نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

والإمكان ونقيضه ، والوجوب ونقيضه إلى غير ذلك من الاعتبارات العقليّة. وتجدّد المؤثرية لا يقتضي كونها ثبوتية في الخارج ، بل في العقل ، كما في سائر الإضافات (١).

وفيه نظر ؛ فإنّا قبل ثبوت الأبوة لزيد نتصوّرها له ، ولا نحكم له بها ، ولو حكمنا بها له (٢) ، كان جهلا لعدم المطابقة ، فإذا ثبتت له بالفعل ، حكمنا له بها ، وكان الحكم مطابقا. فلا بدّ من اعتبار أمر آخر غير الذهن ينسب الثبوت إليه ، بحيث تثبت المطابقة بالنسبة إليه وعدمها.

وأجاب أفضل المتأخرين عن أصل المعارضة : بأنّ هذا التقسيم ، قد يتوجه على ما يحكم بوجوده (٣) ضرورة ، كما إذا قيل : لو كنت موجودا الآن ، لكان كوني الآن إمّا أن يكون عدميّا أو وجوديّا ، والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل ، فلأنّه نقيض اللاكون في الآن ، وهو عدميّ ، ونقيض العدمي ثبوتي.

والثاني باطل ، لأنّه إمّا أن يكون عين الذات ، فلا تبقى الذات عند ما لا يبقى حصولها في ذلك الآن ، أو يكون مغايرا لها زائدا عليها ، فيكون حاصلا في ذلك الآن ، ويلزم التسلسل. ولمّا كان الحصول في ذلك الآن يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة كان باطلا ، فلا يكون للذات حصول في شيء من الآنات (٤) ، وهو يستلزم البطلان بالضرورة. وإذا كان هذا التقسيم مبطلا للضروريّات ، قضت الضرورة ببطلانه (٥).

واعترضه أفضل المحققين : بأنّ الأمر ليس كما قاله ، لأنّ الكون في الزمان أمر

__________________

(١) قوله : «وتجدد المؤثّرية» آخر استدلال ذكره المعترض في المحصل ، انظر الجواب في نقد المحصل ١١٧ ، والعلّامة الحلّي أشكل عليه ، كما في المتن.

(٢) م : «حكم له بها».

(٣) في المصدر : «فيما نعلم وجوده بالضرورة».

(٤) م : «الأوقات».

(٥) نقد المحصل : ١١٤ ـ ١١٥.

١٤١

عقليّ يعرض للمتكوّن ، مشروط بوجود الزمان المتعلّق به ، ويقتضي (١) كون المتكوّن بحيث يصلح أن يعرض له ذلك عند فناء الزمان ، ولا يتسلسل ، ولا يلزم منه ما يبطل البديهيّات(٢).

وفيه نظر ؛ فإنّ كون الكون في الزمان أمرا عقليّا ، لا يبطل التقسيم ، بل فيه اختيار أحد الأقسام ، وهو أن يكون عدميا ، ثمّ عروضه للمتكوّن ، إمّا أن يكون في العقل لا غير، فيبطل بإمكان أن يعتبره العقل قبل الزمان وبعده ، أو يستند إلى أمر خارج الذهن ويعود المحذور بعينه.

وعن الثالث : أنّ المؤثر يؤثر في الأثر حال وجوده ، أي في زمان وجوده ، وهذا ليس بمحال ، فإنّ العلّة مع معلولها بهذه الصفة ، لا بمعنى أنّه تجدّد لها وجود آخر غير الوجود الواقع في ذلك الزمان ، بل بمعنى أنّ هذا الوجود الواقع في ذلك الزمان صدر منه في ذلك الزمان ، ولا يلزم من ذلك ثبوت المقارنة الذاتية بين المؤثر وأثره ، بل المقارنة الزمانية ، ولا استحالة فيه ، وإنّما يؤثر فيه لا من حيث هو موجود ، ولا من حيث هو معدوم ، بل من حيث ماهية الأثر وإن كانت موجودة في ذلك الزمان.

وبعض المتكلمين يقول : المؤثر يؤثر حال حدوث الأثر ، فإنّها ليست بحالة الوجود ولا بحالة العدم.

وأجاب أفضل المتأخرين عن أصل المعارضة : بأنّ هذا التقسيم عائد فيما علم بالضرورة ثبوته ، فإنّ الإحداث وإن كان في محل البحث ، لكن لا نزاع في الحدوث ، والتقسيم الذي ذكروه يدفعه ، لأنّه يقال : لو حدث هذا الصوت مثلا ،

__________________

(١) م : «يقتضي» ساقطة ، وفي نسخة من المصدر «يفني» ، وفي أخرى «نعني».

(٢) نقد المحصل : ١١٧.

١٤٢

فإمّا أن يكون حدوثه حال وجوده أو حال عدمه ، فإن حدث حال وجوده فقد وجد الموجود ، وإن حدث حال عدمه فقد وجد عند عدمه. فظهر أنّ هذا التقسيم مبطل للضروريات (١).

