحلول في ذلك الحيّز على سبيل التبعيّة ، فلم يكن كون أحدهما حالّا والآخر محلّا أولى من العكس ، ولم يكن جعل أحد الحصولين تبعا للآخر أولى من العكس. فإمّا أن يكون كل واحدا منهما قائما بالآخر وهو محال ، أو لا يقوم واحد منهما بالآخر وهو المطلوب ، فيكونان معا تابعين لثالث ، فيكونان معا حالّين في ذلك الثالث ، فذلك الثالث إن كان عرضا عاد البحث فيه ، وإن كان جوهرا فهو المطلوب ، فلا بدّ من الانتهاء إلى محلّ جوهري يكون محلا للجميع (٢).

والجواب : ليس معنى الحلول ما ذكرتم ، فإنّ الوجود زائد على الماهية ، ولا يصح تفسير الحلول فيه بما ذكرتم. وللواجب نعوت يوصف بها ، ولا يصحّ تفسير ما ذكرتم من الحلول فيه. وتوصف جميع الماهيات بصفات سلبية وإضافية ، ولا يمكن تفسير الحلول فيها بما ذكرتم ، ويلزم أن لا يكون ذات الله تعالى مؤثرة ، فإنّ المؤثرية حاصلة بالنسبة إلى العالم ، ولا يمكن وصفه تعالى بالعالم. وللجواهر

__________________

(١) معمّر بن عباد السلمي : معتزلي من أهل البصرة سكن بغداد (توفي ٢٢٠ ه‍) ، ومن أراد الوقوف على آرائه فليراجع الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٦٥ ـ ٦٦.

(٢) المباحث المشرقية ١ : ٢٥٦ ؛ ونقد المحصل : ١٧٨ ؛ شرح المواقف ٥ : ٣٢ ـ ٣٣ وقد نقل فيه ثلاثة وجوه عن المانعين ، والمذكور منها في متن المواقف وجهان.

٢٩٢

المجردة صفات حالّة فيها ، ولا يصحّ ما ذكرتم من تفسير الحلول فيها ، بل معنى الحلول : اختصاص شيء بشيء بحيث يصير أحدهما منعوتا بالآخر ، فالناعت هو الحالّ والمنعوت المحلّ. وخصوصية ذلك الاختصاص غير معلومة ، وإنّما نعرفها بلازمها.

وفي النقوض نظر ، فإنّ مفهوم الاتّصاف مغاير لمفهوم الحلول ، ولا شك في أنّ الماهيات تتصف بالسلوب والإضافات ، لا على معنى حلول تلك السلوب والإضافات فيها ، فلا يمكن النقض بها. بل الحق : أن قيام البعض بالبعض ، وقيام البعض الآخر بالجوهر ، لا يقتضي امتناع حلول العرض في العرض ، ولا نفي وجوب الانتهاء إلى ما يقوم بالجوهر.

واحتج المجوّزون بوجوه (١) :

الأوّل : السواد يشارك البياض في اللونية التي هي جنس لها ، ويخالفه بفصل السوادية ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فاللونيّة صفة مغايرة للسوادية قائمة بها (٢) ، وهما موجودان ، لعدم الواسطة بين الوجود والعدم ، فاللونيّة عرض قائم بالسوادية.

الثاني : كون العرض حالا في المحلّ ليس نفس العرض ونفس المحلّ ، لإمكان تعقّلهما مع الذهول عن ذلك الحلول ، وليس أمرا عدميا ، لأنّه نقيض اللاحلول ، فهو صفة قائمة بذلك العرض. ثمّ الكلام فيه كالكلام في الأوّل. فهنا أعراض غير متناهية يقوم كل واحد منها بالآخر.

واعترض (٣) : بأنّ الوجهين المذكورين اقيم فيهما الصفات مقام الأعراض ،

__________________

(١) لاحظها في نقد المحصل : ١٧٨ ـ ١٧٩ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٢٥٧.

(٢) في النسخ : «بهما» ، والصحيح ما أثبتناه طبقا للمعنى والمحصل.

