نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

معاوق ، ولا يلزم من الحجة المذكورة أن يكون المعاوق داخل الجسم ، بل هو محال في الطبيعية كما مرّ ، فهو هناك من خارجه. فإذن معاوقة القوام كافية هناك ، وأمّا القسريّة فلا؛ لأنّ الحجّة بعينها قائمة مع فرض التساوي في القوام.

وأمّا الفلكيات فلا يلزمها ذلك لما بيّنا من الفرق (١).

وفيه نظر ، لأنّا نسلّم انقسامها بانقسام المحل ، لكن سيأتي عدم بقاء الصورة النوعية زمانا عند تصغيره فكيف تكون مؤثرة. ولا يمكن هذا الشرط في هذه الصورة ؛ لأنّه مناف للفرض الذي هو القسمة.

واحتياج الطبيعة إلى المعاوق الذي هو الملاء غير ما نحن فيه ؛ لأنّا نفرض (٢) تساوي المسافتين في الملاء أو الخلاء ، ثمّ نفرض الحركة تارة مع العائق وأخرى لا معه.

ولم يظهر الفرق الذي ادّعاه في الفلك.

واعلم أنّ الإشكال (٣) الوارد في الخلاء وارد هنا ، وهو أن يقال : إنّ الحركة بنفسها تستدعي زمانا ، وبسبب المعاوقة زمانا آخر ، فتستجمعهما واجدة المعاوقة وتختصّ بأحدهما فاقدتها. فإذن زمان نفس الحركة غير مختلف في جميع الأحوال ، إنّما يختلف زمان المعاوقة بحسب قلّتها وكثرتها ، ويختلف زمان الحركة بعد انضياف ما يجب من ذلك إليه ، ولا يلزم على ذلك الخلف ولا المحال المذكوران.

وجوابه ما تقدم ، والإيراد عليه ما سبق (٤).

__________________

(١) شرح الاشارات ٢ : ٢٢٤ ـ ٢٢٦.

(٢) ج : «لأنّ الفرض».

(٣) الاشكال منسوب إلى الشيخ أبي البركات البغدادي كما في المصدر السابق.

(٤) في بحث الخلاء ، وانظر الاشكال والجواب من الطوسي في شرح الاشارات ٢ : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

٥٢١

المسألة العاشرة : (١)

لمّا كان الميل هو المحرك للجسم إلى تلك الجهة التي توخّاها بالحركة ، كان علّة الايصال. ومحال أن يكون الموصل بعينه هو المدافع عنها ، والموصل واجب الحصول عند وجود الوصول ، لوجوب وجود العلّة عند وجود معلولها. ولمّا كان الميل واجب الحصول عند الوصول إلى الجهة ، وهي غير منقسمة ، والوصول إلى حدّ غير منقسم إنّما يكون في الآن ، فإذن لا بدّ من حصول الميل في الآن ، فهو مما يوجد دفعة لا في زمان.

وفيه نظر ، لأنّا نمنع كونه علة فاعلية للايصال ، بل معدّة كالحركة ، ولأنّه قابل للشدّة والضعف ، وتابع للحركة فيهما ، فيوجد في ما توجد فيه الحركة.

المسألة الحادية عشرة : (٢)

من المعلوم أنّ الميل يقبل الشدة والضعف ، فإنّا نحس بممانعة شديدة وضعيفة. وكلّ تغير من شيء إلى شيء فلا بدّ بينهما من التعاند ، فإن كان في الغاية فهما الضدان ، وإلّا فهما متوسطان ، ومتى وجد المتوسطات (٣) فلا بدّ من وجود الأطراف.

وفيه نظر ، لأنّه لا يلزم أن تكون الأطراف من جنس الوسائط ، كالحركة والزمان وشبههما. ثم الميل الطبيعي يخالف الميل القسري في الشدة والضعف ، لأنّ

__________________

(١) قارن المباحث المشرقية ١ : ٤٠٣.

(٢) قارن المصدر نفسه.

(٣) ق : «المتوسطان».

٥٢٢

الميل الطبيعي يشتد عند القرب من المطلوب ، والقسري يضعف عنده ، ويشتد في الوسط ، لأنّ الطبيعة إذا خلت عن الضد والممانع أوجدت ذلك الميل الذي يقتضيه بعد الميل (١) فلا يزال يتزايد الميل ، فلا تزال الحركة تقوى وتشتد ؛ لأنّ تأثير الطبيعة وحدها أضعف من تأثيرها مع الميول التي تقويها وتعضدها.

وأيضا يقل المعاوق لها ، لأنّه في المسافة الطويلة أشد منه في القصيرة ، وإذا ضعف المعاوق اشتدّ الأثر وقوى.

وأمّا القسرية ، فلأنّ الميل القسري معاوق للطبيعة والمصاكات الخارجية ، وإذا تواتر أثرهما على المقسور ضعف الميل القسري ، ثم لا يزال يأخذ في الضعف إلى أن تقاوم الطبيعة، ثم تأخذ الطبيعة في إفنائه يسيرا يسيرا ، حتى يعدم بالكلّية لكنّه في الوسط يشتدّ ، لأنّ المرمي يتحرك في المسافة الممنوّة بالعائق ، فتحصل له مصاكّة بالعائق فيتسخن قليلا قليلا ، ويتكرر التسخن بتكرر الحكّ على المرمي ، ويكثر في وسط المسافة ، والقوة القسرية تأخذ في الضعف ، إلّا أنّ التلطيف المستفاد بالتسخّن يكون متداركا أو موفيا على المعنى الذي يفوت بالضعف ما دام في القوة ثبات ، فإذا ترادف الصّكّ على القوة واسترخت ضعف أيضا الحك ، وبلغ مبلغا لا يفي بتدارك تأثير الصك (٢).

