نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

بالطبع قبل سائر [أنحاء] (١) التقدّم.

وفيه نظر (٢) ، فإنّ المتقدّم في الزمان إذا بطل ، ووجد المتأخّر بعد بطلانه ، فقد حصل للمتأخّر زمان لم يحصل للمتقدّم ، كما حصل للمتقدّم زمان لم يحصل للمتأخّر. نعم يجب تقييد قولهم : «ولا شيء للمتأخّر ، إلّا وهو موجود للمتقدّم» بقولنا : بما فيه التقدّم.

قيل : المتقدّم (٣) بالزمان ليس شيء منه أولى منه بالمتأخّر ممّا يقع باعتباره التقدّم فإنّ نسبتهما إلى الوجود الزماني واحد.

وفيه نظر ، فإنّ المتقدّم بالزمان وإن لم يكن فيه تفاوت ، لكن لا يخرج مطلق التقدّم باعتباره عن التفاوت ، ونحن لا نشترط التفاوت في كلّ جزئيات المقول بالتشكيك ، فإنّ البياض يوجد متفاوتا بين مراتب ، كل مرتبة تشتمل على أشخاص متساوية ، ولا يخرج البياض بهذا التساوي عن التفاوت وكونه مقولا بالتشكيك على أفراده.

وقالت طائفة أخرى : إنّه واقع عليها بالاشتراك اللفظي بين الجميع وهو خطأ ، فإنّ التقدّم بالذات والعلّية قد اشتركا في معنى التقدّم ، فإنّ لكلّ واحد منهما تقدّم ذات شيء على ذات آخر. [فإنّ العلّة] (٤) سواء كانت تامّة أو غير تامّة ، يجب أن تتقدم ذاتها و (٥) وجودها على المعلول.

__________________

(١) أضفناها طبقا للسياق.

(٢) أي في تفسير المعنى المشترك.

(٣) في النسخ : «التقدّم» ، أصلحناها لاقتضاء السياق.

(٤) وفي النسخ كذا : «على ذات آخر بالعلّية وسواء الخ» وهو خطأ ظاهر والصواب ما أثبتناه وفقا للسياق.

(٥) م : «أو» وهو خطأ.

٢٦١

وذهبت طائفة أخرى (١) : إلى أنّ التقدّم يقال على البعض بمعنى واحد ، وعلى الباقي بالاشتراك أو التجوّز. أمّا الذي يقع عليه بمعنى واحد ففي التقدّم بالذات. وأمّا الذي يقع عليه بالمجاز فكالتقدّم الزماني ، فإنّ الشيئين إنّما يتقدّم أحدهما على الآخر بالزمان لأجل تقدّم زمان أحدهما على الآخر لا بحسب ذاتيهما ـ وذهب قوم (٢) : إلى أنّ التقدّم بين أجزاء الزمان بعضها على البعض تقدّم (٣) طبيعي ، إذ المتقدّم علّة للمتأخّر فيرجع تقدّم الشيئين بالزمان إلى التقدّم بالطبع ـ ويقال «التقدّم» لهما (٤) بالمجاز. وكذلك التقدّم بالرتبة، فإنّ بغداد متقدّمة على البصرة لا باعتبار ذاتيهما ولا حيّزيهما ومكانيهما ، بل باعتبار القاصد من خراسان إلى البصرة فإنّه يقصد بغداد أوّلا ، ومعنى قصده أوّلا ، أنّ زمان وصوله إليها قبل زمان وصوله إلى تلك ، فيرجع هذا التقدّم إلى التقدّم الزماني (٥). وأمّا التقدّم بالشرف ، فإنّه لا يخلو عن تجوّز أو اشتراك ، فإنّ معنى تقدّم صاحب الفضيلة وجوب تقدّمه في المناصب ، فالفضيلة سبب لتقدّمه في المجالس ، وأطلق عليها لفظ التقدّم (٦) إطلاق اسم المسبّب على السبب ، فيكون مجازا من هذه الجهة ، ويرجع إلى التقدّم المكاني الذي يرجع إلى الزماني. وإن لم يعتبر (٧) هذا المعنى في التقدّم الشرفي كان إطلاقه عليه وعلى الذات بالاشتراك (٨).

__________________

(١) منهم صاحب الإشراق في المطارحات ، الأسفار ٣ : ٢٦١.

(٢) ومنهم صاحب الإشراق في المطارحات.

(٣) ق : «بعدم».

(٤) ق : «بهما» ، وفي الأسفار نقلا عن المطارحات : «وأمّا بين الشخصين فمجازي».

(٥) لأنّه متعلق بالزمان وللزمان دخل فيه.

(٦) م : «المتقدم».

(٧) م : «يغير».

(٨) قال صدر المتألهين «أقول : فيما ذكره موضع أنظار» ، الأسفار ٣ : ٢٦٣ ـ ٢٦٦.

٢٦٢

واعلم أنّا إذا جعلنا التقدّم واقعا على أصنافه بمعنى واحد ، فلا شكّ في أنّه ليس بجنس لها ، لتفاوتها فيه ، بل هو أمر لازم لها (١) وإضافته مجهولة ، يعرف بها اللازم الذي هو التقدّم (٢). والتقدّم إنّما يكون بالوجود أو بمعنى ثالث كالزمان والمكان ، فأمّا المعنى فلا يتقدّم في (٣) نفسه على آخر ولا يتأخّر.

