نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

اتحاد موضوعهما. فإنّ كلّ حرف له مخرج خاص لا يتأتى نطق الآخر منه ، وشرط التضاد عندهم التعاقب على موضوع واحد بالإمكان.

واحتج من نفى التضاد بأنّ ذلك لو ثبت لكان حكما من الأحكام ، فلا بدّ فيه من دلالة يدل عليه ، فلمّا انتفت الدلالة وجب القطع على نفي التضاد ، كما أنّا [لمّا] فقدنا هذه الطريقة في المعاني نفيناها.

وليس بجيد لأنّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول. على أنّ الحكم إنّما يعدم عندهم عند عدم الدليل إذا كان الحكم موجبا عن الذات لا يقف على اختيار مختار ، أو أن يكون متى لم تثبت الدلالة قدح في حكم الحكيم. وأمّا عند فقد هذين فلا يجب عند عدم الدلالة القطع على نفي الحكم عندهم. قالوا : وإذا لم تتضاد الحروف بعضها مع بعض لم يكن لها ضد من غير هذا القبيل ، وإنّما يشتبه الحال فيه مع الخرس والسكوت ، أمّا الخرس فإنّه فساد يلحق آلة الكلام ، إمّا من رطوبة مفرطة أو جفاف مفرط ، والأشياء المختلفة لا تنفي شيئا واحدا ، لأنّ ضد الواحد واحد ، فإن جعل الخرس عجزا كان المضاد له القدرة ، فكيف يضاد الكلام مع اختلافهما.

وأيضا لو كان الخرس ضدا للكلام لم يصحّ وصف القديم تعالى بالقدرة على خلق الكلام في لسان الأخرس. وعلى هذه الطريقة صحّ أن يتكلّم الواحد بما في الصدى مع وجود الخرس في تلك الحال.

وأمّا السكوت فلا يضاد الكلام أيضا ؛ لأنّه يصحّ أن يكون ساكتا في حال هو متكلم بما في الصدى. والوجه أنّ الخرس والسكوت عدم الكلام عما من شأنه أن يكون متكلما ، لكن يفترقان بأنّ العدم في أحدهما لآفة والآخر لا لآفة.

الخامس : إذا قلنا في حرف : إنّه متحرك أو ساكن ، لم نشر بذلك إلى وجود حركة في الحرف أو سكون فيه ؛ لأنّ الحركة والسكون من صفات الأجسام

٥٨١

فيستحيل عروضها للهيئات العارضة للصوت أو لطرفه ، بل المراد منه أنّه يوجد عقيب الحرف الصامت حرف مصوت مخصوص.

السادس (١) : الصامت إنّما يصفو عن الشوائب ويظهر ظهورا جليا عند الإسكان ، أمّا عند الحركة فإنّه يمتزج بحركة شيء ممّا بعده ، للتجربة.

لا يقال : إنّه عند الإسكان يمتزج به شيء ممّا قبله.

لأنّا نقول : جرس الحرف بعده لا قبله ، فلا يمتزج بذلك الجرس الحرف الذي قبله ، بل الذي بعده.

السابع : الابتداء بالصامت الساكن محال للاستقراء. ومنهم من جوزه ، وإلّا لزم توقف الشيء على تقدم ما يوجد بعده ، وهو محال.

بيان الشرطية : أنّ حركة الحرف عبارة عن تحرك الصوت بعده ، فلو توقف النطق بالصامت على الحركة التي هي حرف مصوت متأخر عنه لزم تقدم المصوت على الصامت المتقدم عليه ، هذا خلف.

المسألة الرابعة : في أحكام المصوتات (٢) :

وهي :

أوّلا : أوسع المصوتات الألف ثمّ الياء ثمّ الواو ؛ لأنّ ذلك معتبر بمقدار انفتاح الفم.

ثانيا : أثقل الحركات الضمة ، لأنّ حصولها إنّما يكون بفعل العضلتين الصلبتين الواصلتين إلى طرفي الشفتين. ثمّ الكسرة ؛ لأنّه يكفي فيها العضلة

__________________

(١) راجع المصدر نفسه.

(٢) راجع نهاية العقول ؛ شرح المواقف ٥ : ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

٥٨٢

الجاذبة الواحدة ، ثمّ الفتحة التي يكفي فيها عمل ضعيف لهذه العضلة. وقد يختلف ذلك بحسب الأمزجة والأهوية.

ثالثا : الحركات أبعاض المصوتات ، فإنّ الضمة جزء من الواو ، والفتحة جزء من الألف ، والكسرة جزء من الياء ، لوجهين :

أ : المصوتات قابلة للزيادة والنقصان والشدة والضعف ، وكلّ ما كان كذلك فله طرفان ، وليس هنا طرف في النقصان إلّا هذه الحركات ، بالاستقراء.