وأيضا الوجدان دلّ على ذلك ، فإنّ تأثير السهم المرمي إلى (٣) الجسم القريب يكون ضعيفا وكذا في البعيد ، وأمّا المتوسط بينهما فإنّ تأثيره فيه يكون قويا جدا ، وذلك بقوة الميل القسري في الوسط.

__________________

(١) ق : ـ «الذي يقتضيه بعد الميل».

(٢) طبيعيات الشفاء ، أواخر الفصل الرابع عشر من المقالة الرابعة من الفن الأوّل.

(٣) م : «في».

٥٢٣

وفيه نظر ، فإنّ الطبيعة إذا اقتضت ميلا إلى جهة لم تقتض ميلا آخر مؤديا إلى تلك الجهة بعينها ، لاستحالة اجتماع الأمثال. نعم يجوز أن يكون ذلك الميل أقوى وأشد ، لكن ليس سبب الشدة والقوة تزايد الميل. فبطل (١) الأوّل من الوجهين.

والجسم إذا تحرك في مسافة ممنوة بالعائق لم يجب أن يكون العائق في آخر المسافة أقل، إلّا مع تساوي نسبته رقة وغلظا مع ما تقدم ، لكنّ المساواة غير واجبة ، فلا تجب الشدة.

وأيضا إذا تساوت في الرقة والغلظ لم يقاوم المتحرك سوى الموضع الذي يطلبه ، وهو المساوي له في المقدار بحيث يحل بكلّيته ، ولا أثر لما وراءه في المنع وعدمه ، فلا سبب للشدّة في (٢) الأخير باعتبار الوجه الثاني أيضا. وكون التسخّن موفيا أو مساويا في القسرية لما ضعف غير معلوم ، فلا تجب الشدة المذكورة.

تذنيب : قيل : ليس بين الثقل والخفة تفاعل ، لأنّ الثقل يوجب بالذات حركة الجسم إلى المركز ، والخفة إيجابها بالذات حركة الجسم عنه ، وذلك يوجب تباعد كلّ واحد منهما عن الآخر ، والوصفان الموجبان تباعد الجسمين يستحيل أن يوجبا التفاعل الذي لا يحصل إلّا بالمقاربة (٣).

وفيه نظر ، فإنّ التفاعل إنّما يكون بين الأمور المتضادة ، والتضاد يوجب التباعد ، ولهذا كانت الحرارة والبرودة متفاعلتين ، ولو صحّ ما ذكروه لم يكن كذلك ، فإنّ الحرارة توجب الخفة ، والبرودة توجب الثقل.

__________________

(١) م : «فيبطل».

(٢) ق : «إلّا في».

(٣) قارن المباحث المشرقية ١ : ٤٠٤.

٥٢٤

البحث الثالث : في الكيفيات المبصرة

وفيه أبواب :

الباب الأوّل

في المبصرات

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في أعدادها (١)

المبصرات إمّا بالذات أو بالعرض ، ونعني بالمبصر بالعرض : هو الذي لا يبصر بالحقيقة ، بل يقترن بالمبصر بالحقيقة ، مثل : انّا إذا أبصرنا شخصا هو أبو عمرو ، فإنّ المبصر هذا الشخص ، وليس كونه أبا عمرو محسوسا أصلا ، ولا أيضا في أنفسنا منه خيال أو رسم بوجه من الوجوه.

والمبصر بالذات : إمّا أن يكون غير متوقف على إبصار شيء البتة ، ويسمى : المحسوس الأوّل ، وهو الضوء واللون لا غير. وإمّا أن يتوقف ويسمى : المحسوس الثاني ، وهو ما عداهما كالأطراف ، (٢) والحجم ، والبعد ، والوضع ، والشكل ، والتفرق ، والاتصال ، والعدد ، والحركة ، والسكون ، والملاسة والخشونة ، والشفيف والكثافة ، والظل ، والحسن والقبح ، والتشابه والاختلاف ، والظلمة.

__________________

(١) راجع شرح المواقف ٥ : ٢٣١ وما بعدها. وشرح المقاصد ٢ : ٢٤٩.

(٢) من النقطة والخط والسطح.

٥٢٥

وهنا أمور أخر راجعة إليها كالترتيب الداخل تحت الوضع ، والكتابة وغيرها من النقوش الداخلة تحت الترتيب والشكل. وكالاستقامة والانحناء ، والتحدّب والتقعّر التي هي من الشكل. والكثرة والقلة الداخلتين في العدد بوجه ما ، والتساوي والتفاضل الداخلين تحت التشابه ، والضحك والبكاء الداخلين تحت الشكل والحركة ، والبشر والطلاقة والعبوس والتقطيب الداخلة تحت الشكل والسكون ، وكالرطوبة واليبوسة ، فإنّ البصر (١) إنّما يدرك الرطوبة من السيلان واليبس من التماسك. وليس إذا لم يكن الشيء مبصرا إلّا بشرط إبصار غيره لا يكون مبصرا ، نعم لا يكون مبصرا بانفراده. وعند هذا يظهر أنّ كلّ ما يقال له محسوس ، فإمّا أن يكون بحيث يحصل منه عند الحس أثر أو لا يحصل ، فإن لم يحصل فهو المحسوس بالعرض.

المسألة الثانية : في أحكام المبصرات الحقيقية (٢)

وهي :

أوّلا : قد عرفت أنّ المبصر بالذات الأوّل هو الضوء واللون (٣) ، وهل يرى الواحد منهما منفردا؟

فيه نظر ، أقربه العدم.