واعترضه أفضل المحققين : بأنّ هذا الكلام (٢) باطل ، ودال على تحيّره في أمثال هذه المواضع. وقد يمكن أن يقال فيه ما يقول المتأخرون من المتكلّمين الذين لا يقولون بمقارنة العلّة والمعلول في الزمان ، فإنّهم يقولون : الثبوت الذي يوجد في الآن الثاني يصدر من موجده في الآن الذي قبله ، فيكون التأثير سابقا على الآثر بآن ، ويقع بالقياس إلى ما يحصل بعده ، سواء كان الأثر موجودا في ذلك الآن بتأثير آخر أو معدوما ، ويكون الأثر في آن التأثير غير موجود ، وفي الآن الذي يصير موجودا لا يكون مقارنا للمعدوم (٣).

وعن الرابع : أنّ المؤثر يؤثر في الماهية.

قوله : «إنّه محال ، لأنّ كون السواد سوادا بالغير ، يوجب أن لا يكون السواد سوادا عند عدم الغير».

قلنا : إذا فرض السواد ، وجبت سواديّته بسبب الفرض ، وجوبا لاحقا مترتبا على الفرض ، ومع ذلك الوجوب يمتنع تأثير المؤثر فيه ، فإنّه (٤) يكون إيجادا لما (٥) فرض موجودا. أمّا قبل فرضه سوادا ، فيمكن أن يوجد المؤثّر السواد على سبيل الوجوب ، ويكون ذلك الوجوب سابقا على وجوده ، والفرق بين

__________________

(١) نقد المحصل : ١١٥.

(٢) وهو قوله : «هذا التقسيم مبطل للضروريات».

(٣) في المصدر : «للعدم» ، نقد المحصل : ١١٧.

(٤) م : «لأنّه».

(٥) ق : «بما».

١٤٣

الوجوبين (١) ظاهر (٢). وهذه المغالطة نشأت من قبل اشتراك اللفظ بين الوجوب السابق واللاحق ، لأنّ الوجوب يدلّ على المعنيين بالشركة اللفظية (٣).

وأيضا إذا قلنا : «فنى السواد» معناه : أنّ السواد الحاصل في زمان ليس بحاصل في زمان بعده ، ويكون حمل غير الحاصل على المتصوّر منه ، لا على الموجود الخارجي ، فإنّ الوضع والحمل يكونان في العقل (٤) لا في الخارج أصلا ، وهكذا القول في حصول الوجود من موجده. وإن قيل : تأثير المؤثر في جعل الماهية موصوفة بالوجود ، كما ذهب إليه القائلون بشيئية المعدوم (٥) ، لم يتعلق ذلك بموصوفية الماهية بالوجود ، لأنّ ذلك أمر إضافي يحصل بعد اتّصافها به ، والمراد من تأثير المؤثر هو ضمّ الماهيّة إلى الوجود ، ولا يلزم ما ذكر من المحال (٦).

وفي قوله (٧) : «أمّا قبل فرضه سوادا ، فيمكن أن يوجد المؤثر السواد على سبيل الوجوب» يقتضي أن يكون تأثير الفاعل ليس إلّا في الوجود ، وليس هو الذي اختاره ، بل الوجه أن يقول : أمّا قبل فرضه سوادا فيمكن أن يؤثر المؤثر في كونه سوادا.

__________________

(١) ق وج : «الوجودين» ، هكذا في نسخة من نقد المحصل ، والصواب ما أثبتناه في المتن من نسخة : م.

(٢) مذكور في الكتب الحكميّة.

(٣) فكل ممكن محفوف بوجوبين : أحدهما سابق على وجوده ، وهذا في قولهم «الشيء ما لم يجب لم يوجد». والثاني الوجوب اللاحق ، وهو الضرورة بشرط المحمول أي وجوب وجوده ما دام موجودا ، وهذان الوجوبان بالغير ، وكذلك الماهية المعدومة محفوفة بامتناعين ، السابق واللاحق. وسيأتي البحث عنه في ص ١٥٤.

(٤) وهما من ثواني المعقولات ، كما قال في كشف المراد : ٨٠.

(٥) وهم من المعتزلة وقد مرّ بحثه في أوائل الكتاب.

(٦) نقد المحصل : ١١٨.

(٧) أي قول الطوسي المحكي في جواب الإشكال الرابع. ولعلّ «في» زيادة من الناسخ.

١٤٤

وعن الخامس : أنّ عدم الممكن المتساوي الطرفين ليس نفيا محضا. وتساوي طرفي وجوده وعدمه لا يكون إلّا في العقل ، ومرجّح طرف الوجود يكون موجودا ، وأمّا في العدم ، فالمرجّح لا يكون إلّا عقليّا. وعدم العلّة ليس بنفي محض ، وهو يكفي في الترجيح العقلي. ولكونه ممتازا عن عدم المعلول في العقل ، يجوز أن يعلل هذا العدم بذلك العدم في العقل(١).

وفيه نظر ؛ فإنّه إن عنى بأنّ (٢) عدم الممكن ليس نفيا محضا أنّ له نوعا من الثبوت وحظا من الوجود ـ كما اختاره الرئيس ـ فهو ممنوع ، فإنّا لا نعقل من عدم السواد إلّا عدما مطلقا مضافا إلى السواد ، ولا نفرق بينه وبين العدم المطلق إلّا بالإضافة إلى الملكة ، وذلك لا يعطيه حظا من الوجود ، كعدم شريك الباري تعالى. وإن عنى به ، أنّه ليس عدما مطلقا غير مضاف إلى ملكة ، فهو حق ، لكنّ ذلك لا يقتضي خروجه عن النفي المحض.