ب : لو لم تكن الحركات أبعاضا من المصوتات لما حصلت المصوتات بتمديد هذه الحركات ، والتالي باطل ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّ الحركة إذا كانت مخالفة لهذه المصوتات ، فإذا ذكرت الحركة لم يمكنك أن تذكر المصوت ، إلّا باستئناف حرف صامت آخر تجعله تبعا له ، وليس الأمر كذلك بشهادة الحس ، فالمقدم مثله.

رابعا : المصوتات ـ وهي حروف المد واللين ـ ينتهي تمديدها إلى الهمزة بالاستقراء. ولميته. إنّ الصوت لا يتولد من حركة الانبساط الحاصل باستدخال النسيم ، بل من حركة الانقباض الحاصل من إخراج الهواء الدخاني ، ولذلك الانقباض حدّ معين ، إذ لا يمكن إخراج كلّ ما في الرئة من الهواء ، وإلّا لخرج معه الروح. فإذا انتهى إخراج الهواء إلى حيث لا يمكن الازدياد عليه وقفت الطبيعة وانقبض النفس وانقطع ، فهناك مخرج الهمزة ، فلا جرم أنّ الهمزة تتولد.

خامسا : الحرف الصامت المتحرك سابق على الحركة ، لوجهين :

أ : الصامت البسيط حقيقة وحسا آني ، فوجب أن يحدث في الآن الفاصل بين زماني الحبس والإطلاق ، والحركة مصوت إنّما تحدث في زماني الحبس والإرسال. وما حدث في الآن الذي هو أوّل زمان وجود الشيء يكون لا محالة سابقا على ما يحدث في ذلك الزمان.

٥٨٣

ب : لو كانت الحركة سابقة على الحرف لكان المتكلم بالحركة غنيا عن التكلم بالحرف ، لأنّ السابق غني عن المسبوق ، لكن التكلم بالمصوت ابتداء محال ، فهو غير سابق.

واحتج ابن جنّي (١) بوجهين آخرين :

الأوّل : الحركة حالة في الحرف ، والحالّ متأخر عن المحل.

الثاني : لو كانت الحركة سابقة على الحرف لصحّ (٢) الإدغام ، والتالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّ الإدغام إنّما يصحّ بحرفين أوّلهما ساكن والثاني متحرك ، فلو كانت حركة الحرف الثاني سابقة لكانت تلك الحركة متخلّلة بينه وبين الأوّل ، فلا يقع الطرفان في آن واحد ، فلا يكون الإدغام حاصلا ، لكن الإدغام حاصل بالحس.

واعترض (٣) على الأوّل : ببطلان الصغرى ؛ لأنّ الصامت البسيط آني والحركة زمانية حاصلة بعد مضي هذا الصامت ، فكيف يوجد فيه. والكبرى ؛ لأنّ تقدم المحل على الحال تقدم عقلي لا زماني ، والمطلوب هنا التقدم الزماني.

وعلى الثاني : لا نسلّم أنّه لو لم تقع الحركات في آن واحد لم يحصل الإدغام ؛ لأنّ حصول الحرفين المتماثلين في المخرج الواحد دفعة واحدة جمع بين المثلين وهو محال ، ولا يجوز أن يتوقف عليه الإدغام الذي ليس بمحال.

__________________

(١) عثمان بن جنّي الموصلي ، أبو الفتح : من أئمّة الأدب والنحو ، ولد بالموصل وتوفّي ببغداد سنة ٣٩٢ ه‍. من تصانيفه : شرح ديوان المتنبي ، شواذ القراءات ، اللمع في النحو وغير ذلك وهو كثير.

الاعلام للزركلي ٤ : ٢٠٤.

(٢) نهاية العقول : «لما صح».

(٣) والمعترض هو الرازي في المصدر نفسه.

٥٨٤

المسألة الخامسة : في أحكام المركبات

والنظر فيها يتعلق بأمرين :

الأمر الأوّل : الكمية

اعلم أنّ أعدل المركبات ، المركبة من ثلاثة أحرف ، لوجهين :

أ : الكلام إنّما يتم بالحركة وهي إنّما تتم بأمور ثلاثة : المبدأ والوسط والنهاية ، وهذه الأشياء حاصلة بالفعل في الثلاثيات ، أمّا الثنائيات فإنّها ناقصة ، وما فوق الثلاثة كثرة زائدة.

ب : الحرف المبتدأ به لا يكون إلّا متحركا ، والموقوف عليه لا يكون إلّا ساكنا ، وبين المتحرك والساكن تنافر ، فلا بدّ من متوسط بينهما يكون معدلا بينما ، فإذن الاعتدال إنّما يتم بهذه الثلاثة.

لا يقال (١) : هذا المتوسط لا يخلو عن الحركة والسكون ، فإن كان متحركا كان منافرا للثالث ، وإن كان ساكنا كان منافرا للأوّل ، فالذي فررتم منه وقعتم فيه ، والإشكال عائد عليكم.

لأنّا نقول : الحركة الابتدائية أثقل من الحركة المتوسطة ، فالملائمة بين الحركة المتوسطة وبين السكون أكثر منها بين الحركة الابتدائية والسكون.

