نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

أحدهما : حصول الشيء بعد أن لم يكن له وجود في زمان سابق (١) وعلى هذا التفسير لا يكون الزمان حادثا ، وإلّا لكان عدمه سابقا على وجوده بزمان سابق ، فيكون للزمان زمان وهكذا.

والثاني : أن يكون حصوله بعد عدمه بعديّة بالذات ، وهو الحدوث الذاتي ، فإنّ (٢) كلّ ممكن ، فإنّه لا يستحقّ الوجود من ذاته وإنّما يستحق الوجود من غيره ، وما بالذات أسبق ممّا بالغير (٣) ، فيكون لا استحقاقية الوجود التي هي مقارنة للعدم ، سابقا على استحقاقية الوجود ، فيكون العدم سابقا على الوجود المستند إلى الغير ، وسواء كان ذلك الاستناد مخصوصا بزمان أو مستمرا في كلّ الزمان.

وللقدم معنيان مقابلان لمعنيي الحدوث : أحدهما الذي لا أوّل لزمان وجوده. والزمان بهذا المعنى ليس بقديم ، وإلّا لكان للزمان زمان آخر ، وهو محال.

والثاني الذي لا مبدأ ولا علّة لوجوده ، وهو القدم الذاتي.

البحث الثالث : في أنّ الحدوث والقدم هل هما ثبوتيّان أم لا؟

اختلف الناس هنا ، فالمحققون على أنّهما وصفان اعتباريان لا تحقّق لهما في الخارج.

وذهبت الكرّاميّة (٤) إلى أنّ الحدوث صفة زائدة على الذات.

__________________

(١) وهذا هو الحدوث الزمانيّ ، والبعدية فيه لا تجامع القبلية ، بخلاف الحدوث الذاتي الذي يجامع الوجود فيه العدم الذاتي ، وهو عدمه في مرتبة ذاته.

(٢) فهذا برهان لإثبات الحدوث الذاتي ، راجع الإشارات ٣ : ١١٣ وما بعدها ، والمباحث المشرقية ١ : ٢٢٩ ، وللرازي إشكال ضعيف على الحجة نشأ من المغالطة ، ذكره في شرحه على الإشارات والمباحث المشرقية.

(٣) أي عدم استحقاق الوجود ـ الذي هو مقارن لعدم الوجود ـ اسبق من استحقاق الوجود.

(٤) أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرّام وكان من سجستان ، وهم طوائف بلغ عددهم اثنتي عشرة فرقة ، وهم من الصفاتية المجسمة. الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٨.

٢٢١

وذهب «عبد الله بن سعيد» (١) من الأشاعرة إلى أنّ القدم وصف ثبوتي.

والكلّ باطل. أمّا الأوّل : فلأنّ الحدوث لو كان ثبوتيا ، لكان عرضا قائما بالغير ، فذلك الغير إمّا أن يكون قديما أو حادثا ، والقسمان باطلان. أمّا الأوّل : فلاستحالة اتّصاف القديم بالحدوث. وأمّا الثاني فلاستلزامه التسلسل.

لا يقال : لم لا يقوم الحدوث بالماهيّة من حيث هي هي ، فلا يلزم التسلسل؟

لأنّا نقول : الماهيّة من حيث هي هي لا توجد إلّا في العقل ، فيستحيل قيام الحدوث الثبوتي في الأعيان بماهيّة ذهنية ، بل إنّما تحلّ في ماهيّة موجودة ، ولمّا كان هذا الوجود مسبوقا بالعدم وجب أن يكون الشرط هو هذا الوجود المسبوق بالعدم. وأيضا لو كان الحدوث صفة وجودية لكان إمّا قديما أو حادثا ، والقسمان باطلان. أمّا الأوّل فلاستلزامه قدم موصوفه الذي هو الحادث ، فيكون الحادث أزليّا ، هذا خلف ، ولأنّ الحدوث عبارة عن مسبوقية الوجود بالعدم ، فيستحيل عليه القدم الذي هو عدم مسبوقية الوجود بالعدم. وأمّا الثاني فلاستلزامه التسلسل ، فإنّ الحدوث لو اتّصف بالحدوث ، لكان الكلام في الحدوث الذي هو الوصف كالكلام في الحدوث الذي هو الموصوف ، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

وأمّا الثاني : وهو مذهب «ابن سعيد» ، فإنّه باطل أيضا ، لأنّ القدم لو كان وصفا ثبوتيا ، فإمّا أن يكون قديما أو حادثا ، والأوّل يستلزم التسلسل. والثاني يستلزم اجتماع النقيضين. ولأنّه لو كان ثبوتيا لم يكن قائما بذاته ، بل بغيره. فذلك الغير إمّا أن يكون قديما أو حادثا ، والقسمان باطلان ، كما تقرّر أوّلا في الحدوث.

__________________

(١) عبد الله بن سعيد بن كلاب ، أبو محمد القطان ، متكلم من العلماء ، له كتب ، منها «الصفات» و «الرد على المعتزلة» توفي سنة ٢٤٥ ه‍ (أعلام الزركلي ٤ : ٩٠).

٢٢٢

قال أفضل المحقّقين : كلّ ما ليس القدم (١) داخلا في مفهومه ، فإذا وصف بالقدم احتيج إلى صفة زائدة عليه هي القدم ، وأمّا القدم فلا يحتاج إليه (٢) لكونه قديما لذاته.

وأمّا الحدوث فإنّه صفة والصفات لا توصف بالقدم ولا الحدوث ، لأنّ الاتّصاف بهما من شأن الذوات (٣).