والتحقيق : أنّ الأعدام قد تتمايز بحسب الإضافة إلى ملكاتها ، فعدم العلّة ممتاز عن عدم غيرها. وهذا الامتياز كاف في جواز إسناد البعض (٣) إلى البعض.

وعن السادس : أنّ الحاجة وصف اعتباري لا تحقق له في الخارج حكمه في الثبوت والانتفاء واحد. ولا يلزم من كونها عدميّة أن لا يكون الشيء في نفسه محتاجا ، كالعدم والامتناع ، فإنّهما ليسا بثبوتيّين ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون الشيء معدوما وممتنعا.

وبالجملة : فالضرورة قاضية باحتياج الممكن في اتّصافه بوجوده أو عدمه إلى سبب خارج عن ذاته ، فالمعارضات في مقابلها تشكيك في الضروريّات ، فلا يكون مسموعا ، كشبه السوفسطائية.

__________________

(١) نقد المحصل : ١١٨.

(٢) م : «بأنّ» ساقطة.

(٣) ق : «التعلّق». ج : «التعين» والصحيح ما في المتن من م.

١٤٥

البحث السابع :

في أنّه هل يعقل أن يكون أحد طرفي الممكن أولى به لذاته وإن لم ينته إلى حدّ التعيّن؟(١)

ذهب بعض الناس (٢) إلى أنّه يمكن أن يكون شيء يصحّ عليه الوجود والعدم ، يكون أحد طرفيه أولى به من الآخر لذاته.

والمحقّقون على خلاف ذلك ، لوجوه :

الأوّل : أنّ ذلك الرجحان إن عقل زواله عند وجود شيء آخر ، اعتبر في تحققه عدم ذلك الآخر ، فماهيّة الممكن إذا اعتبرت مع قطع النظر عن ذلك العدم لم تكن مقتضية لذلك الرجحان ، وإن امتنع زواله بشيء أصلا ، كان حاصلا أبدا ، ممتنع الزوال ، فيكون منتهيا إلى حدّ التعيين.

وفيه نظر ، لمنع الملازمة الأخيرة.

الثاني : الممكن مع ذلك الرجحان ، إمّا أن يمكن طريان الطرف المرجوح عليه أو لا ، فإن أمكن ، فإمّا أن يكون طريانه لسبب ، أو لا لسبب. فإن كان لسبب ، لم يكن الرجحان كافيا في بقاء الطرف الراجح ، بل لا بدّ معه من عدم سبب الطرف المرجوح. وإن كان لا لسبب ، فقد وقع الممكن المرجوح لا لعلّة ، وهو محال ؛ لأنّ المتساوي (٣) أقوى من المرجوح ، فلمّا امتنع الوقوع حال التساوي

__________________

(١) أي إلى حد الوجوب أو الامتناع ، راجع في هذا البحث المباحث المشرقية ١ : ٢٢٢ ؛ نقد المحصل : ١١٩ ؛ الأسفار ١ : ١٩٩ ـ ٢١٥ ، و ٢٢١ ـ ٢٣٠ ؛ شوارق الإلهام ، المسألة الثالثة والعشرون.

(٢) من المتكلّمين.

(٣) م : «التساوي» وهو خطأ.

١٤٦

فأن يمتنع حال المرجوحية كان أولى. وإن لم يمكن طريان المرجوح ، كان الراجح واجبا والمرجوح ممتنعا (١).

اعترضه أفضل المحققين : بأنّ هذا الدليل يقتضي نفي الأولويّة مطلقا. ولقائل أن يقول : طرف الأولى يكون أكثر وقوعا ، أو أشدّ عند الوقوع ، أو أقلّ شرطا للوقوع ، والمستدلّ ما أبطله.

وقد قيل في رجحان العدم في الموجودات (٢) الغير القارة ، كالصوت والحركة : إنّ العدم لو لم يكن أولى بها لجاز عليها البقاء.

وأجيب عنه : بأنّ كلامنا في الممكن لذاته ، لا في الممتنع لغيره ، وبقاء الغير القارة يمتنع لغيره (٣).

وفيه نظر ؛ لأنّ الدليل يقتضي نفي أولوية كافية في الإيجاد لا مطلقا.

وقوله (٤) في أصل الدليل : «إن كان طريان المرجوح لسبب ، لم يكن الرجحان كافيا في بقاء الراجح» ممنوع. فإنّا نقول : إنّه كاف ، ما لم يطرأ سبب المرجوح ، ويترجّح على الراجح.

الثالث : الماهية لو كانت أولى بالوجود ، لم يتخلف عنها الوجود إلّا لوجود ما ينافي ذلك الوجود. وإنّما تتحقق المنافاة من الجانبين. فهذه الأشياء المتعارضة إن كان بعضها أقوى من بعض ، فتلك القوة أمر لازم للماهية لنفسها لا لغيرها ، والضعف كذلك ، فيستحيل (٥) انقلاب القوي ضعيفا والضعيف قويا ، فحينئذ

__________________

(١) نقد المحصل : ١١٩.

(٢) م : «الوجودات».

