نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

المسألة الثالثة : في أنّ المكان الواحد لا يستحقه جسمان مختلفان بالطبع

اعلم أنّ الأوائل قالوا : لا يمكن أن يكون للمكان الواحد بالشخص جسمان مختلفان بالطبع يستحقانه ، بل لكلّ جسم مكان يخصّه لا يشارك في استحقاقه سواه ، ولم نر لهم حجّة على ذلك ، سواء ما ذكره أفضل المحققين من أنّ تلك الأجسام ، إمّا أن تكون مختلفة الميول إلى جهات متعددة أو متفقتها. فإن كان الأوّل فظاهر عدم استحقاقها لمكان واحد ، لاستحالة أن تقتضي مكانا بالطبع ، وتميل بالطبع إلى غيره. وإن كانت متفقة الميول إلى جهة واحدة كانت الأشياء المتخالفة بالطبع مقتضية من حيث هي مختلفة شيئا واحدا ، وهو محال.

ولم يزد على ذلك ، وهو غير تام ، لإمكان اتفاق الأشياء المختلفة بالطبع في لازم واحد يلزم تلك المختلفات ، أو معلول واحد بالطبع كثير بالشخص يصدر عن علّتين مختلفتين بالطبع. بل الوجه في الاستدلال أن نقول : لو اقتضى جسمان مختلفان بالطبع مكانا واحدا بالشخص ، وكانا خارجين عنه متساويي النسبة إليه ، ثمّ طلباه على التساوي ، فإمّا أن يحصلا فيه دفعة واحدة وهو محال بالضرورة ، أو يحصل فيه أحدهما دون الآخر ، وهو ترجيح من غير مرجّح ، إذ لا أولوية في التخصيص ، أو لا يحصل شيء منهما فيه ، فيكون المكان الطبيعي متروكا بالطبع ، وهو محال.

وفيه نظر ، لأنّا نمنع كون الترك لو لم يطلباه طبيعيا ، بل يكون قسريا ، فإنّ كلّ واحد منهما يمانع الآخر عن مقتضاه.

٤٤١

المسألة الرابعة : في المكان الطبيعي للمركّب (١)

اعلم أنّ المركّب لا مكان له في أصل الإبداع عند نفاة الخلاء من الحكماء ، لأنّ التركيب أمر يعرض بعد الإبداع ، وايجاد مكان على سبيل الإبداع قبل التركيب يطلبه المركّب إذا حصل يقتضي وجود الخلاء حالة الإبداع. وأيضا لو طلب البسيط بعد طريان التركيب عليه ذلك المكان المفروض لوجب خلوّ مكانه الأوّل ، وهو محال. وأيضا لمّا كان التركيب لا يقتضي زيادة في وجود الأجسام ، فلا احتياج بسببه إلى مكان زائد على ما كان للبسائط. فإذن أمكنة المركبات هي أمكنة البسائط بعينها ، فلا حاجة هنا إلى إثبات أصل أمكنتها ، إذ هي أمكنة البسائط ، بل الواجب أن يبحث في تعيين أمكنتها ، فنقول :

لا بدّ في المركب من تعدد البسائط بالضرورة ، فإمّا أن يتركّب عن بسيطين أو ثلاثة أو عن أربعة. فالأوّل إن تساويا وتمانعا بأن (٢) يكون ما يطلب جهة فوق أسفل وبالعكس. فإن تساوى بعد كلّ منهما عن حيّزه تقاوما ، إذ لا مزيّة لأحدهما على صاحبه فيقف في الوسط ، وإن كان بعد أحدهما من حيّزه أقرب جذب الآخر إلى حيّزه ، فحصل المركب فيه ؛ لاشتداد الحركات الطبيعية عند القرب من الحيز وفتورها عند البعد عنها. وإن لم يتمانعا ، افترقا ولم يجتمعا إلّا بقاسر. وإن كان أحدهما أغلب في القوة والمقدار ، وهناك قاسر يحفظ ذلك المزاج انجذب المركب إلى مكان الغالب.

والثاني : إن غلب أحدهما حصل المركب في مكانه ، وإن تساوت فإن كانت

__________________

(١) راجع نهاية الفصل الحادي عشر من المقالة الرابعة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ شرح الإشارات ٢ : ٢٠١ ـ ٢٠٣ ؛ المباحث المشرقية ٢ : ٧٢ ـ ٧٣.

(٢) ق وم : «أن».

٤٤٢

الثلاثة متجاورة حصل المركب في الوسط من الأحياز الثلاثة ، وإن تباينت حصل المركب أيضا في الوسط ، وهو مكان الماء لو تركب من الماء والأرض والنار ؛ لتساوي جذب النار والأرض ، ولأنّ الأرض والماء ، وإن اختلفا في الطبيعة ، لكنّهما مشتركان في الميل إلى أسفل، فغلبا النار.

والثالث : إن تساوت حصل المركب في الوسط ، وإلّا ففي حيّز الغالب.

وقيل : لا وجود له إذ لا مكان له ، فإنّه لا أولوية هنا لأحد الأمكنة بالحصول فيه.

وليس بجيد ؛ لأنّ ما اتفق وجوده فيه أولى من غيره. نعم إنّه لا يستمر وجوده ، بل لا يوجد إلّا زمانا يسيرا جدا لانفعاله بالكيفيات الخارجية المقتضية لاستحالته إلى ذلك العنصر الموافق في الكيفية.

وهذا الاعتبار من التساوي والتفاوت في العناصر ، إنّما هو بحسب القوى دون الحجم ، فإنّه من الجائز أن يكون الأصغر في الحجم أقوى قوّة من الأكبر فيه ، فيكون المعتد به هنا القوّة دون الحجم.