وفيه نظر ، لأنّهم لمّا سلموا كون القدم ثبوتيا في الخارج وجب أن يكون مشاركا لغيره في الثبوت ، وممتازا عنها بخصوصيّة (٤) ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فاتّصاف ماهيته بوجوده إمّا أن يكون مسبوقا بالعدم ، فيكون حادثا وهو محال. وإمّا أن لا يكون ، فيكون قديما ، وقدمه راجع إلى نسبة وجوده إلى ماهيته وتلك النسبة مغايرة لما عداها من النسب. ولأنّه إذا جاز في القدم أن يكون قديما لذاته ، فليجز في كل قديم ذلك.

والحدوث إذا كان صفة ثبوتيّة وجب أن يكون موصوفا بالثبوت ، فلا يصحّ قولهم : «الصفة لا توصف» ولأنّ الضرورة قاضية بأنّ كلّ ثبوتي فإنّه موصوف بالثبوت ، فإمّا أن تكون موصوفيّته به مسبوقة بالعدم أو لا.

احتجّوا : بأنّ الشيء لا يكون حادثا ثمّ يصير حادثا ، فتجدّد الصفة بعد عدمها يدلّ على كونها ثبوتيّة ، أو (٥) كون عدمها ثبوتيا ، والثاني محال ، فالحدوث ثبوتي. ولأنّه نقيض «لا حدوث» العدمي. وكذا القدم نقيض «لا قدم» العدمي ،

__________________

(١) م : «العدم» والصواب ما قرّرناه في المتن من : ق ، والمصدر.

(٢) «إليه» ليست في المصدر.

(٣) نقد المحصل : ١٢٧. والعبارة الأولى «كلّ ما ليس القدم» من الطوسي دفاع عمّا قاله ابن سعيد والثاني «وأمّا الحدوث» دفاع عن مذهب الكرّامية.

(٤) م : «بخصوصيّته».

(٥) ق : «و».

٢٢٣

فيكون كلّ منهما ثبوتيّا.

والجواب : التبدّل لا يدلّ على الثبوت ، فإنّ الشيء الممكن إذا أخذ من حيث هو هو لم يكن واجبا ولا ممتنعا بالغير ، ثمّ إذا فرض انضمامه إلى المؤثر أو عدمه صار واجبا أو ممتنعا مع كونهما عدميين. وقد عرفت أنّ الاستدلال بصورة السلب على العدم (١) باطل.

قيل (٢) : حدوث الحادث ليس وجوده الحاصل في الحال ، وإلّا لكان كلّ موجود حادثا ، ولا العدم السابق من حيث هو عدم ، وإلّا لكان كلّ عدم حدوثا ، بل الحدوث هو مسبوقية الشيء بالعدم ، ومسبوقيّة الشيء بالعدم كيفيّة زائدة على الوجود والعدم.

قلنا : إن أردتم الزيادة في التعقّل والذهن فمسلّم ، ولكن ذلك لا يقتضي كون الحدوث ثبوتيا في الأعيان ، وإن أردتم الزيادة في الخارج ، فدليلكم لا يعطي أكثر من مطلق الزيادة في المفهوم.

__________________

(١) ج : «القدم» وهو خطأ.

(٢) والقائل هو الرازي في المباحث المشرقية ١ : ٢٣١ ، وهو نظير كلام الشيخ ابن سينا في تفسير القبلية للحادث وإن تخالفا في النتيجة ، الإشارات ٣ : ٨٢ ـ ٨٣.

٢٢٤

الفصل الثاني :

في خواص القديم

وفيه مباحث :

البحث الأوّل : في أنّ القديم هل يصحّ اسناده (١) إلى الفاعل أم لا؟ (٢)

المشهور بين الناس أنّ هذه مسألة خلاف بين الحكماء والمتكلّمين ، فإنّ الحكماء جوّزوا اسناد القديم إلى المؤثّر ، لأنّ علّة الحاجة إلى المؤثر عندهم هي الإمكان ، وهذه العلّة ثابتة في القديم الممكن ، فيثبت حكمها وهو الاحتياج. والمتكلّمون منعوا في الظاهر اسناده إلى الفاعل ، لأنّ علّة الحاجة إلى الفاعل إنّما هي الحدوث.

وفي التحقيق : لا نزاع بين الخصمين ، لأنّ الحكماء اتّفقوا على امتناع اسناد القديم إلى المؤثّر المختار ، لأنّ المختار إنّما يفعل بتوسّط القصد والداعي ، والداعي إنّما يتوجّه إلى إيجاد المعدوم لا الموجود ، لاستحالة القصد إلى تحصيل

__________________

(١) م : «استناده» ، ولا فرق بينهما.

(٢) لاحظ نقد المحصل : ١٢٤.

٢٢٥

الحاصل. فواجب في أثر المختار سبق العدم عليه ، فلهذا استحال اسناد القديم إليه.

والمتكلّمون أيضا منعوا من ذلك ، ونفوا (١) القول بالعلّة والمعلول ، لا بهذا الدليل ، بل بما دلّ على وجوب كون المؤثّر في وجود العالم قادرا. وجوّز الفريقان اسناد القديم إلى العلّة الموجبة ، بل صرّحوا بوقوع ذلك (٢). واستدلوا على ثبوته : بأنّ مثبتي الحال من الأشاعرة ، ذهبوا إلى أنّ عالميّة الله تعالى وعلمه قديمان ، والعالمية معلّلة بالعلم ، وكذا القدرة والقادريّة وغيرها من الصفات. وزعم «أبو هاشم» من المعتزلة وأتباعه : أنّ العالمية والقادريّة والحييّة والموجوديّة معلّلة بحالة خامسة ، مع أنّ الكلّ قديم. وقال «أبو الحسين البصري» : إنّ العالمية حالة معلّلة بالذات. وهؤلاء وإن منعوا من إطلاق لفظ القديم على هذه الأحوال ، إلّا أنّهم يعطون المعنى في الحقيقة (٣).