(٣) نقد المحصل : ١١٩.

(٤) أي قول الرازي وفي ق وج : «وفي قوله» ، والصحيح ما في المتن من م.

(٥) ق وج : «يستحيل».

١٤٧

يبقى القوي موجودا ممتنع الزوال ، لأنّه لو عدم لكان عدمه لأجل وجود معارضه ، ومعارضه أضعف منه ، فلا يوجد مع وجوده ، إذ لو وجد مع وجوده لكان أقوى منه ، فإذن القوي يكون (١) دائم الوجود ممتنع الزوال. والضعيف يكون دائم العدم ممتنع الحصول. والأوّل هو الواجب ، والثاني هو الممتنع ، فيخرجان عن حدّ الإمكان. وإن لم يكن بعضها أقوى ، لم يكن اندفاع أحدهما بالآخر أولى من اندفاع الآخر به ، فلا يحصل الترجيح إلّا لأمر من خارج ، وحينئذ يحصل التساوي المطلوب (٢).

احتج الآخرون بوجوه :

الأوّل : الماهيات أمور متعيّنة ، كل واحد منها متميّز عن الآخر بخصوصية ، فإمّا أن يكون في الماهية اقتضاء الوجود والعدم ، أو ليس فيها اقتضاء شيء منهما ، وهذا الأخير يوجب صحة خلوها عنهما. والأوّل إمّا أن تكون الماهية تقتضيهما جميعا ، وهو محال ، أو تقتضي أحدهما لا بعينه ، وهو باطل ، لأنّ الماهية متعيّنة في نفسها ، فلا بدّ وأن تقتضي شيئا بعينه ، لامتناع أن يكون للمبهم حصول ، فإنّه لا يعقل في الوجود شيء هو في نفسه غير معيّن ، وإذا استحال حصول المبهم في الخارج ، استحال اقتضاء الماهيّة له ، أو يقتضي واحدا بعينه ، مع أنّه يصحّ عليها طريان الطرف الآخر ، وإلّا لم تكن ممكنة ، وهو المطلوب(٣).

الثاني : الموجودات السيّالة ، كالزمان والحركة والصوت ، العدم أولى بها ، وإلّا لصحّ بقاؤها ، والوجود يصحّ عليها وإلّا لم توجد البتة ، وإذا كان بعض الممكنات

__________________

(١) م : «يكون» ساقطة.

(٢) المباحث المشرقية ١ : ٢٢٣.

(٣) المصدر نفسه ١ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

١٤٨

يصحّ عليه الوجود والعدم ويكون العدم به أولى ، جاز ذلك في جانب الوجود (١).

الثالث : أنّ كثيرا من العلل يكون اقتضاؤها لمعلولاتها موقوفا على شرط ، أو زوال مانع ، فإذا أخذت تلك العلل مجرّدة عن وجود تلك الشرائط لها ، أو عن (٢) انتفاء الموانع ، كان اقتضاء تلك العلل لمعلولاتها أولى من عدم الاقتضاء ، وإلّا لم تتميّز العلّة عن غيرها ، فتلك العلّة صحّ عليها الإيجاب وعدمه ، مع أنّ الإيجاب أولى من عدمه (٣).

الرابع : المعلول إذا توقّف وجوده على وجود أشياء كثيرة ، كان وجوده مع وجود أكثرها أولى من عدمه ، ويحصل التفاوت في أولوية وجوده باعتبار كثرة الحاصل من علله وقلّته.

الخامس : قد تكون بعض العلل أكثريّ الاقتضاء لمعلولاته من غير دوام ، كاقتضاء الصور النوعيّة ، في (٤) العناصر أعراضها ، مع أنّها قد تنفك عنها (٥) قسرا ، كاقتضاء طبيعة الأرض النزول ، مع أنّها قد تتصاعد قسرا ، أو (٦) اقتضاء الماء البرودة مع تسخّنه (٧) قسرا. فهذه المعلولات أولى بالوجود ، وإلّا لم تكن أكثريّة (٨).

والجواب عن الأوّل : أنّه لا يلزم من عدم اقتضاء الماهية لشيء من الوجود

__________________

(١) المباحث المشرقية ١ : ٢٢٢.

(٢) م : «عن» حذف سهوا.

(٣) المباحث المشرقية ١ : ٢٢٢.

(٤) م : «في» متأخر عن «العناصر».

(٥) ق : «عنها» ساقطة.

(٦) م : «و».

(٧) م : «تسخينه».

(٨) المباحث المشرقية ١ : ٢٢٢.

١٤٩

والعدم ، صحّة خلوها عنهما ، فإنّ المعلول لا يقتضي وجود العلّة ولا عدمها ، ولا يصحّ خلوّه عنهما.

سلّمنا ، لكنّها تقتضي عدم الخلو عن الوجود والعدم ، وذلك أمر عدمي (١) ، ولا امتناع في اقتضاء الحقيقة أمرا عدميا ، كاقتضائها كثيرا من السلوب.

وعن الثاني : أنّا (٢) نمنع أولوية العدم في الحركة ، لأنّها إمّا الحصول الأوّل في الحيّز الثاني ، وذلك ممكن البقاء وليس العدم به أولى ، أو الاتصال الممتدّ من أوّل المسافة إلى آخرها أو التوسط ، وهما باقيان ، والأجزاء فيها بالقوة لا بالفعل ، وليس العدم أولى بالحركة من أوّل المسافة إلى منتهاها ، بل استمرارها ممكن ، كما أنّ انقطاعها ممكن.