تذنيب : قد يتفق لبعض الأجسام وقوف في مكانه الغريب بالطبع ، كما لو فرضنا نارا في مركز الأرض بحيث لا يكون لجزء منها ميل إلى جهة ، بل يكون مركز تلك النار حالّا (١) في مركز الأرض ، مع أنّها مصمتة ، فإنّ تلك النار تقف طبعا ؛ لأنّه لا يمكن أن تتحرك إلى جهة دون أخرى ؛ لعدم المخصّص. ولا يمكن أن تنفرج عن فرجة في وسطها تنبسط عنها إلى كلّ الجهات بالسوية إلى أن يلقى كلّ جزء من النار ما هو أقرب إليه من مقعر فلك القمر لوجهين :

أ : ذلك النفوذ إنّما يمكن بانخراق الهواء والنفوذ فيه ، والخرق لا يمكن في

__________________

(١) في النسخ : «حال» ، أصلحناها طبقا للسياق.

٤٤٣

جميع الجهات ؛ لأنه حينئذ يكون إعداما للمخروق ، بل إنّما يكون في جهة دون جهة ، ولا أولوية هنا.

ب : يلزم وقوع الخلاء في الوسط ، فإذن النار تبقى في الوسط قسرا مستندا إلى الطبع.

المسألة الخامسة : في أنّ لكل جسم شكلا طبيعيا ، وأنّ شكل البسيط الكرة (١)

قد ثبت فيما سبق وجوب تناهي الأبعاد ، ومعلوم بالضرورة أنّ كلّ مقدار متناه فإنّه مشكّل ؛ لأنّه لا بدّ وأن يحيط به حدّ واحد فيكون كرة ، أو حدود مختلفة فيكون مثلثا أو مربعا أو غيرهما من أشكال المضلعات.

وفيه نظر ، لأنّ الشكل إنّما يثبت للجسم بواسطة التناهي بالضرورة ، والتناهي ليس مستندا إلى ذات الجسم وحقيقته ، وإلّا لما تصوّر جسم غير متناه ، فكيف يكون الشكل التابع له طبيعيا للجسم.

وأمّا أن شكل البسيط الكرة ، فلأنّ البسيط هو الذي له قوة واحدة ، والقوة الواحدة لا تفعل في المادة الواحدة إلّا فعلا واحدا ، ولا شكل هو واحد سوى الكرة ؛ لأنّ ما عداها فيه أفعال مختلفة مثل كون بعضها خطا ، وبعضها زاوية ، وبعضها نقطة ، فلا يصدر ذلك كلّه عن الطبيعة الواحدة.

واعترض عليه بوجوه :

الوجه الأوّل : من البسائط ما ليس شكله الكرة كالأرض ، فإنّا نشاهد فيها الجبال والأغوار والأنجاد.

__________________

(١) انظر طبيعيات الشفاء ، الفصل الحادي عشر من المقالة الرابعة من الفن الأوّل ؛ وطبيعيات النجاة : ١٣٥ ؛ شرح الاشارات ٢ : ٢٠٣ وما يليها ؛ المباحث المشرقية ٢ : ٧٤ ـ ٧٧.

٤٤٤

لا يقال : إنّ هذه الأشياء من التّضريسات الواقعة على ظاهرها بمنزلة الخشونة القليلة الواقعة على ظاهر الكرة العظيمة ، فلا تخرجها عن الكرية ، لأنّه لا نسبة محسوسة لها إلى جملتها ، فإنّا لو فرضنا جبلا ارتفع نصف فرسخ ، كان نسبته إلى كرة الأرض ، كنسبة خمس سبع عرض شعيرة عند كرة قطرها ذراع.

لأنّا نقول : الكرة الحقيقة والدائرة الحقيقية لا تقبلان الأشد والأضعف والتفاوت (١) وإن قلّ جدا بحيث يثبت في نفس الأمر ، ولا يثبت عند الحسّ تخرج الطبيعة عن اقتضاء الكريّة ، فتكون الكريّة غير حاصلة.

الوجه الثاني : كلّ فلك خارج المركز فلا بدّ له من متمّمين على التبادل ، مختلفي الثخن والرقة ، فقد فعلت الطبيعة في كلّ واحد من المتمّمين أفعالا مختلفة في الثخن والرقة ، فجاز أن تفعل أفعالا مختلفة في الشكل ، وأيضا فإنّ أحد جانبي المتمّم ثخين والآخر رقيق ، فاختلف الشكل ، وإن كانت الاستدارة حاصلة.

الوجه الثالث : كلّ كوكب مركوز في فلك إمّا خارج المركز أو تدوير ، فإنّه يرتكز في نقرة في ذلك الفلك وتلك النقرة تحصل في ثخن بعض جوانب الفلك دون بعض ، فقد اختلف فعل طبيعة كلّ فلك.

الوجه الرابع : القوة المصوّرة في بدن الحيوان هي المؤثرة عندهم في أعضاء شكل الحيوان والنبات وعظمها ومقدارها وملاستها وخشونتها ، وهي قوة طبيعية بسيطة ، ولم تفد موادها أشكال الكرة ، بل سائر الأشكال غيرها.

لا يقال : السبب في ذلك أنّ مادة الحيوان مركبة غير بسيطة من أجزاء مختلفة الطبائع والقوى.

لأنّا نقول : سلّمنا ذلك ، لكن يجب أن تفعل كلّ قوة من أجزاء القوة المركبة

__________________

(١) م : «والتفاوت» ساقطة.