ثانيا : لا شك أنّ بعض هذه المبصرات متميّز عن بعض ، إمّا في الجنس كالضوء واللون ، أو في النوع كالسواد والبياض ، أو في الشدة والضعف كبياض الثلج والعاج. وهذا التميز يدرك بالقوة العقليّة لا بالحس.

__________________

(١) م : «المبصر».

(٢) م وس : «الحقيقة وأحكامها».

(٣) وهما المسمّيان بأوائل المبصرات.

٥٢٦

ثالثا : قيل : إدراك اللون بما هو لون أقدم من إدراك اللون المخصوص ، ومن امتيازه عن غيره. أمّا الأقدمية في الإدراك ، فلأنّ الأعمّ أعرف. ولأنّ الجسم الملوّن بالألوان المظلمة كالكحلى والأغبر إذا وضع في موضع مظلم ، أدرك البصر لذلك الجسم لونا ، وإن لم تتميز له ماهية ذلك اللون. وإذا لم يكن ذلك الموضع شديد الظلمة يرى ذلك اللون المخصوص ، فعلمنا أنّ إدراك اللون بما هو لون أقدم من إدراك اللون المخصوص.

وأمّا الامتياز فلأنّ امتيازه عن غيره حكم يدركه العقل بعد إبصار ذلك اللون المخصوص ، فيكون متأخرا عنه.

وفيه نظر ؛ لأنّ الإدراك إن عنى به الإبصار فهو لا يتناول إلّا الجزئي الشخصي دون الأعم ، فلا يمكن أن يكون الأعم أعرف عنده ، وإن أراد به التعقّل منعنا أقدمية الأعم أيضا ؛ لأنّه إنّما يعقل بواسطة الإحساس باللون الجزئي ، فتنتزع النفس حينئذ منه أمرا كليا. فالجزئي سابق عند النفس من الكلّي. والأغبر وشبهه إنّما أدرك البصر (١) لونا جزئيا مخصوصا بجسم ذي وضع مخصوص ، ولكن النفس لم تدرك التميّز حيث لم يتأدّ من المبصر (٢) القدر الذي به يحصل التميّز على التمام.

رابعا : قيل : اللون الخاص إنّما يدركه المدرك في زمان ، فإنّ الدائرة إذا أخرج من مركزها إلى محيطها خطوط كثيرة بألوان مختلفة ، ثم أديرت بسرعة شديدة فالناظر إليها في تلك الحالة يدرك لها لونا واحدا مخالفا لجميع ألوان الخطوط ، وكأنّه يكون لونا مركبا من جميع الألوان ، وما ذاك إلّا لأنّ كلّ نقطة منها لا تثبت في موضع واحد زمانا محسوسا ، فلا جرم لا يقع الإحساس بها في مواضعها خاصة ، بل تختلط تلك الألوان. ولو لم يكن الزمان المقدر معتبرا في الإبصار لم يكن الأمر كذلك.

__________________

(١) م : «يدرك المبصر».

(٢) م : «البصر».

٥٢٧

وقيل إدراك اللون بما هو لون ، والضوء بما هو ضوء ، لا يكون إلّا في زمان ، لأنّا إذا فتحنا الكوّة ، فإمّا أن نرى الضوء في الآن الذي هو أوّل زمان فتحها وهو محال ؛ لأنّ في الآن لا يزول الساتر إلّا عن الخط والنقطة ، وهما لا يقبلان الضوء ، أو إن قبلاه لكن الضوء واللون المختصين بهما غير محسوسين ، وإنّما نراه في زمان فتحها ، وذلك يوجب ما ذكرناه.

خامسا : المشهور أنّ القوة الباصرة تتعلّق بالشخص من حيث إنّه شخص (١) لا بالماهية الكلّية. وقيل عليه : إنّا إذا رأينا شيئين متساويين مطلقا فإنّه يشتبه أحدهما بالآخر ، والاشتباه إنّما يكون لعدم الشعور بما به يخالف أحدهما الآخر ، لكن كلّ واحد منهما يخالف صاحبه من حيث هو هو ، فلو كانت القوّة الباصرة متعلقة به من حيث هو هو لما وقع الاشتباه ، لوجوب الشعور بالامتياز. والتالي فاسد فالمقدم مثله.

وفيه نظر ، لأنّ المميز بين المتشابهين القوة العقلية لا البصر ، ولمّا أدّى البصر صورتين جزئيتين متساويتين ، عجزت القوة العقلية عن التمييز بينهما ، لا (٢) أنّ البصر تعلّق بأمر كلّي ، لأنّه إنّما يتعلّق بجزئي ذي وضع.

سادسا : قيل : الأطراف ـ وهي النقطة والخط والسطح ـ مرئية ؛ لأنّا ندرك التفرقة بالحس بين العظيم والصغير ، وما ذاك إلّا للإحساس بأنّ سطح أحدهما أعظم من سطح الآخر ، ولكنّ الإحساس بها مشروط بالإحساس بالضوء واللون أوّلا ، ولهذا فإنّا لا نرى هذه الأشياء في الأجسام الشفافة.

وفيه نظر ، فإنّ الحس لا يدرك أنّ أحدهما أعظم ، فإنّ ذلك من أحكام العقل ، ومن أنكر وجودها أنكر رؤيتها.

__________________

(١) ق وس : «هو» بدلا عن «شخص».

(٢) في النسخ : «إلّا» ، أصلحناها طبقا للمعنى.

٥٢٨

المسألة الثالثة : في المبصرات غير الحقيقية

قيل : لا شيء من غير الثلاثة ـ أعني : الضوء واللون والطرف ـ بمرئي ، أمّا المقدار فلأنّ المحسوس لنا من الجسم ، إمّا السطح الواحد أو السطوح المحيطة به.