تنبيه : قد عرفت أقسام التقدّم وبه تعرف أقسام التأخّر.

وأمّا المعيّة :

فيقال : معا بالزمان ، ومعا بالطبع إذا كانا متكافئي الوجود كالأخ والأخ ، أو لا مع تكافؤ الوجود كجزئي العلم والمعيّة في الرتبة كنوعي الجنس المتأخرين معا عن طبيعته (٤) والمعيّة في الشرف ظاهر (٥). وليس كل شيئين ليس بينهما تقدم وتأخّر زماني تثبت المعيّة الزمانية بينهما ، فإنّ واجب الوجود لا يتقدّم على الحادث بالزمان ، ولا يتأخّر عنه ، ولا يصاحبه بالزمان. ويصحّ أن يكون شيئان معا في الزمان من جميع الوجوه ، دون المكان (٦). وفي المعيّة بالعلّية إشكال (٧).

__________________

(١) كشف المراد : ٥٩.

(٢) ج : «المتقدم».

(٣) م : «على».

(٤) أي المتأخرين بالطبع عن الجنس ، والمثال في الرتبة العقليّة ، وأمّا مثال المعيّة في الرتبة الحسّية كمعية المأمومين الواقفين خلف الإمام.

(٥) كفاضلين متساويين.

(٦) أي لا يصحّ أن يكونا معا في المكان من جميع الوجوه.

(٧) انظر إلى ما قال الشيخ في إلهيات الشفاء. الفصل الأوّل من المقالة الرابعة.

ثم انظر ما أفاده صدر المتألهين في الأسفار ٣ : ٢٧٠ ـ ٢٧١.

٢٦٣
٢٦٤

النوع الثاني

في التقسيم على رأي الأوائل

قال الأوائل (١) : كلّ موجود ، فإمّا أن يكون واجب الوجود لذاته ، وهو الله تعالى لا غير ، أو يكون ممكنا لذاته ، وهو ما عداه. أمّا الواجب فسيأتي البحث عنه إن شاء الله تعالى. وأمّا الممكن فإمّا أن يكون موجودا في موضوع أو لا. ونعني بالموضوع (٢) : المحلّ المستغني عن الحالّ فيه المقوّم له في الوجود ، فهو أخص من مطلق المحلّ الذي حذف (٣) فيه قيد الاستغناء والتقويم ، فعدمه يكون أعمّ من عدم [المحل] (٤) فكلّ موجود في الموضوع فهو موجود في المحلّ ، وليس كل موجود في المحلّ يكون موجودا في الموضوع ، فالموجود في الموضوع إذن أخصّ من الموجود في المحل ، فلهذا جاز في بعض الجواهر أن تكون موجودة في المحل ، ولا تكون موجودة في الموضوع ، وبعضها لا توجد في محلّ ولا موضوع. وكلّ عرض فإنّه موجود في موضوع. فههنا فصول :

__________________

(١) لاحظ الفصل الأوّل من المقالة الثانية من إلهيات الشفاء ؛ أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ٥٢.

(٢) انظر تعريف الموضوع والفرق بينه وبين المحلّ في الفصل الأوّل من المقالة الثانية من إلهيات الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٢٣٥.

(٣) م : «صدق» ، ق : «حدث» ، والصحيح ما أثبتناه من ج.

(٤) في النسخ : «الموضوع» وما بين المعقوفتين أثبتناه إصلاحا للمعنى ، كما في جوهر النضيد : ٢٤.

٢٦٥

الفصل الأوّل :

في الجوهر

وفيه مباحث :

البحث الأوّل : في رسمه

رسم الأوائل (١) الجوهر بأنّه الموجود لا في موضوع ، ومعناه : أنّه (٢) الماهيّة التي إذا وجدت كانت لا في موضوع ، ولا يراد به الموجود بالفعل ، وإلّا لكان الشك في وجود زيد يستلزم الشك في جوهريته ، وهو محال ؛ لأنّه لذاته جوهر ،

__________________

(١) منهم المعلم الأوّل في منطق أرسطو ١ : ٣٦ ، والشيخ في الفصل الأوّل من المقالة الثانية من إلهيات الشفاء ، وقال في رسالة الحدود : «ويقال جوهر لكل ذات وجوده ليس في موضوع. وعليه اصطلح الفلاسفة القدماء مذ عهد أرسطو طاليس في استعمالهم لفظة الجوهر». راجع أيضا الفصل الثالث من المقالة الثالثة من مقولات منطق الشفاء. ولكن نسب شيخ الإشراق إلى القدماء تعريف الجوهر بالموجود لا في محل ، المطارحات ٢٢٠. والمتكلّمون عرّفوا الجوهر بأنّه المتحيّز الذي لا ينقسم بوجه ، والعرض عندهم عبارة عن الحال في المتحيّز. أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ١٧. راجع أيضا مقالات الإسلاميين للأشعري : ٣٠٦ ؛ التعريفات للجرجاني : ١٠٨.

(٢) في المخطوطة : «أنّ».

