نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

الرطوبة من الكيفيات النافعة في الفعل والانفعال ، مع أنّ مطلوبه في هذا الفصل إثبات ذلك.

وأيضا حكم بكون الثقل والخفة لازمين للكثافة واللطافة بهذا المعنى حتى أنّ كلّ أخف ألطف بمعنى رقة القوام وقبول التقطيع والتشكيل ، وهذا هو الرطب عنده ، فتكون النار أرطب الأجسام.

وأيضا حكم أوّلا «بأنّ الرقة تدل على التخلخل دلالة الملزوم على اللازم والتخلخل يدل على اللطيف دلالة التضمن» ، وهو يناقض قوله في المقولات : إنّ الرقة قد توجد بدون الزيادة في الحجم كالنار تصير هواء ، فإنّه يزداد رقّته ، وينقص مقداره.

فالحق أن يقال : المراد من سهولة قبول الأشكال الرقة واللطافة ، ومن الرطوبة سهولة الالتصاق بالغير وسهولة الانفصال. والكثافة هي صعوبة قبول الأشكال. ومعلوم أنّ اللطافة غير نافعة في الفعل والانفعال إلّا بالعرض من حيث لا تمنع من الاختلاط بالغير. والرطوبة بمعنى سهولة الالتصاق نافعة ، لأنّها تفيد الاجتماع عن التشتت.

المسألة الثانية : في اللزوجة والهشاشة والبلّة والجفاف (١)

قد عرفت أنّ اللزوجة (٢) هي «الكيفية التي بها يسهل الالتصاق والاتصال ، ويعسر الانفصال والتفريق ، بل يمتد بها الشيء متصلا» ، فهي كيفية مزاجية لا

__________________

(١) انظر التعاريف كلّها في طبيعيات الشفاء ، فصل الاسطقسات ؛ المباحث المشرقية ١ : ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

(٢) قال الآمدي : اللّزج «ما يسهل تشكّله بأيّ شكل كان ويعسر تفريقه لامتداده متصلا. وأمّا الهشّ فعلى مقابلته» ، المبين : ٩٣.

٥٠١

بسيطة ، بل مركبة من رطب ويابس شديدة الالتحام فإدعانه (١) من الرطب واستمساكه من اليابس ، فقد تحصل اللزوجة من مزج التراب بالماء وجمعها بالدق والتخمير حتى يشتد المزاج.

وأمّا الهشاشة : فهي «كيفية مزاجية أيضا ، يصعب بها التشكّل ويسهل التفريق» لغلبة اليابس وقلة الرطب وضعف المزاج.

والبلّة هي «الرطوبة الجارية على ظاهر الجسم الحاصلة من الغير» ، فإنّ الرطب هو الذي تقتضي صورته النوعية كيفية الرطوبة ، والمبتل ليس كذلك ، بل جاوره جسم كذلك. والانتقاع هي «الرطوبة الحاصلة من الغير ، النافذة في عمق المجاور». والجفاف «عدم البلّة فيما من شأنه أن يبتل».

المسألة الثالثة : في الصلابة واللين والخشونة والملاسة

قد يغلب على ظن جماعة أنّ الصلابة واللين من باب الكيفيات الملموسة (٢) ، وليس كذلك (٣). فإنّ اللين «كيفية تقتضي قبول الغمر (٤) إلى الباطن ، ويكون للشيء بها قوام غير سيال فينتقل عن وضعه ، ولا يمتد كثيرا ، ولا يتفرّق بسهولة. وإنّما يكون قبوله للغمر من الرطوبة وتماسكه من اليبوسة» (٥) فهنا أمور ثلاثة :

__________________

(١) الدعن : سعف يضم بعضه إلى بعض ويرمّل بالشريط. لسان العرب ٤ : ٣٥٩.

(٢) راجع منطق أرسطو : ٥٦.

(٣) قال صدر المتألّهين : «وإنّما يقع الاشتباه في مثل هذه الأمور ، لعدم الفرق بين ما بالذات وما بالعرض» الأسفار ٤ : ٨٤.

(٤) كذا في ق ، وفي ج : «الغمز» ، وفي بعض نسخ الشفاء بالراء وفي بعضها الآخر بالزاء ، كذلك في الموارد الآتية. وانظر البحث في الفصل الرابع والخامس من المقالة الخامسة من مقولات الشفاء.

(٥) راجع التحصيل للبهمنيار : ٦٧١ ـ ٦٧٢ ، وجعل اللّين والصلابة من الكيفيات المزاجية.

٥٠٢

الأمر الأوّل : الحركة الحاصلة في سطحه المقارنة لحدوث شكل التقعير.

الأمر الثاني : التشكّل بشكل التقعير.

الأمر الثالث : استعداد قبول الانغمار.

والأوّل من باب الحركة والثاني من الكيفيات المختصة بالكميات. وهما محسوسان بالبصر بخلاف اللين. فلم يبق إلّا الأخير ، وهو أنّ كون الشيء لينا عبارة عن كونه مستعدا لقبول ذلك الانغمار استعدادا تاما. وكذا الصلب قيل : هو الذي لا ينغمر ، وهناك أيضا أمور ثلاثة :

الأمر الأوّل : عدم الانغمار.

الأمر الثاني : بقاء الشكل.

الأمر الثالث : المقاومة.