٤٤٥

في مادّتها شكل الكرة ، لأنّها قوة بسيطة حالّة في مادة واحدة ، لأنّ القوة المركبة إنّما تتركب من القوى البسيطة ، فيكون الحيوان على شكل كرات مضموم بعضها إلى بعض.

الوجه الخامس : لو اقتضت طبيعة البسيط الشكل الكريّ لاقتضت طبيعة المركب ذلك ، لأنّه لم توجد فيه سوى قوة البسيط الآخر ، لكنّها معاونة للبسيط الأوّل على ذلك ، لأنّ طبيعة كلّ واحد من البسيطين تعين طبيعة البسيط الآخر على ذلك الاقتضاء لاقتضائهما إياه ، وعند اجتماع العلل على الأمر الواحد ، إن لم يصر الفعل أقوى ، فلا أقلّ من البقاء على حاله.

الوجه السادس : سلّمنا أنّه لا يكون مضلّعا ، فلم يجب أن يكون كريّا؟ فجاز أن يكون عدسيا أو بيضيا.

الوجه السابع : الفلك عندهم يستحيل خلوّه عن الوضع المطلق ، ولا يقتضي وضعا معيّنا ، فلم لا يجوز أن تكون الأجسام لا تقتضي مواضع معيّنة ، ولا أشكالا معينة ، مع استحالة خلوّها عنهما؟

الوجه الثامن : الشكل الطبيعي واحد ، فجاز إسناده إلى الجسمية المشتركة ، فلا يجب باعتباره إثبات الصورة النوعية.

وأجيب عن الأوّل : بأنّ شكل الأرض الكرة ، لكنّها لمّا انثلم منها جزء لم يحصل للباقي شعور بذلك الانثلام. واليبوسة التي لها حافظة للشكل الأوّل ، فبقي الشكل الأوّل على ذلك الانثلام فحصلت الخشونات بهذا السبب.

وفيه نظر ، لأنّ اليبوسة إمّا أن تقتضي حفظ أي شكل اتفق ، مع أنّ الطبيعة تقتضي الشكل الكريّ ، فتكون الطبيعة قد اقتضت أمرين متنافيين. وإمّا أن

٤٤٦

تقتضي حفظ الشكل الطبيعي ، وقد زال بالانثلام ، وحصل شكل غريب ، فلا يجوز لها أن تحفظه.

وعن الثاني : بأنّ المتمّم ليس جسما مستقلا بنفسه ، بل هو جزء من فلك ، فلا يجب أن تكون له طبيعة مستقلة ، وكلّية الفلك لها طبيعة مستقلة ، فكان شكل الفلك هو الكرة.

قيل عليه : لو لم يخالف كلّ واحد من المتمّمين صاحبه في الماهية ويخالف الفلك الذي بينهما ، لصحّ أن [ينفذ] (١) أحدهما إلى الآخر ، وأن يتشكّل بشكله ويحصل في موضعه ، ولمّا امتنع ذلك امتنع تساويهما ، لأنّ اختلاف اللوازم يدل على اختلاف الملزومات.

وعن الثالث : قال أفضل المحققين : اتصال الصور الكماليّة ببعض البسائط في فطرتها الأولى لأسباب تعود إلى العلل الفاعلية غير ممتنع ، كما أنّ اتّصالها ببعض المركّبات لأسباب تعود إلى العلل القابليّة في الفطرة الثانية غير ممتنع ، فإنّ الكائن نباتا أو حيوانا في هذه الفطرة إنّما تتصل به صورة كمالية نباتيّة أو حيوانية ، مع بقاء صور أجزائه العنصريّة بحسب مزاجه ، كذلك لا يبعد أن تتّصل في الفطرة الأولى ببعض الأفلاك المستديرة صورة (كمالية) (٢) تفرز من ذلك الفلك كرة تختصّ بها هي فلك خارج المركز أو تدوير أو كوكب مع بقاء الصورة الأولى المتصلة بجميع أجزاء الفلك الأوّل فيها ، ويكون ذلك بحسب أمر في العلّة المقتضية لوجود ذلك الفلك. ويلزم من ذلك أن يبقى من الفلك الأوّل متمّم أو نقرة متصوّرة بالصورة الأولى فقط ، على ما يشهد به علم الهيئة (٣).

__________________

(١) في النسخ : «يفسد» ، وهو خطأ. وما أثبتناه من المباحث.

(٢) في المصدر ساقطة.

(٣) شرح الاشارات ٢ : ٢٠٧.

٤٤٧

وفيه نظر ، لأنّهم يمنعون من اقتضاء الطبيعة الواحدة أمرين متنافيين ، ولا شك عندهم في اقتضاء طبيعة الفلك الكريّة ، فلو اقتضت شكلا مغايرا له لزم المحال عندهم ، وإن استند الشكل الثاني إلى صورة أخرى كمالية لحقت به في الفطرة الأولى على ما قال ، لزم كون الفلك مركبا من قوى وطبائع (١) مختلفة فلا يكون بسيطا.

وعن الرابع : أنّ شكل الحيوان يستند إلى القادر المختار ، ولا يجوز اسناده إلى القوّة المصوّرة التي لا شعور لها البتة ، فكيف يحكم عاقل بصدور هذه الخلقة العجيبة والهيئة الغريبة عن قوة جسمانية لا تعقّل لها البتة.