٢٦٦

سواء كان موجودا في الأعيان أو معدوما ، (١) وحينئذ يجب أن يكون وجوده زائدا على ماهيته ومغايرا لها ، فيخرج عن هذا الرسم واجب الوجود تعالى ، لأنّه وإن كان موجودا لا في موضوع ، لكنّه ليس بجوهر ، لأنّ وجوده نفس حقيقته وليس زائدا عليها ، فلا يصدق عليه أنّه الماهيّة التي إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع.

ومن يجعل وجود واجب الوجود تعالى زائدا على ماهيّته يجعله داخلا تحت هذا الرسم، ولا يطلق عليه لفظة الجوهر ، لأنّ أسماءه تعالى توقيفية ، ويمنع من كون الجوهر جنسا له تعالى ، لاستحالة دخوله تحت الجوهر ، وإلّا لكان له فصل فكان مركّبا ، وقد بيّنا أنّه يمتنع عليه التركيب (٢).

وهذا الجوهر هو أحد المقولات العشر ، وهي أجناس عالية كلّ واحد منها لا جنس له ، بل تحته أجناس.

البحث الثاني : في أنّ الجوهر هل هو جنس أم لا؟

اختلف الأوائل (٣) هنا ، فذهب الأكثر منهم إلى أنّ الجوهر جنس عال لكل ما يندرج تحته اندراج النوع. ومنع آخرون (٤) منه.

احتجّ الأوّلون : بأنّ خواص الجنس موجودة فيه ؛ لامتناع بقاء كل ما يقال عليه الجوهر مع رفعه عنه ومقوليته على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو

__________________

(١) ومثل له الرازي بالسكين بأنّه الذي يقطع إذا وجد المنفعل ، فذلك يصدق عليه ، سواء كان قاطعا بالفعل أم لم يكن. المباحث المشرقية ١ : ٢٤٢.

(٢) راجع إلهيات النجاة : ٢٥١.

(٣) م : «الناس» ، وما أثبتناه من ج مطابق لعبارات المصنف في الجوهر النضيد : ٢٣.

(٤) المتأخّرون.

٢٦٧

بالسوية. وهو ضعيف ، لعدم دليل يدل على مقوليته بالسويّة على أفراده وكونه ذاتيا وكمال الذاتي المشترك. واستلزام رفعه رفع ما جعل نوعا لا يدلّ على الذاتية ، لأنّ بعض العوارض كذلك (١).

احتجّ الآخرون بوجوه (٢).

الأوّل : جعلتم الجوهر هو الموجود لا في موضوع ، والموجود من العوارض لكل ما يصدق عليه لا من المقوّمات. وتقييده بأنّه لا في موضوع ليس بفصل ، لأنّه أمر عدمي ، فلا يكون جزءا لغيره.

الثاني : لو كان الجوهر جنسا لما تحته لزم التسلسل ، ودخول الجنس في طبيعة الفصل ، والتاليان باطلان ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّه لو كان جنسا لوجب أن يكون له فصل يقوّمه ، ومقوّم الجوهر جوهر ، فيكون الفصل جوهرا فيدخل الجنس في طبيعة الفصل وهو محال ، وافتقر الفصل في امتيازه عن غيره من الجواهر إلى فصل آخر فيتسلسل.

الثالث : الجوهر إذا قيل على ماهيّة ما ، فإن كانت تلك الماهية بسيطة لم يكن الجوهر جنسا ، لأنّ كلّ ما اندرج تحت الجنس فإنّه مركّب ، ولا شيء من البسيط بمركب. وإن كانت مركبة فبسائطها (٣) إن كانت جواهر ، لم يكن الجوهر جنسا لها ، وإلّا كانت مركبة لا بسيطة ، وإن لم تكن جواهر كانت أعراضا ، فكان الجوهر متقوّما بالأعراض ، هذا خلف.

الرابع : إذا قلنا للجسم : إنّه جوهر. فهناك أمور أربعة :

__________________

(١) انظر الحجة في الجوهر النضيد : ٢٣.

(٢) انظر ما في المباحث المشرقية ١ : ٢٤٣ ؛ الجوهر النضيد : ٢٣ ؛ انظر تجريد الاعتقاد ، الفصل الأوّل من المقصد الثاني.

(٣) ق : «فتشارطها» وهو من تصحيف الناسخ.

٢٦٨

الأمر الأوّل : الماهيّة التي صدق عليها الاستغناء عن الموضوع.

والأمر الثاني : الاستغناء عن الموضوع.

والأمر الثالث : مجموع الماهيّة مع هذا العارض.

والأمر الرابع : كون الماهيّة علّة لهذا الاستغناء بشرط الوجود (١).

والأوّل ليس بجنس ، لاحتمال أن تكون المشتركات في هذه (٢) العلّية أمورا مختلفة في الماهية ، فإنّ الماهيات المختلفة يلزمها لازم واحد ، وتشترك في أوصاف كثيرة ، ثبوتية وعدميّة ، مع اختلافها بالحقيقة ، فجاز اختلاف الماهيات التي يصدق عليها وصف الاستغناء.

ولا الثاني ، لكونه سلبيا فلا يجوز أن يكون جزءا من الماهيات المحصّلة الوجودية في الأعيان.

ولا الثالث ، لأنّ هذا العارض سلبي فلا يكون جزءا من الجنس الذي هو جزء الوجودي.