وليست الصلابة هي الأوّل ، لأنّه عدمي. ولا الشكل الباقي ، لأنّه من الكيفيات المخصوصة بالكميات. ولا المقاومة المحسوسة ، فإنّ الهواء الذي في الزق المنفوخ فيه مقاومة ، وليست فيه صلابة ، لأنّ الهواء لم يصلب ، ولا ينعقد أصلا ، وكذا الرياح. بل الصلابة هي الاستعداد الطبيعي الذي في ذلك الشيء نحو اللاانفعال ، وظاهر أنّ الاستعداد الشديد نحو الانفعال واللاانفعال غير محسوسين ، فالصلابة واللين ليستا من الكيفيات المحسوسة (١).

وأمّا الخشونة فهي عبارة عن «اختلاف وضع الأجزاء في ظاهر الجسم ، بأن

__________________

(١) بل من الكيفيات الاستعداديّة ، بأن تكون الصلابة استعدادا طبيعيا نحو اللاانفعال. واللين استعدادا طبيعيا نحو الانغمار والانفعال.

٥٠٣

يكون بعضها ناتئا (١) وبعضها غائرا» وهذا من باب الوضع. والملاسة (٢) «استواء الأجزاء في الوضع» (٣) فهما من باب الوضع لا من باب الكيف الملموس.

وأيضا إنّهما لا يحس بهما إلّا بواسطة المقادير والحركات والأشكال ، ومع ذلك فإنّهما لا تفعلان في الحس تأثيرا من جهة نفس الحال العارضة لأجزائها مطلقا الذي هو الوضع ، بل لأمر آخر هو صلابة أو رخاوة أو حرارة أو برودة ، فهما إذن خارجتان عن الكيف وعما يكون محسوسا ، لكنّ الأوائل عدوهما من الكيفيات (٤) ، ويمكن أن يكون الوضع مبدأهما.

__________________

(١) نتأ : كل ما ارتفع ، نتأ الشيء : خرج من موضعه من غير أن يبين (لسان العرب ١٤ : ٣١).

(٢) قسّمها بهمنيار إلى الطبيعي وهو الواجب في جميع الأجسام البسيطة ، والمكتسب (التحصيل : ٦٧٢).

(٣) راجع الفصل الخامس من المقالة الخامسة من مقولات الشفاء : ١٩٥.

(٤) ذهب أرسطو إلى خلاف ذلك حيث قال : «فأمّا المتخلخل والمتكاثف ، والخشن والأملس فقد يظنّ أنّها تدلّ على كيف ما ، إلّا أنّه قد يشبه أن تكون هذه وما أشبهها مباينة للقسمة التي في الكيف. وذلك أنّه قد يظهر أنّ كل واحد منها أحرى بأن يكون إنّما يدل على وضع ما للأجزاء» منطق أرسطو : ٥٨. وانظر فصل الاسطقسات من طبيعيات الشفاء. وحدّهما في «الحدود» بأنّ الخشن هو : جرم سطحه ينقسم إلى أجزاء غير متساوية مختلفة الوضع. والأملس هو : جرم سطحه ينقسم إلى أجزاء متساوية الوضع.

٥٠٤

الباب الرابع

في الثقل والخفة

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في مغايرتهما للحركة وللقوة المحركة

هاهنا ميل (١) يكون الجسم به مدافعا لما يمنعه من الحركة إلى جهة ما. ومدافعته محسوسة ـ إمّا نحو الفوق وهو الخفة ، أو نحو السفل وهو الثقل ـ مغايرة للحركة وللقوة المحركة ، لأنّ (٢) الزّق المنفوخ إذا حبس تحت الماء قسرا ، والحجر الموضوع على اليد ، يحس منهما مدافعة نحو الفوق والسفل ، والحركة غير موجودة. فالميل الصاعد غير الحركة إلى فوق ، والميل الهابط غير الحركة إلى أسفل.

وأيضا (٣) المدافعة قد تكون نفسانية ، كما إذا اعتمد انسان على انسان

__________________

(١) قال الطوسي : «والميل هو الذي يسمّيه المتكلّمون اعتمادا» شرح الاشارات ٢ : ٢٠٨. والاعتماد عند النيسابوري : «معنى إذا وجد أوجب كون محلّه في حكم المدافع لما يماسّه مماسّة مخصوصة» الحدود للنيسابوري المقري : ٣٦. وأنكر وجوده أبو إسحاق الأسفرائيني وأتباعه ، وأثبته الحكماء والمعتزلة وكثير من الأشاعرة ، راجع شرح المواقف ٥ : ١٩١.

(٢) دليل لمغايرة الميل مع الحركة.

(٣) من هنا يبدأ ببيان الفرق بين الميل والطبيعة بثلاثة أوجه.

٥٠٥

بحيث لا يتمكن أحدهما من الحركة ، فقد وجد الميل دون الطبيعة المحركة ولأنّ الجسم في حيّزه الطبيعي يكون عديم الميل ؛ لأنّه لا يميل عنه ـ وإلّا لكان الطبيعي متروكا بالطبع ـ ولا إليه ـ لأنّه موجود فيه ـ مع أنّ طبيعته موجودة ، فتكون الطبيعة مغايرة للميل. ولأنّ الطبيعة جوهر ، فلا تكون قابلة للشدّة والضعف ، والمدافعة تقبل الشدة والضعف ، فتغايرا.