وأمّا المقدار الذي هو حشو ما بين السطوح ، فلا شك أنّه غير مرئي ، ولهذا فإنّ الحس لا يدل على كونه مجوفا أو مصمتا.

وأمّا البعد فكذلك أيضا ؛ لأنّا ما لم نشاهد بين المتباعدين جسما ملوّنا فنستدل بتوسطه بينهما على تباعدهما لا نعرف تباعدهما ، ولذلك لمّا لم تتأت هذه الطريقة في الكواكب المتباعدة لم نحس بتباعدها. ولو نظرنا إلى جدارين متباعدين بعيدين عنّا ولم نشاهد ما بينهما من الأجسام الملونة (١) فإنّا لا نحس ببعد أحدهما عن الآخر.

وأمّا الوضع والاتصال ففيهما إشكال.

والشكل داخل في الوضع.

والتفرّق عدمي. والعدد إنّما يدرك في الأجسام بواسطة التفرّق.

والحركة لا شعور بها إلّا عند اختلاف أوضاع الجسم المتحرك من الأجسام الملوّنة (٢) ، فإن لم يوجد ذلك لم يحصل الشعور بها ، فإنّا لو قدّرنا سفينة تجري على وجه البحر بأسرع حركة ، وليس في وجه البحر ارتفاع وانخفاض ، ولا رياح مضطربة متمانعة هناك ، بل يكون على نهج واحد ، فإنّ تلك الحركة مع كونها في غاية السرعة لا تكون محسوسة ، حتى أنّ سكان السفينة يتوهمون أنّها ساكنة ، فكيف تكون الحركة محسوسة بالبصر.

__________________

(١) و (٢) م : «اللونيّة».

٥٢٩

والسكون أمر عدمي ، وإنّما نشعر به للشعور ببقاء الوضع الواحد.

ويشبه أن يكون إدراك الحركة والسكون إنّما يتأتى بالاستعانة بالعقل ، لأنّ الجسم المتحرك لا بدّ وأن تختلف نسبته إلى أجسام أخرى ، مثل أن يصير قريبا من جسم كان بعيدا عنه وبالعكس ، أو يصير مفارقا لما كان ملاقيا له وبالعكس ، فإذا حصل الإحساس باختلاف نسبة ذلك الجسم مع الأجسام الأخر حصل الشعور بكونه متحركا إذ لو لم يتحرك لم تختلف النسبة. ولهذا فإنّ راكب البحر لمّا لم يشعر باختلاف أوضاع السفينة ونسبتها مع الأمور الخارجة ، لم يشعر بالحركة. فإدراك الحركة والسكون إدراك ذهني وبمعاونة أحوال ذهنية.

والملاسة والخشونة داخلتان في الاتصال والوضع.

والشفيف والكثافة ليسا مدركين بالحس ، بل الشعور بهما استدلالي ، لأنّ الجسم إن لم يحجب أبصارنا عمّا وراه كان شفافا ، وإلّا فهو كثيف.

والظل بالحقيقة ضوء ناقص ، وذلك النقصان عدمي ، أو هو أحد أنواع الظلمة.

والظلمة غير مرئية بالحقيقة ، لأنّ الإنسان لا يفرّق بين أن يكون أعمى لا يبصر شيئا وبين كونه في الظلمة الخالصة.

والحسن والقبح حالتان حاصلتان من تركب اللون والشكل ، فيكون الحكم فيه تبعا للحكم في الشكل والتشابه والاختلاف. فالمدرك للبصر من الجسمين ذي اللونين المختلفين ذات كلّ واحد منهما فإمّا كون أحدهما مخالفا للآخر أو مشابها ، فإنّما تشعر به القوة العقلية.

والكتابة المرئي منها لون كلّ واحد من الحروف وطوله وعرضه. والتمييز بينها وقياس بعضها إلى بعض مستند إلى العقلية.

٥٣٠

الباب الثاني

في اللون

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في تعريفه (١)

اعلم أنّا قد بيّنا فيما سبق : أنّ الأمور المحسوسة لا يجوز أن تنال معرفتها بحدّ أو رسم، ومعلوم لنا بالضرورة أنّ اللون بأنواعه متصوّر لنا تصوّرا ضروريا (٢). وما يقال : إنّ السواد كيفية قابضة للبصر ، والبياض كيفية مفرّقة له (٣) ، إن قصد

__________________

(١) اللون [في العلوم الحديثة] : خاصية ضوئية تعتمد على طول الموجة ، ويتوقف اللون الظاهري للجسم على طول موجة الضوء الذي يعكسه ، فالجسم الذي يعكس كل الموجات يبدو لونه أبيض ، والذي لا يعكس أية موجة يبدو أسود. وتحدث مخروطات اللون المختلفة في شبكية عين الإنسان ردّ فعل للضوء ، يتسبب عند الإحساس باللون. الموسوعة العربية الميسرة : ١٥٨١.

(٢) س وق : «ضروريا» ساقطة.

(٣) إن أريد من البصر بؤبؤ العين فالظاهر كما جربنا عكس ذلك ، فانّ السواد مفرّق للبصر ، والبياض قابض له. وأمّا إن أريد من البصر نطاق الرؤية فيكون البياض مفرقا له والسواد قابضا. هذا ولكن الدقة في تعريف القوم وتصريح بعضهم تهدي إلى أنّ المراد : قابضية نور البصر وتفريقه لا نفس البصر بناء على أنّ حقيقة الرؤية خروج النور من البصر ووقوعه على الشيء المرئي ، فإذا كان المرئي أبيض يكون البياض قابضا لنور البصر ، وإذا كان أسود يكون السواد مفرّقا له.