وفيه نظر ، فإنّ الحركة الثانية توجب كلال الآلة فتكون أثقل من الابتدائية ، بل المعتمد أنّ النطق بحرفين متحركين يوجب الملال عن الحركة فيستلذ السكون أكثر ممّا يستلذ عقيب النطق بالحركة الواحدة.

الأمر الثاني : الكيفية (٢)

اعلم أنّ البحث هنا إمّا أن يتعلق بتركب الحروف ، أو الحركات ، أو

__________________

(١) انظر الاشكال وجوابه في المصدر نفسه.

(٢) س وج : «النظر الثاني في الكيفية».

٥٨٥

السكنات ، أو تركب الحروف مع الحركات ، أو مع السكنات ، أو تركب الحركات مع السكنات. فالجميع ستة : ثلاثة متفقة ، وثلاثة مختلفة.

أمّا تركب الحروف ، فقد يكون متنافرا ، وقد يكون متلائما. أمّا التنافر فسببه أمّا في الحروف المتماثلة فكثرة الأفعال ؛ لأنّها تقتضي ضعف القوة الجسمانية ، فيحصل التنافر. وأمّا المختلفة فأقسامها أربعة ؛ لأنّها إمّا أن تكون قوية أو ضعيفة ، وعلى التقديرين فإمّا أن تكون متقاربة المخرج أو متباعدة المخرج.

الأوّل : الصلبة المتقاربة المخرج ، وهي أشدّ الأقسام تنافرا ، لأنّ الحروف المتقاربة المخرج يكون الفاعل لحبس الهواء الفاعل لها عضلة واحدة. فإذا كانت الكلمة مركبة من أمثال هذه الحروف لم يمكن التكلم إلّا بأن يتوارد على العضلة الواحدة أفعال كثيرة شاقة. وذلك يوجب ضعفها وكلالها ، فلهذا يعسر التكلم بأمثال هذه الكلمات.

لا يقال : فكان ينبغي أن يكون التكلم بالحرف الواحد مرارا كثيرة في المشقة أكثر من (١) التكلم بهذه الحروف المتنافرة.

لأنّا نقول : الفرق بينهما ظاهر فإنّ التكلم بالحرف الواحد مرارا كثيرة سبب لكلال الآلة ، لكنّه سبب لحصول ملكة التكلم به ، لأنّ تكرار الفعل مرة أخرى سبب لحصول الملكات فتعارضت علة اليسر والسهولة ، وعلة العسر والتنافر. وأمّا التكلم بالحروف المختلفة المتقاربة المخرج فقد اجتمع فيه سبب الكلال الموجب لضعف الآلة ، ولم يحصل تداركه بحصول الملكة ، فكان حصول التنافر والصعوبة فيه أكثر.

الثاني : ما يقابله وهو الحروف الرخوة المتباعدة المخرج ، وهو يقتضي سهولة النطق بها من الوجهين : الرخاوة والتباعد. فأمّا السهولة باعتبار حصول الملكة ، فلا.

__________________

(١) في نهاية العقول : «مثل» بدل «أكثر من».

٥٨٦

الثالث : السهلة المتقاربة.

الرابع : الصلبة المتباعدة. ويشبه أن يكون هذا أصعب من الأوّل.

وهذا التقسيم بحسب التلاؤم والتنافر إنّما هو بحسب النظر إلى حال الحروف من حيث هي هي ، وقد يتغير عما قلناه بسبب اختلاف الأمزجة والأهوية.

أمّا تركّب الحركات ، فإنّ ثقله وخفته تابعان لثقل الحركة وخفتها ، فكلما كانت الحركات أثقل كان تركّبها أثقل ، وكلّما كانت أخف كان تركّبها أخف. والحكم في الممتزج من الثقال والخفاف تابع للأغلب.

وأمّا تركب السكنات ، فقد اختلف فيه ، فالجمهور منعوا منه ؛ لأنّه لو صحّ لزم الابتداء بالساكن وهو متعذر ، فالمؤدّي إليه مثله.

واحتج المجوزون لوقوعه بأنّ الحروف الممتدة مع المدغم يجتمع فيها ساكنان.

وأجيب : بأنّ الأمر وإن كان كذلك إلّا أنّ الأوّل مصوت والثاني صامت ولا نزاع فيه ، لأنّ الخط يبتدئ من نقطة فلا محالة ينتهي إليها ، إنّما الممتنع توالي الصامتين.

لا يقال : إنّا قد نقف على الثلاثي ساكن العين وحينئذ يلزم اجتماع الساكنين الصامتين.

لأنّا نقول : ذكروا أنّ الصامت الأخير تشوبه حركة مختلسة ، ثمّ إذا جوّزنا اجتماع الساكنين فلا شكّ أنّ اجتماعهما مع الحروف الممتدة أقرب منها مع غيرها.

وأمّا تركّب الحروف مع الحركات ، فإنّها بالنسبة إلى الكل على السواء. وكذا تركّب الحروف مع السكون.

