نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

وفيه نظر ، لأنّ الوهم يعارض العقل في كثير من أحكامه ، حتى أنّ النفس تعجز عن التمييز بينهما في أكثر القضايا ، ويفتقر إلى تعب شديد في إسناد الحكم إلى العقل أو إلى الوهم. وأعظم ما يتمسك به في التمييز بينهما استمرار الحكم عند حصول المبادئ التي له ولضده فيكون عقليا ، وانقطاعه عند حصول المبادئ التي للعقل فيكون وهميا. ولمّا دلّ العقل على تناهي الأبعاد بمقدمات ساعده الوهم على تسليمها ونكص (١) الوهم عن النتيجة لتوهم ضدّها ، حكمنا بالعقل على أنّ خارج العالم عدم صرف لا بعد أما بين الجدارين وشبهه فإنّ البعد ثابت فيه لقبوله التقدير والمساواة والمفاوتة ، فإنّ القطر (٢) الآخذ من الزاوية العليا في البيت إلى مقابلها من أسفل زائد على كلّ ضلع من أضلاع البيت بالضرورة ، سواء توهم جسم حالّ فيه أو لا.

وأيضا نعلم بالضرورة : أنّا لو ملأناه بذراع مثلا حكمنا بمطابقة الذراع لشيء وليس المطابق أمرا عدميا ، لعدم المطابقة بين الوجودي والعدمي ، فهو لأمر ثبوتي هو البعد المجرد.

بل الجواب هنا أن نقول : لا نسلّم أنّ كلّ بعد في مادة ، والملاء إنّما هو البعد المادي لا مطلق البعد.

وعن الثاني : أنّ الشكل حصل للخلاء بواسطة ما يحويه (٣) ، كما يحصل للهواء والماء المحبوسين. على أنّا نمنع ثبوت الشكل لكل بعد ، سواء كان مجرّدا أو ماديا ، بل إنّما يثبت الشكل للبعد المادي ، لأنّه تابع للصورة. بل ونمنع كون الخلاء وجوديا ، كما ذهب إليه بعضهم ، فلا يكون له شكل.

__________________

(١) كذا في النسخ.

(٣) كذا في النسخ.

(٢) ج : «النظر» ، وهو خطأ.

٤٢١

سلّمنا ، لكن يجوز أن يحصل له الشكل بواسطة الفاعل ، ولا يلزم منه قبوله للفصل والوصل ، فإنّ الشمعة قد تتشكل بأشكال مختلفة مع بقاء اتصالها الواحد بالشخص في الأحوال كلّها. وثبوت الشكل للشيء إن اقتضى كونه جسما كان توسط التقسيم في بيانه ضائعا. وإن لم يقتض لم يلزم من توارد الأشكال المختلفة عليه كونه جسما ، لأنّ اتّصافه بالشكل السابق لا يقتضي جسميته ، ولا عدمه قطعا ، ولا الشكل المتجدد ، لأنّه لا يقتضيه من حيث إنّه شكل ، ولا من حيث عدمه (١) السابق.

وعن الثالث : بأنّا لا نسلّم أنّ الحركة الطبيعية هي التي تطلب مكانا خاصا يكون طبيعيا لها ، بل التي تطلب القرب من بعض الأجسام الملائمة لمحلها والبعد عما ينافره. وهذا المعنى لا يقتضي الافتقار إلى اختلاف الأمكنة.

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز أن يكون الطبيعي هنا كما هو عندكم؟ فإنّ المكان الطبيعي للنار هو القريب من الفلك ، وللأرض البعيد عنه ، فقد حصل الطبيعي للمتمكنات باعتبار الفلك ، وهو أمر خارج عن الأحياز (٢). والأمكنة والمتمكنات ليس ذاتيا لها ولا لازما ، إلّا على سبيل الاتفاق.

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز أن يكون التخالف لما (٣) يحل في الخلاء ، ويكون ملزوما للخلاء لا لازما؟

سلّمنا ، فلم لا يجوز أن يكون لما يحلّ فيه الخلاء. قوله يكون ماديا ، قلنا إنّما يكون ماديا لو انحصر المحل في المادة الجسمانية؟ وهو ممنوع.

__________________

(١) ج : «عدم».

(٢) ق : «الاختيار» ، وهو خطأ.

(٣) ج وق : «كمّا» ، ولعلّ الصواب ما أثبتناه من م.

٤٢٢

سلّمنا ، فلم لا يجوز أن لا يكون لازما ، بل ولا مخالفة هناك ، ويكون كلّ أجزاء الخلاء طبيعيا ، ويكون كحال أجزاء كلّ عنصر بالنسبة إلى كلية مكان ذلك العنصر ، فإنّ الكل طبيعي له ، وفي أيّها اتفق وجوده فيه (١) كان موجودا في مكان طبيعي له ويمكن سكونه فيه ، فإنّه ليس يجب إذا كان للشيء الواحد مواضع متشابهة أن يلزمه أن لا يسكن في واحد منها ، فإنّ أمثال هذه المواضع أيّها اتفق للجسم الحصول فيه وقف بطبعه ولم يهرب(٢).

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز أن يختص بالحركة إلى مكان والسكون فيه دون غيره للفاعل المختار ، أو يكون اختصاصه به كاختصاص بعض أجزاء النار بمماسة سطح الفلك دون البعض؟

سلّمنا ، لكن دليلكم إنّما يلزم لو لم يكن في الوجود إلّا جسم واحد ، حتى يقال : إنّ حصوله في خلاء ليس أولى من حصوله في خلاء آخر ، أمّا إذا وجدت أجسام كثيرة كالسماء والأرض فحينئذ يكون حصول بعض الأجسام في بعض الأحياز أولى من حصوله في غيرها ، للاختلاف الحاصل في الخلاء بسبب الاختلاف في القرب والبعد من تلك الأجسام ، وهذا المنع تقدم في تفسير كون المكان طبيعيا ، وهنا في منع الافتقار إلى الطبيعي لو غاير هذا التفسير.