قال أفضل المحقّقين : هذا صلح من غير تراضي الخصمين ، لأنّ المتكلّمين بأسرهم صدّروا كتبهم بالاستدلال على وجوب كون العالم محدثا ، من غير تعرّض لفاعله فضلا عن أن يكون فاعله مختارا أو غير مختار. ثمّ ذكروا بعد إثبات حدوثه أنّه محتاج إلى محدث وأنّ محدثه يجب أن يكون مختارا ، لأنّه لو كان موجبا لكان العالم قديما ، وهو باطل بما ذكروه أوّلا. فظهر أنّهم ما بنوا حدوث العالم على القول بالاختيار ، بل بنوا الاختيار على الحدوث. وأمّا القول بنفي العلّة والمعلول فليس بمتّفق عليه عندهم ؛ لأنّ مثبتي الأحوال من المعتزلة قائلون بذلك صريحا. والأشاعرة يثبتون مع المبدأ الأوّل قدماء ثمانية يسمّونها صفات المبدأ الأوّل. فهم

__________________

(١) ق : «هو» بدل «نفوا» والصواب ما أثبتناه من : م.

(٢) راجع أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ٥١.

(٣) راجع نقد المحصل : ١٢٤ ؛ شرح الإشارات ٣ : ٨٠ ـ ٨١.

٢٢٦

بين أن يجعلوا الواجب لذاته تسعة ، وبين أن يجعلوها معلولات لذات واجبة هي علّتها. وهذا شيء إن احترزوا عن التصريح به لفظا ، فلا محيص لهم عن ذلك معنى (١) ، فظهر أنّهم غير متّفقين على القول بنفي العلّة والمعلول ، مع اتّفاقهم على القول بالحدوث (٢).

وأيضا المتكلّمون إنّما منعوا من إسناد القديم إلى الفاعل ، ليس لقولهم : «علّة الحاجة هي الحدوث» ، فإنّ هذا القول مختصّ ببعضهم ، ولم يتفقوا عليه ، لكن لقولهم بأنّ «ما سوى الله تعالى وصفاته محدث» والأحوال التي ذكرها (٣) عند مثبتيها ليست بموجودة ولا معدومة ، فلا توصف بالقدم على ما ذكره (٤) في تفسير القديم وهو : أنّ القديم ما لا أوّل لوجوده ، إلّا أن يغيّر التفسير ويقول : القديم ما لا أوّل لثبوته ، على أنّ الوجود والثبوت مترادفان (٥) ، لكنّه يقول هنا ما قاله المتكلّمون وليس عند بعضهم معناهما واحدا. و «أبو الحسين» لا يقول بالحال ، لكنّه يلزمه أن يقول : العلم صفة قديمة معلّلة بالذات (٦).

وأمّا الأشاعرة فيقولون بصفات قديمة ، لكنّهم يقولون : لا هي الذات ولا غيرها ، فلذلك لا يطلقون المعلوليّة عليها.

والحقّ : أنّ جميعهم أعطوا معنى القديم في الحقيقة على هذه الصفات (٧) ،

__________________

(١) في المصدر «ذلك المعنى».

(٢) شرح الإشارات ٣ : ٨١ ـ ٨٢.

(٣) م : «ذكروها» والصواب ما في المتن ، أي ذكرها الرازي.

(٤) م : «ذكروها».

(٥) في المصدر : «عنده مترادفان».

(٦) ق وج : «بالذات» ساقطة ، وأثبتناها من : م ، والمصدر.

(٧) في النسخ : «معه» بعد «الصفات» ، وفي المصدر : «معنى» ، والظاهر عدم الحاجة إليهما في العبارة.

٢٢٧

وأنّ إباءهم عن إطلاق لفظ القديم عليها ليس بحقيقي (١).

وأمّا الفلاسفة فلم يذهبوا إلى : أنّ الأزليّ يستحيل أن يكون فعلا لفاعل مختار ، بل ذهبوا إلى : أنّ الفعل الأزليّ يستحيل أن يصدر إلّا عن فاعل أزليّ تامّ في الفاعليّة ، وأنّ الفاعل الأزليّ التام في الفاعليّة يستحيل أن يكون فعله غير أزليّ ، ولمّا كان العالم عندهم فعلا (٢) أزليّا أسندوه إلى فاعل أزليّ تامّ في الفاعليّة ، وذلك في علومهم الطبيعية (٣). وأيضا لما كان المبدأ الأوّل عندهم أزليّا تامّا في الفاعليّة ، حكموا بكون العالم الذي هو فعله أزليّا ، وذلك في علومهم الإلهيّة ، ولم يذهبوا أيضا إلى أنّه ليس بقادر مختار ، بل ذهبوا إلى أنّ قدرته واختياره لا يوجبان كثرة في ذاته (٤) ، وأنّ فاعليته ليست كفاعليّة المختارين من الحيوانات (٥) ، ولا كفاعليّة المجبورين من ذوي الطبائع الجسمانية (٦).

وفرق بين الاختيار الذي يثبته الحكماء والذي يثبته المتكلّمون ، لأنّ الحكماء يقولون: إنّه مختار بمعنى وجوب صدور الفعل عنه دائما ، والمتكلّمون ينفون دوام الصدور عنه ، ويقول بعضهم بوجوب الصدور نظرا إلى قدرته وإرادته ، وبعضهم ينفي وجوب الصدور عنه (٧) أصلا ، ويقولون : إنّه يختار أحد الطرفين المتساويين على الآخر لا لمرجّح (٨).

__________________

(١) نقد المحصل : ١٢٤.

(٢) في النسخ : «فعليّا» والصحيح ما أثبتناه طبقا للسياق.

(٣) فابتدءوا من أزلية العالم واثباتها ، ثمّ استفادوا منها أزلية الباري تعالى.