(٣) والمعترض هو الطوسي في نقد المحصل : ١٧٩.

٢٩٣

والصفة ما لا يعقل إلّا مع غيره ، والعرض ما لا يوجد إلّا في غيره. وقيام بعض الصفات ببعض لا يوجب قيام بعض الأعراض ببعض ، واللونية جنس للسوادية ، وهو جزء من مفهوم السواد ، لأنّ السواد لون يقبض البصر ، واللون أحقّ بأن يكون موصوفا ، وكونه قابضا للبصر أحقّ بأن يكون صفة. والجنس لا يكون عرضا قائما بالنوع ، ولا الجزء بالكل. وكون العرض حالّا في محلّه إضافة لا وجود لها إلّا في العقل ، ولا يتسلسل ، بل يقف عند وقوف العقل عن الاعتبار ، وكون الحلول نقيضا للّاحلول لا يقتضي وجود الحلول.

وفيه نظر ؛ فإنّ كل واحد من المضافين لا يعقل إلّا مع صاحبه ، ولا يصحّ وصفه به ، والصفات القائم بعضها ببعض لا يصحّ أن تكون جواهر ، ـ فإنّ الجوهر لا يعقل أن يكون صفة لغيره ـ فيجب أن تكون أعراضا ويلزم المطلوب.

الثالث : هنا أعراض يحصل بينها من الاختصاص ما يكون أحدها منعوتا بالآخر مع امتناع اتّصاف الجسم بذلك الآخر ، فيعلم أنّه حالّ في الأوّل ، فإنّ كلّ عرض يحلّ في محلّ فإنّه يفيد صفة لمحلّه ، كالبطء ، فإنّه أمر وجودي زائد على الحركة ووصف لها (١) ، ويمتنع اتّصاف الجسم به ، فإنّه لا يعقل أن يكون الجسم بطيئا في جسميّته ، فإذن البطء ليس وصفا إلّا للحركة. وكذا الأعراض ، كل عرض منها موصوف بالوحدة ، وهي عرض. والاستقامة والانحناء عرضان حالّان في الخط. والنقطة عرض قائم بالخط لا بالجسم ، إلّا بواسطة.

واعلم : أنّ المتكلّمين لمّا نفوا الجواهر المجرّدة ، وامتنع كون الله تعالى محلّا لشيء من الأعراض ، لا جرم صحّ لهم تفسير حلول العرض بما ذكروه ، لكن أهملوا جواز توسط عرض بين الجوهر القائم بذاته وبين الحال في المتوسط ، كما في السرعة والبطء مع توسط الحركة بينهما وبين الجسم.

__________________

(١) وقد ناقشه الإيجي بأنّ السرعة والبطء ليسا عرضين وأنّهما من الأمور النسبيّة ، المواقف : ١٠١.

٢٩٤

البحث الخامس : في امتناع قيام العرض الواحد بمحلّين (١)

اختلف الناس في ذلك ، فذهب أكثر المحصلين من الحكماء والمتكلمين إلى امتناعه ، وذهب قوم من الفريقين إلى جوازه ووقوعه كأبي هاشم ومتابعيه من المتكلّمين ، فإنّه قال بقيام التأليف (٢) بمحلّين ، ومنع من قيامه بأكثر من محلين. وكجماعة من قدماء الأوائل (٣) ذهبوا إلى أنّ الإضافات قائمة بكلا المضافين.

احتج الأوّلون بوجهين (٤) :

الوجه الأوّل : لو جاز في العقل أن يكون الحالّ في هذا المحلّ عين الحالّ في ذلك المحلّ الآخر ، لجاز أن يكون الحاصل في ذلك المكان هو الحاصل في هذا المكان ، فيكون الجسم الواحد حاصلا في المكانين.

اعترض عليه أفضل المحققين : بأنّه قياس (٥) العرض على الجسم الممتنع كونه في مكانين. ولو صحّ ذلك لقيل : يمتنع اجتماع عرضين في محل واحد قياسا على امتناع اجتماع الجسمين في مكان واحد ، لكنّ اجتماع الأعراض الكثيرة في محل واحد ـ كالسواد والحركة والتأليف والحياة ـ ثابت عند جميع العقلاء.