المسألة الثانية : في أنّ الميل هل هو نفس هذه المدافعة أو علّتها (١)

فيه خلاف بين الأوائل ، فقال بعضهم إنّهما متغايران ؛ لأنّ الحلقة التي يجذبها جاذبان متساويان تقف في الوسط ، فكلّ واحد منهما قد فعل فعلا معوّقا لفعل الآخر ، وليس ذلك هو المدافعة ؛ لأنّها ليست موجودة البتة ، ولا قوة الجاذب الآخر ، لأنّها لا تستند إليه ، ولأنّه إن لم يفعل في المجذوب فعلا لم يصر مجرد قوته عائقا لأن يفعل فيه غيره فعلا ، فإذن قد فعل كلّ منهما فعلا غير المدافعة. ولا شك أنّ الذي فعله كلّ منهما لو خلا عن المعارض لاقتضى انجذاب الحلقة إليه ، فثبت وجود شيء لو خلا عن المعاوق لاقتضى الدفع إلى جهة مخصوصة ، وليس نفس الطبيعة ؛ لأنّها تحرك إمّا إلى فوق أو إلى أسفل ، والذي فعله المتجاذبان غير ذلك. فإذن هذه المدافعة لها علة غير الطبيعة وغير القوة النفسانية.

المسألة الثالثة : في تعريفهما

قال في الحدود : الثقل «قوة طبيعية يتحرك بها الجسم إلى الوسط بالطبع»

__________________

(١) يفهم من تعريف الشيخ للاعتماد في «الحدود» علّيته للمدافعة حيث قال : «الاعتماد والميل : هو كيفية يكون بها الجسم مدافعا لما يمنعه عن الحركة إلى جهة ما».

٥٠٦

والخفة «قوة طبيعية يتحرك بها الجسم عن الوسط بالطبع» (١).

قيل (٢) : المركز نقطة يمتنع حصول الجسم بالكلّية فيها ؛ لاستحالة حلول المنقسم في الجهات الثلاثة الطويل العريض العميق في شيء وضعي غير منقسم ، وإذا امتنع حلول الجسم في النقطة استحال طلبه للحصول فيها.

وأجيب : بأنّ معنى (٣) الثقيل ليس أن يحصل في المركز ، بل أن ينطبق مركز ثقله على مركز العالم ، وحين صار ملاقيا سطحه مركز العالم فإنّه لا يقف هناك ، بل يتحرك وينزل إلى أن ينطبق مركزه على مركز العالم إذا لم يعقه عائق. ونعني بمركز الثقل النقطة التي يتعادل ما على جوانبها.

واعترض أيضا : بأنّ قوله «بالطبع» تكرار ؛ لأنّ الطبيعة تغني عنه.

وأجيب : أنّ قوله «بالطبع» صفة الوسط ، فإنّ منه ما هو وسط بالطبع ، وهو مركز المحدد. ومنه ما ليس بوسط بالطبع ، وهو مركز الأفلاك الخارجة المراكز ، فإنّ لكل واحد منها وسطا تكون حركته عليه ، وليس وسطا بالطبع ، بل بالنسبة إليه خاصة.

واعلم أنّه كما يقال : «ثقل» لهذه القوة الطبيعية التي يتحرك بها الجسم إلى حيث ينطبق مركز ثقله على مركز العالم أعني الميل ، كذا يقال على الطبيعة المقتضية له ، وعلى المدافعة الحاصلة ، بالاشتراك ، وكذا الخفة. لكن قولنا في التعريف : الثقل قوة طبيعية ، يتناول قوة منسوبة إلى الطبيعة ، فهي تكون مغايرة لها لا محالة ، فهذا الرسم حينئذ لا يتناول إلّا الميل ، سواء قلنا : الميل نفس هذه المدافعة أو علّتها.

__________________

(١) رسالة الحدود : ٣٤. وانظر تعريفهما في التحصيل للبهمنيار : ٦٣٥.

(٢) انظر الاعتراضات في المباحث المشرقية ١ : ٣٩٩.

(٣) أي مقتضى.

٥٠٧

المسألة الرابعة : في الحاجة إلى الميل

قال أفضل المحقّقين : المحرّك إنّما يحرّك بتوسط الميل. وسبب احتياجه إليه أنّ الحركة لا تخلو عن حدّ ما من السرعة والبطء ؛ لأنّ كلّ حركة إنّما تقع في شيء ما يتحرّك فيه المتحرك، مسافة كان أو غيرها ، وفي زمان ما. وقد يمكن أن يتوهم قطع تلك المسافة بزمان أقل من ذلك الزمان فتكون الحركة أسرع من الأولى ، أو بأكثر منه فتكون أبطأ منها. فإذن الحركة لا تنفك عن حدّ ما من السرعة والبطء ، والمراد منهما شيء واحد بالذات ، وهذه كيفية قابلة للشدة والضعف ، وإنّما يختلفان بالإضافة العارضة لهما ، فما هو سرعة بالقياس إلى شيء فهو نفسه بطء بالقياس إلى آخر.

ولما كانت الحركة ممتنعة الانفكاك عن هذه الكيفية ، وكانت الطبيعة التي هي مبدأ الحركة شيئا لا يقبل الشدة والضعف ، وكانت نسبة جميع الحركات المختلفة بالشدّة والضعف إليها واحدة ، وكان صدور حركة معينة منها دون ما عداها ممتنعا ـ لعدم الأولويّة ـ فاقتضت أوّلا أمرا يشتدّ ويضعف بحسب اختلاف الجسم ذي الطبيعة في الكم ، أعني : الكبر والصغر ، أو الكيف ، أعني : التخلخل والتكاثف ، أو الوضع ، أعني : اندماج الأجزاء وانفشاشها (١) ، أو غير ذلك. وبحسب ما يخرج عنه (٢) كحال ما فيه الحركة من رقّة القوام وغلظه ، وذلك الأمر هو الميل ، ثم اقتضت بحسبه الحركة.

ولما كان هو السبب القريب للحركة انقسم بانقسامها ، فمنه ما يحدث من

__________________

(١) في المصدر : «انتفاشها». ومثاله كشبر من الحديد يكون الميل فيه أكثر من الميل في شبر من العهن المنفوش.