قال أفضل المحققين ، القوة المصوّرة على تقدير بساطتها وتركّب محلّها ، وعلى تقدير تركّبها وتعلّق أجزائها بأجزاء المحل ، لا تقتضي كون الحيوان مجموع كرات ؛ لأنّ حكم الشيء حال الانفراد لا يكون حكمه حال التركيب مع الغير. ونحن إنّما ادّعينا أنّ القوة الواحدة في المحل المتشابه تفعل فعلا متشابها ، ولم يلزم من ذلك أنّها تفعل في أجزاء المحل المختلف فعلها في المحلّ المتشابه ، لأنّ المنفعل منها ليست هي الأجزاء أفرادا ، بل المركب الذي هو المحل ، وكذلك لم يلزم أنّ القوة المركبة تفعل فعل بسائطها ، لأنّ المجموع فاعل واحد كثير الآثار بحسب البسائط التي هي كآلات لها ، ليس عدّة فاعلين متشابهي الأفعال (٢).

وفيه نظر ، فإنّ القوة البسيطة إذا حلّت محلّا مركّبا كلّ واحد من أجزائه يفعل ما يفعله الآخر ، لم يحصل هناك ما يقتضي خلاف ما اقتضته الأجزاء من القبول ، ولا خلاف ما اقتضته القوة البسيطة.

__________________

(١) في النسخ : «فطبائع» ، أصلحناها طبقا للمعنى.

(٢) المصدر السابق : ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٤٤٨

وعن الخامس : أنّ المركبات يحصل فيها شكل غريب بسبب القواسر الخارجية ، ثمّ إنّ (١) بما فيها من اليبوسة تحفظ ذلك الشكل الغريب على ما تقدم. وفيه ما تقدم.

وعن السادس : أنّ في البيضي والعدسي اختلافا لقرب بعض الجوانب فيه من الوسط ، وبعد البعض الآخر.

وعن السابع : بأنّ الفلك مع قطع النظر عن غيره لا يوجب الوضع الذي هو المقولة لا مطلقا ولا معيّنا ، فلهذا حكمنا بأنّه لا يقتضي وضعا معيّنا ، والجسم مع قطع النظر عن غيره يقتضي مكانا وشكلا معيّنين ، فلذلك حكمنا بذلك.

وفيه نظر ، لأنّ البحث ليس في الوضع بمعنى المقولة ، فإنّه لا يجب مطلقا ولا معيّنا. وأيضا المكان لا يقتضيه الجسم من حيث هو جسم ، لأنّه السطح عندكم ، فيلزم التسلسل.

وعن الثامن : أنّ الأشكال من حيث هي مطلقة كذلك ، أمّا من حيث هي معيّنة متأخرة عن المقادير التي تختلف باختلاف الطبائع ، ولذلك كانت مستندة إلى الطبائع.

وفيه نظر ، لأنّ الشكل المعيّن كما تأخّر عن المقدار المعيّن ، كذا الشكل المطلق متأخّر عن المقدار المطلق. ثمّ أيّ مدخل لتأخّره في عدم تعليله بالجسمية المشتركة؟

تذنيب : الإناء القريب من المركز ، يحتمل من الماء أكثر من البعيد عنه ، لأنّ قوس الدائرة المارة بطرفي الإناء حال قربه بمركز (٢) الأرض ، أكثر تقبيبا من قوس الدائرة المارة بطرفي الإناء حال بعده بمركز الارض.

__________________

(١) كذا ، ولعل الصواب : «انها».

(٢) في جميع النسخ : + «و» قبل «بمركز وكذا في الموضع الثاني.

٤٤٩

البحث الخامس عشر : في الجهات

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في تحقيق الجهة (١)

للجهة أمارتان باتفاق جماهير الفلاسفة :

الأمارة الأولى : أنّها مقصد المتحرك الأيني على الاستقامة ، فإنّ المتحرك في الأين يقصد بحركته الوصول إلى منتهى حركته.

الأمارة الثانية : أنّها مقطع منتهى الإشارة الحسّية ، وذلك أنّ الإشارة امتداد يبتدئ من المشير وينتهي إلى المشار إليه ، بأنّه هنا أو هناك ، فهي طرف الامتداد ونهاية بالنسبة إلى الامتداد ، وبالنسبة إلى الحركة والإشارة جهة. فهي من ذوات الأوضاع ليست من المعقولات المجرّدة التي لا وضع لها ، بل هي ذات وضع ، ووضعها في امتداد مأخذ الإشارة والحركة ، لأنّه لو كان وضعها خارجا عن ذلك لكانت الإشارة والحركة ليستا إليها. وهي غير منقسمة ، لأنّها لو كانت منقسمة ، فإذا وصل المتحرّك إلى منتصفها ولم يقف ، لم يخل إمّا أن يقال : إنّه يتحرّك بعد إلى الجهة ، أو يقال : إنّه يتحرّك عن الجهة ، فإن كان يتحرّك بعد إلى الجهة فالجهة الجزء الثاني من المنقسم ، وليس للأوّل مدخل في تحققها ، وإن كان يتحرك عن الجهة فالمنتصف الذي وصل إليه ، هو الجهة لا جزء الجهة. فظهر أنّ الجهة حدّ في ذلك الامتداد، وطرف ونهاية غير منقسم.

__________________

(١) راجع شرح الاشارات ٢ : ١٦٦ وما يليها ؛ المباحث المشرقية ١ : ٣٦٥ ـ ٣٦٧ ؛ كشف المراد : ١٥٤ ـ ١٥٥.