وأمّا تركّب الحركة بالنسبة إلى السكون ، فلا شك في أنّ الحركة كلّما كانت أخف كانت أقرب إلى السكون.

٥٨٧

البحث الخامس : في الكيفيات المذوقة والمشمومة

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في الطعوم (١)

الجسم إمّا أن يكون عديم الطعم ، وهو التفه المسيخ (٢) ، أو يكون ذا طعم.

والأوّل إمّا أن يكون عادما للطعم حقيقة ، أو عادما له في الحس فقط وهو الذي يكون له في نفسه طعم ، إلّا أنّه لشدة تكاثفه لا يتحلل منه شيء يخالط اللسان فيدركه ، فإن احتيل في تحليل أجزائه وتلطيفها أحسّ بطعمه كالنحاس والحديد ، فإنّ اللسان لا يدرك منهما طعما لأنّه لا يتحلل من جرمهما شيء يصير إلى الرطوبة المبثوثة في اللسان التي هي واسطة في حس الذوق ، ولو احتيل في قسمته (٣) أجزاء صغارا لظهر له طعم قوي.

والثاني الذي يكون ذا طعم ، فإمّا أن يكون طعمه بسيطا أو مركبا ، وبسائط

__________________

(١) قارن الرابع من ثانية نفس الشفاء ؛ شرح الإشارات ٢ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٤٢٤ ـ ٤٢٦ ؛ شرح المواقف ٥ : ٢٧٦ وما يليها ؛ مناهج اليقين : ٦٥ ؛ كشف المراد : ٢٢٣ ؛ شرح المقاصد : ٢٨٦.

(٢) الأطعمة التّفهة : التي ليس لها طعم حلاوة أو حموضة أو مرارة ، ومنهم من يجعل الخبز واللحم منها. لسان العرب ٢ : ٣٩. والمسيخ من اللحم الذي لا طعم له ، ومن الطعام الذي لا ملح له ولا لون ولا طعم ، ومن الفاكهة ما لا طعم له. لسان العرب ١٣ : ١٠٢.

(٣) في المباحث المشرقية : «تصييره».

٥٨٨

الطعوم ثمانية تحصل من التفاعل الجاري بين أحد الثلاثة ، أعني : اللطيف ، والكثيف ، والمعتدل ؛ لأنّ الجسم الحامل للطعم لا ينفك عن أحد هذه الثلاثة ، وبين أحد الثلاثة ، أعني : الحار ، والبارد ، والمعتدل.

فثلاثة تحدث من تفاعل الحار مع الكثيف واللطيف والمعتدل ، فإنّ الحار إن فعل في الكثيف حدثت المرارة ، وإن فعل في اللطيف حدثت الحرافة (١) ، وإن فعل في المعتدل حدثت الملوحة.

وثلاثة تحصل من تفاعل البارد مع الكثيف واللطيف والمعتدل ، فالبارد إن فعل في الكثيف حدثت العفوصة (٢) ، وإن فعل في اللطيف حدثت الحموضة ، وإن فعل في المعتدل حدث القبض.

وثلاثة تحصل من تفاعل المعتدل مع اللطيف والكثيف والمعتدل ، فإنّ المعتدل إن فعل في اللطيف حدثت الدّسومة ، وإن فعل في الكثيف حدثت الحلاوة ، وإن فعل في المعتدل حدثت التفاهة الغير البسيطة (٣). فالحرافة أسخن

__________________

(١) طعم يلذع اللسان بحرارته كطعم الفلفل.

(٢) طعام عفص : بشع وفيه عفوصة ومرارة وتقبّض يعسر ابتلاعه. لسان العرب ٩ : ٢٨٩.

(٣) فالطعوم البسيطة تسعة تحصل من ضرب القوى الفاعلة الثلاث (الحرارة والبرودة والمعتدلة) في الثلاث المنفعلة (الكثيفة واللطيفة والمعتدلة) ، للتوضيح انظر الشكل التالي :

٥٨٩

الطعوم ، ثمّ المرارة ، ثمّ الملوحة ؛ لأنّ الحرّيف أقوى على التحليل من المرّ ، فكان أسخن منه.

وإنّما أخرت الملوحة عن المرارة أمّا بالإنّية ، فلأنّ الملح المرّ والبورق (١) أكثر تسخينا من الملح المأكول. وأمّا باللّمية ، فلأنّ الملوحة إنّما تتولد من مخالطة أجزاء أرضية محترقة يابسة المزاج مرّة الطعم بأجزاء مائية قليلة الطعم أو عديمة الطعم مخالطة باعتدال ، فإنّها إن كثرت أمرّت ، وهذه الأجزاء المائية غير معتبرة في المرارة ، ومن هذا تتولد الأملاح وتملح المياه. وقد يصنع من الرماد والقلي والنورة وغير ذلك ، بأن يطبخ في الماء ويصفى ويغلى ذلك الماء حتى ينعقد ملحا ، أو يترك فينعقد بنفسه.