ولا الرابع ، لأنّ كون الماهية علّة لذلك الاستغناء بشرط الوجود حكم من أحكام الماهية يلحقها بعد تمام حقيقتها ، فإنّ الشيء ما لم تتحقق ماهيته استحال أن تصير ماهيته علّة لشيء. ولأنّ كون الماهيّة علّة لهذا الوصف ، يستحيل أن يكون أمرا ثبوتيا زائدا عليها ، وإلّا لزم التسلسل. ومع جوازه فالمقصود حاصل ، لأنّ الماهيّة بما هي ، إن لم تقتض شيئا كان ذلك إخراجا للماهية عن العلّية. وإن اقتضت فلا متوسط (٣) ، وإلّا لكان المقتضي المتوسط لا الماهية. فإذن كون الماهية علّة للاستغناء يمتنع أن يكون وصفا ثبوتيا فضلا عن أن يكون معنى جنسيا.

__________________

(١) وقد ذكر الرازي الثلاثة الأخيرة دون الأوّل.

(٢) م : «هذه» ساقطة.

(٣) ق : «ولا يتوسط» ، والصواب ما أثبتناه من م وج ، والمعنى : أنّه لم يكن متوسط بين الماهية وبين ذلك المقتضي.

٢٦٩

الخامس : لو كان الجوهر جنسا لكانت النفوس والعقول مركّبات ، فيكون العقل الصادر عن المبدأ الأوّل ابتداء مركّبا ، والمبدأ واحد ، (١) فلا يصدر عنه أكثر من واحد.

السادس : الجنس مقول على ما تحته بالتواطؤ ، والجوهر ليس كذلك فلا يكون الجوهر جنسا. والمقدمة الأولى مسلّمة. وبيان الثانية : أنّ الجواهر المفارقة أولى بالجوهرية والاستغناء عن الموضوع من الأجسام ، وهي أولى بالجوهرية من الهيولى (٢).

السابع : النفس الإنسانية جوهر مجرّد مفارق للمادة على ما يأتي ، وهي عالمة بنفسها ، وعلمها بنفسها لا يمكن أن يكون مكتسبا ، والحكماء اتفقوا عليه ، بل جعلوا (٣) علمها بذاتها نفس ذاتها ، فكان يجب أن يكون العلم بجوهريتها حاصلا لها دائما أوّليا ، ومعلوم أنّ الأمر بخلاف ذلك.

لا يقال : علم الإنسان بوجود ذاته غير مكتسب ، فجاز أن يكون علمه بماهية نفسه مكتسبا ، والجوهرية إنّما تقوّم ماهية النفس لا وجودها ، وإذا كان علمها بماهيتها مكتسبا جاز أن يكون العلم بجوهريتها مكتسبا.

لأنّا نقول : هذا لا يتأتى (٤) على رأي الحكماء ، لأنّهم اتفقوا على أنّ علم الإنسان بنفسه هو نفس نفسه ، إذ لو كان زائدا على نفسه لوجب أن تحلّ في نفسه صورة مساوية لنفسه فيجتمع المثلان. وإذا كان كذلك وجب أن يكون علمه بذاته هو نفس حضور ذاته لذاته ، فعلم الإنسان بحقيقته يجب أن يكون حاضرا أبدا ، ويرد الإشكال (٥).

__________________

(١) أي الباري جلّ شأنه.

(٢) فالجوهر مقول بالتشكيك والذاتي لا يكون كذلك.

(٣) وعبّر الرازي ب «زعموا».

(٤) ق : «لا ينافي».

(٥) أي وإذا كان كذلك يرد الإشكال.

٢٧٠

واعترض على الأوّل : بأنّ الوجود لا في موضوع لازم من لوازم الجنس ، ولازم الجنس ليس جنسا ، فلا يلزم من إبطال كونه جنسا إبطال كون الجوهر ـ الذي هو ملزومه ـ جنسا.

وفي الثاني نظر ؛ لأنّا نمنع الملازمة بين المقدم والتاليين ، وإنّما يثبت لو كان قول الجوهر على الفصول قول الأجناس ، أمّا إذا كان قول اللوازم فلا (١). ولا امتناع في كون الجنس جنسا لشيء ولازما لغيره ، بل من الواجب ذلك. وكون فصل الجوهر ومقوّمه يجب أن يكون جوهرا ، لا يقتضي كون الجوهر داخلا في ماهيّته ، بل أعمّ من ذلك وهو مطلق الصدق عليه.

وفي الثالث نظر ؛ لأنّ كون البسيط ـ الذي يقال عليه الجوهر ـ بسيطا ، لا يخرج الجوهر عن جنسيته (٢) للمركبات وصدقه على البسائط. وكون البسيط غير داخل تحت مقولة الجوهر ، لا يوجب كونه عرضا ولا تقوّم المركب الذي هو الجوهر من الأعراض.

وفي الرابع نظر ؛ فإنّ القدر الذي يعلم به اتّصاف الماهيات آت هنا ، فإن تمّ ، وإلّا بطل في الجميع.

وفي الخامس نظر ؛ فإنّ هذه الأمور لو ثبتت لاستندت إلى القادر المختار عندنا.

سلّمنا ، لكن الجنس كالمادة ، وفصولها كالصورة ، ولها تقدم فجاز صدورها أوّلا.