وفيه نظر ؛ فإنّه لم يستعمل القياس الظني هنا ، بل ذكر ملازمة بين تجويز

__________________

(١) بأن تكون الحمرة ـ مثلا ـ قائمة بمحلّ ونفسها قائمة بمحل آخر.

(٢) ق : «التألف».

(٣) أي الفلاسفة.

(٤) راجع نقد المحصل : ١٨١ ـ ١٨٣ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٢٥٨.

(٥) في نقد المحصل : «قاس».

٢٩٥

كون العرض في محلّين ، وكون الجسم في مكانين ، وبيانها : أنّ المشاهد لنا من الأجسام إنّما هي الأعراض ، فإذا جوّزنا قيام العرض الواحد بمحلين جاز أن يكون العرضان المشاهدان في الجسمين عرضا واحدا ، وحينئذ يجوز أن يكون الجسمان واحدا ، لأنّا إنّما حكمنا بتعددهما بواسطة تعدد العرضين ، فإذا جوّزنا وحدتهما انتفى دليل كثرة الجسمين فجازت الوحدة حينئذ.

وأيضا لو جاز أن يكون العرض القائم بهذا المحلّ هو العرض القائم بالمحل الآخر ، مع أنّهما في حيّزين متباينين بالتبعية ـ لأنّ الإشارة إلى هذا العرض إنّما يمكن بالإشارة إلى محلّه ـ فإذا تعددت الأحياز والحيثيات والإشارات ، وأمكنت الوحدة جاز ذلك في الأجسام ، إذ لا مدخل لكون التحيّز والإشارة بالذات أو بالعرض في هذا الباب. والملازمة في قياس العرض على الجسم لو سلّم أنّه قياس بين حلول العرض في محلين ، وبين اجتماع جسمين في حيّز واحد ممنوعة ، والفرق ظاهر ؛ لأنّ المقتضي للمنع هنا كون المانع من وحدة الحيّزين تمانع الجسمين ، لوجوب كونه ذا مقدار وكون حيّزه مساويا له في المساحة ، وهذا المعنى مفقود في العرض.

الوجه الثاني : لو حلّ العرض الواحد في محلين ، فإمّا أن يقال : إنّه قد انقسم حتى وجد كلّ جزء منه في جزء من موضوعه ، وذلك مسلّم لا نزاع فيه ، وليس محل النزاع ، لأنّ المتنازع أنّ العرض الواحد مطلقا هل يحلّ في محلين بأن يكون بجملته حالّا في محلّ ، وهو بجملته بعينه حالّا في محل آخر. وما ذكرتموه ليس كذلك ، بل هو حلول أعراض متعددة في محالّ متعددة ، أطلق عليها اسم الوحدة باعتبار ما.

وإن حلّ العرض بجملته في محلّ ، وحلّ بجملته في محلّ آخر ، بحيث يكون الشيء الواحد بعينه موجودا في كلا المحلّين ، لم يكن حال العرضين في الاثنينية

٢٩٦

إلّا كحال هذا العرض الواحد القائم بالمحلّين ، فلا ينفصل الاثنان عن الواحد وهو محال.

احتج الآخرون بوجوه (١) :

الأوّل : هنا أعراض واحدة كثيرة المحالّ ، كالعدد والكلّية والكثرة.

لا يقال : إنّ تلك المحالّ المجموعة تعرض لها وحدة ثمّ تعرض لها باعتبار تلك الوحدة هذه العوارض.

لأنّا نقول : تلك الوحدة إن عرضت لها بعد عروض وحدة أخرى ، لزم التسلسل ، وإلّا عاد السؤال.

الثاني : المضافان إن قام بكلّ واحد منهما إضافة على حدة ، كان كل واحد منقطعا عن الثاني ، فلا بدّ بينهما من رابط ، وإذا لم يقم بهما عرض واحد لم يكن الربط حاصلا.