لا يقال : الكلام في اختصاص هذه الأجسام الكثيرة ببعض هذه الجوانب من الخلاء كالكلام في هذا الجسم.

لأنّا نقول : جاز أن يكون الخلاء هو هذه الأبعاد الفارغة لا غير ، وهي متناهية ، فحصل فيها هذه السماوات والأرض ، ولم توجد أبعاد فارغة سواها ، فلم يلزم المحال الذي ذكرتموه.

__________________

(١) م : «فيه» ساقطة.

(٢) راجع المباحث المشرقية ١ : ٣٤٥.

٤٢٣

سلّمنا ، لكن الاختصاص هنا كاختصاص كلّ واحد من أجزاء العنصر بجزء من أجزاء حيّز ذلك العنصر.

وعن الرابع : بأنّ الحركة من حيث ذاتها وحقيقتها تستدعي قدرا من الزمان ، وهو يستدعي زمانا زائدا على ما تقتضيه ذاتها باعتبار ما يعرض لها من البطء الحاصل بسبب المعاوقة. أمّا الأوّل فلأنّها من حيث هي هي لا تتحقق ولا تتحصل إلّا على مسافة منقسمة ، فيكون وجود بعضها (١) قبل وجود كلّها ، والقبلية والبعدية من لواحق الزمان لا يوجدان بدونه. وأيضا لو كان الزمان عارضا للحركة باعتبار بطئها المستند إلى المعاوقة بسبب ما في المسافة من الملاء لم يكن عارضا للحركات الفلكية ، حيث لا معاوقة فيها باعتبار الملاء في المسافة ، فكان يجب أن توجد الحركة الفلكية لا في زمان ، وهو محال.

وأمّا الثاني : فظاهر ؛ لأنّا نعلم أنّ الزمان يزيد مع زيادة البطء ، وينقص مع نقصانه إلى أن يبطل زمان المعاوقة بانتفائها ، فينتفي الزمان المستند إلى ما تستحقه الحركة لذاتها ، وإذا كانت بنفسها تستدعي قدرا من الزمان فالحركة في الخلاء لمّا وقعت في ساعة كان ذلك هو الزمان المستحق لذاتها ، إذ لا معاوقة هنا.

ثمّ الحركة في الملاء الغليظ لمّا وقعت في عشر ساعات كان الزمان المستحق لها لذاتها ساعة واحدة ، وأمّا الساعات التسع الباقية فإنّها حصلت بسبب المعاوقة ، فإذا فرضنا المعاوقة الأخرى أقلّ من الأولى بعشرين مرة وجب تقسيط الساعات التسع لا غير على المعاوقة ، فيكون حظ المعاوقة في الملاء الرقيق من هذا الزمان الحاصل بسبب البطء نصف عشر الساعات التسع ؛ بسبب أنّ ما فيه من المعاوقة نصف عشر ما في الملاء الغليظ ، والزمان الذي تستحقه معاوقة الملاء الغليظ تسع ساعات ، فالزمان الذي تستحقه بسبب معاوقة هذا الرقيق نصف

__________________

(١) ج : «نصفها».

٤٢٤

تسع ذلك الزمان ، فيكون زمان الحركة في هذا الملاء الرقيق ساعة ونصف عشر تسع ساعات ، فلا يلزم من هذا أن تكون الحركة في الملاء أسرع من الخلاء (١).

اعترض أفضل المحققين : بأنّ الحركة لا تخلو من حدّ ما من السرعة والبطء ، لأنّ كلّ حركة إنّما تقع في شيء ما يتحرّك المتحرّك فيه ، مسافة كان أو غيرها ، وفي زمان ما ، وقد يمكن أن يتوهم قطع تلك المسافة بزمان أقلّ من ذلك الزمان فتكون الحركة أسرع من الأوّل ، أو أكثر فتكون أبطأ منها ، فإذن الحركة لا تنفك عن حدّ ما من السرعة والبطء ، والمراد منهما شيء واحد بالذات هو كيفية قابلة للشدة والضعف ، وإنّما يختلفان بالإضافة العارضة لها. فما هو سرعة بالقياس إلى شيء هو بعينه البطء بالقياس إلى آخر ، والحركة لا بدّ لها من ثلاثة أشياء : مسافة وزمان وحدّ معين من السرعة والبطء. فإذا اتفق واحد من الثلاثة واختلف الباقيان ، فقد يعرض بين المختلفين تناسب ما ، فإنّ المتحرك بالحدّ الواحد من السرعة ، والبطء يقطع مسافة طويلة في زمان طويل وقصيرة في قصير. فنسبة المسافة إلى المسافة كنسبة الزمان إلى الزمان على التساوي ، والمتحرك في المسافة الواحدة يقطعها بحدّ أسرع في زمان أقصر ، وبحد أبطأ في زمان أطول ، فنسبة السرعة إلى البطء كنسبة الزمان القصير إلى الزمان الطويل.

والمتحرك في الزمان الواحد يقطع بحد أسرع مسافة أطول ، وبحد أبطأ مسافة أقصر ، فنسبة السرعة إلى البطء كنسبة المسافة الطويلة إلى القصيرة ، فالطول في المسافة ، والقصر في الزمان بإزاء السرعة ، ومقابلهما بإزاء البطء.