وفي السادس نظر ؛ للمنع من الأولويّة في الجواهر المجردة.

__________________

(١) كما أنّ الحيوان ليس جنسا للناطق ، بل هو عرض عام له وجنس للإنسان.

(٢) م وق : «حقيقته» ، والصحيح ما أثبتناه من ج.

٢٧١

وفي السابع نظر ؛ بمنع دوام تعقل الجزء ، فإنّ الإنسان قد يغفل أحيانا عن ذاتياته ولوازمه.

سلّمنا ، لكن إنّما يلزم من العلم بالمركب ، العلم بذاتياته لو عرفنا المركب معرفة تفصيليّة ، أمّا لو علمناها بوجه صادق عليها فلا ، والنفس إنّما تعلم باعتبار عارض عرض لها ، وهو كونها مدبرة للبدن ، فلهذا جهلنا جوهريتها.

البحث الثالث : في أنّ كليات الجواهر جواهر

قد عرفت أنّ الكلي : هو الذي لا يمنع نفس تصوّر معناه من وقوع الشركة فيه ، وهذا المعنى متحقق في الجوهر بأقسامه الخمسة. وقد عرفت أنّ الكلّية لا تخرج الماهيّة الصادقة عليها عن حقيقتها ، وإلّا لكانت الماهيّة مقتضية للجزئية ، وقد عرفت بطلانه. ولأنّه لو اقتضت الجزئية ، فإمّا جزئية معيّنة فلا تصدق الحقيقة على غير ذلك الجزئي ، فكلّ ماهيّة منحصرة النوع في شخص واحد ، وهو محال ، أو غير معيّنة وهو أيضا كلّي ، فقد قارنت الماهية الكلّية ، فلا منافاة بينهما ، فكما أنّ الجزئيات من الجوهر جواهر كذا الكليات.

وأيضا الجوهر هو الماهية التي إذا وجدت في الخارج كانت لا في موضوع ، ليس أنّه الموجود في الخارج لا في موضوع ، والصور الكلّية الذهنية المطلقة المطابقة للجواهر لها ماهيات ، وتلك الماهيات يصدق عليها أنّها لو كانت في الأعيان كانت لا في موضوع ، فكليات الجواهر جواهر لصدق حدّ الجوهر عليها ، وإن لم تكن الآن موجودة في الخارج ، إذ ليس هذا القيد معتبرا في حقيقة الجوهر.

وأيضا كليات الجواهر تحمل على الجزئيات (١) منها ، حمل المواطاة ، أعني

__________________

(١) ق : «الجهات» وهو خطأ.

٢٧٢

حمل هو هو ، ولا شيء من الأعراض يحمل على الجوهر حمل هو هو ، فكليات الجواهر ليست بأعراض ، فهي جواهر. وأيضا لو كانت جزئيات الماهية إنّما تصير جوهرا عند وجودها في الأعيان ، ووجودها في الأعيان أمر عرضي ، لزم أن يكون عروض العارض للماهية سببا لثبوت وصف ذاتي له ، وهو محال ، ولكان زوال ذلك العارض سببا لزوال الأمر الذاتي ، وهو محال. فإذن الجواهر الكلّية جواهر.

وأيضا جوهرية الشخص إن كانت لأنّه (١) ذلك الشخص ، وجب أن يكون ما عداه غير جوهر ، وإن لم تكن لشخصيته ، بل لماهيته ، وجب أن تكون تلك الماهية جوهرا كيفما كان.

قيل عليه (٢) : لا يلزم من كون شخصية معيّنة علّة لجوهرية ذلك الشخص انتفاء جوهرية ما عداه ، لإمكان اسناد المعلول الواحد بالنوع إلى علل كثيرة.

والتحقيق أن نقول : إن عني بقولنا : كليات الجواهر جواهر ، الجوهر المقيد بقيد الكلّية ـ وهو الكلّي العقلي ـ فلا شك في أنّه ليس بجوهر. أمّا أوّلا ؛ لأنّه عرض قائم بالنفس فيستحيل صدق الجوهر عليه ، وكون مطابقه بوجه ما جوهرا لا يستلزم جوهريته. وأمّا ثانيا ؛ فلأنّ الكلّية أخذت قيدا فيها ـ وهي من الاعتبارات العقلية المأخوذة بالقياس إلى الغير ـ فلا يجوز أن يكون جزءا من المستقل بذاته الغني عن ملاحظة الغير في تصور ماهيته.

وإن عني به : الكلّي الطبيعي ـ وهو نفس حقيقة الجوهر ـ ، فإنّها جوهر ، ضرورة امتناع كون الشيء ليس نفس ذلك الشيء.

__________________

(١) م : «لازمه».