(٤) أي إنّهما كسائر الصفات ، عين ذاته تعالى.

(٥) بأن يكون الاختيار زائدا على الذات.

(٦) كفاعلية النار ، شرح الإشارات ٣ : ٨٢.

(٧) في النسخ : «عنهم» وأصلحناها من المصدر.

(٨) نقد المحصل : ١٢٥.

٢٢٨

وفيه نظر ، فإنّ المتكلّمين لم يقصدوا إثبات الحدوث بالذات ، بل قصدهم بالذات إثبات الصانع ، ولمّا كان الطريق هو الحدوث ، لا جرم قدّموا البحث عنه على البحث عن إثبات الصانع ، ولم يكتفوا بالإمكان ، لأنّهم وجدوا العالم لا يخلو عن الحوادث ، وحكموا بأنّ ما لا يخلوا عن الحوادث فهو حادث ، فلزمهم القول بحدوث العالم ، ولمّا استحال إسناد الحادث إلى القديم الموجب التام في الفاعليّة ، وكان التسلسل محالا ، لا جرم أسندوه إلى الفاعل المختار ، فحكموا بأنّ مؤثر العالم قادر.

وأفضل المتأخّرين لم يقصد بقوله : «إنّ المتكلّمين نفوا العلّة والمعلول» الإطلاق ، لأنّهم يعترفون بثبوت التعليل في كثير من الأحكام والصفات والذوات أيضا ، بل قصد أنّهم ينفون العلّة والمعلول عن الله تعالى والعالم (١).

وأيضا المتكلّمون لمّا نفوا المجرّدات الممكنة ، وحكموا بأنّ كلّ متحيّز بالذات أو بالعرض محدث ، لبراهينهم التي استدلّوا بها ، لزمهم أن يكون ما سوى الله تعالى وصفاته محدثا ، فلهذا لم يسندوا العالم إلى مؤثّر موجب ، بل إلى قديم مختار. و «أبو الحسين البصري» لم يقصد بالحال في العلم ما قصده «أبو هاشم» ، بل الوصف الثبوتي.

وأمّا الفلاسفة ، فإنّهم اتّفقوا على امتناع إسناد القديم إلى فاعل مختار يفعل بواسطة القصد والداعي ، لأنّه ليس إذا شاء أن يفعل فعل ، وإذا شاء أن يترك ترك ، مع إمكان توارد المشيئتين عليه ، ولم يثبتوا قدرة واختيارا بهذا المعنى ، بل بمعنى مقارنة فعله للعلم ، مع عدم منافاته لذاته ، ولا فارق بين فعله وفعل الطبائع الجسمانية عندهم إلّا باعتبار مقارنة العلم وعدمه. فقد تقرّر من هذا ، أنّ

__________________

(١) كذا في م ، وفي ق : «و» محذوف.

٢٢٩

القديم يمكن إسناده إلى المؤثّر الموجب دون المختار.

وقد اعترض بعضهم ، بأنّ القادر لا يجب أن يكون فعله حادثا ، لأنّ الحادث هو الموجود المسبوق بالعدم فلنحلّل هذا المعنى ، وننظر في القدر المحتاج منه إلى المؤثّر فنقول : لا يجوز أن يكون المحتاج إلى المؤثّر هو العدم (١) ، لأنّ العدم حاصل أبدا ، ولأنّ الكلام مفروض في الحادث ، ولو كان العدم هو المحتاج لم يستند الموجود إلى المؤثّر ، فيكون الحادث غنيّا في وجوده عن المؤثّر ، هذا خلف ، ولأنّ العدم نفي محض ، فلا حاجة به إلى المؤثّر ، ولا الوجود من حيث هو وجود ، وإلّا لكان كلّ موجود محتاجا إلى المؤثّر ، فواجب الوجود محتاج ، هذا خلف. ولا مسبوقية الوجود بالعدم ، لأنّها ليست ثبوتية ، وإلّا لزم التسلسل ، ولأنّها صفة للموجود متأخّر عنه ، فالمحتاج إلى الفاعل متأخّر عن الوجود ، ويكون الوجود السابق مستغنيا عن المؤثّر ، فالممكن واجب ، هذا خلف. ولأنّ المسبوقية هنا واجبة لذات هذا الحادث ، فلا يستند إلى الغير ، لأنّ الواجب غير معلّل.

وإذا امتنع كون الحدوث علّة الحاجة إلى المؤثّر ، وجب أن يكون هو الإمكان ، لأنّه إذا انتفى الحدوث والإمكان بقي الشيء قديما واجبا ، والقديم الواجب مستغن عن المؤثر ، فلم يبق المحتاج إلّا (٢) الممكن المحتاج إلى القادر لا يجب أن يكون حادثا.

وأيضا العدم السابق ينافي وجود الفعل وفاعلية الفاعل ، وما كان منافيا للشيء لا يكون شرطا له ، فالعدم السابق لا يكون شرطا لكون الفعل فعلا ، ولا لكون الفاعل فاعلا ، فالفعلية والفاعلية يتحقّقان عند عدم العدم السابق ، فلا

__________________

(١) راجع الإشارات ٣ : ٧٣ ـ ٧٤ ؛ المباحث المشرقية ١ : ١٣٤ ـ ١٣٥ و ٤٨٩.

(٢) ق وم : «إلى» والصحيح ما أثبتناه من ج.

٢٣٠

يجب أن يكون فعل المختار حادثا.

وأيضا الإمكان علّة الحاجة إلى المؤثّر ، فالباقي محتاج ، فليس الحدوث شرطا في الحاجة.

لا يقال : الباقي يصير أولى ، وتلك الأولوية تغني عن المؤثّر.