والحركة بنفسها لا يمكن أن تستدعي قدرا من الزمان والمسافة ، وبسبب السرعة والبطء تستدعي شيئا آخر ، لأنّ الحركة لا يمكن وجودها إلّا على حدّ من السرعة والبطء ، إذ لو وجدت منفكة عنهما في زمان كانت بحيث إذا فرض وقوع

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

٤٢٥

أخرى في نصف ذلك الزمان أو في ضعفه كانت لا محالة أبطأ أو أسرع من المفروضة ، وكانت مع حدّ من السرعة والبطء حين فرضناها لا مع حدّ منهما (١).

والجواب : كون الحركة مع حدّ من السرعة والبطء لا تنفك عنهما لا يخرج الحركة عن مقتضاها ، فإنّ لوازم الماهيات لو أخرجت ملزوماتها عن مقتضياتها لزم كون تلك الملزومات ممتنعة التحقق ، ومعلوم أنّ الحركة من حيث هي هي تستدعي قدرا من الزمان عندهم بالنظر إلى ذاتها منفكة عن السرعة والبطء ، وهو كاف في هذا الباب.

وعن الخامس : بمنع وجود القوة القسرية.

سلّمنا ، لكن نمنع استناد بطلان القوة إلى المصاكات ، لأنّها حاصلة من أوّل المسافة ، والمصاكات متساوية في الحقيقة ، فتتساوى في الاقتضاء ، فكان يجب عدم تلك القوة عند أوّل المصاكات.

لا يقال : المصاكات تقتضي ضعف القوة لا عدمها ، ثمّ لا يزال الضعف يتواتر عليها إلى أن تعدم.

لأنّا نقول : الاختلاف بالشدّة والضعف اختلاف بالنوع ، فعند الضعف إن لم يعدم شيء لم يكن للضعف معنى ، وإن عدم فإن كان صفة (٢) للقوة فلا تأثير للمصاكة في القوة، بل تأثيرها في أمر آخر. وإن كان ذاتها عدمت عند أوّل المصاكات.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم ضعفها بالملاء لا غير ، بل جاز أن يكون بكثرة أثرها ، فإنّهم نصّوا على أنّ القوّة الجسمانية تكلّ بكثرة الأفاعيل.

سلّمنا ، لكن تضعف بمعاوقة القوة الطبيعية لها ، كما في الانفعال الحاصل في المزاج.

__________________

(١) راجع نقد المحصل : ٢١٦.

(٢) م : «ضعفه».

٤٢٦

سلّمنا ، لكن الشيخ الرئيس كما أثبت قوة قسرية محركة ، كذا أثبت قوة قسرية مسكّنة عند المنتهى ، فجاز إسناد الضعف إليها.

سلّمنا أنّ ضعف القوة مستند (١) إلى مصادمات الهواء ، لكنّه لا يستلزم الملاء ، فجاز أن تكون في المسافة أجزاء هوائية مبثوثة فيها ، بينها أجزاء خلائية ، ويحصل المقصود مع ثبوت الخلاء.

وعن السادس : بالمنع من عدم استناد النزول إلى انتفاء المقتضي. قوله : المقتضي طبيعة الماء. قلنا مطلقا أو بشرط؟ ا ع م (٢) فجاز أن تكون علّة بشرط ولم يتحقق الشرط. ولو كانت طبيعة الماء علة للنزول مطلقا لما وقف ، فلمّا وقف علمنا أنّها ليست علّة مطلقا. وحصر المانع الخارجي في الانسداد والملاء ممنوع.

سلّمنا ، فلم لا يستند إلى الانسداد؟ وإنّما ينزل مع فتح الرأس لأنّ مع فتح الرأس يطلب الهواء مكانه الطبيعي ، وهو البعد الذي احتوى عليه الماء ، حيث إنّ الماء في مكان الهواء قسرا ، ولهذا نزل فدافع الماء من فوق الإناء ، فنزل من أسفله ومع ضم الرأس لا يكون للماء مدافع ، فبقي محفوظا في الإناء. وطلب العلّة في نزوله مع اتساع الثقب مشترك بيننا وبينهم. على أنّا نقول : العلّة ، أنّ (٣) مع اتساع الثقب يكون ثقل الماء فيه أكثر من ثقله في الثقب الضيق ، فيقهر الهواء (٤) لسهولته وسرعة انفعاله. وأيضا يبرده فيكثف فيقلّ حجمه فينزل الماء ، ولا يلزم أن يكون الخلاء ملاصق أسفل الإناء بحيث يتحرك الهواء إليه بسهولة ، فجاز أن

__________________

(١) ق وس : «حينئذ» بدل «مستند».

(٢) كذا في النسخ ، ولم نهتد إلى صوابها. ولعلّه اختصار عن قوله : فإن أريد مطلقا ، فممنوع.

(٣) م : «على أنّ».

(٤) م : «الماء».

٤٢٧

يكون بعيدا أو في أعلى الإناء.

ولأنّه وارد علكيم ؛ لأنّ الخلاء وإن لم يكن مانعا من نزول الماء ، بل معين له على نزوله ، حيث لا ممانعة فيه لما تقتضي طبيعة الماء من النزول ، كذلك الهواء لا ممانعة فيه عن مقتضى طبيعة الماء من النزول ، ولهذا تتحرك الأجسام في الأهوية ، بل ويكون معينا له على النزول ليستقر مكانه ، فإنّه طبيعي للهواء لا للماء. ولو كان المانع الملاء لكن لا يمنع من وجود الخلاء اليسير بين أجزائه أو في غير ذلك الموضع. ولو سلّم وجود الملاء الذي لا يتخلّله خلاء ، لكن لا يدل على امتناع الخلاء كما تقدم.