٤٥٠

لا يقال : أنتم قسمتم الحركة الآخذة نحو شيء ذي وضع إلى حركة إليه وحركة عنه ، أي حركة قرب وحركة بعد ، وهذه القسمة حاصرة بالقياس إلى ما لا ينقسم في جهة الحركة ، وغير حاصرة بالقياس إلى ما ينقسم بوجود قسم آخر وهو الحركة فيه ، وإيراد قسمة لا يصحّ إلّا بالقياس إلى ما لا ينقسم في بيان أنّ الشيء غير منقسم ، مصادرة على المطلوب.

لأنّا نقول : الحركة في المنقسم إنّما تكون عن جهة أو إلى جهة ، ويعود القسمان الأوّلان ، وإلّا جاز أن تكون جهة الحركة هي المسافة التي تقطع بالحركة ، وهو محال (١).

المسألة الثانية : في أنّ الجهة موجودة

لمّا كانت الجهة مقصد المتحرك ومتعلق الإشارة لزم أن تكون موجودة ، فإنّ المتحرك لا يقصد التوجه إلى شيء بالحصول فيه إلّا إذا كان ذلك الشيء موجودا. والإشارة أيضا إنّما تتناول الأمر الموجود ذا الوضع.

لا يقال : ليس من شرط ما يقصده المتحرك أن يكون موجودا ، فإنّ المستحيل من السواد إلى البياض يقصد البياض ، وإن لم يكن البياض موجودا بعد ، فلم لا يكون المتحرك في الأين كذلك؟

لأنّا نقول : الفرق بين الحركة في الأين والحركة في الكيف ظاهر ، لأنّ المتحرك إلى الجهة إنّما يقصد الحصول في الجهة ، لا تحصيل الجهة بحركته ، فهي يتوخّى بلوغها أو القرب منها ، ولا يجعل الجهة ممّا يتوخّى تحصيل ذاتها بالحركة ، ولا تجعل لها عند تمام الحركة حالا من الوجود أو العدم ، والمتحرّك في الكيف

__________________

(١) فإذن القسمة حاصرة ، شرح الاشارات ٢ : ١٦٨ ـ ١٦٩.

٤٥١

يقصد بحركته تحصيل الكيفية التي قصدها ، لا الحصول فيها. وأيضا لو كانت الجهة تحصل بالحركة لكانت من ذوات الأوضاع ، موجودة غير منقسمة ، وهو المطلوب. والحق في الجواب هو الأوّل (١).

المسألة الثالثة : في عدد الجهات

وهنا رأيان : مشهوري وحقيقي. فالمشهوري أنّ الجهات ست ، وله سببان رأي عامي، واعتبار خاصي (٢).

أمّا العامي : فهو أنّ الإنسان يحيط به جنبان عليهما اليدان ، وظهر وبطن ورأس وقدم. فالجهة القويّة التي منها ابتداء الحركة يسمّونها اليمين ، وما يقابله يسمّونها اليسار ، والجهة التي تلي رأس الإنسان الفوق ، ويقابله الأسفل (٣) ، وفي سائر الحيوانات الفوق ما يلي ظهورها ، والتحت (٤) مقابله ، والجهة التي تلي حاسّة الإبصار ، وإليه حركاتها بالطبع تسمّى القدّام ، والخلف ما يقابله. و [لمّا] لم يكن عندهم جهة غير هذه ، فجعلوا في الإنسان طوله من رأسه إلى قدمه ، وعرضه من يمينه إلى يساره ، وعمقه من قدامه إلى خلفه، وحيث لم تكن الأسماء إلّا لهذه ، وقفت الأوهام على هذا المبلغ.

وأمّا الاعتبار الخاصيّ : فهو أنّ كلّ جسم له أبعاد ثلاثة متقاطعة على زوايا

__________________

(١) وعبّر عنه الشيخ ب «الحقّ هو الفرق» ؛ لأنّ الجواب الثاني جدلي كما قال الطوسي.

(٢) قال الشيخ : «وأمّا السبب في اشتهار هذه المقدمة وهو أنّ لكلّ جسم ستّ جهات ، فأمران أحدهما رأي عامي والآخر اعتبار خاصي الخ» طبيعيات الشفاء ، الفصل الثالث عشر من المقالة الثالثة من الفن الأوّل.

(٣) وهي الجهة التي تلي قدمه.

(٤) وهي الجهة التي تلي بطنه وقدمه.

٤٥٢

قوائم لا أزيد ، ولكل بعد طرفان (١) ، فكانت الجهات ستا بعدد الأطراف. وهذا الاعتبار (٢) غير واجب ، لأنّ الأبعاد الثلاثة إنّما تعرض لو فرض بعد واحد ، وجعل أصلا من غير أن يكون بالطبع ، فحينئذ يعرض عليه الخطان الآخران القائمان عليه في جهتين ، لكن لو فرضنا امتدادا آخر غير مواز للأوّل ، لحصل لنا ثلاثة أبعاد أخرى متقاطعة على قوائم غير تلك بالعدد ، وحصل لنا جهات ست غير تلك الجهات ، لكنّ كلّ جسم سواء كان متناهيا أو غير متناه يمكن أن يفرض فيه خطوط غير متناهية العدد تكون أصولا لخطّين آخرين قائمين عليه ، فتكون الجهات حينئذ غير متناهية (٣). والكرة لا جهة لها بالفعل ولها جهات غير متناهية بالقوة.

وأمّا المضلّعات فإن اعتبرنا الخطوط والسطوح والنقط ، كان عدد جهاتها عدد حدودها ، ويكون الخط والسطح جهتين باعتبار كونهما أطرافا ، لا باعتبار امتدادهما. وإن اعتبرنا في الجهة عدم الامتداد فيها مطلقا ، كانت جهاتها الفعلية هي النقط التي تناهت خطوطها بها لا غير. وأمّا بالقوة فغير متناهية كالكرة.