(٢) والمستشكل هو الرازي فانظر الإشكال وبعض الوجوه في المباحث المشرقية ١ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

٢٧٣

البحث الرابع : في أنّ الجزئيات أولى بالجوهرية من الكليات

لمّا وجد الأوائل الخواص والكمالات التي للجوهرية في الجزئيات أكثر منها في الكليات، حكموا بأنّ الجوهرية للجزئيات أولى منها للكليات وإن لم تكن قبلها (١) ، فإنّه ليس الجوهر للجزئيات قبل الكليات ، كما أنّ الوجود للواجب قبل الممكن ، لكن لمّا كانت اللواحق والكمالات العارضة للجوهر لما هو هو في الجزئيات أكثر ، كان قوله عليها أولى. وبيانه من وجوه :

الوجه الأوّل : أنّ الاستغناء من جملة كمالات الجوهر وخواصه ، والكلي من الجواهر محتاج إلى الشخص ، فإنّ الكلي إنّما يوجد لو كان الشخص موجودا ، لأنّه إنّما يوجد في ضمنه ، فاحتاج في الوجود إليه. والشخص غني عن الكلي ، لأنّ الكلي هو المقول على كثيرين ، ولو احتاج الشخص إلى الكلي لاحتاج إلى الشخص الآخر بحيث يوجد معه ، ليكون الكلي مقولا عليهما (٢).

وفيه نظر ، فإنّ الكلي إن أريد به هنا العقلي لم يكن جوهرا. فلا يقال : إنّ الجوهرية للجزئي أولى منه ، وإن أريد به الكلي الطبيعي ، لم يتمّ لأنّه جزء الشخص ، وجزء الشخص مستغن عنه والشخص محتاج إليه ، فكانت الجوهرية للكلي أولى منه للشخص ، ولأنّ الكلي الطبيعي لا يحتاج في مقوليته على الشخص إلى شخص آخر ، بل ذلك في الكلي العقلي الذي يمتنع أن يكون شخصا واحدا.

الوجه الثاني : تقدمه بحسب استقرار (٣) الأمر المعتبر في الجوهرية ـ وهو الوجود لا في موضوع ـ ، فإنّ الجوهرية هو كون الماهيّة بحيث إذا وجدت كانت لا في موضوع ، وأشخاص الجوهر قد ثبت لها ذلك بالفعل ، وأمّا في كلياتها فإنّه منتظر

__________________

(١) انظر الفرق بين الأوّل والأولى في المباحث المشرقية ١ : ٢٤٨.

(٢) نفس المصدر : ٢٤٩.

(٣) في جميع النسخ : «استمرار» ، والظاهر أنّ الصواب ما أثبتناه طبقا للمعنى والمباحث المشرقية.

٢٧٤

لها ، لم يحصل لها بعد ذلك.

وفيه نظر ؛ فإنّهم قد صرّحوا بأنّ المراد بالموجود هنا ليس الموجود بالفعل ، بل الماهية التي لو وجدت كانت لا في موضوع ، وهذا المعنى ثابت بالفعل للكليات كما ثبت للأشخاص ، بل هو للكليات أسبق ، لأنّه قد ثبت : أن كلّ معنى ثبت لكلي من جزئي ، فإنّه ثابت أوّلا للكلي وبالذات ، وثانيا للجزئي وبالعرض.

الوجه الثالث : من حيث القصد إلى التكوين ، فإنّه متوجه بالذات إلى صيرورة النوع شخصا ، ليمكن أن يحصل في الأعيان.

وفيه نظر ؛ فإنّ القصد بالذات في التكوين إنّما يتوجه إلى الطبائع النوعية لا إلى الشخص المنقطع ، بل إلى الطبيعة النوعية المستمر وجودها في ضمن الجزئيات بتلاحقها (١) ، فالجزئيات مقصودة (٢) بالقصد الثاني.

الوجه الرابع : السبق إلى التسمية ، لأنّ أوّل شيء عرف أنّه لا في موضوع هو الأشخاص الجزئية.

وفيه نظر ؛ فإنّ الطبيعة النوعية أسبق من الشخص في الوجودين ، فهي أسبق بالتسمية.

واعلم أنّ الأنواع أولى بالجوهرية من الأجناس لقربها من الأشخاص وبعد الأجناس عنها ، ولأنّها أشدّ مشاركة للأشخاص من الأجناس ، فنسبة الجنس إلى النوع كنسبة النوع إلى الشخص ، فلهذا كانت الأجناس ، الجواهر الثالثة (٣). وأيضا الجواهر العقلية الجزئية أولى بالجوهرية من الأشخاص الجوهرية المحسوسة ، لأنّ تلك أسباب لهذه ، والسبب مستغن عن مسببه ، فكان معنى الاستغناء ـ الذي هو معتبر في الجوهرية ـ لها أتمّ. وقد قدّمنا المنع من ذلك.

__________________

(١) كذا في ق ، وفي م : «يتلاحقها» ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) م : «متصورة» ، وهو خطأ.

(٣) ق وج : «السالبة» ، م : «المثالية» واصلحناها طبقا للمعنى والمباحث المشرقية ١ : ٢٤٩.

٢٧٥

قالوا : الفصول المنطقية للجواهر جواهر ـ كالناطق ـ لأنّها محمولة على الأنواع حمل على (١). وأمّا الفصول البسيطة كالنطق ، فإنّها جواهر أيضا ، لأنّه جزء من الناطق المحمول حمل على ، وجزء الجوهر جوهر. واعترض بالبياض الذي هو جزء الأبيض المحمول على الجوهر حمل على.

البحث الخامس : في أنّ الجوهر مقصود إليه بالإشارة (٢)

الإشارة : دلالة حسّية أو عقلية إلى الشيء بحيث (٣) لا يشركه فيها غيره ، والإشارة الحسية تتوقف على تشخص المشار إليه ، وهي تتناول الجوهر بالذات (٤) ، والإشارة إلى الأعراض إنّما تكون بعد تميّزها ، وتميّزها على ما تقدم معلول المادة ، فإذن الإشارة إليها بعد الإشارة إلى تلك المادة (٥).