(٢) أي بحسب اختلاف أمور خارجة عن الجسم.

٥٠٨

طباع المتحرّك ـ إمّا أن تحدثه الطبيعة ، كميل الحجر عند هبوطه ، أو النفس كميل النبات عند بروزه من الأرض ، والحيوان عند اندفاعه الإراديّ ـ أو يحدثه القاسر الخارج من الجسم كميل السهم عند انفصاله عن القوس (١).

وفيه نظر ، فإنّا نقول : إن كانت الطبيعة في اقتضائها للحركة القابلة للشدة والضعف مفتقرة إلى توسط لثباتها وعدم ثبات الحركة باعتبار قبولها للشدة والضعف ، نقلنا الكلام إلى ذلك المتوسط ، فإنّه إن كان قابلا للشدة والضعف امتنع صدوره عن الطبيعة الثابتة ، وإن لم يكن قابلا للشدة والضعف امتنع صدور الحركة عنه.

المسألة الخامسة : في أقسام الميل (٢)

لما كان الميل مبدأ قريبا للحركة انقسم بانقسامها. ولمّا انقسمت الحركة إلى الطبيعية والإرادية والقسرية ، وأيضا إلى المستقيمة والمستديرة ، وكذلك باقي أقسامها ، انقسم الميل أيضا إلى تلك الأقسام. فالطبيعي منه ما تحدثه الطبيعة ، والإرادي منه ما تحدثه النفس ، والقسري ما يحدثه القاسر. والميل المستقيم ما تقتضي الحركة المستقيمة ، والمستدير ما تقتضي المستديرة. وكما وجد في الحركة تضاد ، كذا يوجد فيه تضاد أيضا. وكما أمكن تركّب الحركات ، كذا أمكن تركب الميول.

واعلم أنّ الأجسام تختلف في قبول الميل والامتناع عن ذلك بحسب الأمور الذاتية وغيرها. فالاختلاف الذاتي هو الذي يكون بحسب قوة الميل الطباعي وضعفه ، وهو أن يكون الأقوى بحسب الطباع ـ كالحجر العظيم ـ أكثر امتناعا

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ : ٢٠٨ ـ ٢١٠ و ٢١٢.

(٢) انظر الأقسام في المباحث المشرقية ١ : ٣٩٩ ـ ٤٠٠ ؛ شرح الاشارات ٢ : ٢١٢.

٥٠٩

من قبول القسريّ ، والأضعف أقل امتناعا. وما عدا هذا اختلاف يكون بالأسباب الخارجة، ككون الأضعف أكثر امتناعا ، إمّا لعدم تمكّن القاسر منه كالرملة الصغيرة ، أو لعدم تمكّنه من دفع الموانع كالتبنة ، أو لتخلخله الذي لأجله تتطرّق إليه الموانع بسهولة كالريشة ، أو لغير ذلك.

ولمّا كانت الحركة توجها إلى جهة ، وكانت الحقيقة منها اثنتين (١) وهما الفوق والسفل ، وكان الميل منقسما بانقسام الحركة ، كان الميل الطبيعي إمّا يتوخى جهة الفوق وهو الخفة ، أو السفل وهو الثقل (٢).

والثقيل منه ما هو مطلق (٣) وهو الراسب تحت الأجسام بأسرها ، وفي طباعه أن يتحرك إلى غاية البعد عن المحيط إلى المركز ، وهو الأرض. ومنه ما هو مضاف وله معنيان :

أحدهما : الذي في طباعه أن يتحرك في أكثر المسافة الممتدة بين المركز والمحيط حركة إلى المركز لكنّه لا يبلغ المركز.

والثاني : الذي إذا قيس إلى الأرض كانت الأرض سابقة له إلى المركز ، فهو عند المركز خفيف وثقيل بالإضافة.

وكذا الخفيف منه مطلق ، وهو الذي في طباعه أن يتحرك إلى غاية البعد عن المركز ، ويقتضي طبعه أن يقف طافيا بحركته فوق الأجرام كلّها من الأجرام العنصرية. والخفيف بالإضافة له معنيان :

__________________

(١) في النسخ : «اثنتان» ، أصلحناها طبقا للسياق.

(٢) قال الشيخ : «وإنّما يكون الميل الطبيعي لا محالة نحو جهة يتوخّاها الطبع» شرح الاشارات ٢ : ٢١٥.

(٣) انظر أصناف الثقيل والخفيف في التحصيل لبهمنيار : ٦٣٥ ؛ طبيعيات الشفاء ، الفصل الأوّل من الفن الثاني.

٥١٠

أحدهما : الذي في طباعه أن يتحرك في أكثر المسافات الممتدة بين المركز والمحيط حركة إلى المحيط لكنّه لا يبلغ المحيط.

وقد يعرض له أن يتحرك عن المحيط ، ولا يكون تانك الحركتان متضادتين خلافا لبعضهم ؛ لأنّهما تنتهيان إلى نهاية واحدة ، وهذا مثل الهواء ، فإنّه يرسب في النار ويطفو على الماء.

والثاني : الذي إذا قيس إلى النار نفسها كانت النار سابقة إلى المحيط ، فهو عند المحيط ثقيل وخفيف بالإضافة. وهذا الوجه يقرب من الأوّل وليس به ، فبهذا الاعتبار يشارك النار ، لكنّه يتخلف عنه ، وبالاعتبار الأوّل (١) لا يريد من المحيط ما تريده النار.