وعن الثالث : نمنع الأولوية في اقتضاء العلل المجرّدة عن الشرائط ، بل إنّما تحصل الأولوية عند استجماع الشرائط ، وهناك تكون الأولوية وجوبا. وهو الجواب عن الرابع والخامس (٣).

البحث الثامن : في أنّ الممكن ما لم يجب لم يوجد (٤)

اعلم أنّ كلّ ممكن ، فإنّه محفوف بضرورتين ، إحداهما سابقة عليه ، والأخرى لاحقة به. أمّا السابقة ، فهي الوجوب المستفاد من وجود المؤثر ، أو الامتناع المستند إلى عدمه ، ويدلّ عليه أنّا نعلم بالضرورة أنّ الممكن لا ينفك عن أحد وصفي

__________________

(١) م : «أثر نقص» بدل «أمر عدمي».

(٢) ق : «إنّما» وهو خطأ.

(٣) المباحث المشرقية ١ : ٢٢٤.

(٤) أنظر في هذا البحث ، النجاة : ٢٢٦ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥ ؛ وشوارق الإلهام : المسألة ٢٤.

١٥٠

الوجود والعدم ، وقد بيّنا أنّهما بالنظر إلى ذاته متساويان لا يترجّح أحدهما على الآخر بالنظر إلى ذاته (١) ، والضرورة قاضية بأنّ الترجيح لا بدّ له من سبب ، وإذ ليس نفس الماهيّة، فهو خارج. ومعلوم أنّ الرجحان غير المانع من النقيض لا يكفي في حصول الراجح، لأنّ الممكن مع ذلك الرجحان ، إمّا أن يمكن طرو (٢) المرجوح عليه أو لا. فإن لم يمكن ، فذلك الرجحان ، مانع من النقيض ، وقد فرض أنّه غير مانع ، هذا خلف. ولأنّه المطلوب. وإن أمكن فليفرض واقعا في وقت ، فتخصّص أحد الوقتين بوجود الراجح والآخر بوجود المرجوح إمّا أن يكون لسبب (٣) أو لا. والثاني باطل ، لقضاء الضرورة بافتقار وقوع الممكن إلى سبب. والأوّل إمّا أن يكون الراجح معه واجبا أو (٤) المرجوح أولا ، فإن لم يكن عاد البحث ، وإن كان فالمطلوب.

وإذا تقرّر هذا فنقول : إذا فرض انضمام سبب أحد الطرفين إلى ماهيّة الممكن ، فإمّا(٥) أن يبقى الممكن على حالة قبل الانضمام من الاستواء ، وهو محال ، لاقتضائه خروج السبب عن كونه سببا ، إذ لا فرق بين وجوده وعدمه ، أو يخرج عن حدّ الاستواء إلى حيّز(٦) الرجحان ، فإمّا أن يكون لما يقتضيه السبب أو للآخر ، والثاني غير معقول ، وإلّا لكان (٧) سببا للمرجوح لا للراجح. والأوّل يقتضي كون ذلك الطرف راجحا ، وقد تقرّر أنّ الرجحان المطلق غير كاف ، بل لا بدّ من

__________________

(١) ق : ما بعد «متساويان» إلى «والضرورة» ساقط.

(٢) ق : «طرف».

(٣) ق : «بسبب».

(٤) ق : «و» وهو خطأ.

(٥) ق : «إمّا» وهو خطأ.

(٦) كلمة مطموسة نظن أنّ صوابها ما أثبتناه.

(٧) م وج : «كان».

١٥١

الوجوب ، فيلزم وجوب الطرف الراجح حتى يوجد ، وهو المطلوب.

ولأنّ الممكن لا ينفك عن الاتّصاف بما يقتضيه الراجح ، أو نقيضه. ولا يمكن هنا اتّصافه بنقيضه ، لخلوّه عن السبب ، وهو في حال التساوي يمتنع اتّصافه به ، ففي حال المرجوحية أولى بامتناع الاتّصاف به ، وإذا امتنع اتّصافه به ، وجب اتّصافه بالراجح ، وإلّا لزم خلوّه عن النقيضين ، وهو محال ، فقد ظهر أنّ كلّ ممكن ، فإنّه لا يوجد أو يعدم إلّا إذا سبقت الضرورة المستندة إلى المؤثر عليه.

وأمّا الضرورة اللاحقة ، فإنّ كلّ ما فرض موجودا ، فإنّه يستحيل عليه العدم في تلك الحالة التي فرض فيها موجودا ، وإلّا اجتمع النقيضان. وهذا الوجوب لحق بعد فرض الشيء موجودا ، وإذا فرض معدوما ، امتنع وجوده في تلك الحال ، لامتناع اجتماع النقيضين. وهذا الامتناع هو ضرورة العدم ، لحقت بعد فرضه معدوما. ولمّا كان الممكن لا ينفك عن الوجود أو عن العدم ، فهو لا ينفك في كل واحدة من حالتيه عن الوجوبين ، لوجوده أو عدمه ، وهو لا يقتضي شيئا منهما ، كما لا يقتضي أحد الطرفين لذاته ، فهذان الوجوبان خارجان عن ماهية الممكن لا داخلان في ماهيته.