٥٣١

بذلك التعريف فهو خطأ ، لما تقدم ، ولأنّ العقلاء يدركون بهداية (١) عقولهم المستندة إلى الحس التفرقة بين السواد والبياض ، ولا يتوقفون في الفرق بينهما ، ولا في معرفتهما إلى كون أحدهما قابضا للبصر وكون الآخر مفرقا. فلو حصل مفهومه لم يثبت ذلك إلّا بتدقيق النظر وبعد معرفة السواد والبياض واستقراء أحوالهما ، فيلزم على الأوّل تعريف الشيء بالأخفى ، وعلى الثاني الدور.

المسألة الثانية : في إثبات الألوان (٢)

ذهب جماعة من قدماء الحكماء ، إلى أنّه لا حقيقة للألوان ، بل البياض إنّما يحصل من مخالطة الهواء بالأجسام الشفافة المتصغّرة جدا. والسواد فإنّما يتخيل (٣) في غور الجسم وعمقه ؛ لعدم الضوء والإشفاف فيه (٤) ، فلما لم ينفذ الضوء في عمقه ولا الإشفاف ، تخيل أنّ هناك لونا هو السواد ، وليس كذلك.

ومن هؤلاء من جعل الماء سببا للسواد ، وقال : إذا شاهدنا الثياب مبتلة شاهدناها مائلة إلى السواد. وأيضا فلأنّ الماء يخرج الهواء ، وليس إشفاف الماء كإشفاف الهواء حتى ينفذ فيه الضوء إلى السطوح ، فلا جرم تبقى السطوح مظلمة ، وذلك هو السواد.

واحتج في البياض : بأنّ زبد الماء أبيض ، ولا سبب لبياضه إلّا مخالطة الهواء لأجزائه الشفافة الصغيرة (٥) جدا. وكذا الثلج أبيض ؛ لأنّ فيه أجزاء جمدية شفافة

__________________

(١) كذا في س ، وفي ق وم : «ببداية».

(٢) راجع الفصل الرابع من المقالة الثالثة من نفس الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٤٠٦ ـ ٤٠٩.

(٣) م : «يتحصل».

(٤) قال الشيخ : «قالوا : فأمّا السواد فيتخيّل لعدم غور الجسم وعمقه الضوء والإشفاف معا» وقوله : «لعدم» مضموم العين مع سكون الدال ، و «الضوء» و «الإشفاف» منصوبان على المفعولية.

(٥) م : «المتصغرة».

٥٣٢

خالطها الهواء ونفذ فيها الضوء. والبلور (١) المسحوق والزجاج الصافي المسحوق يرى أبيض ، ولا سبب لذلك أيضا ، فإنّا نعلم أنّ أجزاءها الصلبة عند الاجتماع لم تنفعل بعضها عن بعض حتى يقال حصل هناك لون. وأيضا الشفاف كالبلور إذا كان كبير الحجم وانشقّ رؤي ذلك الموضع منه أبيض. وكذا الناطف (٢) يبيض لاحتقان (٣) الهواء فيه مع الإشفاف الذي في طبعه.

ومن هؤلاء من سلّم كون السواد لونا حقيقيا ومنع من ذلك في البياض ، وفرّق بينهما بأنّ السواد لا ينسلخ ، وأمّا الأبيض فإنّه قابل لجميع الألوان والقابل لجميع الألوان يجب أن يكون عاريا عن كلّها.

والشيخ في الشفاء سلّم في موضع منه أنّ البياض المحسوس قد يكون على الوجه الذي ذكروه ، (٤) وفي موضع آخر : أنّه لم يعلم هل يحدث البياض على غير ذلك الوجه أم لا (٥)؟

وقال في موضع آخر منه : إنّه وإن كان قد يكون على ذلك الوجه ، لكنّا ندّعي أنّ البياض كيفية حقيقية قائمة بالجسم ، واستدل عليه بوجوه أربعة (٦) :

الأوّل : البيض إذا شوي يصير بياضه الشفاف أبيض ، وليس يمكن أن يكون ذلك بسبب أنّ النار أفادته تخلخلا ، أو حدث فيه هوائية ، لأنّه يصير بعد

__________________

(١) نوع من الزجاج.

(٢) الناطف : نوع من الحلوى كالرغوة البيضاء ، سمّي به لأنّه ينطف أي يقطر قبل استضرابه أي ابيضاضه. المنجد : ٨١٦.

(٣) م : «لاجتماع احتقان».

(٤) قال في المصدر نفسه : «ثمّ لسنا نمنع أن يكون للهواء تأثير في أمر التبيّض ولكن ليس على الوجه الذي يقولون ، بل بإحداث المزاج التبيض».

(٥) قال : «هل يكون بياض غير هذا وفي جسم متصل ، فممّا لم أعلم بعد امتناعه ووجوده». طبيعيات الشفاء ، الفصل الأوّل من المقالة الثانية من الفن الرابع.

(٦) انظر الوجوه في المصدر نفسه.

٥٣٣

الطبخ أثقل وذلك لمفارقة الهوائية ، لأنّه لو دخلت فيه وبيّضته كان ذلك خثورة (١) لا انعقادا على ما ستعلم.