المسألة السادسة :

الميل الطبيعي لا يوجد في الجسم عند كونه في الحيّز الطبيعي (٢) ، لأنّ الميل هو المدافعة ، والمدافعة تلزمه الحركة لو لا المانع ، فلو كان في الجسم الحاصل في حيّزه الطبيعي مدافعة لوجب تحركه عند لو لا المانع ، وهو محال إن كانت المدافعة عنه ، وإلّا لكان المطلوب بالطبع متروكا بالطبع ، وهو محال. وإن كانت إليه فهو محال ؛ لأنّه حاصل فيه ، فلو طلبه لكان طالبا لتحصيل الحاصل ، وهو محال.

__________________

(١) م : «الثاني».

(٢) قال الشيخ في الفصل الأوّل من الفن الثاني من طبيعيات الشفاء : «قد سلف منّا اثباته بالوجه البرهاني» ، واعترض عليه الرازي بأنّه لا حجة اقناعية عليه فضلا عن البرهانية ، ثمّ يستدل على أصل المسألة بما نقله العلّامة (المباحث المشرقية ١ : ٤٠٠) واعترض صدر المتألّهين على الرازي بأنّه في الوضوح بمنزلة لا يحتاج إلى البرهان. (الأسفار ٤ : ٧٨).

٥١١

لا يقال : الثقيل يمتنع خلوه عن هذه المدافعة على ما ذكرتموه ، لاستحالة حصوله في حقيقة المركز ، بل يكون أبدا خارجا عنه فتكون المدافعة بالفعل حاصلة.

لأنّا نقول : قد بيّنا أنّ المطلوب للثقيل انطباق مركز ثقله على مركز العالم. ثمّ ذلك الثقيل إن كان ذا أجزاء بالفعل كان لكلّ منها حظ من الثقل لا محالة فيكون كلّ واحد من أجزائه طالبا للحالة المذكورة ، فلا يكون الواجد لهذه الحالة إلّا جزءا واحدا من تلك الأجزاء ، فيكون في كلّ جزء غيره مدافعة موجودة بالفعل. وإن كان عديم الأجزاء ، فإذا انطبق مركز ثقله على مركز العالم فذلك الجسم حينئذ لا توجد فيه المدافعة ؛ لأنّها لو وجدت لكانت إمّا في كلّ ذلك الجسم أو في أجزائه ، والأوّل محال ؛ لأنّ كلّيته طالبة لتلك الحالة فيستحيل أن يوجد فيها طلب الخروج عنها. والثاني محال ؛ لأنّا قد فرضناه عديم الجزء ، وإذا لم يكن له جزء لم يثبت لجزئه ميل ، فثبت خلو الجسم حينئذ عن الميل.

والحجر المفصول عن الأرض يحسّ بثقله ، لا لأنّه ليس في مركز العالم ، بل لأنّه لا ينطبق مركزه على مركز العالم ، فإذا اتصل بالأرض بالفعل صار مكانه الطبيعي جزء مكان الأرض.

المسألة السابعة (١) :

قد جرى للشيخ اضطراب كلام في الشفاء في اجتماع الميلين ، فتارة جوّز وتارة منع. فقال في بيان وجوب السكون بين الحركتين المتضادتين : «ولا تصغ إلى قول من يقول إنّ الميلين يجتمعان ، فكيف يمكن أن يكون شيء فيه بالفعل مدافعة إلى جهة ، وفيه بالفعل التنحّي عنها ، ولا تظن أنّ الحجر المرمي إلى فوق فيه ميل إلى

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٤٠١ ـ ٤٠٢.

٥١٢

أسفل البتة ، بل مبدأ من شأنه أن يحدث ذلك الميل إذا زال العائق» (١).

وقال في الحركة القسرية : «إنّ سببها قوة يستفيد المتحرك من المحرك تثبت فيه مدة إلى أن تبطلها مصاكّات كانت تصطكّ عليه ممّا يماسّه وتنخرق به ، فكلّما ضعفت بذلك قوى عليه الميل الطبيعي والمصاكة ، فمضى المرمي نحو جهة ميله الطبيعي» (٢).

فقوله : «قوى عليه الميل الطبيعي» مشعر بأنّ الميل الطبيعي موجود مع الميل القسري.

والوجه في الجمع بين كلاميه أنّه أراد في الأوّل بالميل : نفس المدافعة ؛ لأنّ قوله : «كيف يكون في الشيء مدافعة إلى جهة والتنحّي عنها» عند طلب بيان امتناع اجتماع الميلين ، يدل على أنّ الميل المدافعة لا علتها ، إذ لو كان الميل عبارة عن علة المدافعة لأمكن أن يجتمعا ، ولا يقتضيان المدافعتين ، كما أنّه لا منافاة بين القوة الطبيعية والقوة الفاعلية للحركة القسرية. وأراد في الثاني بالميل : علّة تلك المدافعة.

فالحاصل : أنّ الضرورة قاضية بامتناع اجتماع المدافعتين. أمّا إذا كانت طبيعيتين فظاهر ؛ لامتناع اقتضاء الطبيعة الواحدة المتنافيين ، وامتناع اجتماع طبيعتين مختلفتين في بسيط واحد. وإن كانت احداهما طبيعية والأخرى قسرية لما عرف من أنّ المدافعة إلى جهة تقتضي التوجه إليها. والحس دل على أنّ الحجر الصاعد ليس فيه مدافعة نحو السفل أصلا ، فإنّ من مسّه لا يحس منه بمدافعة نحو السفل (٣).

__________________

(١) نهاية الفصل الثامن من المقالة الرابعة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء.

(٢) أوائل الفصل الرابع عشر من المصدر نفسه.