وفيه نظر ؛ فإنّ هذا بعينه وارد في الصورة والمادة ، لأنّ الصورة علّة فاعلية في تشخص المادة ، والمادة علّة قابليّة في تشخص الصورة ، بل وفي الجسم أيضا ، فإنّه إنّما يتشخص بالأعراض المادية كأين معيّن ووضع معيّن وكيف وكم معيّنين. والإشارة الحسيّة إلى الأمور الكليّة من الجواهر والأعراض غير ممكنة ، فإنّ الحسّ لا يدرك الكلي ، بل الجزئي فكيف يمكنه الإشارة إليه؟ وأمّا الإشارة العقلية فلا تتناول الشخصية من الجواهر والأعراض أيضا ، إلّا من جهة العلم بأسبابها ، والشيء إذا عرف بسببه كان كليا. (٦) وأيضا الكلي لا يمكن الإشارة إليه لإمكان

__________________

(١) وهو حمل هو هو الذي يسمّى بحمل المواطاة أيضا ، وهو حمل شيء بقول على ، مثل : الإنسان حيوان يعني الحيوان محمول على الإنسان. راجع جامع العلوم في اصطلاحات الفنون ٢ : ٥٧.

(٢) راجع منطق أرسطو ١ : ٤٠ ؛ الفصل الثالث من المقالة الثالثة من مقولات منطق الشفاء.

(٣) في الشفاء : «إلى شيء بعينه» ، وهو صحيح أيضا.

(٤) المباحث المشرقية ١ : ٢٥٠.

(٥) وهذا قسم من العلم الكلي الحصولي كعلم المنجم بأنّ الشمس منكسفة في ساعة كذا إلى ساعة كذا ، ويسمّى علم ما قبل الكثرة.

٢٧٦

وقوع الشركة فيه بين الجواهر والأعراض ، والإشارة تنافي ذلك ، بل تصور الجوهر الكلي ممكن من غير اعتبار حلول عرض ما فيه (١). وأمّا العرض فلا يمكن تصوره إلّا قائما بالجوهر، فإن عني بتناول الإشارة بالذات للجواهر هذا المعنى صحّ ، وإلّا فلا.

البحث السادس : في أنّ الجوهر هو القابل للأضداد على سبيل الاستقلال

اعلم أنّ الجوهر هو الذي يقبل الأضداد غير الإضافية ، لاستحالته في ذاته بالذات ، لا على سبيل التبعيّة. (٢) وذلك بخلاف الظن والقول ، فإنّهما يتغيران عن الصدق إلى الكذب وبالعكس لا لذاتيهما ، بل تبعا لتغير المظنون والمخبر عنه فإذا ظنّ أنّ زيدا في الدار، أو حكم بذلك وكان زيد فيها ، كان الظن والقول صادقين ، فإذا خرج زيد عنها واستمر الظن والحكم تغيرا عن الصدق وكانا كاذبين ، ومع ذلك فلا يتغير ذات الظن والقول ، وإنّما تتغير نسبتهما وإضافتهما. أمّا الجواهر فإنّها تقبل الأضداد كالسواد والبياض ، لاستحالتها في نفسها. وهذه الخاصيّة غير ثابتة في الجواهر العقلية ، لبعدها عن التغير عندهم ، وهو ممنوع. ولا في الجواهر الكليّة ، لأنّ الكلي يشتمل على كلّ شخص ، ولا يصدق أنّ كلّ شخص أسود أو أبيض.

لا يقال : العرض الكلي كاللون يقبل الضدين ، وهما السوادية والبياضية.

لأنّا نقول : اللون الذي هو حصّة (٣) السواد يمتنع أن يبقى عند زوال السوادية عنه ، لأنّ الفصل علّة للحصة ، فإذا عدم عدمت ، فلا يمكن أن يتصف

__________________

(١) م : «ينافيه» ، وهو خطأ.

(٢) م : «التعيين».

(٣) ق : «حصته» ، والصحيح ما أثبتناه من ج وم بأن يكون اللون جزءا من حقيقة السواد.

٢٧٧

بعد زوال فصل السواد عنه بفصل البياض. نعم قد يقال : اللون يقبل الضدين بنوع من المجاز، إمّا باعتبار انقسامه إليهما فيكون بعضه بياضا وبعضه سوادا ، أو باعتبار تجرّده في الوهم عن الفصلين ، فيكون من حيث هو لون مطلق قابلا لأيّ الفصلين كان ، وليس كلامنا في الأمور الوهمية ، بل في الأمور المحصّلة في الخارج ، هل يوجد شيء محصّل في الخارج يقبل الضدين؟

ولو كان اللون يقبل السوادية تارة والبياضية أخرى لما كان سوادا وبياضا ، بل كان مسودّا ومبيضّا ، وهذا باطل (١).