الثاني : الدواء المسمّى بلبن العذراء (٢) يكون من خل طبخ فيه المردار سنج (٣) حتى انحلّ فيه ، ثم يصفى حتى يبقى الخل في غاية الإشفاف ، وإذا خلط بماء طبخ فيه القلي (٤) وصفّي في الغاية حتى أشبه الدمع ، فإنّه إن وقع التقصير في شيء من ذلك لم يلتئم المزاج المطلوب ، فكما يختلط هذان الماءان ينعقد فيه المنحل الشفاف من المرتك (٥) كمعقد المردار سنج (٦) ويبيض في غاية البياض كاللبن الرائب (٧) ثم يجفّ. وليس ذلك لأنّه كان شفافا فانفرق ودخل الهواء فيه ، فإنّ ذلك كان متفرقا منحلا في الخل. ولا لأنّ تلك الأجزاء المتفرقة تقاربت حتّى انعكس ضوء بعضها إلى البعض ، فإنّ حدّة ماء القلي أولى بالتفريق ، بل ذلك على

__________________

(١) نقيض الرقّة ، وهو مصدر الشيء الخاثر ، وخثر اللبن غلظ. لسان العرب : ٤ / ٢٧. وفي شرح المواقف : «الخثور : [بالفارسية] سطبر شدن مائع ، والماضي خثر ، وخثر بضم العين».

(٢) قال الشيخ : «يتخذه أهل الحيلة» وهم أهل الكيمياء. وقال شارح المواقف : «وهو خل طبخ فيه المردارسنج حتى انحلّ فيه ، ثمّ يصفى حتى يبقى شفافا في الغاية ، ثم يخلط هذا الخل المصفى بماء طبخ فيه القلى أوّلا ، ثم طبخ فيه المردار سنج ثانيا وصفي غاية التصفية حتى يصير الماء كأنّه الدمعة ، فانّه ينعقد ذلك المخلوط فيبيض غاية الابيضاض كاللبن الرائب» شرح المواقف : ٥ / ٢٣٧.

(٣) المردار سنج : يعمل من الرصاص أو الفضة. ويجفّف كما تجفّف الأدوية المعدنية ليعمل منه دواء. وقوّته قابضة ملينة مسكنة مبردة ، تملأ القروح لحما ، ويستخدم في الحروق ، والقروح بين أصابع القدمين ، ويطيّب رائحة البدن ويمنع سحج الفخذين. الغساني التركماني ، يوسف بن عمر بن علي بن رسول ، صاحب اليمن (٦٩٤ ه‍). المعتمد في الأدوية المفردة ، ص ٤٩٢ ـ ٤٩٣.

(٤) القلى ـ بالكسر ـ : الذي يتخذ من الاشنان. شرح المواقف ٥ : ٢٣٧.

(٥) المرتك : هو أوّل أكسيد الرصاص الأصفر. ويحضر بتسخين الرصاص في الهواء ، ويستخدم في صنع الأطلية والزجاج ، ومعالجة المطاط. الموسوعة العربية الميسّرة : ١٦٧٩.

(٦) ق وم : «كمقعد المردارسنج» ساقطة.

(٧) اللبن الرائب. والفعل : راب اللّبن : خثر وأدرك. لسان العرب ٥ : ٣٥٣.

٥٣٤

واحد من أجزائهما شفافا خاليا عن اللون ، لعدم السطوح المختلفة في ذلك الواحد. وإذا عرض معها ما يوجب التزاق بعضها ببعض صار جسما واحدا أبيض ، كما في بياض البيض المسلوق فانّه قبل السلق كان له ضوء ، ولم يكن فيه قابل ضوء ، كما في الماء ، وبعد السلق تعاكس الضوء بين ذي الضوء وبين قابله فحدث البياض.

والماء إذا كان مائعا له سطح واحد كان له ضوء ولم يكن فيه قابل ضوء ، فلم يكن فيه تعاكس. أمّا إذا تزبّد أو انجمد اجتمع فيه الأمران وحدث البياض. وفي بياض البيض المسلوق ما يوجب فيه مع ذلك الالتزاق والتماسك ، فصار جسما واحدا أبيض ، ولم يمكن امتياز بعض أجزائه من البعض ، فلا يظهر للمتأمل فيه سوى الجزء الواحد ، كما في الثلج والزجاج ، وهذا غير دافع للسؤال ، كما تقدم.

والذي ذكروه لا نمنعه ، لكن ندعي أنّ البياض قد يحصل على وجه آخر ، وهو الاستحالة.

وأيضا فلا طريق لنا إلى الجزم بأنّ بياض الناطف لمخالطة الهواء ، وكذلك ابيضاض الجصّ ليس لما يفيده الطبخ من التخلخل وسهولة التفرق ، وإلّا لكان السحق والتصويل يفعلان فعل الطبخ في الجص والنورة ، بل السبب فيه أنّ الطبخ يفيده مزاجا يوجب ذلك الابيضاض.

وقولهم : الأسود غير قابل للبياض. إن عنوا به على سبيل الاستحالة بطل بالشيب والشباب (١). وإن عنوا به على سبيل الصبغ احتمل أن يكون ذلك ؛ لأنّ الصبغ المسوّد لا بدّ وأن يكون منه قوّة قابضة يخالطه وينفذ فيه ، فإنّ السواد يحصل من اندماج أجزاء الأجسام الكثيفة بعضها في بعض ، فإنّ الزاج في غاية النفوذ بحدّته ، والعفص في غاية القبض وليس شيء منهما بأسود ، فإذا امتزجا نفذ الزاج

__________________

(١) والعبارة في المصدر نفسه من الشفاء هكذا : «فان عنوا على سبيل الاستحالة فقد كذبوا وممّا يكذبهم الشباب والشيب». وقريب منها في المباحث المشرقية ١ : ٤٠٩.