(٣) الاستدلال بالحجر الصاعد موجود في عبارات الرازي فراجع المصدر نفسه.

٥١٣

وفيه نظر ، لأنّ المدافعة لو لم تكن موجودة لما كانت حركته أبطأ مما لو فرض أسرع منه ، وإنّما لا يحس بها لغلبة المدافعة القسرية عليها.

لا يقال : الميل عندكم موجود آن الوصول ، وليس هناك مدافعة ، فإذن لا يلزم من عدم المدافعة عدم الميل.

لأنّا نقول : بل المدافعة موجودة في ذلك الآن ، لأنّه لو كان في ذلك الحيّز جسم آخر اندفع به في ذلك الآن.

احتج من جوّز الاجتماع (١) : بأنّ الحجرين المرميين من يد واحدة في مسافة واحدة بقوة واحدة ، يختلفان بالسرعة والبطء إذا اختلفا في المقدار ، ولا سبب لاختلافهما إلّا كثرة الميل في الكبير وقلته في الصغير.

وأجيب : بإمكان اسناد الاختلاف إلى الطبيعتين ، فإنّ الطبيعة قوة سارية في الجسم منقسمة بانقسامه ، ففي الصغير أقل ممّا في الكبير ، وهي معوقة للحركة القسرية ، فكان الأكبر أبطأ.

قال أفضل المحقّقين : لمّا كان الميل هو السبب القريب للحركة ، وكان من الممتنع أن يتحرّك الجسم إلى جهتين مختلفتين معا بالذات لاقتضاء كلّ حركة منهما التوجه إلى مقصد غير مقصد الأخرى ، ويلزمه عدم التوجّه إلى غير ذلك المقصد ، والحركتان المختلفتان معا يلزمهما التوجّه وعدمه إلى كلّ واحد من المقصدين معا ، ويمتنع أن يقتضي الشيء شيئا وعدمه معا. فكان من الممتنع وجود ميلين مختلفين في جسم واحد بالفعل ، بل كما يجوز اجتماع حركتين في جسم واحد إحداهما بالذات والأخرى بالعرض ، كالمتحرك في السفينة تحرّكه السفينة تارة وبنفسه أخرى ، كذا يوجد ميلان أحدهما ذاتي والآخر عرضي ، كحجر يحمله إنسان يمشي

__________________

(١) راجع المصدر نفسه ، وشرح الاشارات ٢ : ٢١٤ ـ ٢١٥.

٥١٤

فإنّه يحسّ بثقله ، وهو ميله بالذات ، وينخرق (١) منه الهواء وهو ميله بالعرض.

فإذا طرأ على جسم ذي ميل طبيعي بالفعل ميل قسري تقاوم القاسر والطبيعة ، فإن غلب القاسر حدث ميل قسري وبطل الطبيعي. ثمّ تأخذ الموانع الخارجية والطبيعة معا في إفنائه قليلا قليلا ، وتقوى الطبيعة بحسب ذلك ، ويأخذ الميل القسري في الانتقاص وقوة الطبيعة في الازدياد إلى أن تقاوم الطبيعة الباقي من الميل القسريّ فيبقى الجسم عديم الميل.

ثمّ تجدّد الطبيعة ميلها مشوبا بآثار الضعف الباقية فيها ، ويشتدّ الميل بزوال الضعف ويكون حكمها حكم الممتزجين ، فإنّ الماء الحار لا يجتمع فيه حرارة وبرودة معا ، بل يكون متكيّفا بكيفية متوسطة بين غايتين الحرارة الغريبة والبرودة الذاتية ، تارة أميل إلى هذه وتسمى حرارة ، وتارة أميل إلى تلك وتسمى برودة ، وتارة متوسطة بينهما ولا تسمى باسمهما ، وذلك بحسب تفاعل الحرارة العارضة والطبيعة المبرّدة. كذا الميلان لا يجتمعان في الجسم على حد الصّرافة ، بل يكون أبدا ذا حال بين الميل القسريّ الشديد والطبيعيّ الشديد ، تارة يسمى بالميل المنسوب إلى القسر ، وتارة بالمنسوب إلى الطبع ، وتارة بعدمهما معا ، وذلك بحسب تفاعل الميل القسريّ والطبيعة. فكما كان فعل الطبيعة المائيّة عند وجود العرض الذي تقتضيه وهو البرودة حفظه ، وعند وجود ما يضادّه كالحرارة إفنائه ، وعند الخلوّ منهما ايجاد البرودة ، كذا فعل الطبيعة في الجسم ما دام مفارقا لحيّزه عند وجود الميل المنبعث عنها حفظه، وعند وجود ميل غريب يخالفه إفنائه ، وعند خلوّ الجسم عن الميل إيجاد الميل الطبيعي(٢).

وفيه نظر ، لأنّه إن عنى بالسبب القريب التام ، منعنا كون الميل كذلك ،

__________________

(١) ج : «يتحرّك».

(٢) شرح الاشارات ٢ : ٢١٢ ـ ٢١٤.

٥١٥

وكيف وللحركة أسباب مادية وغائية وفاعلية؟! وإن عنى به مطلق السبب الذي لا يتوسط بينه وبين معلوله علّة أخرى مستقلة ، سلّمناه ، لكن لا يلزم من وجود هذا السبب وجود مسبّبه ، فلا يلزم من اجتماع الميلين إلى جهتين اجتماع الحركتين إليهما.