واعتذارهم في نزول الماء مع سعة الثقب بصعود الهواء من جانب منه ونزول الماء من آخر ، آت مع ضيق الثقب ، لأنّ كلّ واحد من هذين العنصرين لطيف جدا يقبل التشكلات بأجمعها بسهولة ، فلما ذا لا يحصل هذا الأثر مع الثقب الضيق كما حصل مع اتساعه. وأيضا يلزم الترجيح من غير مرجّح ، إذ لا أولوية لنزول الماء من بعض الجهات وصعود الهواء من بعضها. وأيضا إذا فرضنا الإناء مملوءا ماء حارا ، ثمّ لحقه البرد لزمه التكاثف وكان ينزل الماء ، وليس كذلك. وأيضا إذا كان الثقب واسعا ونزل الماء من بعض جوانبه وصعد الهواء من البعض الآخر ، فلا بدّ من خلو بعض الإناء ، وهو الموضع الذي ينزل الماء منه ، فإمّا أن يخلع الماء مقداره ويلبس مقدارا أكبر (١) بحيث يملئ ما خلا ، أو يلزم التداخل بواسطة دخول الهواء ، ويلزم على الأوّل أن يخلع الجانب الآخر من الماء الذي يصعد فيه الهواء مقدارا أصغر حتى يدخل الهواء ، وهذان قسريان ، فلم يلبس (٢) الماء مقدارا أكبر حتى ينزل البعض منه.

__________________

(١) م : «أكثر».

(٢) م : «لا يلبس».

٤٢٨

وعن السابع : أنّ صعود الماء قسري ، ولبس الهواء مقدارا أكبر قسري أيضا ، فلم كان أحد القسرين أولى من الآخر؟ ولم أطاعت المحجمة للكسر مع صعوبته وصلابتها ولم يخلع الهواء مقداره ويلبس أكبر مع سهولته ، حتى لو بقي من الهواء مقدار رأس أبرة أمكن أن يلبس من المقدار أضعاف ملء الإناء؟

وعن الثامن : بما تقدم من أنّ خلع الهواء مقداره أسهل من كسر القارورة إلى داخل أو خارج.

وعن التاسع : بإمكان ما ذكروه ، وهؤلاء لم يسندوا جميع أحوال نزول الماء في جميع الأماكن (١) ، وأحوال الخلاء سعة وضيقا ، وكثرة النفاخات وقلتها.

وعن العاشر : أنّا لا نمنع من وجود الهواء بين الأجسام ، لكن لا نوجبه ولا نوجب الخلاء (٢) ، فجاز طفو الطاس باعتبار الهواء الذي فيه ، لكن نمنع امتلاءه به.

المسألة الثانية : في أنّ الخلاء ليس فيه قوة جاذبة للأجسام ولا دافعة لها (٣)

ذهب محمّد بن زكريا الرازي إلى أنّ للخلاء قوة جاذبة للأجسام ، لأنّ الماء تحتبس في الأواني التي تسمّى سراقات (٤) الماء ، وينجذب من الأواني التي تسمّى

__________________

(١) العبارة كذا في النسخ.

(٢) م : «الملاء».

(٣) سمّى الشيخ القائل بهما مغاليا في الفصل الثامن من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ، وراجع أيضا المباحث المشرقية ١ : ٣٥٧ ـ ٣٦٠.

(٤) جمع سراقة وهي الآنية الضيّقة الرأس في أسفلها ثقبة ضيّقة ، وتسمّى في الفارسية آب دزد. شرح المواقف ٥ : ١٥٨.

٤٢٩

زراقات (١) الماء.

ومنهم من أثبت للخلاء قوة دافعة للأجسام إلى فوق ، فإنّ الجسم إذا تخلخل بكثرة خلاء يداخله صار أخفّ وأسرع حركة إلى فوق.

والأوّل باطل لوجهين :

الوجه الأوّل : أجزاء الخلاء متشابهة ؛ لأنّه إن كان عدما صرفا فظاهر ، وإن كان بعدا مجردا عن المادة فكذلك ، إذ المفهوم من البعد واحد ، فلو كان في بعض الأجزاء قوة جاذبة وجب أن يكون في الجميع تلك القوة ، فلم يكن اندفاعه إلى بعض الجهات أولى من اندفاعه إلى غيرها.

وفيه نظر ، لجواز تخصص اندفاعه إلى جهة بما يتخصص اندفاعه لو لا القوة الجاذبة.

الوجه الثاني : لو كان حابس الماء في السراقة هو الخلاء الذي امتلئ به ، فلم ينزل الماء المنفوش في الهواء الشاغل لخلل الهواء الخالي؟ ، وإن كان ثقله يغلب جذب ذلك الخلاء ، فلم ينتقل الماء المنكب عليه القارورة ولا يغلب الخلاء بل ينجذب؟ وامساك الثقيل المشتمل عليه أسهل من إشالة الثقيل المباين.

وأيضا فلم إذا فتح رأس الآنية (٢) ينزل الماء؟ بل كان يجب أن يحبس الخلاء الماء هناك ولا يتركه حتى ينزل ، ولا يدع الإناء الذي فيه ينزل أيضا ، بل يبقى

__________________

(١) من زرق الطائر زرقا إذا قذف زرقه ، وزراقات جمع زراقة ، وهي انبوبة معمولة من نحاس يجعل أحد شطريها دقيقا وتجويفه ضيّقا جدا ، ويجعل شطرها الآخر غليظا وتجويفه واسعا ويسوى خشب طويل بحيث يكون غلظه مالئا لتجويفه الواسع ، إذا ملئت تلك الانبوبة ماء ووضعت الخشبة على مدخلها بحيث تسدّه لم يخرج الماء من الطرف الآخر. شرح المواقف ٥ : ١٥٩. وفي المباحث المشرقية «زرافات» بالفاء ، وهي منزفة الماء ، يسقى بها الزّرع. وزرف الرمح فيه : انفذه.