والعفوصة أبردها ثمّ القبض ثمّ الحموضة ، ولهذا فإنّ الفواكه التي تحلو تكون فيها أوّلا عفوصة شديدة التبريد ، فإذا اعتدلت يسيرا بإسخان الشمس المنضج مالت أولا إلى القبض ، ثمّ إلى الحموضة مثل الحصرم ، وفيما بين ذلك تكون إلى قبض يسير ليس بعفوصة ، ثمّ تنتقل إلى الحلاوة إذا عملت فيها الحرارة المنضجة. وقد تنتقل من العفوصة إلى الحلاوة من غير تحميض ، لكن الحامض وإن كان أقلّ بردا من العفص فهو في الأكثر أكثر تبريدا منه ، للطافته ونفوذه في الظاهر والباطن وشدة غوصه.

__________________

(١) البورق : ـ بالضم ـ أصناف مائي وجبلي وأرمني ومصري وهو النّطرون مسحوقه يلطخ به البطن قريبا من نار ، فانّه يخرج الدود ، ومدوفا بعسل أو دهن زنبق تطلى به المذاكير ، فانّه عجيب للباءة. القاموس المحيط ٣ : ٣٠٩.

أنواع البورق مختلفة ، ومعادنه كثيرة كمعادن الملح ، ومنه ما يكون أحمر وأبيض وأغبر. والنطرون وإن كان من البورق ، فانّ له أفاعيل غير أفاعيل البورق. ومنه صنف يسمّى بورق الخبز ، لأنّ الخبازين بمصر يحلونه بالماء ، ويغسلون به ظاهر الخبز ، فيكسبه بريقا. ومنه قطاع جلّاء ، والناس يغسلون به أبدانهم في الحمام ، فيجلوها ويغسل الوسخ. والبورق أقوى من الملح. المعتمد في الأدوية المفردة : ٤١ ـ ٤٢.

٥٩٠

والعفص يقارب القابض في الطعم ، لكن القابض يقبض ظاهر اللسان ، والعفص يقبض الظاهر والباطن معا.

المسألة الثانية : في اجتماع الطعوم

اعلم أنّ بسائط الطعوم عند الأوائل هي التسعة المذكورة (١) ، وعند معتزلة البصرة أنّ الطعوم الخالصة خمسة : الحلاوة والحموضة والمرارة والملوحة والحرافة ، وما عداها يجوز أن تكون بسيطة ويجوز أن تكون مركبة.

وقد يجتمع طعمان في جرم واحد مثل اجتماع المرارة والقبض في الحضض (٢) ، ويسمى البشاعة. ومثل اجتماع المرارة والملوحة في السّبخة (٣) ، ويسمى الزّعوقة (٤). ومثل اجتماع الحلاوة والحرافة في العسل المطبوخ. ومثل اجتماع المرارة والحرافة والقبض في الباذنجان. ومثل اجتماع المرارة والتفاهة في الهندباء (٥). ويشبه أن تكون هذه الطعوم إنّما تكون بسبب أنّها مع ما تحدث ذوقا يحدث بعضها لمسا

__________________

(١) راجع توابع المزاج من الفن الرابع من طبيعيات الشفاء.

(٢) حضض : شجرة مشوكة لها أغصان ، طولها ثلاثة أذرع وأكثر ، وعليها الورق ، وهي شبيهة بورق شجر البقس ملزّز ، ولها ثمر كالفلفل ، ملزز مرّ المذاق أملس ، ومن هذه الشجرة يتخذ الحضض. المعتمد في الأدوية المفردة : ٩٧ ـ ٩٨.

(٣) سبخة : أرض ذات نزّ وملح. القاموس ١ : ٥١٦.

(٤) طعام زعاق : كثير الملح. لسان العرب ٦ : ٤٥.

(٥) الهندب ، والهندبا ، والهندباء ، والهندباء : وهو بقلة من احرار البقول ، يمدّ ويقصر. قال الأزهري : أكثر أهل البادية يقولون هندب ، وكل صحيح. لسان العرب ١٥ : ١٤٦.

وهو برّي وبستاني ، كريه الطعم ، بارد يابس درجة أولى. وبرودة البستاني منه أكثر من برودة البري ، وأقلّ يبسا ، والبرّي منه أقوى مرارة ، وأشد كراهية. وكلاهما قابض ، مبرد جدا للمعدة. المعتمد في الأدوية المفردة : ٥٣٩ ـ ٥٤٠.

٥٩١

فيتركب من الكيفية الطعمية ومن التأثير اللمسي شيء واحد لا يتميز في الحس ، فيصير ذلك الواحد كطعم واحد متميز ، فإنّه يشبه أن يكون طعم من الطعوم المتوسطة بين الأطراف يصحبه تفريق وإسخان يسمى ذلك كلّه حرافة ، وآخر يصحبه طعم وتفريق من غير إسخان وهو الحموضة ، وآخر يصحبه مع الطعم تكثيف وتجفيف ، وهو العفوصة. ولا شك أنّ الحرافة تفعل تفريقا والعفوصة قبضا ، فالمدرك بحس الذوق كلّه طعم أو شيء مركب من الطعم ومن تفريق الحاسة؟ فيه احتمال.