لأنّا نقول : الأولوية إن حصلت لذاته ، كانت حاصلة حال الحدوث ، فيجب الاستغناء عن المؤثر حال الحدوث ، وإن كانت حاصلة لأمر ، كان الباقي محتاجا في بقائه إلى علّة الأولوية بواسطة حاجته إلى الأولوية ، وذلك قول : بحاجة الباقي إلى المؤثّر.

والجواب : نحن نسلّم : أنّ علّة الحاجة إلى مطلق المؤثّر هي الإمكان ، لكن [علّة] (١) الحاجة إلى القادر ليس الإمكان وحده ، بل الإمكان للممكن الذي سيحدث ويتجدّد له وجود ، ونمنع أيضا كون الإمكان علّة ، بل هذا الإمكان الخاص. ولا يلزم من كون الحدوث ليس علّة الحاجة أن يكون مطلق الإمكان هو العلّة ، بل العلّة هذا الإمكان الخاص.

وكون العدم ينافي الوجود مسلّم ، لكن ذلك لا يخرجه عن الشرطية ، لأنّه يجوز أن يكون المنافي للشيء شرطا في وجود منافيه (٢) المتأخّر عنه ، لأنّ المنافاة إنّما هي مع التقارن. ولهذا كانت الحركة شرطا في وجود السكون المتعقّب لها ، مع المنافاة بينهما ، وكلّ جزء متقدّم من أجزاء الحركة شرط في الباقي منها ، مع المنافاة بينهما ، فجاز أن يكون العدم السابق في الحادث شرطا في وجود الحادث.

وقد بيّنا أنّ الإمكان علّة في مطلق الحاجة لا في الحاجة إلى المختار ، بل العلّة فيها هي الحدوث.

__________________

(١) أضفناها وفقا للمعنى والسياق.

(٢) م : «وجوده منافي».

٢٣١

البحث الثاني : في أنّ القديم لا يجوز عليه العدم (١)

اعلم : أنّ القديم الوجودي لا يجوز عليه العدم ، لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون واجب الوجود لذاته (٢) ، أو ممكنا لذاته ، فإن كان واجبا لذاته امتنع عليه العدم ، لما تقدّم في خواص الواجب. وإن كان ممكنا لذاته ، افتقر في وجوده إلى مؤثّر ، وذلك المؤثّر يجب أن يكون قديما لاستحالة تقدم المعلول على علّته. ويجب أن يكون موجبا ، لامتناع استناد القديم إلى المختار.

ويجب أن يكون واجبا ، إمّا لذاته أو لغيره ، فإن كان واجبا لذاته ، فإمّا أن يكون ايجابه للقديم موقوفا على شرط أو لا ، فإن لم يكن موقوفا على شرط ، لزم من استمرار وجود الواجب لذاته ، استمرار وجود معلوله المطلق ، لامتناع انفكاك العلّة التامّة عن معلولها ، لكنّ الواجب لذاته يستحيل عليه العدم ، فيستحيل على معلوله المستند إليه خاصة ، وإن كان موقوفا على شرط فنقول :

ذلك الشرط لا يجوز أن يكون حادثا ، لاستحالة اشتراط القديم بالحادث ، وإلّا لكان الشيء متقدّما على شرطه ، فلا يكون مشروطا به ، بل يجب أن يكون قديما ، فإمّا أن يكون واجبا لذاته ، وهو محال ؛ لاستحالة تعدّد الواجب لذاته ، ولو سلّم فالمطلوب ، لأنّ العلّة يستحيل عدمها لوجوبها ، والشرط أيضا يستحيل عدمه لوجوبه ، فاستحال عدم المعلول حينئذ.

وإن كان الشرط ممكن الوجود ، فلا بدّ له من علّة قديمة ، وإلّا لكان حادثا

__________________

(١) لاحظ شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار : ١٠٧ وما بعدها ؛ شرح القوشجي على تجريد الاعتقاد في آخر الفصل الأوّل ، ثم راجع كتاب : «في التوحيد» لأبي رشيد النيسابوري : ٢٢٥ ـ ٢٣٠ ، ثم راجع المحيط بالتكليف للقاضي عبد الجبار : ٦٠ ـ ٦١.

(٢) ق : «بالذات».

٢٣٢

فلا يكون شرطا للقديم ، وتكون واجبة لذاتها أو مستندة إليه ، وعلى كل تقدير يمتنع عدمها فيمتنع عدم القديم.

فإن قيل : لا نسلّم امتناع عدم القديم ، لأنّ الممكن المستند إلى علّته القديمة لا يخرج عن إمكانه ، وكل ممكن فإنّه يجوز عدمه ، فكيف يصحّ الحكم عليه بامتناع العدم.

لا يقال : إنّه من حيث ذاته يمكن عدمه ، لكنّه باعتبار علّته يمتنع عدمه ، وليس مطلوبنا إلّا ذلك.

لأنّا نقول : هذا يلزم منه التناقض ، لأنّ الممكن لو كان وجوده لازما لوجود الواجب لذاته ، ومعلوم أنّ عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم ، وأنّ إمكان الملزوم ملزوم لإمكان اللازم ، فيكون عدم الممكن المعلول للواجب ملزوما لعدم الواجب ، فإمكان عدم الممكن ملزوم لإمكان عدم الواجب ، وإمكان عدم الممكن واقع فيقع ملزومه ، وعدم الواجب محال.

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز أن يكون القديم الوجوديّ المعلول للواجب مشروطا بشرط عدمي أزليّ؟ والعدميّ الأزليّ يجوز زواله ، وإلّا لم يوجد العالم (١) ، وإذا زال شرط القديم الوجودي لزم زوال القديم.