(٢) م وج : «الآلة».

٤٣٠

مرتفعا مشالا. فإن قالوا ثقل الإناء غلب جذب الخلاء ، أبطلناه بما إذا كان الإناء أخف وزنا من الماء.

ويدل على بطلان القول الثاني وجهان :

أ : الخلاء الذي يحرك الأجسام إمّا أن يكون هو الخلاء المبثوث داخل الجسم ، أو الخارج عنه المحيط به. فإن كان الأوّل ، فإمّا أن يحرك مع ذلك أجزاء الجسم وهو محال ، لأنّه لا خلاء في كلّ واحد من تلك الأجزاء ، فلا تكون حركة شيء من الأجزاء بسبب الخلاء ، بل لكلّ حركة محرك ، ومجموع المحركات إذا حركت مجموع الأجزاء كان ذلك سببا لحركة كلّ ذلك الجسم ، فحركة كلّ الجسم لا للخلاء ، بل لسبب آخر. وأمّا أن لا يحرك الخلاء شيئا من أجزاء الجسم فيستحيل أن يحرك كلّيته ، لأنّ تحريك الكل بواسطة تحريك الأجزاء.

وإن كان الثاني (١) فمعلوم أنّ الخلاء المحيط بجسم كبير لا يصعّده إلى فوق ، فإذن ليس كلّ جسم ينفعل عن الخلاء ، بل جسم يقتضي طبيعته أن يتخلل الخلاء بين أجزائه ، فيكون معنى ذلك أنّ بعض الأجسام مقتضى طبيعته أن تتباعد بعض أجزائه عن بعض ، وذلك محال. أمّا أوّلا : فلأنّ هرب الأجزاء المتجانسة بعضها عن بعض محال. وأمّا ثانيا : فلأنّ الهرب إلى جهات مختلفة بعضها يمنة وبعضها يسرة ، وبعضها قدّام وبعضها خلف ، مع اتحاد الطبيعة محال. وأمّا ثالثا : فلأنّه إمّا أن يكون هناك مهروب عنه ، وإمّا أن لا يكون. والأوّل محال ؛ لتشابه الأجزاء ، وإذا لم يكن هناك مهروب عنه كان الكل هاربا من غير أن يكون هناك مهروب عنه ، وهو محال (٢).

__________________

(١) أي يكون المحرّك هو الخلاء الخارج المحيط بالجسم.

(٢) في الشفاء والمباحث المشرقية وجه آخر وهو : «تحدّد المباعدة في ذلك الهرب بحدّ معيّن محال».

٤٣١

وفيه نظر ، لأنّ الخلاء يحرك كلّية الجسم ، ولا جزء له بالفعل. فإن فرض له جزء كان متحركا عنه بالعرض بواسطة تحريكه للكل لا بالذات ، كالقوى المحركة للأجسام عندهم. ونمنع كون الخلاء لا يصعّد الجسم إلى فوق. ولو سلّم فلا يلزم من نفي هذا التحريك نفي مطلق التحريك.

ب ـ الخلاء المتخلل لأجزاء الجسم إن كان هو الذي يوجب حركته إلى فوق ـ وموجب الشيء ملازم له ـ فيكون الخلاء ملازما للمتخلخل (١) في حركته منتقلا معه ، فيحتاج الخلاء إلى مكان آخر طبيعي له حتى يكون مطلوبا له يتحرك إليه ، هذا خلف. وأمّا أن لا يكون كذلك ، بل لا يزال الجسم يستبدل في حركته خلاء بعد خلاء ، فلا يكون ملاقاة الجسم للخلاء الواحد إلّا في آن واحد ، وفي الآن لا يحرك شيء شيئا ، وبعد الآن لا يكون ملاقيا له.

ولا يمكن أن يقال : الخلاء يعطي الجسم قوة من شأنها أن تبقى ويكون المحرك هو تلك القوة ، ويكون كلّ خلاء يؤثر أثرا جديدا ، ولا يزال ذلك الأثر يشتدّ والحركة تسرع. وذلك أيضا باطل ؛ لأنّ الخلاء متشابه فليس بعض أجزائه بهذا الاقتضاء أولى من البعض الآخر.

وفيه نظر ، لأنّا نقول : الخلاء إذا تخلّل أجزاء الجسم أفاد الجسم خفّة ، وتلك الخفة تقتضي اصعاده ، ولا يحتاج الخلاء إلى مكان آخر طبيعي له. أقصى ما في الباب أنّه يحتاج إلى أن يطابقه بعد تخلل الجسم وأجزائه والأجزاء الخلائية المتخللة بينها فيه.

تذنيب : من جعل المكان هو السطح المحيط ، قسّم المكان إلى سطح واحد ، بأن يكون محيطا بجميع السطح الظاهر من المحوي ، وإلى أكثر من واحد ،

__________________

(١) كذا في النسخ ، وفي المباحث المشرقية «المتخلّل».

٤٣٢

كالماء الذي يحيط به سطح الأرض وسطح الهواء ، فالمكان هنا مركب. وقد يتحرك أحد السطحين ويكون الآخر ساكنا كالحجر على أرض النهر الجاري ، وقد يتحرك المكان مع سكون المتمكن ، كالطير الواقف في الهواء الجاري عليه. وقد يتحركان معا على الخلاف (١) ، كالمحيط وفلك البروج (٢).