قال أفضل المحققين في حصر الطعوم في التسعة : إنّ العفوصة والقبض مختلفان بالشدة والضعف ، وهما لا يوجبان الاختلاف النوعي ، إذ لو أوجب الشدة والضعف الاختلاف نوعا ، لكان كلّ واحد من هذه الأنواع نوعين (١) ، بل الطعوم فيها اختلافات كثيرة كما بين حلاوة العسل وحلاوة السكر وحلاوة الدبس وغيرها. وأيضا المركبات لا حدّ لها (٢).

المسألة الثالثة : في الروائح (٣)

وهي كيفيات محسوسة بحاسة الشم ، لم يوضع لأنواعها أسماء لخصوصياتها ، بل وضعوا لها من طريق الموافقة والمخالفة ، بأن يقال : رائحة طيبة أو منتنة ، وهذا كما يقال في الطعم إنّه طيب أو غير طيب ، من غير تصور فصل يخص الطيب من غيره. أو من طريق الاشتقاق ، بأن يشتق لها من الطعوم المقاربة لها أسماء فيقال : رائحة حلوة ورائحة حامضة ، كأنّ تلك الروائح التي اعتيد

__________________

(١) س : «لكل واحد من هذه الأنواع نوعان».

(٢) نقد المحصل : ١٤٤.

(٣) قارن كتاب النفس لأرسطو طاليس : ٧٦ ؛ المعتبر لأبي البركات ٢ : ٣٣٩ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٢٨٨.

٥٩٢

مقارنتها للطعوم تنسب إليها ، وتعرّف بها (١).

خاتمة (٢) : هذه الكيفيات المحسوسة أعراض لا جواهر ، وقد نازع في ذلك قوم غير محققين فقالوا : الكيفيات المحسوسة جواهر تخالط الأجسام ، فالسواد جوهر وكذا البياض وغيرهما من الألوان ، والحرارة جوهر وكذا البرودة وغيرها من الكيفيات المذكورة.

وهذا خطأ فإنّها لو كانت جواهر ، فإمّا أن تكون أجساما أو لا. والأوّل باطل ، وإلّا لكان لها طول وعرض وعمق هو لون ، ومعنى أنّه طول وعرض وعمق ليس معنى أنّه لون ، فإنّه يمكن زوال اللون مع بقاء هذه الأبعاد بعينها ، فإمّا أن يكون للّون طول وعرض وعمق غير هذا أو لا يكون له إلّا هذا ، فإن كان له مقدار غير هذا تداخل البعدان ، وهو محال. وإن لم يكن له بعد سوى هذا فليس لذات اللون إذن مقدار ، بل إنّما يتقدر بما يحله ، ولا امتناع فيه.

وأمّا الثاني : وهو أن تكون هذه الأشياء جواهر غير أجسام ، فإمّا أن تكون بحيث يحصل من تركّبها أجسام أو لا ، فإن كان الأوّل لزم أن يكون ما لا قدر له يجتمع منه ما له قدر ، وهو إنّما يصحّ لو قلنا بالجوهر الفرد وسيأتي البحث فيه.

وإن لم يكن فإمّا أن يكون بحيث يصحّ أن يفارق الجسم الذي هو فيه أو لا ، فإن صحّ فإمّا أن يمكن أن لا يبقى في جسم أصلا أو لا يمكن ، فإن أمكن فإمّا أن يكون مشارا إليه أو لا ، فإن كان مشارا إليه ، كان جسما لاستحالة الخلاء فيمتنع

__________________

(١) أمّا تقسيم الروائح الشائع الآن فهو التقسيم الذي وضعه هيننج (Henning (والذي قال فيه بست روائح أوّلية هي : رائحة الفواكه ، ورائحة الزهور ، ورائحة الراتنج ، ورائحة التوابل ، ورائحة العفن ، ورائحة المحروق. ووضع كروكر وهندرسون (Crocker وHenderson (حديثا تصنيفا آخر للروائح الأوّلية يمتاز ببساطته ، إذ قالا بأربع روائح أوّلية فقط هي : عطري (مثل المسك) ، وحامضي (مثل الخل) ، ومحروق (مثل البن المحروق)، ودهني (مثل رائحة دهن الحيوانات والعرق). الإدراك الحسّي عند ابن سينا ، للدكتور نجاتي : ص ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٢) قارن التحصيل : ٣٩٩ ـ ٤٠١ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٤٢٧ ـ ٤٢٨.

٥٩٣

وجود اللون في جهة لا جسم فيها. ولأنّ الوضع المعين إنّما يستحقه ذو الوضع بواسطة المادة المعينة فيمتنع أن لا يكون في مادة. وإن لم يكن مشارا إليه لم يكن محسوسا ، فلا يكون هو البياض الذي نبحث عنه مثلا ، لأنّا إنّما نطلق البياض على اللّون الذي من شأنه أن يفعل تفريقا في البصر ، فما لا يكون كذلك لا يكون بياضا.