سلّمنا ، لكنه (٢) معارض بوجوه :

الأوّل : حدوث العالم في الأزل ، ومحدثية (٣) الباري تعالى لو كانا ممتنعين فتلك الاستحالة ، إن كانت هي بعينها ، مع أنّها قد زالت ، فلم لا يجوز زوال الواجب لذاته؟ وإن كانت بسبب ، رجعنا إليه بالتقسيم الذي ذكرتموه ، مع أنّها قد زالت.

__________________

(١) م «العالم» ساقطة.

(٢) في النسخ : «لكن» ، أصلحناها طبقا للسياق.

(٣) ق : «محدثه».

٢٣٣

الثاني : إمكان العالم فيما لا يزال ، إن كان لذاته ، فإن كان ثابتا في الأزل (بطل القول بوجوب حدوث العالم ، وإن لم يكن ثابتا في الأزل (١) مع أنّه قد تجدّد جاز حينئذ أن تحدث الأمور اللازمة لحقائق (٢) الأشياء فجاز أيضا أن تزول بعد ثبوتها ، إذ لا فرق في العقل بين الطرفين ، وإن كان بسبب ، كان ذلك الإمكان ممكنا في نفسه فيفضى إلى ثبوت إمكانات غير متناهية ، وهو محال.

ثمّ إنّها بأسرها تستدعي سببا ، وكلّ ما كان كذلك فهو لذاته ممكن ، فإذن إن لم يكن هناك استغناء عن الجعل امتنع جعل تلك الإمكانات ، وإن كان هناك إمكان استغنى (٣) عن الجعل فهو حاصل لذاته ، ويعود الكلام الأوّل.

الثالث : صحّة مؤثّرية الله تعالى في العالم ، إن كانت لذاته يلزم دوامها لدوام ذاته ، أو لأمر آخر فيعود التقسيم ولا ينقطع إلّا عند الانتهاء إلى واجب الوجود ، ومع ذلك فلا يجب دوام صحّة تلك المؤثريّة.

الرابع : الحادث يصحّ أن يكون مقدورا لذاته ، وحال البقاء يمتنع عليه أن يكون مقدورا ، فقد تبدّلت صحّة تلك (٤) المقدورية بامتناعها ، وقد تبدّل الواجب الذاتي.

الخامس : الحادث قد كان مقدورا للباري تعالى في الأزل إلى أن أوجده ، ثمّ زالت صحّة قدرته (٥) تعالى على احداثه ابتداء ، لاستحالة إيجاد الموجود ، وإذا زالت تلك الصحّة مع أنّها قديمة ، لزم عدم القديم.

__________________

(١) م : من «بطل» إلى «الأزل» ساقطة.

(٢) ق وج : «بحقائق».

(٣) م : «استغناء».

(٤) ق وج : «تلك» ساقطة.

(٥) في جميع النسخ : «مقدوريته» ، أصلحناها طبقا للمعنى والسياق.

٢٣٤

لا يقال : لا نسلّم زوال تلك الصحّة ، لأنّه تعالى بعد إيجاده للعالم قادر على إيجاده مرّة أخرى ، بأن يعدمه ثمّ يوجده.

لأنّا نقول : كلامنا في الإيجاد المبتدأ (١) لا في تجدد إيجاد بعد إعدام ، ولا شك في امتناع ابتداء الإيجاد.

السادس : أنّه تعالى في الأزل عالم ، بأنّ العالم سيحدث فيما لا يزال ، فإذا وجد العالم استحال بقاء علمه بأنّه سيحدث ، لأنّه جهل ، تعالى الله عنه. فذلك التعلّق إن كان حادثا فقبله تعلّق آخر لا إلى أوّل ، فهناك حوادث لا أوّل لها ، والقول بتجويزه اعتراف بفساد المقدّمة الثانية من أصل دليلكم على حدوث العالم ، وإن كان قديما فذلك التعلّق الأزلي قد عدم.

لا يقال : قد تقدّم أنّ القديم الأزلي إذا كان مشروطا بشرط عدمي أزلي جاز زواله لزوال شرطه العدمي الأزلي ، وهاهنا اقتضاء ذاته تعالى لتلك العالمية مشروط بعدم العالم أزلا ، إذ لو كان موجودا لاستحال علمه بأنّه سيوجد ، فجاز زوال التعلّق الأزلي لزوال شرطه.

لأنّا نقول : هذه مساعدة لنا على مطلوبنا ، وهو جواز عدم القديم لزوال شرطه العدمي ، وإذا جاز في قديم جاز في كل قديم.

والجواب (٢) : أنّ الممكن لذاته بالنظر إلى ذاته ليس بقديم ولا حادث ، ولا واجب لغيره ولا ممتنع ، وإنّما يعرض له شيء من ذلك بالنظر إلى غيره ، ولا نسلّم بقاءه على إمكانه بالنظر إلى وجود علّته أو عدمها ، بل يخرج إلى حيّز الواجب لغيره أو الممتنع ، وهما ينافيان الإمكان بالنظر إلى الغير ، وإن لم ينافياه بالنظر إلى

__________________

(١) ق وم : «بقدم المبتدأ».

(٢) أي الجواب عمّا حكاه بقوله : «فإن قيل» ، ص ٢٣٣.

٢٣٥

الذات ، وإنّما يجوز عدمه بالنظر إلى ذاته ، فصحّ الحكم عليه بامتناع العدم بالنظر إلى علّته ، ولا تناقض ، لاختلاف الموضوع ، لأنّه في أحدهما الممكن لذاته ، وفي الآخر الممكن المأخوذ مع علّته ، والتناقض ممنوع. ولا نسلّم وقوع إمكان عدم (١) الممكن ، وإنّما يكون واقعا لو لم يعتبر وجود علّته أو عدمها. ولا نسلّم أنّه يمكن اشتراط القديم الأزلي بشرط عدمي ، لأنّ العدم لا يجوز أن يكون علّة ولا جزء علّة للوجودي ، والشرط في الحقيقة جزء من العلّة التامة.