لا يقال : الممكن متردّد بين الوجود والعدم ، لا بين الوجوب والامتناع ، فكيف جعل الوجوب سابقا على الوجود.

لأنّا نقول : للممكن وجوبان لاحق وسابق لو لاه (١) استحال وجوده ، لكن لمّا كان الوجود والعدم غايتي هذا الوجوب والامتناع ، صحّ أن يقال : الحقيقة متردّدة بين العدم والوجود ، لا بين الوجوب والامتناع. على أنّه في الحقيقة الترديد بين

__________________

(١) أي لو لا الوجوب السابق.

١٥٢

الوجود والعدم ، هو بعينه ترديد بين الوجوب والامتناع ، لأنّ الترديد في الحقيقة هكذا : الممكن إمّا أن يكون موجودا عن سبب الوجود ، أو معدوما عن سبب العدم.

لا يقال : وجوب الممكن وصف له ، فيستحيل سبقه عليه.

لأنّا نقول : الوجوب ليس ثبوتيّا (١) حتى يستدعي محلّا ثابتا ، بل هو أمر ذهني اعتباري ، يكفي حلوله في الذهن ونسبته إلى ماهية ذهنيّة.

البحث التاسع : في علّة احتياج الأثر إلى مؤثّره (٢)

اختلف الناس هنا ، فذهب الأوائل والمتأخّرون من المتكلّمين إلى أنّ علّة الحاجة إنّما هي الإمكان. وذهب قدماء المتكلّمين إلى أنّها الحدوث ، وقال آخرون : العلّة مجموع الأمرين ، إمّا بأن يكون الحدوث شطر العلّة وجزءا منها ، أو بأن يكون شرطا لها (٣).

والحقّ الأوّل (٤) ، لوجهين :

الأوّل : أنّ الضرورة قاضية ، بأنّ الشيء إذا كان يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون ، وكلاهما متساويان بالنسبة إليه ، فإنّه يستحيل أن يترجح أحد طرفيه على الآخر إلّا بسبب مغاير لذاته ، وإن لم يعقل سوى الإمكان. ولو جرّده العقل عنه

__________________

(١) ق : «وهو بثابت» بدل «ثبوتيا».

(٢) راجع في هذا البحث النجاة : ٢١٣ ـ ٢١٤ ؛ الفصل الأوّل من المقالة السادسة من إلهيات الشفاء ؛ نقد المحصل : ١٢٠ ـ ١٢١.

(٣) إنّ مذهب المنكرين لعلّية الإمكان مختلف. انظر الأسفار ١ : ٢٠٦.

(٤) وهو رأي الحكماء ، ولصدر المتألّهين رأي آخر. انظر الأسفار ٣ : ٢٥٣.

١٥٣

ووصفه بأيّ وصف كان ، من حدوث وغيره لم يحكم بالاحتياج. ولو جوّز العقل كون الحادث واجبا لذاته ، لم يحكم عليه بالحاجة وإن كان حادثا ، باعتبار زوال الإمكان عنه.

فعلم من هذا ، أنّ العلّة في احتياج الممكن إلى المؤثر ، إنّما هي إمكانه لا حدوثه.

الثاني : أنّه لو كان الحدوث علّة الحاجة ، لزم تأخّر الشيء عن نفسه بمراتب (١) ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله (٢).

بيان الشرطية : أنّ الحدوث هو كون الوجود بعد العدم ، فهو صفة للوجود ، والصفة متأخّرة بالطبع عن موصوفها ، فالحدوث متأخّر عن الوجود تأخّرا بالذات ، والوجود متأخّر عن الإيجاد الذي هو تأثير (٣) موجده فيه ، تأخّر المعلول عن علّته ، والإيجاد متأخّر عن احتياج (٤) الأثر إلى مؤثره تأخرا بالطبع ، فإنّه لو لا (٥) الحاجة امتنع تأثيره فيه ، والاحتياج متأخّر عن علّته تأخّر المعلول عن العلّة ، فلو كانت علّة الحاجة هي الحدوث ، لزم تقدّم الشيء وهو الحدوث على نفسه بهذه المراتب الأربعة ، وتقدّم الشيء على نفسه محال بالضرورة ، فامتنع كون الحدوث علّة الحاجة ، فلم يبق إلّا الإمكان ، فهو علّة الحاجة (٦).

__________________

(١) م : «بمراتب» ساقطة.

(٢) راجع كشف المراد : ٥٤ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٢٣٠.

(٣) ق : «تأثّر» وهو خطأ.

(٤) م : هنا سقط طويل بدايته «الأثر» ونهايته في البحث الأوّل من الفصل الأوّل من المقصد الثالث «من وحدة أو تعدّد».

(٥) ق وم : «لو» ساقطة ، وما أثبتناه من نسخة ج.

(٦) وقد أجاب الايجي على هذا الاشكال بغير ما ذكره العلّامة ، المواقف : ٧٣ ، وانظر الجواب عليه في الأسفار ١ : ٢٠٧ ، في دفع من يعارض الوجه بمثله على نفي علّية الإمكان.