وأمّا إن امتنع أن يوجد إلّا في جسم فحينئذ يكون محتاجا إلى المحل لذاته ، وقد عرفت أنّ المحتاج إلى المحل يمتنع انتقاله عنه. فإذن هذه الكيفيات أمور وجودية لا يعقل قيامها إلّا في الأجسام ، ولا معنى للعرض سوى ذلك.

اعترض : بإمكان كونها أجساما ، ونسلّم أنّ مفهوم الطول والعرض والعمق مغاير لمفهوم اللون ، ولكن هذه الأبعاد غير الجسم ، فلا يلزم من مغايرة هذه الأبعاد للّون مغايرة الجسم له ، بل هذه الأبعاد أعراض من باب الكم ، والجسم هو الأمر الذي تفرض فيه هذه الأبعاد ، فلم لا يجوز أن يكون ذلك الأمر هو نفس اللون؟

لا يقال : الجسمية عبارة عن قبول هذه الأبعاد ، والمفهوم من قبول هذه الأبعاد غير المفهوم من اللون.

لأنّا نقول : ليست الجسمية عبارة عن نفس هذه القابلية ، لأنّ القابلية أمر نسبي إضافي ، والصورة الجسمية ليست مجرد نسبة وإضافة ، بل الصورة الجسمية ماهية تلزمها قابلية هذه الأبعاد ، فلم لا يجوز أن تكون تلك الماهية هي نفس اللون؟

فالحاصل : أن كلامهم هنا إنّما يتمشى إذا جعلوا ماهية الجسم الأمر الذي تلزمه هذه القابلية ، ثم يمكنهم أن يثبتوا كون تلك الماهية مغايرة في المفهوم لمفهوم كونه لونا (١).

__________________

(١) العبارة كذا في المخطوطة ، وهي في المباحث المشرقية هكذا : «فالحاصل أنّ كلامهم في هذا الموضع إنّما يتمشّى إذا جعلوا ماهية الجسم نفس الطول والعرض والعمق وهم لا يقولون بذلك ، ومتى جعلوا ماهية الجسم الأمر الذي تلزمه هذه القابلية لم يمكنهم أن يثبتوا كون تلك الماهية مغايرة لمفهوم كونه لونا». نفس المصدر.

٥٩٤

سلّمنا أنّ اللون ليس جسما ، فلم لا يجوز أن يكون جزءا منه؟

قولهم : يستحيل أن يتألف الجسم من اجتماع ما لا قدر له.

فنقول : الهيولى والصورة لا مقدار لأحدهما في خاص ذاته مع تركّب الجسم منهما ، فجار أن يكون اللون عديم المقدار في ذاته ويكون جزءا للجسم؟

بل الطريق أن نقول : إذا شاهدنا جسما أسود فإمّا أن يكون السواد نفس الجسمية أو داخلا فيها أو خارجا عنها. والأوّل باطل ؛ لأنّ مفهوم الجسمية مشترك بين الجسم الأسود والأبيض ، وهما متباينان في مفهوم الأسودية والأبيضية.

ولأنّ الجسم يصحّ وصفه بالأسودية والأبيضية ، ونفس الأسودية لا يصحّ وصفها بالأسودية ولا بالأبيضية.

ولأنّ السواد يضاد البياض ، والجسم لا يضاده.

والثاني أيضا باطل ؛ لأنّه لو كان السواد جزءا من الجسمية المشتركة لكان مشتركا ؛ لأنّ جزء المشترك إمّا مساو له أو أعمّ منه ؛ لاستحالة أن يكون أخص ، فيلزم أن يكون السواد مشتركا كاشتراك الجسمية ، فكل ما صدق عليه الجسمية صدق عليه أنّه أسود ، فلا يكون الأبيض وغيره جسما ، هذا خلف.

وأيضا فإمّا أن يكون كلّ واحد من السواد والبياض جزءا للجسم فكل جسم أسود وأبيض معا ، وهو باطل بالضرورة.

وأمّا خروجهما معا عن الجزئية فيكونان عارضين له ، وهو المطلوب. أو جعل أحدهما جزءا دون الآخر من غير أولوية ، وهو محال.

فوجب أن يكون السواد خارجا عن مفهوم الجسم ، فإمّا أن يصحّ وجوده مفارقا عن الجسم أو لا. والأوّل محال إذ لا خلاء في العالم حتى يوجد ذلك اللون فيه. ولأنّه لو وجدت الجهة الفارغة وفرضنا حصول السواد فيها كان لذلك السواد

٥٩٥

امتداد في تلك الجهة ، ومفهوم الامتداد مغاير لمفهوم السوادية ، فيكون ذلك للسواد مقدارا(١) ، والمقدار إنّما يوجد في المادة ، فالسواد موجود في المادة.