وقد يعرض فرض هذه الجهات الست لغير الإنسان من الحيوانات وغيرها بالقياس إلى الإنسان حتى الفلك ، فإنّ الجانب الشرقي منه يمينه والغربي يساره ، كالإنسان الذي يسمّى أقوى جانبيه الذي تظهر منه الحركة يمينا ومقابله يسارا ووسط سمائه يشبه (٤) القدام ، ومقابله الخلف ، وأحد قطبيه العلو والآخر سفله.

__________________

(١) في المباحث المشرقية : «ولكل خط من الخطوط المتقاطعة طرفان» ، وفي الشفاء : «وينتهي كلّ مقاطعة إلى طرفي الخط الذي عليه المقاطعة».

(٢) وهو انقسام الجهات إلى الست.

(٣) هذا وما بعده يضعّفان رأي المشهور كما في شرح الاشارات ، وشرح الشرح لقطب الدين الرازي ٢ : ١٧١ ـ ١٧٢.

(٤) ج : شبه.

٤٥٣

وهذه الجهات الست منها اثنتان بالطبع لا يتبدلان بتبدّل الفروض والأوضاع ، وهما الفوق والسفل. وأمّا الأربعة الباقية فإنّها تتبدل بتبدل الفروض والأوضاع ، لأنّ المتوجه إلى المشرق يكون المشرق قدّامه والمغرب خلفه والجنوب يمينه والشمال شماله ، فإذا توجه إلى المغرب تبدلت جميعها ، فصار ما كان قدّاما خلفا ، وما كان يمينا شمالا ، وبالعكس ، بخلاف الفوق والسفل ، فإنّ القائم لو صار منكوسا لا يصير ما يلي رأسه فوقا ، وما يلي رجليه تحتا ، بل صار رأسه من تحت ورجلاه من فوق ، وكان الفوق والتحت بحالهما.

قيل (١) : إن جعل اعتبار الفوق والسفل بالرأس والقدم تبدلا كغيرهما ، فإنّ شخصين لو قاما على طرفي قطر الأرض كان ما يلي رأس أحدهما يلي قدم الآخر ، ولا يتبدّلان إن جعل الاعتبار بما يقرب من السماء وما يقابله.

وأجيب : ليس المراد من اعتبار الرأس والقدم ما يلي رأس الشخص وقدمه ، فإنّا قد بيّنا تبدله بالانتكاس ، بل المراد ما يلي الرأس والقدم بالطبع ، فلا يكون الطرف الآخر من قطر الأرض هو الذي يلي القدم بالطبع (٢).

واعلم : أنّ هذه الجهات غير متخالفة بالماهية حتى تكون في كلّ جسم جهة هي بعينها يمين وأخرى هي يسار ، وإنّما تميّز ذلك في الحيوانات بسبب أنّ الجانب الأقوى يخالف مقابله ، فبسبب ذلك صار اليمين مخالفا لليسار. وكذا باقي الجهات ، إلّا الفوق والسفل فإنّ اختلافهما قد يكون بالعرض وقد يكون بالطبع ، أمّا الأوّل فعلى ما يتفق وضعه ، فكل جانب يلي الأرض من الجسم هو الجهة السافلة ، وما يقابله هو الفوق.

__________________

(١) اعتراضا على رأي الشيخ بأنّ الفوق والسفل لا يتبدلان بالفروض ، والقائل هو الرازي ، والمجيب عليه الطوسي.

(٢) شرح الاشارات ٢ : ١٧٣.

٤٥٤

ثمّ إنّ الأرض عند حصولها في حيّزها الطبيعي لا يقال : إنّ لها جهة تلي الأرض. فبهذا الوجه يحتمل أن يقال : إنّه لا جهة لها إلّا الفوق إن عني بالجهة ما يلي نهاية الشيء ، لأنّ نهاية الأرض سطح ، وسطحها يلي السماء. أمّا إذا كانت الجهة لا تقتضي النسبة إلى سطح ، بل إلى كلّ طرف كبعد مفترض في الجسم ، فتكون حينئذ للبعد المفروض في الأرض جهة عند مركز كرته الذي هو مركز الكل ، وجهة أخرى عند سطحه ، لكنّه لا تكون جهة العلو كجهة السفل ؛ لأنّ جهة العلو سطح موجود بالفعل ، وجهة السفل نقطة موجودة بالقوة ، لكنّه أيضا يحتمل أن يقال : جهة الفوق للأرض هي طرف البعد المتصل بالمركز ، والسطح هو نقطة. وعلى هذا لا تكون الجهتان بالفعل ، بل بالقوة. لكن أحد أسباب انقسام المتصل المسامتات والمحاذيات ، فإذا حصل [الأفق] (١) للأرض بالفعل لوجود قائم عليها حصل ذلك البعد بالفعل ، وحصلت النقطتان اللتان هما الجهتان بالفعل.

لا يقال : لو لم يكن للأرض علو إلّا السماء وجب أن يكون لها علو ، لكن العلو علو بالقياس إلى أسفل ، فيكون لها سفل ، لكنّ السفل لا يتعيّن إلّا بتعيّن بعد ، والبعد لا يتعيّن بوجود السماء ، بل لأجل قائم يحصّل (٢) للأرض افقا (٣) ، فيلزم أن يتعيّن العلو بوجود السماء ، وأن لا يتعين ، هذا خلف.