٥٣٥

أمّا أوّلا : فنقول : لمّا جوزت في اختلاط الهواء بالجسم الشفاف أن يكون سببا لأن يحس منه بالبياض وإن لم تكن كيفية قائمة بالجسم ، فلم لا يجوز أن يكون في البيض المسلوق نحس منه بالبياض وإن لم تكن فيه كيفية قائمة به؟

وقوله : لم يوجد فيه اختلاط الهواء بالشفاف ، فيكون البياض كيفية قائمة به حقيقة ، ليس بلازم ، لأنّ الاختلاط سبب خاص في إحساس البصر من الجسم بكيفية البياض وإن لم تكن تلك الكيفية موجودة حقيقة. ولا يلزم من نفي هذا السبب انتفاء الحكم إلّا إذا بيّنتم انحصار (١) السبب فيه ، ولم يقيموا عليه شبهة فضلا عن حجة ، فجاز أن يكون هنا سبب آخر أو أسباب لا نعرفها تقتضي الإحساس بكيفية البياض في البيض المسلوق ولا تكون كيفية حقيقية قائمة به.

وبالجملة إذا جوّزنا أن نبصر شيئا لا وجود له لم يبق الاستدلال بالإبصار على الوجود في غير ذلك الموضع موثوقا به ، ولا يمكننا الاستدلال بعدم السبب الواحد على عدم هذا الإبصار الكاذب ، لأنّ الحكم لا يزول بزوال العلّة الواحدة إذا استند إلى غيرها.

وكذا الكلام على الثاني والثالث ، فإنّه يحتمل وجود أمور مختلفة لأجلها نحس بالكيفيات وإن لم يكن لها وجود في الحقيقة ، كما يحتمل ذلك في اللون الواحد.

وكذا البحث على الرابع ، قيل : البياض ، إنّما يتكون بتعاكس الضوء من سطوح أجسام مشفة. والجمد والزجاج مشفان ، وباعتبار اشفافهما كان لهما ضوء ، ومتى كانا ذوي سطح واحد لم يمكن تعاكس الضوء فيهما. أمّا إذا حصل فيهما سطوح متعددة ، إمّا بالكسر أو شبهه ، تعاكس الضوء من بعضها إلى بعض وحدث البياض ، وإن لم يكن معهما ما يوجب التزاق بعضها ببعض رؤى كلّ

__________________

(١) ق وس : «انتفاء انحصار».

٥٣٦

سبيل الاستحالة. ولا لأنّ الأجزاء الهوائية خالطت الأجزاء المائية ، لأنّه بعد الابيضاض يجفّ وقبله لا يجفّ ، وذلك يدل على غلبة الأرضية بعد الابيضاض على ما قبله.

الثالث : الجسم إذا أخذ في الانتقال من البياض إلى السواد سلك أحد الطرق الثلاثة:

أ : الطريق الساذج ، وهو أن يأخذ إلى الغبرة ، ثم إلى العودية ، ثم إلى السواد. وكأنّه في أوّل الأمر يأخذ من سواد ضعيف ، ولا يزال يشتدّ حتى ينتهي إلى الغاية.

ب : أن يأخذ إلى الحمرة ، ثمّ إلى القتمة ، ثمّ إلى السواد.

ج : أن يأخذ إلى الخضرة ، ثمّ إلى النيليّة ، ثمّ إلى السواد.

وإنّما تختلف هذه الطرق لاختلاف ما تتركب عنه الألوان ، فإن لم يكن إلّا بياض وسواد ، وليس للبياض حقيقة إلّا مخالطة الضوء للأجزاء الشفافة ، لم يكن في تركيب السواد والبياض إلّا الأخذ في طريق واحد ، وهو ازدياد الأجزاء غير المشفة ، و (١) لا يقع الاختلاف فيه إلّا بحسب التنقّص والاشتداد ، ولم تكن الطرق مختلفة.

الرابع : إذا انعكس الضوء من جسم أسود إلى جسم لم يسودّ المنعكس إليه ، فلو كان اختلاف الألوان بسبب اختلاط الشفاف بالمظلم ، والانعكاس إنّما يحصل من الشفاف لا غير ـ لا من الأسود ـ وجب أن لا ينعكس من الأحمر والأخضر إلّا عن الأجزاء الشفافة التي فيهما ، وهي الأجزاء البيض لا غير ، فكان يجب أن لا ينعكس إلّا البياض ، ولا ينعكس من الأجزاء السود ـ التي في ضمن الأحمر والأخضر ـ شيء ، فكان يجب أن لا يصير المنعكس إليه أحمر أو أخضر. وهذه الوجوه كلّها لا تفيد اليقين.

__________________

(١) في المصدر : «و» ساقطة.

٥٣٧

في المسامّ الصغيرة من العفص وقبضه العفص بقوّة فاندمج بعضها في بعض ، وحصل السواد(١).

وأمّا المبيّضات فإنّها غير نافذة ، فلهذا لا يمكنها النفوذ في الأبيض ؛ على أنّ أصحاب الإكسير يبيّضون نحاسا كثيرا برصاص مكلّس وزرنيخ مصعّد ، وهذا يبطل ما قالوه في هذا الباب.

المسألة الثالثة : في الألوان المتوسطة

ذهب جماعة من قدماء (٢) الحكماء إلى أنّ اللون الحقيقي ليس إلّا السواد والبياض ، وما عداهما يحصل من تركيبهما ، لأنّهما الطرفان اللذان في غاية التباعد ، وهما كيفيتان حقيقيتان ، والضوء أيضا كيفية حقيقية زائدة عليهما.