الثالث : أنّ التأليف عرض واحد قائم بالمحلين ، لأنّ عدم انفكاك (٢) المؤلّف من الجوهرين ـ دون المتجاورين ـ لا بدّ له من علّة ، فلو قامت تلك العلّة بكلّ واحد منهما لم يتعذّر انفكاكهما ، فلا بدّ من عرض يقتضي صعوبة التفكيك بين المؤلّفين ، بخلاف المتجاورين (٣) ، وهذه حجة «أبي هاشم». ومنع من قيام هذا العرض بأكثر من محلّين ، وإلّا لجاز (٤) أن يقوم بالحبل الواحد تأليف واحد ، فإذا

__________________

(١) في النسختين : «بوجهين». لاحظ الوجوه والجواب عنها في المباحث المشرقية ١ : ٢٥٩ ؛ نقد المحصل : ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٢) م : «الانفكاك» وهو خطأ.

(٣) أي لا يصعب الانفكاك بين المتجاورين. واعلم أنّ أوّل من أثبت التأليف معنى يحلّ محلّين هو الشيخ أبو الهذيل ، راجع التوحيد للنيسابوري : ١٠١.

(٤) م وق : «وإلّا» ساقطة وهو من خطأ الناسخ.

٢٩٧

أخذنا منه جزءا وجب أن يعدم التأليف القائم بالحبل ، فتتفرق جميع أجزائه ، وهو معلوم البطلان.

وأجيب عن الأوّل : بأنّ لموضوعات الأعداد وحدة باعتبارها صارت موصوفة بتلك الصور العددية.

ويرد عليه : لزوم التسلسل ، بل الوجه في الجواب : أنّ الوحدة أمر عقلي يلحقه العقل بالماهيات ، فتصير تلك المعروضات لهذا اللحوق العقلي واحدة ، فيصحّ حينئذ عليها (١) عروض هذه الأشياء الخارجية. على أنّا نمنع كون هذه الأشياء (٢) بسائط ، بل نمنع من الأصل كونها ثابتة في الخارج.

وعن الثاني : أنّ الرابط بينهما هي الوحدة النوعية ، وهي غير حالّة في أحد الشخصين دون الآخر ، فالمضافيّة مطلقا أمر مشترك بين المضافين. فأمّا كون هذا مضافا إلى ذلك ، فغير موجود في الآخر ، فإنّ أخوّة زيد لعمرو ليست بعينها أخوّة عمرو لزيد ، لأنّ الأخوة التي لزيد بالنسبة إلى عمرو ليست ثابتة لعمرو ، وإلّا لكان عمرو أخا لنفسه ، وهو محال. وهذا في المضافات المتخالفة أظهر ، فإنّ الأبوة لا يمكن قيامها بالابن ، وكذا البنوة لا يمكن قيامها بالأب.

وعن الثالث : بالمنع من كون علّة المنع من التفكيك هي التأليف القائم بمحلّين ، بل صعوبة التفكيك مستندة إلى القادر المختار ، بأن يلصق أحدهما بالآخر ، فإنّ هذا أولى من التزام هذا المحال (٣).

__________________

(١) ق : «فيصحّ في علّتها».

(٢) ق وج : «الأمور».

(٣) وقد يجاب أيضا بأنّ التأليف قائم بالمجموع من حيث هو مجموع ولا محذور فيه. شرح المواقف ٥ : ٥٤.

٢٩٨

البحث السادس : في جواز بقاء الأعراض

اختلف الناس في ذلك (١) ، فالذي عليه الإمامية وكافة المعتزلة (٢) والأوائل (٣) جواز البقاء عليها ، وأنّ العلم به بديهي عند الأكثر منهم (٤). وبعضهم ذهب إلى أنّه كسبي. ومنعت الأشاعرة من ذلك (٥).