البحث الرابع عشر : في بقايا مسائل المكان

المسألة الأولى : في أنّ لكل جسم حيّزا طبيعيا (٣)

اتفق أكثر الأوائل على ذلك ، واحتجوا عليه بوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ الجسم إذا فرضناه خاليا عن جميع اللواحق والعوارض وكلّ ما يمكن خلوه عنه فإنّه لا بدّ له من حيّز معيّن ، وإلّا لكان في كلّ الأحياز ، وهو باطل بالضرورة ، أو لا في شيء من الأحياز ، وهو أيضا باطل بالضرورة ، بل لا بدّ له من حيّز يكون أولى به من غيره ، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، وليس ذلك مقتضى جسميته ، لأنّها أمر مشترك بين جميع الأجسام وليس ذلك المكان حاصلا لكل الأجسام ، فهو لأمر زائد على جسميته ، وذلك هو الطبيعة ، لأنّا فرضنا خلوّه عمّا عداها.

__________________

(١) أي خلاف الجهة والمفارقة.

(٢) راجع الفصل التاسع من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ، وشرح الاشارات ٢ : ١٩٨ ـ ٢٠٠ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٣٦١ ـ ٣٦٢.

(٣) راجع الفصل العاشر من المقالة الرابعة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ النجاة : ١٣٤ ـ ١٣٥ ؛ المباحث المشرقية ٢ : ٦٦ ـ ٧١ ؛ المواقف : ١٩٨ ـ ١٩٩.

٤٣٣

والاعتراض (١) : لم لا يختص بالفاعل المختار ، أو نقول : لم لا يجوز أن يعرض للجسم عارض يقتضي تخصيصه بحيّز معين؟ ثمّ إنّ ذلك العارض لا يزول إلّا بعارض آخر يخصصه بحيّز آخر ، وحينئذ يكون الجسم أبدا حاصلا في حيّز معين بسبب تلك العوارض الغير اللازمة.

وفيه نظر ، لأنّا فرضنا خلو الجسم عن كلّ العوارض.

وأجيب أيضا ، بأنّ ذلك يوجب امتناع خلو الجسم عن تلك العوارض بعد اتّصافه بها ، ولا يوجب امتناع خلوه مطلقا ، لإمكان أن لا يوجد فيه العارض الأوّل حتى لا يحتاج إلى عارض آخر يزيله. فإذن خلو الجسم عن جميع العوارض جائز مطلقا ، وخلوه عن الحصول في الحيّز غير جائز ، ويستحيل تعليل واجب الثبوت بغير واجب الثبوت ، فيمتنع تعليل حصول الجسم في الحيّز بشيء من العوارض.

واعترض أيضا بوجوه :

الأوّل : لو استدعى الجسم مكانا معينا ، لكان ذلك الاستدعاء إمّا لجسميته أو للوازمها (٢) عم ، (٣) فكلّ جسم في ذلك المكان. أو لأمر غير لازم ؛ فاتّصاف الجسم به إن لم يكن لأمر لزم الترجيح من غير مرجح ، وجاز مثله في المكان بأن لا يكون شيء منها (٤) مستحقا لذات الجسم ، لكنّه يحصل في واحد اتفاقا. وإن كان لأمر فإن كان مقارنا نقلنا الكلام إليه وتسلسل. وإن كان سابقا أعدّ الجسم لاتّصافه بالوصف الحاصل جاز في المكان ذلك ، بأن يكون حصوله في مكان سابق أعده لحصوله في المكان اللاحق ، أو أنّه كان موصوفا بأمر أعده للحصول في

__________________

(١) انظر الاعتراضات والجواب عنها في المباحث المشرقية ٢ : ٦٩ ـ ٧١.

(٢) في النسخ : «لوازمها» ، أصلحناها طبقا للسياق.

(٣) م : «أعم» ، ولعلّ الصواب ما أثبتناه من ج.

(٤) م : «منها» ساقطة.

٤٣٤

هذا المكان ، فلا ينفك عن المكان المعيّن ، وإن لم يكن طبيعيا.

الثاني : لو سلّمنا الاشتراك في الجسمية ، لكن جعلتم اقتضاء الجسم المعيّن للحيّز المعيّن لأجل خصوصية في ذلك الجسم ، فذلك الجسم إن لم يجب اتّصافه بتلك الخصوصية كان المقتضي للحيّز المعين شيئا غير لازم لذلك الجسم ، وقد أبطلوه. وإن كان لازما ، فإمّا

لنفس الجسمية ، ويعود المحال ، أو لخصوصية أخرى ويتسلسل. ولا مخلص عنه إلّا أن يقال : الجسم العنصري يستدعي صورة نوعية ، أية صورة كانت ، وتعيّنها بأسباب خارجية.

لكنّا نقول : إذا جاز أن يكون المقتضي لجسم العنصر إنّما هو صورة مبهمة أية صورة كانت ثم استند تعيّنها إلى أسباب خارجية (١) غريبة لا بسبب صورة متقدمة ، فلم لا يجوز مثله في الحصول في الحيّز؟ وبالجملة فكما أنّ الجسم لا بدّ له من حيّز معيّن ، فكذا لا بدّ له من خصوصية تقتضي ذلك الحيّز ، وكما لا يلزم من حصول صورة معينة ، أن يكون ذلك بصورة أخرى تتقدمها ، كذا لا يلزم من حصول الحيّز المعين أن يكون ذلك بصورة تتقدمه. وكما اقتضت الجسمية صورة مبهمة وتخصصت بالأسباب الغير اللازمة للجسمية ، كذا يجوز أن تقتضي الجسمية لذاتها حيزا مبهما ثمّ يتخصص بالأسباب الغير اللازمة.