لأنّا نقول : العلو يراد به تارة ما يقابل السفل ، وتارة ما يلي جهة السماء ، وأحد العلوين مقول بالقياس إلى أسفل ، والثاني معقول بنفسه لا يحوج تعقّله إلى اعتبار وجود ما يقابله ، فللأرض بالقياس إلى السماء وحدها جهة ، ولها بالقياس إلى غاية البعد التي هي مركزها علو ، فاندفع الخلف بتغاير المعنيين.

__________________

(١) في النسخ : «الأين» ، وما أثبتناه من المباحث.

(٢) م : يجعل.

(٣) ق وس : «أينا».

٤٥٥

والفوق والسفل يوجدان للنبات والحيوان بالطبع ، فإنّ جهة الغصن فوق بالطبع وجهة الأصل سفل بالطبع. ثمّ يعرض أن يصير الفوق أسفل وبالعكس ، ويكون الفوق حافظا للطبيعة الفوقية وكذا السفل. وأمّا القدّام والخلف فإنّهما حاصلان للحيوان حالتي الحركة والسكون ، وغير الحيوان إنّما تعرضان له عند الحركة ، فالجهة التي إليها الحركة تكون قدّاما ، والتي عنها الحركة تكون خلفا ، ومتى تغيرت الحركة تغير القدّام والخلف ، ولا كذلك الحيوان فإنّ قدّامه وخلفه متعيّن بالطبع. وغير الحيوان قد يكون قدّامه وفوقه واحدا عند ما يتحرك إلى فوق ، وتارة يتخالفان إذا كانت حركاته لا إلى الوسط ولا عنه ، بل معترضة بينهما (١).

المسألة الرابعة : في تحدّد الجهات (٢)

أثبت الفلاسفة جسما محيطا بكلّية العالم كري الشكل يحدّد الجهات أي يميّزها ، ونفاه المتكلمون. وهذه مسألة من الطبيعيات تبنى عليها مسائل كثيرة عندهم مهمة سيأتي البحث فيها معهم إن شاء الله تعالى.

واحتجوا هنا على اثبات المحدّد ، بأنّ الجهات قد ثبت فيها جهتان متمايزتان بالطبع هما الفوق والسفل ، وأنّهما ذواتا وضع ، فتعيّن وضعهما ، إمّا في شيء متشابه سواء كان خلاء أو ملاء ، وإمّا في شيء مختلف ، والأوّل محال ؛ لأنّ المتشابهات (٣) تتساوى أحكامها ، فليس بعض الحدود المفروضة في ذلك المتشابه بأن تكون جهة أولى من سائرها ، فإمّا أن يقتضي كلّها جهة واحدة ، وليس إحداهما بأن يكون

__________________

(١) انظر نهاية الفصل الثالث عشر من المقالة الثالثة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ، والمباحث المشرقية ١ : ٣٦٤ ـ ٣٦٥.

(٢) انظر شرح الإشارات ٢ : ١٧٥ ـ ١٨١.

(٣) م : المتساويات.

٤٥٦

مقتضاه أولى من الأخرى ، أو لا يقتضي شيء منهما شيئا من الجهتين.

وأيضا الحدود في المتشابهة بالفرض غير متناهية ، والجهتان بالطبع اثنتان فحسب ، فلا يكون التحديد مستندا إلى الخلاء والملاء المتشابهين. فتعيّن القسم الثاني ، وهو أن يكون التعيّن بشيء مختلف خارج ممّا يتشابه ، وذلك الشيء يستحيل أن يكون مجرّدا لتساوي نسبته إلى الجميع ، فيكون جسما أو جسمانيا ، لوجوب كونه ذا وضع. وإذا كان جسما فإمّا أن يكون جسما واحدا يحدّد الجهتين معا ، أو جسمين يحدّد كلّ واحد منهما واحدة منهما.

والجسم الواحد إمّا أن يحدد الجهتين من حيث هو واحد أو لا من حيث هو واحد. والجسمان إمّا أن يحددا بأن يكون أحدهما محيطا بالآخر ، أو بالمباينة ، فالأقسام أربعة :

أ ـ أن يكون المحدّد للجهتين جسما واحدا من حيث هو واحد ، وهو لا يمكن أن يكون محددا ، لأنّ كلّ امتداد فله جهتان هما طرفاه لوجوب تناهيه ، وكذلك الطبيعيتان فإنّهما طرفا امتداد ، فالمحدد يجب أن يحدّد جهتين معا ، والجسم الواحد من حيث هو واحد إن حدّد ما يليه بالقرب فلا يمكن أن يحدد ما يقابله ، لأنّ البعد عنه ليس بمحدود.

ب ـ أن يكون التحدد بجسمين على سبيل إحاطة أحدهما بالآخر ، وهو باطل ، ومع ذلك فإنّ المطلوب حاصل به. أمّا بيان بطلانه : فلأنّ المحاط به يكون داخلا في التحديد بالعرض لوقوع الاكتفاء بالمحيط في تحديد الامتدادين بالقرب الذي يتحدّد بإحاطته والبعد الذي يتحدّد بأبعد حدّ من محيطه وهو مركزه ، فلا يكون المحدد إلّا واحدا ، وأمّا حصول المطلوب به فلأنّ المطلوب هو إثبات محيط بالأجسام كلّها يميّز الجهات ويحدّدها ، وقد ثبت.

٤٥٧

ج : أن يكون التحدّد بجسمين على سبيل المباينة ، وهو باطل لوجهين :

الأوّل : كلّ واحد من الجسمين إنّما يحدد جهة واحدة هي القرب منه ، ولا يتحدد البعد عنه ، فلا يكون واحد منهما يحدد الجهتين معا ، وقد قلنا : إنّ المحدد يجب أن يحدد جهتين معا.