وأيضا نمنع عدم اجتماع الحركتين ، فإنّ الحركات المركّبة إنّما تتحقّق باجتماع حركتين فإن اتّحدت الجهتان حصلت سرعة فيها زائدة على البسيطين ، وإن تضادتا فإن تساويا في السرعة والبطء حصل للمتحرك مع حركته وتحريكه وقوف. وإن غلبت إحداهما ظهر الفصل في جهتهما. وإن اختلفتا حصلت حركة مركبة بين المقصدين. نعم الحركتان بالذات لا يمكن اجتماعهما كما ذكر.

المسألة الثامنة : في اجتماع الميلين مع اتّحاد الجهة

اعلم أنّ الطبيعة إذا كانت خالية عن المعاوق الداخلي والخارجي وكان لها أثر قابل للشدة والضعف فإنّها توجد ذلك الأثر أشد ما يكون وأقصى الممكن من ذلك المعلول.

وإذا تقرر هذا فنقول : إذا اقتضت الطبيعة ميلا إلى جهة ، ولا عائق لها ـ كالحركات الفلكية حيث لا عائق لها ولا مانع من الموانع الخارجية والداخلية غير مقتضى صورها النوعية، وكالعناصر لو قدّرنا خلاء العالم ـ لم يمكن أن يحصل لها ميل آخر غريب إلى تلك الجهة ؛ لأنّه لا يؤثر شيئا حيث استوفت الطبيعة كلّ الممكن وبلغت الغاية التي هي الطرف في الشدة.

لكن قد اعترض هنا باعتراض واقع (١) ، وهو أنّ كلّ نوع من مراتب الأشد

__________________

(١) في المباحث المشرقية ١ : ٤٠٣.

٥١٦

والأضعف مخالف لغيره من تلك المراتب ـ أضعف منه أو أشد ـ مخالفة نوعية ، فجاز أن تقتضي الطبيعة نوعا من تلك المراتب ، ولا تقتضي باقي الأنواع ، وظاهر أنّه كذلك ، لأنّ تلك الأنواع متضادة متعاندة ؛ لدخولها تحت جنس آخر ، مع قبولها الشدة والضعف. والطبيعة الواحدة بالشخص يستحيل أن يتعدد مقتضاها بالشخص ، فضلا عن تعدده بالنوع ، فلا يلزم أن تقتضي أقصى الممكن وهو الطرف.

لكنّا نحن نقول : هذا الفرض الذي ذكرتموه غير ممكن عندكم ؛ لأنّ تلك الحركة إذا خلت عن الموانع الخارجية والداخلية فوجب أن تقع لا في زمان ، وإلّا لو وجدت في زمان أمكن فرض وقوع تلك الحركة من تلك العلّة أو من غيرها في نصف ذلك الزمان ، فيكون هذا أسرع ممّا فرض أنّه البالغ إلى النهاية في السرعة ، وهو محال. ووقوع الحركة لا في زمان منقسم محال عندكم.

أمّا إذا كان الجسم معارضا بما يدفعه مثل الحجر الهاوي ، فإنّ الهواء يقاومه ، ويحصل له باعتبار تلك المقاومة فتور وبطء ، فأمكن أن يحصل مع ذلك الميل الطبيعي ميل آخر غريب ، وتكون الحركة عند ذلك أسرع ممّا توجد عن الميل الطبيعي وحده ، كما إذا دفعنا الحجر الهابط دفعا قويا ، فإنّ حركته تكون أسرع ممّا لو تحرك بطبيعته لا غير.

المسألة التاسعة : في إثبات الميل (١)

اعلم أنّ الجسم القابل للحركة القسرية لا يخلو عن مبدأ ميل بالطبع. وبالجملة فإنّ الجسم الخالي عن الميل لا يمكن أن يتحرك بالقسر ؛ لأنّ الجسم إذا

__________________

(١) انظر البحث في شرح الاشارات ٢ : ٢١٦ وما يليها.

٥١٧

فرضناه خاليا عن المعاوق الطبيعي وحرّكه القاسر مسافة ما في زمان ما ، وفرضناه ممنوّا (١) بالعائق الطبيعي متحركا تلك المسافة بعينها عن ذلك المحرّك بعينه ، فإنّه يتحركها لا محالة في زمان أطول لامتناع أن تكون الحركة مع المعاوق كهي لا مع المعاوق. ثمّ لنفرض ذلك المتحرك يتحرّك تلك المسافة عن ذلك المحرك مع معاوقة أقل من المعاوقة الأولى على نسبة الزمانين ، فإنّه يقطعها لا محالة في زمان مساو لزمان عديم المعاوقة ، وذلك يستلزم تساوي الحركة مع العائق والحركة لا معه ، إلّا أن نجعل حركة عديم المعاوقة لا في زمان ، بل في آن ، وهو محال.

واعلم (٢) أنّ الحركة لا بدّ لها من كيفية ما هي سرعة أو بطء لا توجد عند الحكماء منفكة عنهما. والحركة تنقسم إلى نفسانية وغير نفسانية ، والنفسانية تحدّد النفس حالها من السرعة والبطء المتخيّلين لها بحسب الملائمة ، وينبعث عنها الميل بحسبها ، ومن الميل تتحصل الحركة السريعة والبطيئة.