الثالث : الحيّز المعيّن من الأرض يستدعي حيّزا مبهما من أجزاء مكان كلّية الأرض ، ثمّ يخصص ذلك الحيّز بأسباب خارجية مع استحالة انفكاك الجزء المعين عن الحيّز ، فكذا يجوز في كلية الأرض ذلك.

الوجه الثاني : إذا رميت المدرة (٢) إلى فوق عادت إلى أسفل ، ولو لا اقتضاء

__________________

(١) م وس : «خارجية» ساقطة.

(٢) قطعة من المدر وهو الطين العلك الذي لا يخالطه رمل.

٤٣٥

طبيعتها العود إلى أسفل لم تعد.

والاعتراض : لا نسلّم أنّ المدرة تطلب المكان المعيّن ، بل تطلب كلّية الأرض.

لا يقال : حصول الكليات في أحيازها ليس للجسمية ، وإلّا لاشتركت الأجسام ، فلا بدّ من زائد ، وهو المطلوب.

لأنّا نقول : إن تمسّكتم باختصاص الكليات بأحيازها ، عارضناكم باختصاص تلك الكليات بتلك الطبائع المخصوصة. وأيضا باختصاص الأجزاء بأحيازها الجزئية. وإن تمسّكتم بحركة أجزاء العناصر إلى أحياز (١) كلياتها ، فقد قلنا : إنّه لطلب كلّياتها.

واعلم أنّ ثابت بن قرة (٢) : ذهب إلى أنّ الأجسام لا تطلب أحيازا بأعيانها (٣) ، فلا يظن أنّ الأرض ولا غيرها من الأجسام طالبة للمكان الذي هي فيه ، إذ لا حال يخص شيئا من الأمكنة دون غيره ، بل لو توهّمنا جميع الأمكنة خالية ، ثمّ جعلت الأرض في أي موضع منها اتفق سكنت فيه ، وامتنع انتقالها عنه ، إلّا بسبب من خارج ، لأنّه مساو لكل مكان ، وإنّما تعود المدرة المرمية إلى فوق لطلب طبيعة الأرض ، فإنّ الشيء يطلب شبهه ، كما يبعد عن ضده.

ولو توهّمنا الأماكن خالية ، ثمّ جعل (٤) بعض أجزاء الأرض في موضع من الخلاء والباقي في موضع آخر ، وجب أن يجذب الكبير الصغير ، فإن تساويا طلب

__________________

(١) م وج : «اجزاء».

(٢) ثابت بن قرّة (٨٣٦ ـ ٩٠١ م) ولد في حرّان. رياضي وطبيب وفيلسوف صابئي. عاش في ظل الخليفة المعتضد في بغداد. نقل إلى العربية وشرح مؤلّفات اليونان في الرياضيات والفلك.

(٣) م وق : «باعتبارها».

(٤) ق : «حصل».

٤٣٦

كلّ منهما صاحبه ، حتى يلتقيا في الوسط. ولو توهّمت الأرض قد ارتفعت إلى فلك الشمس، ثمّ أرسلت ، لم تهبط ولو أطلق حجر من المركز إلى أسفل صعد إليها طالبا لها ولو تفرقت في جوانب العالم توجه بعضها إلى البعض ووقعت في موضع يتفق التقاء جملة تلك الأجزاء ، ولا تفارق ذلك الموضع لمساواته لهذا الموضع.

ولأنّ كلّ جزء يطلب جميع الأجزاء منها طلبا واحدا ، ويستحيل أن يلقى الجزء الواحد جميع الأجزاء لا جرم طلب أن يكون قربه من جميع الأجزاء قربا متساويا ، وهذا هو طلب الوسط. ثمّ إنّ جميع الأجزاء هذا شأنها فتكون الأرض مستديرة ، وأن يكون كلّ جزء منها يطلب المركز حتى يستوي قربه من الجملة.

ثمّ أورد على نفسه سؤالات :

منها : وجوب مثل ذلك في أجزاء كلّ عنصر فيكون كلّ واحد منها كرة مصمتة (١).

وأجاب : بأنّه لو لا المانع لكان الأمر كذلك. والمانع هو أنّ الأجسام وإن اختلفت لكنّها متساوية في الجسمية ، فكان طلبها لبعضها بعضا لأجل التشابه بطلب أجزاء العنصر الواحد في طلب أجزائه للبعض ، ولهذا السبب تلازمت صفائح الأجسام وامتنع الخلاء. فقد وجد هنا سببان متنازعان ، أحدهما ثابت لكل عنصر على حدة ، وهو اقتضاء كلّ جزء منه جذب سائر الأجزاء منه إلى نفسه ، بحيث يكون كلّ عنصر كرة مصمتة. والآخر ثابت لعموم الجسمية ، وهو طلب كلّ عنصر لصاحبه من حيث الجسمية ، وهو يقتضي عدم كون كلّ عنصر

__________________

(١) المصمت : الذي لا جوف له.

٤٣٧

مصمتا. والأوّل يستلزم الخلاء ؛ لأنّ تلاقي الكرتين يستلزم الخلاء بينهما ، وأن يعدم أثر السبب الثاني ، فلا يجذب بعض العناصر بعضا فيبطل مقتضى التشابه في الجسمية ، فاقتضت الطبيعة العدل بقدر الإمكان وفعلت ما هو الأقرب إلى الجميع ، فجمعت بين أجزاء كلّ عنصر على حدة للمشابهة بين تلك الأجزاء ، وجعلت بعض العناصر محيطا بالبعض للتشابه بين تلك العناصر في مطلق الجسمية.