البحث السابع : في أنّ الجوهر لا ضد له (٢)

الضدان عند الأوائل : هما الذاتان الوجوديتان المتعاقبتان على موضوع واحد وبينهما غاية الخلاف. وحينئذ يكون الحكم بامتناع التضاد عليه ظاهرا ، لأنّ التضاد إنّما يتحقق فيما يوجد في الموضوع بحيث يتعاقب ضده عليه ، ولمّا كان الجوهر هو الموجود لا في موضوع ، امتنع وقوع التضاد فيه. وقد يعنى بالضدين المتعاقبان على محل واحد (٣) ، ولا يشترط الموضوع ، فيصح وقوع التضاد فيه حينئذ ، لأنّ الصور الجوهرية للعناصر تتعاقب على محلّ واحد هو المادة ، وبينهما غاية الخلاف ، لكنّ ذلك خارج عن مصطلح القوم. وبالجملة فالنزاع لفظي (٤).

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٢٥١.

(٢) راجع منطق أرسطو ١ : ٤٠ ـ ٤١.

(٣) هذا في تعريف القدماء للمتضادين حيث عرّفوهما بانّهما «أمران وجوديان لا يجتمعان في محل واحد في زمان واحد من جهة واحدة».

(٤) قال ابن سينا بعد ذكر هذا البحث : «وليس على المنطقي أن يحاول إبانة هذه بالتحقيق ، فلن يفي بها وسعه ، بل أكثر ما يحتمله هو أن يعرف ذلك بالاستقراء أو بحجج مأخوذة من المشهورات ...» الفصل الثالث من المقالة الثالثة من الفن الثاني من منطق الشفاء ١ : ١٠٦. راجع أيضا المباحث المشرقية ١ : ٢٥٠ ؛ تجريد الاعتقاد ، المقصد ٤ ، الفصل ١ ، المسألة ٣.

٢٧٨

الفصل الثاني :

في العرض

وفيه مباحث :

البحث الأوّل : في تعريفه

قد عرفت فيما تقدم أنّ العرض هو الموجود في موضوع عند الأوائل ، ورسموه أيضا بأنّه الموجود في شيء غير متقوّم به لا كجزء منه ، ولا يصحّ قوامه دون ما هو فيه (١). فهذه قيود أربعة :

الأوّل : قولنا في شيء ، ولفظة «في» يقال بالاشتراك أو التشابه على معان كثيرة ، فيقال للشيء : إنّه في الزمان ، أو في المكان ، أو في العرض ، أو في الغاية ، أو في الكل ، أو في الجزء. ومرادنا هاهنا أن يكون الشيء مختصا بشيء آخر ويكون ساريا فيه ، بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما هي الإشارة إلى الآخر تقديرا أو تحقيقا ، ويكون ناعتا له فيسمى الناعت حالا والمنعوت محلّا ، فيجب التغاير

__________________

(١) الفصل الأوّل من المقالة الثانية من إلهيات الشفاء.

٢٧٩

بينهما واحتياج أحدهما إلى صاحبه ، وإلّا لاستغنى كل منهما عن الآخر ، فلا يتحقق الحلول. فإن كان الحال سببا لوجود المحل سمي ذلك المحل هيولى (١) ، والحال فيه صورة ، وهما جوهران. وإن كان المحل سببا لوجود الحال ومقوّما له ، فالمحل يسمى موضوعا ، والحال فيه يسمى عرضا. وقد اشتركت الهيولى والموضوع في مطلق المحل ، والعرض والصورة في مطلق الحال (٢) ، فالجوهر إن كان محلا فهو الهيولى والمادة ، وإن كان حالّا فهو الصورة ، وإن كان مركبا منهما فهو الجسم ، وإن لم يكن حالّا ولا محلّا ولا مركبا منهما ، بل كان مجرّدا فإن تعلق بالبدن تعلّق التدبير سمي نفسا ، وإن لم يتعلق به البتة سمي عقلا ، فهذه الخمسة هي أقسام الجوهر (٣).

وقولنا في شيء ، لأنّ العرض الواحد يمتنع أن يوجد في أشياء ، بل لا يوجد إلّا في شيء واحد.

لا يقال : هذا ينتقض بالعدد ، فإنّه عرض موجود في أشياء كثيرة ، وكذا الكلّية والإضافة ، فإنّها إنّما توجد في المضافين.

لأنّا نقول : لا يشترط في وحدة موضوع العرض الوحدة المطلقة من كل وجه ، بل من الجهة التي هو بها موضوعه وإن كان فيه كثرة أخرى باعتبار آخر ، فموضوع العشرية ليس موضوعا لها من حيث هي أمور ، حتى تكون العشرية حاصلة لكل واحد من تلك الأمور ، بل حصل لتلك الأمور هيئة اجتماعية صارت باعتبارها مجموعا واحدا ، فصحّ بهذا الاعتبار أن يكون موضوعا للعشرية. لكنّ الإشكال في العشرية عائد في المجموعية والهيئة الاجتماعية والوحدة. وليس هنا إضافة واحدة توجد في المضافين على ما يأتي (٤).

__________________

(١) أو المادة كما يشير إليه.

(٢) المباحث المشرقية ١ : ٢٣٦.

(٣) انظر الأقسام في الفصل الأوّل من المقالة الثانية من إلهيات الشفاء ؛ جوهر النضيد : ٢٤ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٢٣٦.

(٤) في مبحث الإضافة من المقولات في المقالة الثالثة.

٢٨٠