فالسواد والبياض إذا اختلطا وحدهما حصلت الغبرة. وهل هي لون أم لا؟ وبتقدير كونه لونا فهل هي خالص أم لا؟

فالحق في الأوّل أن نقول : إنّها لون ، لأنّا ندرك الجسم معها على هيئة مخالفة لغيرها من الهيئات ، فإمّا أن يكون المرجع بها إلى ذات الجسم ، وهو باطل ، وإلّا لكان أغبر حال كونه أسود أو أبيض ، لأنّ ذاته موجودة حال كونه أسود وأبيض ، وأيضا كان تدرك الغبرة باللمس كما يدرك الجسم به ، وهو محال. أو يكون المرجع بها إلى عدم اللون ، وهو محال ، لأنّ العدم لا نحس به والغبرة محسوسة متميّزة في

__________________

(١) رأيه في السواد مأخوذ من رأي الطوسي في نقد المحصل : ١٤٤.

(٢) م : «قدماء» ساقطة. وانظر تراكيب الألوان وتأليفها في المصدر نفسه من الشفاء. والألوان الأوّلية عند ابن سينا كما هي عند أرسطو ، اثنان هما : الأبيض والأسود ، أمّا افلاطون فقد قال بأربعة ألوان أوّلية هي الأبيض والأسود واللامع أو الناصع والأحمر ، وقال انباذقلس وديموقريطس ، بأربعة ألوان أوّلية هي الأبيض والأسود والأحمر والأخضر. والألوان الأوّلية في العلم الحديث أربعة هي الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق. الإدراك الحسي عند ابن سينا ، للدكتور نجاتي : ١١٤ ـ ١١٥.

٥٣٨

الإبصار عن سائر الألوان.

وأمّا الثاني ففيه احتمال ، لأنّ الجص والرماد إذا سحقا حصلت الغبرة من امتزاجهما ، لكن حصولها من هذا السبب لا يقتضي الانحصار فيه ، كما في البياض والسواد حيث حصلا بأسباب خاصة ، مع أنّهما كيفيتان حقيقيتان في أنفسهما بسيطتان.

وإن خالط السواد ضوء ، وكان مثل الغمامة التي تشرق عليها الشمس ، ومثل الدخان الأسود يخالطه النار ، فإن غلب السواد حصلت الحمرة ، وإن اشتدت الغلبة حصلت القتمة. وإن غلب الضوء حصلت الصفرة. ثمّ الصفرة إن خالطها سواد مشرق حصلت الخضرة. ثمّ الخضرة إن انضمّ إليها سواد حصلت الكرّاثية الشديدة. وإن انضم إليها بياض حصلت الزنجارية ، ثمّ الكراثية إن اختلط بها سواد وقليل حمرة حصلت النيلية. ثمّ النيلية إن اختلط بها حمرة كانت أرجوانية. وعلى هذا القياس.

ومنهم من زعم أنّ الألوان الحقيقة (١) خمسة : السواد والبياض والحمرة والصفرة والخضرة ، وهو مذهب المتكلمين أيضا (٢) ، وجعلوا البواقي مركّبة منها. وجعل الكعبي «الغبرة» لونا آخر سادسا منفردا ، وجوز كونها مركّبة كما تقدم. ولا شك في أنّ الأجسام الملونة بهذه الألوان الخمسة إذا سحقت جدا ثمّ خلطت فانّها يظهر منها بحسب مقادير المختلطات ألوان مختلفة. فمن المحتمل أن يكون سائر الألوان حاصلا على هذا الوجه لكنّ البصر لعجزه عن التمييز يظنها ألوانا منفردة ، ويحتمل أن يكون كلّ واحد منها أو بعضها ألوانا مفردة حقيقية.

وقد جوّز الجبائيان وجود الزائد عليها في قدرة الله تعالى.

__________________

(١) أي البسيطة التي هي الأصول.

(٢) كما في حدّ اللون من كتاب الحدود (المعجم الموضوعي للمصطلحات الكلامية) للنيسابوري. وهو مذهب المعتزلة كما في نقد المحصل : ١٤٣.

٥٣٩

وأمّا أنّ طبائع الألوان هل هي متناهية أو غير متناهية؟ فذلك مشكوك فيه. وقد اختلف المتكلمون ، فذهب بعضهم إلى أنّها غير متناهية لو وجدت كالألوان ، وآخرون إلى أنّها متناهية كالمزيد عليه. وكلاهما ضعيفان.

المسألة الرابعة : في سبب شدة اللون وضعفه (١)

ذكر القدماء له ثلاثة أسباب ، واحد منها متفق عليه ، واثنان مختلف فيهما.

أمّا المتفق عليه فهو اختلاط الأجزاء السود بالأجزاء البيض اختلاطا لا يتميز في الحس بعضها عن بعض ، فترى هذا الأبيض أقل ابيضاضا من الأبيض الذي لا يكون كذلك. ولمّا كانت مراتب هذا الاختلاط كثيرة كانت مراتب قوّة البياض وضعفه كثيرة.

وبعض الناس جوّز أن يجتمع السواد والبياض في جسم واحد فتدرك على هيئة الغبرة ، وهو باطل ؛ لأنّ السواد والبياض بعد اجتماعهما إن بقى كلّ منهما على صرافته كان الجسم يدرك فيه غاية البياض وغاية السواد ، وهو محال. وإن لم يبق واحد منهما على صرافته لا يكون واحد منهما موجودا ، بل الموجود لون متوسط ، وذلك غير اجتماع السواد والبياض.

وأمّا الوجهان اللّذان وقع فيهما الخلاف :

فالأوّل : إذا اجتمع في المحل الواحد بياضات كثيرة ، وذلك ممّا اتفقت الفلاسفة على استحالته ، لامتناع اجتماع الأمثال عندهم.

والثاني : البياض الضعيف نوع آخر مخالف للبياض الشديد ، وأنّ الألوان المختلفة بالشدّة والضعف مختلفة بالنوع. وهو أقرب الوجوه ، وهو قول محقّقي

__________________

(١) راجع كشف المراد : ٢١٩.

٥٤٠