وفيه نظر ؛ فإنّا نعلم بالضرورة أنّ المؤثّر مع وجود المانع لا يوجد أثره ، فعدم المانع شرط في وجود الأثر.

بل الحق في الجواب وجهان :

الأوّل : أن نقول : ذلك الشرط العدمي إن استغنى عن المؤثّر بذاته كان واجبا ، إذ هو معناه ، وإن احتاج فليس (٢) إلّا عدم مؤثّره على ما يأتي ـ من أنّ علّة العدم عدم العلّة لا غير ـ ثمّ ننقل الكلام إلى عدم العلّة وهكذا إلى ما لا يتناهى ، فيلزم أن لا توجد ملكة هذا الشرط إلّا إذا وجد ما لا يتناهى دفعة ، وهو محال ، وإذا لم توجد ملكة هذا الشرط امتنع زوال القديم.

الثاني : أنّ بين القديم وملكة شرطه منافاة ذاتية ، فلا يمكن إسناد الملكة إلى ذلك القديم ، ولا إلى معلولاته ؛ لامتناع اقتضاء الشيء منافي ذاته أو علّة ذاته ، ولا إلى علله ؛ لامتناع صدورها عنها بالاختيار ، وإلّا لزم صدور القديم بالاختيار وبالإيجاب ، لامتناع اقتضاء الشيء الواحد المتنافيين ، ولأنّ وجود الملكة يستلزم عدم القديم ، لكن عدم القديم إنّما هو لعدم علّته ، فتكون علّة القديم موجودة بالنظر إلى وجود معلولها الذي هو الملكة ، ومعدومة بالنظر إلى عدم معلولها الذي هو

__________________

(١) ق : «العدم».

(٢) ق : «فليس» ساقطة.

٢٣٦

القديم. ولا إلى غيرهما لوحدة واجب الوجود ، وتناهي الحوادث على ما يأتي.

وعن المعارضة الأولى : أنّ الامتناع والصحّة أمران اعتباريان لا وجود لهما في الخارج ، والقديم العدمي يجوز زواله ، لأنّ الامتناع هنا مستند إلى المانع ، وهو الأزل (١) المنافي (٢) ، لصحّة حدوث العالم ومحدثية الله تعالى فيه.

وعن الثاني : أنّ الإمكان عدميّ اعتباري أيضا ، لا تحقّق له في الخارج ، وهو لازم عقلا للماهية ، فإذا فرضت الماهية في أي وقت فرض لزم الإمكان لها ، وهذا الإمكان الراجع إلى الماهية لا ينافي الاستحالة باعتبار الأزلية للحادث.

وعن الثالث : أنّ المؤثّرية أمر اعتباري أيضا ، لا تحقّق لها في الخارج ، وإلّا لافتقرت إلى مؤثّرية أخرى ، ويتسلسل.

وكذلك الجواب عن الرابع : فإنّ صحّة المقدوريّة ذهنية ، وإلّا تسلسل.

وعن الخامس : أنّ القدرة باقية ، والزائل هو التعلّق وهو أمر اعتباري. وابتداء الوجود ثابتا ، بوصف كونه وجودا ثابتا ومبتدأ جمع بين المتناقضين ، وهو محال لذاته فلا يكون مقدورا ، لأنّ المقدور إنّما هو الممكن لا غير.

وعن السادس : أنّ الناس اختلفوا فذهب «أبو هاشم» وجماعة [إلى] أنّ العلم بأنّ الشيء سيحدث ، هو بعينه العلم بحدوثه وقت حدوثه ، فيزول الإشكال عنه. ومنهم من قال : إنّ التعلّق الأوّل باق وتجدّد تعلّق آخر (٣) ، ويزول عنه الإشكال أيضا (٤) ، وهو مذهب «أبي الحسين» وبعضهم قال : إنّ التعلّق الأوّل قد زال ويتوجّه عليه الإشكال.

__________________

(١) في جميع النسخ «الأول» ، أصلحناها طبقا للمعنى.

(٢) ق وج : «الباقي».

(٣) ق : «الثاني».

(٤) ق : «أيضا» ساقطة.

٢٣٧

وفيه نظر ؛ فإنّ التعلّق الثابت بين العلم والمعلوم أمر اعتباري لا تحقّق له في الخارج ، فلا بعد في زوال التعلّق الأوّل وتجدّد تعلّق آخر بعده ، كما في جميع الصفات الإضافية المحضة. والقدرة والعلم باقيان أزلا وأبدا ، والزائل هو التعلّق بينهما وبين المقدور والمعلوم ، كما أنّ الواحد منّا يقدر على تحريك جسم صغير ، فإذا عدم ذلك الجسم ، لم تعدم قدرتنا على تحريك مثله ، بل عدم تعلّق قدرتنا بذلك الجسم المعدوم لا غير ، لأنّ التعلّق إضافة بين قدرتنا وبين ذلك المعدوم ، وإذا عدم أحد المضافين عدمت الإضافة.

البحث الثالث : في أنّ القديم واحد (١)

اختلف الناس هنا فذهبت الإمامية إلى أنّ القديم هو الله تعالى لا غير ، وأنّ ما عداه محدث ، للبراهين الآتية الدالّة على أنّ العالم ـ وهو كلّ ما سوى الله تعالى ـ محدث ، ولأنّه ممكن وكل ممكن محدث.

وذهبت الأشاعرة إلى إثبات قدماء ثمانية مع ذات الله تعالى ، هي المعروفة عندهم بالمعاني ، وسيأتي البحث فيها إن شاء الله تعالى.

قيل (٢) : إنّهم لا يطلقون اسم القدماء على المعاني التي يثبتونها لله تعالى في الأزل ، لأنّ القدماء عندهم عبارة عن أشياء متغايرة ، والتغاير إنّما يثبت عندهم بين الذوات لا بين الصفات أنفسها ، ولا بين الصفات والذوات.