احتج الأولون على كونه بديهيا : بأنّ العلم البديهي هو الذي لا يفتقر إلى طلب وكسب ، وإن استند إلى الحس وكما نعلم بالضرورة أنّ الشخص الذي شاهدناه طول أعمارنا هو الشخص الذي شاهدناه الآن ، كذا نعلم بالضرورة أنّ السواد الذي شاهدناه طول أعمارنا في جسم معين هو الذي شاهدناه الآن فيه. ولو أخذ العقل يشك في أنّ كلّ آن يجب تجدّد عرض (٦) مساو للأوّل ، ويعدم الأوّل ، لشك في أنّ كل شخص من أشخاص البشر يعدم ويوجد الله تعالى غيره مساويا (٧) له في جميع الصفات بحيث يحكم العقل بواسطة المساواة عند الحس

__________________

(١) لاحظ الآراء والاختلاف فيها في مقالات الإسلاميين : ٣٥٨ ـ ٣٦١.

(٢) بل المعتزلة اختلفت في هذه المسألة ، والشاهد عليه اختلاف أقوالهم فيها الواردة في كتبهم وكتب الملل والنحل.

(٣) والكراميّة ، راجع أصول الدين للبغدادي : ٥٠.

(٤) وادعى أبو الحسين [البصري] الضرورة في بقاء بعض الأعراض ، أنوار الملكوت : ٢٦.

(٥) ووافقهم «النظام» و «الكعبي» من قدماء المعتزلة ، قال الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين ٣٥٨ : وقال قائلون : إنّه لا عرض إلّا الحركات وأنّه لا يجوز أن تبقى ، والقائل بهذا «النظّام» وقال البغدادي : فأحاله من أصحابنا الكعبي ، أصول الدين : ٥٠ وقال الرازي : الحق عندي : أنّ الأعراض يجوز البقاء عليها. أصول الدين : ٣٧.

(٦) م : «يتجدد عرضا».

(٧) في جميع النسخ : «مساو» ، أصلحناها طبقا للسياق.

٢٩٩

بوحدتهما ، فلا يحصل الوثوق بأنّ أبا الشخص أو أخاه ، أبوه أو أخوه ، بل مساو لهما (١) وهذا عين السفسطة. وكما حكمنا بالوحدة في الأجسام ، فكذا في الأعراض ، بل هنا أولى، لأنّه لا نزاع في أنّا نحس باللون ، وأكثر الناس منعوا من رؤية الجسم ، فلو جاز القدح في اللون كان في الجسم أولى.

واحتج من جعله كسبيا : بأنّ العرض قبل وجوده ممكن الوجود وقت وجوده لذاته ، وإلّا لكان ممتنعا لذاته فكان لا يوجد ، هذا خلف.

وإذا ثبت أنّه ممكن الوجود لذاته حال وجوده فلا يخلو :

إمّا أن يبقى إمكانه الذاتي في ثاني (٢) الحال ، أو لا يبقى. والثاني محال ، وإلّا لزم انتقال الشيء من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي وهو محال بالضرورة. ولأنّه يستلزم نفي الصانع تعالى ؛ لأنّه كما جاز الانتقال من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي ، جاز أن ينتقل من الإمكان الذاتي إلى الوجوب الذاتي ، والواجب مستغن عن المؤثر ، فيلزم الاستغناء عن المؤثر ، بل ولا يبقى وثوق بشيء من القضايا (٣) العقلية ، لأنّ أجلاها الحكم بأنّ الشيء ، إمّا واجب لذاته لا ينتقل عن وصفه هذا ، أو ممكن لذاته كذلك ، أو ممتنع لذاته كذلك ، فتعيّن الأوّل وهو أنّه : إذا كان ممكنا لذاته في وقت كان ممكنا في كل وقت ، فكل ممكن الوجود ممكن البقاء وهو المطلوب.

وفيه نظر ؛ فإنّا نمنع أنّ كل ممكن الوجود ممكن البقاء ، ولا يلزم من كون الشيء ممكنا في الزمن الأوّل كونه ممكنا في الزمن الثاني عقيب وجوده في الزمن الأوّل. ولا يلزم من نفي ذلك انتقال الشيء من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي ،

__________________

(١) م : بزيادة «بواسطة» بعد «لهما».

(٢) ق : باقي».

(٣) م : «الصفات».

٣٠٠