وأمّا غير النفسانية ـ وهي التي مبدؤها طبيعة أو قسر ـ فتحتاج إلى ما يحدّد حالها تلك ، إذ لا شعور هناك بالملائمة وغيرها. فهي بحسب ذاتها تكاد تحصل في غير زمان لو أمكن ، وإذ لم يمكن فلا بدّ لها من أمر يحدّد لها ميلا يقتضيها (٣) ، وحالا تتحدّد بها ، ولا يتصور ذلك إلّا عند تعاوق بين المحرّك وغيره فيما يصدر عنهما ؛ لأنّ الطبيعة لا يتصور فيها من حيث ذاتها تفاوت ، والقاسر إذا فرض على أتم ما يمكن أن يكون لا يقع أيضا بسببه تفاوت ، والميل في ذاته مختلف ، فالتفاوت الذي بسببه يتعيّن الميل وما يتبعه ـ أعني الحدّ المذكور من السرعة والبطء ـ يكون بشيء آخر ، إمّا خارج عن المتحرك أو غير خارج عنه ، وهو المسمى

__________________

(١) أي مقترنا ومقدّرا ومبتلى.

(٢) قارن المصدر نفسه ٢١٨ ـ ٢٢١.

(٣) في النسخ : «يقتضيه» ، أصلحناها طبقا للمعنى وعبارة الطوسي.

٥١٨

بالعائق. والخارج اختلاف رقة ما يتحرّك فيه ـ كالهواء والماء ـ وغلظه الحاصلين في مسافة المتحرك المعاوقين له عن الحركة أو شدتها. وغير الخارج فإنّه لا يمكن أن يعاوق الحركة الطبيعية، لأنّ ذات الشيء لا يمكن أن تقتضي شيئا ويقتضي ما يعوقه عن اقتضائه ذلك ، بل إنّما يتصور المعاوقة هنا في الحركة القسرية ، وهو إمّا الطبيعة أو هو النفس اللتان هما مبدءا الميل الطباعي ، فإذن يلزم من ارتفاع هذين المعاوقين ، أعني : الخارجي والداخلي ، ارتفاع السرعة والبطء من الحركة ، ويلزم منه انتفاء الحركة.

ولهذا استدل الحكماء بأحوال هاتين الحركتين تارة على امتناع عدم معاوق خارجي ، فبيّنوا امتناع وجود الخلاء ، وتارة على وجوب وجود معاوق داخلي فاثبتوا مبدأ ميل طبيعي في الأجسام التي يجوز أن تتحرك قسرا.

ووجه الاستدلال في المسألتين واحد ، وهو أنّ اختلاف المعاوقة لمّا كان مقتضيا (١) لاختلاف السرعة والبطء كانت المعاوقة القليلة بإزاء السرعة والكثيرة بإزاء البطء. وكانت نسبة المعاوقة إلى المعاوقة في القلة والكثرة ، كنسبة المسافة إلى المسافة فيهما على التكافؤ ، أعني : القلة في إحداهما بإزاء الكثرة في الأخرى ، وكنسبة الزمان إلى الزمان على التساوي ، أعني القلة بإزاء القلة والكثرة بإزاء الكثرة.

وإذا ثبت هذا فلنفرض متحركا عديم المعاوقة يقطع مسافة ما في زمان ، وآخر مع معاوقة ما يقطعها ، ويكون لا محالة في زمان أكثر ، وثالثا مع معاوقة أقل من الأوّل على نسبة الزمانين ، فإنّه يقطعها في زمان مساو لزمان عديم المعاوقة ، ويلزم من ذلك الخلف ، لتساوي وجود المعاوقة وعدمها. وقد تقدم الاستدلال بهذا في الخلاء وإثبات الميل معا مفصلا.

__________________

(١) في النسخ : «كانت مقتضية» ، أصلحناها طبقا للمعنى وعبارة الطوسي.

٥١٩

اعترض (١) بأنّ نسبة أثر المؤثر الضعيف إلى أثر القوي ربما لا يكون كنسبتهما ، ولا يكفي انقسام قوى الجسم بانقسامه ، لأنّ القوة المؤثرة إنّما تتحصّل عند اجتماع الأجزاء ، ولا تتوزّع عليها ، بل تنعدم عند التجزئة.

وأيضا فإن دلّ ذلك على احتياج الحركة القسرية إلى معاوق ، فقد دلّ على احتياج الطبيعيّة إليه يعني ما ذكرتم وهو «أنّا نفرض الجسم يتحرك بطبعه مسافة ما من غير معاوقة خارجية ولا داخلية ، ثمّ نفرضه متحركا بطبعه مع معاوقة ما تلك المسافة بعينها (٢) ، فإنّه يتحركها في زمان أطول ، ثمّ نفرضه متحركا بطبعه مع معاوقة أقل من الأوّل بنسبة الزمانين ، فتكون حركته مع المعاوقة القليلة كحركته مع عديم المعاوقة». فيلزم أن يكون في الأجسام الطبيعيّة مبدءان لميلين متخالفين ، يعوق كلّ واحد منهما الآخر. فإن قلتم : معاوقة القوام كافية هناك. قلنا : فلتكن أيضا كافية في القسر.

وأيضا يلزم ممّا ذكرتم من الدليل أن يكون في الفلك معاوق له لأنّه مستمر في الجميع.

أجاب أفضل المحقّقين : بأنّ من القوى الجسمانية ما يحلّ في موادّها وينقسم بانقسامها ، فيتساوى الجزء والكل فيها ، وهي كالصور والطبائع ، ومنها ما يحلّ في جملة منها ولا ينقسم بانقسام الجملة كالقوة الحيوانية ، فإنّ الجزء من الحيوان لا يكون حيوانا ، وما نحن فيه من الصنف الأوّل. والاعتراض بالممنوع عن التأثير بسبب الصغر غير وارد ، لأنّه بسبب مانع خارجي ، وقد اشترط في الفرض المذكور عدم الموانع الخارجية. وأمّا الحركة الطبيعيّة فقد حكمنا باحتياجها إلى

__________________

(١) والمعترض هو الرازي.

(٢) العبارة كذا.

٥٢٠