وفيه نظر ، لأنّهم صرّحوا بثبوتها في الأزل ، ولا يجب في القديم أن يكون ذاتا ، بل كلّ ثابت في الأزل فإنّه قديم. ثمّ إنّ النزاع في ذلك لفظي ، لأنّهم يعطون معنى القديم.

__________________

(١) راجع نقد المحصل : ١٢٥ ـ ١٢٦ ، وشرح المواقف ٣ : ١٩٦ ـ ١٩٩ ؛ كشف المراد : ٨٢.

(٢) والقائل هو المحقق الطوسي في نقد المحصل : ١٢٥.

٢٣٨

وذهبت المعتزلة إلى إنكار القدماء وبالغوا فيه ، لكنّ «أبا هاشم» أثبت في الأزل الأحوال الخمسة ، وهي : القادريّة والعالميّة والحييّة والموجوديّة ، وعلّلها بحالة خامسة وهي الإلهيّة (١).

قيل (٢) : إنّ هذه الأحوال وإن قال بثبوتها في الأزل ، لكنّه لا يقول بقدمها ، لأنّ القديم هو الموجود أزلا ، والحال لا توصف بالوجود والعدم ، فلا تكون قديمة.

وهو (٣) أيضا راجع إلى نزاع لفظي ، لأنّا لا نعني بالقديم إلّا الثابت في الأزل ، ولا (٤) فرق بين الثبوت والوجود.

وقد اتفق المسلمون كافّة على نفي كل (٥) قديم غير الله تعالى وغير صفاته ، لدلالة السمع عليه ، لأنّ الدليل العقلي ـ وهو التمانع ـ إنّما دلّ على نفي إلهين ، فأمّا على نفي قديم غير قادر ولا حيّ ، فلا يدلّ العقل عليه.

وهو خطأ ، لأنّ ما عدا الله تعالى ممكن وكلّ ممكن محدث.

وذهب الحرنانيّون (٦) إلى إثبات قدماء خمسة ، اثنان حيّان فاعلان وهما : الباري تعالى والنفس ، وعنوا بالنفس ما يعمّ الأرواح البشرية والسماوية ، وهي مبدأ الحياة. وواحد منفعل غير فاعل ولا حيّ وهي الهيولى ، واثنان لا حيان ولا فاعلان ولا منفعلان ، وهما الزمان والخلاء.

أمّا الباري تعالى ، فلأنّه لو كان حادثا لافتقر إلى موجد ويتسلسل ، أو يدور ، أو ينتهي إلى قديم هو المبدأ له ، فيكون هو الباري تعالى ، لا ما فرضناه ، وهذا

__________________

(١) وأبو هاشم قد زاد هذه الخامسة.

(٢) وهو أيضا المحقق الطوسي في نقد المحصل : ١٢٤.

(٣) وهذا كلام المصنّف.

(٤) م : «فلا».

(٥) ق وج : «كل» ساقطة.

(٦) م : «الجبائيّون» وهو خطأ. والحرنانيّة : جماعة من الصابئة. الملل والنحل للشهرستاني ٢ : ٥٤.

٢٣٩

خلف.

وأمّا النفس والهيولى ، فلأنّهما لو كانا حادثين لكان لهما هيولى ؛ لأنّ كلّ محدث فله هيولى ، لكن ليس للهيولى ولا للنفس هيولى ، لاستحالة أن تكون تلك الهيولى حادثة ، وإلّا لزم التسلسل ، أو إثبات هيولى قديمة وهو المطلوب (١) وهذا غير تام ، إذ لا يلزم من قدم هيولى النفس قدمها.

وأمّا الزمان ، فلأنّه لو كان حادثا لكان عدمه قبل وجوده قبلية زمانية (٢) فيكون للزمان زمان آخر ويتسلسل ، أو ينتهي إلى زمان قديم وهو المطلوب (٣).

وأمّا الخلاء ، فلأنّه واجب لذاته ، إذ معنى الواجب لذاته ، هو الذي لا يتصوّر عدمه ، ولا رفعه عن الوجود ، والخلاء لا يمكن رفعه ، ولا يتصوّر الذهن عدمه ؛ لأنّه لو ارتفع الفضاء لم تبق الجهات متمايزة ولا مشارا إليها ، وهو غير معقول.

ومال «ابن زكريا» (٤) إلى هذا المذهب (٥) ، ونحن نمنع احتياج الحادث إلى المادة والمدّة وسيأتي.

وامتناع رفع الفضاء مستند إلى الوهم لا العقل.

وذهبت الفلاسفة إلى قدم المادّة والزمان ، لأنّ كلّ حادث عندهم فإنّه مسبوق بمادة ومدة (٦) لما يأتي.

__________________

(١) الحجة قد ذكرها الرازي في المحصل ، وهي لا تثبت قدم النفس كما قاله المصنف.

(٢) بأن لا تجامع القبلية البعدية.

(٣) وقد نقل عن المعلم الأوّل : «أنّ من قال بحدوث الزمان فقد قال بقدمه من حيث لا يشعر».

(٤) محمد بن زكريا الرازي أبو بكر ، فيلسوف من الأئمّة في صناعة الطب ، من أهل الري ، (٢٥١ ـ ٣١٣ ه‍) الأعلام ، الزركلي ٦ : ١٣٠.

(٥) وألف فيه كتابا موسوما ب «القول في القدماء الخمسة».

(٦) ذهب الفلاسفة إلى مسبوقية الحادث الزماني بالمادة والمدة لا مطلق الحادث الشامل للحادث الذاتي الذي يشمل الحادث الزماني والقديم الممكن.

٢٤٠