الثاني : كلّ واحد من الجسمين له جهات لا تتناهى بحسب فرض الامتدادات الخارجة منه ، ووقوع الآخر منه في جهة من تلك الجهات وعلى بعد معين منه دون سائر الأبعاد الممكنة ، ليس بأولى من وقوعه في جهة أخرى وعلى بعد معيّن منه دون (١) غيره (٢) ممّا يمكن ، فإنّ الوقوع في كلّ جهة وعلى كلّ بعد من ذلك ممكن بحسب العقل ، وإن امتنع فلمانع مؤثر في التحديد ، وهو أيضا يجب أن يكون جسمانيا ذا وضع ، والكلام في وقوعه في بعض جهات هذين دون بعض وعلى بعد معين منهما كالكلام فيهما ، فإن علّل بهذين صار دورا ، وإلّا تسلسل.

ولمّا بطلت الأقسام بقي الرابع ، وهو أن يكون المحدد واحدا ، لا من حيث هو واحد ، ولا على أي وجه يتّفق ، بل من حيث الإحاطة ، وهي الحال الموجبة لتحديدين متقابلين. فإذن محدّد الجهات جسم واحد محيط بالأجسام ذوات الجهات.

والاعتراض من وجوه :

الوجه الأوّل : لا نسلّم أنّ هنا جهة مغايرة للمكان ، فإنّ كلّ متحيّز على الإطلاق لا بدّ له من حيث وحيّز يشار إليه بواسطته أنّه هنا أو هناك ، وهو معنى المكان ، ولهذا يقال للمتحرك إذا وصل إلى جهته إنّه قد حصل في جهته ، ولا

__________________

(١) ق وس : «دون» ساقطة.

(٢) ق : «غيرهما».

٤٥٨

يشيرون بذلك إلى نقطة غير منقسمة.

الوجه الثاني : لا نسلّم أنّ هنا جهتين متخالفتين بالطبع ، وكيف يصحّ منكم هذه الدعوى؟ مع أنّ الجهة عندكم طرف الامتداد وغير منقسم ، فتكون نقطة ، والنقطة عندكم لا وجود لها بالفعل ، فكيف تذهبون إلى تخالفها بالطبع ، مع أنّ منكم من يذهب إلى أنّ النقطة عدمية ، والباقون منكم يذهبون إلى أنّها فرضية.

الوجه الثالث : النقط كلّها متساوية في الماهية والحقيقة لو كانت ثابتة ، لأنّ مفهومها هو أنّها شيء ذو وضع غير منقسم ، وهو معنى واحد لا اختلاف فيه البتة ، فكيف يصحّ منكم القول بأنّها مختلفة بالطبع.

الوجه الرابع : منعتم من اسناد التحديد في الخلاء أو الملاء المتشابه لاقتضائه تمايز الجهتين المختلفتين بالطبع ، مع أنّكم أسندتم هذا التحديد إلى طرفي الامتداد الآخذ من المحيط إلى المركز ، والطرفان متساويان ، وهذا عين التناقض.

الوجه الخامس : الأبعاد متناهية فحصل بواسطة السطح الظاهر الذي هو نهايتها غاية البعد ، وحصل بما يتوهم أنّه وسط لها ، ما يشبه المركز ، فحصلت الجهتان متميزتين من غير واسطة المحيط.

الوجه السادس : إمّا أن يجعلوا المحيط كلّه هو جهة القرب من الفلك فيلزم انقسام الجهة ، وأنتم منعتم من ذلك ، أو بعضه فيلزم الترجيح من غير مرجح.

لا يقال : كلّ امتداد يفرض آخذا من المركز إلى أي نقطة كانت من المحيط يكون طرفاه غير منقسمين. وأحد الطرفين هو جهة القرب.

لأنّا نقول : فحينئذ لا تنحصر الجهة الطبيعية في اثنتين.

لا يقال : قد اشترك كلّ ما يقرب من المحيط في كونه قربا.

٤٥٩

لأنّا نقول : مقابل الواحد بالشخص ، وهو البعد الحاصل بالمركز ، يجب أن يكون واحدا بالشخص.

الوجه السابع : إمّا أن يجعلوا الفوق كلّ ما قرب من المحيط مطلقا ، أو ما يقرب منه مسامتا لرأس الإنسان بالطبع حال قيامه على الأرض ، فإن كان الأوّل كانت الجهات الفرضيّة والطبيعيّة واحدة ، وكان بخلاف العرف المشهور بين الناس. فإنّ ما يلي اليمين أو الشمال أو القدّام أو الخلف (١) ، لا يسمّونه فوقا ، وإن كان الثاني لم يجب الإحاطة في المحدد.

الوجه الثامن : سلّمنا أنّ المحدد محيط ، فلم أوجبتم فيه الكريّة؟ فإنّ تمايز الجهتين يحصل وإن كان مضلّعا ، وجاز أن يكون بعض المحيط أقرب إلى المركز من بعض.

الوجه التاسع : لم لا يجوز التحديد بجسم واحد من حيث هو واحد ويتحدد به القرب منه؟ وأمّا البعد عنه فإنّه يتحدد بواسطة تناهي الأبعاد.

الوجه العاشر : لم لا يقع التحديد بجسمين متباينين؟ وكما يتحدد بكلّ واحد منهما القرب منه ، كذا يحدد البعد عن الآخر. ويكون حصول كلّ منهما حيث هو كحصول القطب في موضع دون غيره من الفلك البسيط.

__________________

(١) م وس : «أو القدم» بعد «الخلف».

٤٦٠