وأتمّ العناصر في هذا المعنى أقربها إلى الوسط ، لأنّه متى كان أقرب إلى الوسط كان أقرب نسبة إلى جميع الأجسام ، لكنّه لمّا وجبت إحاطة البعض بالبعض للمشابهة العامة عرض أن وقع بعض هذه الأجسام في غاية البعد عن غيره.

ومنها : أنّ الأجزاء إذا تحركت لطلب الكل ، فما سبب اختصاص الكل من كلّ عنصر بمكانه ، فلم كانت النار في المحيط والأرض في المركز ، لو لا اقتضاء الطبائع ذلك؟

وأجاب : بأنّه ليس السبب في طلب النار المحيط ، أنّ النار بعد تحققها نارا تطلب ذلك المكان ، بل كلّ ما جاور الفلك صار نارا لدوام الحركة الموجبة للمصاكة المقتضية للتسخين إلى أن يستحيل ويصير نارا بعد كونه في ذلك المكان ، والبعيد من الفلك يبعد من المصاكة ويكون باردا فصار أرضا.

وأبطله أبو علي في الشفا (١) بوجهين :

أ ـ الحجر المرسل من رأس البئر يذهب غورا ، ولا يلتصق بشفير البئر ، مع

__________________

(١) الفصل العاشر من المقالة الرابعة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء.

٤٣٨

أنّ اتصاله بكلّية الأرض هناك ثابت (١).

ب ـ الكل مساو للجزء في النوع فلا يجذبه ، لأنّ الشيء لا ينفعل عن مساويه.

واعترض على الأوّل (٢) : بأنّ كلّ جزء يطلب الاتصال بكل جزء ، وعند التعذّر يجب الممكن ، وهو تساوي قربه من الكل ، وإنّما يحصل التساوي في وسط الأجزاء فلهذا هبط ولم يقف على الشفير ، لأنّه حينئذ لا يكون طالبا للقرب من الكل ، بل من البعض مع انتفاء الأولوية.

وعلى الثاني : بأنّ الحسّ يدل على تلازم صفائح الأجسام ، ووقوع الأمور العجيبة بواسطة التلازم ، والتلازم إنّما يكون لتلازم الطبائع وتشابهها ، لا مع التنافر ، وإذا عقل ذلك في موضع فليعقل في كلّ المواضع (٣).

والمعتمد في إبطال قول ثابت (٤) : أنّ اختصاص الجسم الملاصق للفلك بذلك المكان حتى صار نارا ، والملاصق للمركز حتى صار أرضا ، لا بدّ له من سبب ، وإلّا لكان ترجيحا من غير مرجح.

واعلم أنّ الحق هنا شيء واحد ، وهو اسناد ذلك كلّه إلى الله تعالى الفاعل بالاختيار.

__________________

(١) العبارة كذا في المخطوطة وهي تختلف مع ما في المصدر وهو : «الحجر المرسل من رأس البئر يلتصق بشفيرتها ، فلا يذهب غورا الخ».

(٢) والمعترض هو الرازي.

(٣) المباحث المشرقية ٢ : ٦٨ ـ ٦٩.

(٤) أي ثابت بن قرّة.

٤٣٩

المسألة الثانية : في امتناع تعدد المكان الطبيعي للبسيط (١)

احتج الأوائل على ذلك بوجوه :

الوجه الأوّل : لو كان لجسم بسيط مكانان طبيعيان ، فإذا حصل في أحدهما ، فإن لم يطلب الثاني كان المكان الطبيعي متروكا بالطبع ، فلا يكون طبيعيا ، وإن طلبه بالخروج من الأوّل كان الطبيعي أيضا متروكا بالطبع ، فلا يكون طبيعيا (٢).

الوجه الثاني : لو كان خارجا عنهما وتساوت نسبته إليهما ، فإن لم يطلب أحدهما مع انتفاء العائق كان الطبيعي متروكا بالطبع ، وإن طلبهما معا وتوجه إليهما معا كان حاصلا في مكانين ، وهو محال ، وإن توجه إلى أحدهما أو طلبه خاصة كان ترجيحا من غير مرجح.

الوجه الثالث : البسيط له طبيعة واحدة ، فلا يقتضي أمرين متعاندين ، والحصول في حيّز ينافي الحصول في حيّز آخر ، فلا تقتضيهما الطبيعة الواحدة.

والاعتراض : أنّ في هذه الوجوه نظرا ، لأنّها منقوضة بجزئيات كلّ عنصر فإنّ مكان كلّ جزء من أجزاء ذلك العنصر مكان طبيعي لكل جزء ، مع ورود هذه الوجوه فيه. وأيضا إذا حصل في أحد المكانين لم يطلب الثاني ، لامتناع حصوله في مكانين دفعة ، ولا يكون ذلك الترك طبيعيا ، بل اتفاقيا حيث اتفق حصوله في الآخر. وإذا خرج عنهما لم يطلب أحدهما مع تساوي النسبة ، لأنّ تساوي النسبة أمر خارجي فاشبه القسري ، والثالث نفس المتنازع.

__________________

(١) راجع الفصل الحادي عشر من المقالة الرابعة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ شرح الاشارات ٢ : ٢٠١ ـ ٢٠٣ ؛ طبيعيات النجاة : ١٣٦ ؛ المباحث المشرقية ٢ : ٧٢ ؛ المواقف : ١٩٩.

(٢) انظر الوجه في كلمات الطوسي حيث قال : «فلو تعدّد انتفى» كشف المراد : ١٥١.

٤٤٠