١٥٤

لا يقال : هذا الدليل قائم بعينه في الإمكان. لأنّا نقول (١) : الإمكان صفة للممكن، فيتأخّر عنه بالذات ، والممكن متأخّر عن (تأثير المؤثّر فيه الذي هو الايجاد والايجاد متأخّر عن) (٢) الاحتياج المتأخّر عن علّته ، فلو كانت العلّة هي الإمكان ، لزم تقدّم الشيء ـ وهو الإمكان ـ على نفسه (٣) بمراتب ، فيلزم خروج الإمكان عن العلّية بعين ما خرج به الحدوث.

لأنّا نقول : لا نسلّم قيام الدليل في الإمكان ، لأنّ قوله : «الممكن متأخّر عن تأثير المؤثر فيه» غلط ، بل إنّما يتأخّر في وجوده أو عدمه عنه المتأخّرين عن ذاته ، وبسببهما احتاج الممكن إلى المؤثر ، ثم إلى علّة الاحتياج (٤).

احتجّوا بوجوه.

الأوّل : لو كان الإمكان علّة الحاجة إلى المؤثر ، لكان الممكن المعدوم محتاجا ، والتالي باطل ، لأنّ العدم نفي محض ، فلا يتحقّق فيه التأثير ، لأنّ العدم ليس بأثر فلا تأثير ، والشرطية ظاهرة.

الثاني : لو كان الإمكان علّة الحاجة لكان الممكن الباقي محتاجا ، والتالي باطل بما يأتي ، فالمقدّم مثله ، والشرطية ظاهرة.

الثالث : الضرورة قاضية ، بأنّ كلّ حادث ، فلا بدّ له من محدث.

والجواب عن الأوّل : ما تقدّم من «احتياج الممكن في عدمه إلى سبب هو عدم مؤثره» ، فبالحقيقة علّة الوجود هي علّة العدم ، لكن إن حضرت أثرت الوجود ، وإن عدمت أثرت العدم ، وكونه نفيا محضا ، لا ينافي تميّزه باعتبار نسبته

__________________

(١) تتمة لقوله : لا يقال ، وليس جوابا له.

(٢) ق : ما بين الهلالين ساقط.

(٣) في النسخ : «على نفسه وهو الامكان» ، والأفضل ما أثبتناه طبقا للسياق.

(٤) انظر المعارضة وجوابها في نقد المحصل : ١٢٠.

١٥٥

إلى ملكته ، ونمنع كون العدم ليس بأثر ، نعم إنّه ليس بأثر وجودي ، بل هو أثر عدمي.

وعن الثاني : بالمنع من بطلان التالي وسيأتي (١).

وعن الثالث : بأنّ الضرورة إنّما قضت بذلك ، لاتّصاف الحادث بالإمكان ، لأنّه لما حدث بعد أن لم يكن ، فقد اتّصفت ماهيته بالعدم السابق والوجود اللاحق ، فكانت ماهيته من حيث هي هي قابلة للأمرين ، فاتّصافها بأحدهما لا بدّ له من سبب ، لأنّ التساوي يمنع من الترجيح ، فلا بدّ من وجوب سابق مستند إلى المؤثر ، فلو جوّز العقل وجوبه لم تقض الضرورة بالحاجة فيه.

واعلم ، أنّ الوجه الثاني من الوجهين الدالّين على أنّ الحدوث لا يصلح للعلّية يدلّ بعينه على أنّه لا يجوز أن يكون جزءا منها ، ولا شرطا لها ، لأنّا أبطلنا كونه (٢) علّة ، لكونه متأخّرا والعلّة متقدمة ، وجزء العلّة وشرطها أقدم من العلّة بمرتبة ، (٣) فكانا أولى بالامتناع لزيادة مراتب التقدّم حينئذ.

واعلم ، أنّا لو جعلنا العلّة المحوجة إلى المؤثر هي الإمكان ، بشرط كون الممكن ممّا سيحدث ، على أن يكون هذا الوصف جزء العلّة ، أو شرطها ، أو جعلناه كلّ العلّة ، اندفع الدور وتقدّم الشيء على نفسه ، وكأنّ مقصود كلام المتقدّمين من المتكلّمين ذلك.

__________________

(١) في البحث العاشر الآتي.

(٢) ق : «كونها».

(٣) كلمة مطموسة في المخطوطات ، ولعلّ ما أثبتناه هو الصواب.

١٥٦

البحث العاشر :

في أنّ الممكن الموجود ، هل يحتاج في بقائه إلى السبب أم لا؟ (١)

اختلف الناس في ذلك ، فذهب الأوائل والمتأخّرون من المتكلّمين إلى أنّ الممكن حال بقائه محتاج إلى السبب ، ونفاه قدماء المتكلّمين (٢) والمعتمد الأوّل.

لنا : أنّ العلّة المحوجة إلى المؤثر هو الإمكان ، وهو لازم للماهيّة ، ثابت لها حالة البقاء ، كما ثبت حالة الحدوث ، فيلزم ثبوت الاحتياج في الحالتين ، لوجود العلّة فيهما.

وأيضا : لو استغنى الممكن في وجوده في الزمن الثاني عن المؤثر ، لكان واجبا ، إذ ليس معنى الواجب سوى المستغني في وجوده عن السبب ، فإن كان لذاته فهو محال ، لاستحالة تعدّد الواجب لذاته ، وتجدّد الوجوب الذاتي للشيء ، وإن كان لغيره ، فهو المطلوب.

احتجّوا بوجهين :

الأوّل : لو افتقر الممكن حال بقائه إلى السبب ، لكان ذلك السبب إمّا أن يكون له أثر ، أو لا. فإن لم يكن له أثر البتة ، كان الباقي في ذلك الوجود غنيا عن ذلك المؤثر. وإن كان له أثر ، فإمّا أن يكون هو الوجود (٣) الأوّل ، أو غيره. فإن كان

__________________

(١) راجع التحصيل : ٥٢٤ وما بعدها ؛ إلهيات الشفاء ، الفصل الأوّل والثاني من المقالة السادسة ؛ كشف المراد : ٨١.

(٢) وقد حكى عنهم أنّه «لو جاز على الباري العدم لما ضرّ عدمه وجود العالم» انظر شرح الإشارات ٣ : ٦٨ ؛ الأسفار ١ : ٢٢٠.

(٣) ق : «الموجود» وهو خطأ.

١٥٧

الأوّل ، كان ذلك تحصيلا للحاصل وإن كان الثاني ، كان الشيء موجودا مرتين ، وهو محال. ولأنّه يلزم أن يكون المحتاج إنّما هو الوجود (١) المتجدّد لا الباقي ، وهو المطلوب (٢).

الثاني : أنّا نشاهد البناء باقيا بعد الباني ، ولو كان محتاجا إليه عدم لعدمه ، والحجر المرمي تبقى حركته بعد مفارقة الرامي (٣).

والجواب عن الأوّل : أنّ قولكم : «السبب حال البقاء ، إمّا أن يكون له أثر أو لا» غلط ، فإنّ المؤثر في البقاء ، لا يكون له أثر البقاء حال البقاء ، وتحصيل الحاصل إنّما لزم منه ، بل المؤثر يفيد البقاء بعد الإحداث ، وتأثيره بعد الإحداث في أمر جديد هو البقاء ، فإنّه غير الإحداث ، فهو مؤثر في أمر جديد صار الباقي به باقيا ، لا في الذي كان باقيا ، ولو لا ذلك الجديد ، لم يكن الأثر باقيا.

وأيضا إن عنيتم بقولكم : «المؤثر هل له فيه تأثير أم لا؟» أنّ المؤثر هل له فيه تأثير جديد ، فليس الأمر كذلك ، وإن عنيتم به أنّ المؤثر له فيه تأثير ، بمعنى أنّ الأثر الذي وجد عنه استمر لأجل استمراره ، فالأمر كذلك.

واعترضه أفضل المحقّقين : بأنّ البقاء المستفاد من المؤثر أمر جديد ، لو لاه لم يكن الأثر باقيا (٤).

وفيه نظر ؛ فإنّ تحصيل الحاصل ، نشأ من أنّ المؤثر أثّر في الباقي البقاء حال

__________________

(١) ق : «يكون».

(٢) راجع نقد المحصل : ١٢١.

(٣) راجع شرح الإشارات ٣ : ٦٨ ، وفيه إشكال آخر هو : لو كان يفتقر إلى الباري تعالى من حيث هو موجود لكان كلّ موجود مفتقرا إلى موجد آخر ، والباري أيضا.

وأجاب قطب الدين الرازي عن الإشكالات في المحاكمات (ذيل شرح الاشارات) فراجع.

(٤) نقد المحصل : ١٢١.

١٥٨

فرض البقاء موجودا ، لكن المستدل لم يطلب ذلك ، بل قصد أنّ أثر السبب في الباقي في زمان البقاء ، إن كان هو الذي أوجده حال الحدوث ، لزم تحصيل الحاصل ، وإن كان مغايرا له ، كان التأثير في أمر جديد. وأيضا هذا الجواب يقتضي كون البقاء موجودا ، ويلزم منه التسلسل.

وعن الثاني : أنّ البناء ، ليس المحتاج فيه إلى الباني استقرار أجزائه في مواضعها ، بل حركة الباني علّة لحركة تلك الأجزاء من موضع إلى آخر ، واستقرارها في مواضعها مستند إلى خلق أكوان فيها من الله تعالى ، كما ينقل الجسم من حيّز إلى آخر. والرامي يفيد المرمي قوة تستمر باستمرار الحركة.

خاتمة : الامتناع وصف عدميّ ، وإلّا لكان الموصوف به ثابتا ، وهو باطل بالضرورة. وهو قد يكون ذاتيا ، كامتناع شريك الباري لذاته ، لا بمعنى أنّ له ذاتا تقتضي امتناع وجوده ، بل أنّ تصوّره مقتض لامتناع وجوده. وقد يكون عرضيّا ، كوجود المعلول مع عدم علّته ، فإنّه يكون ممتنعا لا لذاته ، بل باعتبار عدم علّته ، والامتناع الذاتي (١) في مقابله الوجوب الذاتي ، والعرضي في مقابله العرضي.

__________________

(١) أضاف في ق : «في مقابله الوجود الذاتي» ، وهو من اقحام الناسخ.

١٥٩
١٦٠