وأمّا أن يفرض غير مشار إليه فنقول : تلك الحقيقة التي كان يمكننا أن نشير إليها بالحس ما بقيت ، بل الباقي شيء آخر ، وليس كلامنا فيه ، فإنّ وقوع اسم السواد عليه وعلى هذا المشار إليه باشتراك الاسم لتغايرهما في الحقيقة. فثبت أنّ السواد والبياض وسائر الكيفيات أمور مقارنة للجسم خارجة عن ماهيته ممتنعة المفارقة عنه. ومعلوم أنّها غير مفهوم الجسم لزوال السواد عنه وحصول البياض له مع بقاء ماهيته في الحالين غير مختلفة.

فعلمنا أنّ جميع أنواع الكيف موصوف بجميع صفات الأعراض وخواصّها ، فيكون عرضا.

وفيه نظر ؛ لإمكان أن يكون السواد والبياض وغيرهما من الكيفيات صورا نوعية للأجسام كالنارية والمائية وشبههما.

والحاصل أنّا نقول : إنّ الكيف خارج عن مفهوم الجسمية خروج الصور النوعية عنها ، وغير مفارقة للجسمية عدم مفارقة الصور النوعية لها ، فلا يلزم من هذا أن يكون اعراضا للجسمية كما لا يلزم من الصور النوعية.

__________________

(١) العبارة كذا ، وهي في المباحث المشرقية هكذا : «فيكون مع ذلك السواد مقدار».

٥٩٦

الفصل الثالث :

في القسم الثاني من الكيف وهو :

الكيفيات الاستعدادية (١)

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في أنواعه

اعلم أنّ أقسام الاستعداد ثلاثة :

أ : الاستعداد الشديد على أن ينفعل كالممراضية (٢) واللين ، وهذا يسمّى اللاقوّة.

ب : الاستعداد الشديد على أن لا ينفعل كالصلابة والمصحاحية (٣).

ج : الاستعداد الشديد على أن يفعل كالمصارعيّة. وهذان القسمان يندرجان تحت اسم القوّة.

__________________

(١) قارن الفصل الثاني من المقالة الخامسة من مقولات الشفاء : ١٨٤ ؛ الفصل الثاني من المقالة الرابعة من إلهيات الشفاء ، وتعليقة صدر المتألّهين ؛ النجاة : ٢١٤ ـ ٢١٦ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٤٣٠ ـ ٤٣٣ ؛ كشف المراد : ٢٢٤ ؛ شرح المواقف ٦ : ١٥٨ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٣٨٩.

(٢) رجل ممراض : سريع التأثر وكثير القبول للمرض.

(٣) وذلك هو الهيئة التي صار بها الجسم لا يقبل المرض. التحصيل : ٣٢.

٥٩٧

وهذا أولى من تقسيم بعضهم هذا النوع من الكيفيات إلى التهيؤ للدفع ، وهو القوّة ، أو التأثر وهو اللاقوة ، فإنّه ليس اسم القوة للدفع فقط ، فإنّ الصلابة قوّة ، وهي تهيؤ لأن لا ينفعل بسرعة ، والبطء لا قوّة ، وليس بمتأثّر عن شيء ، بل هو ما تقطع الحركة بسببه مسافة قليلة. فالقوة اسم لاستعداد بسببه يفعل الشيء بسهولة ، أو ينفعل بعسر ، واللاقوة اسم لاستعداد بسببه يفعل بعسر أو ينفعل بسهولة.

واعلم أنّا إذا أردنا قسمة الكيف إلى أنواعه الأربعة وإدخال هذه الأقسام الثلاثة تحت نوع واحد احتجنا إلى ذكر معنى محصل مشترك بين الثلاثة بحيث يجعل نوعا للكيف وجنسا للأقسام الثلاثة ، فنقول : إنّه المبدأ الجسماني الذي به يتم حدوث أمر حادث على أنّ حدوثه مرتجع به ، أو استعداد جسماني حامل (١) نحو أمر من خارج.

والأوّل أجود ، لأنّ الاستعداد إضافي فلا يكون نوعا للكيف (٢). وهذا الرسم يتناول الأقسام الثلاثة ، فإنّ الفاعل والمنفعل يشتركان في أنّ حدوث الحادث إنّما يتم بهما. ثمّ إنّ القوة على الانفعال يترجح بها حدوث ذلك الانفعال ، والقوة على المقاومة يترجح بها حدوث المقاومة ، والقوة على الفعل يترجح بها حدوث الفعل ، والأقسام الثلاثة مشتركة في أنّها مبادئ جسمانية لحوادث مترجحة بها.

ولا خلاف في دخول القوّة على الانفعال ، والقوّة على اللاانفعال تحت هذا النوع ، وأمّا القوّة على الفعل فقد أخرجها الشيخ منه (٣). فنذكر في تحديد القدر المشترك بين القوّتين الأوليين : «إنّه الذي يترجح به القابل في أحد جانبي قبوله ولا قبوله».

__________________

(١) في المباحث المشرقية : «كامل».

(٢) هذا ما ذكره الرازي ، ويمكن الاجابة عليه بأنّ الاستعداد من الكيفيات ذات الاضافة لا من مقولة الاضافة ، فهو كالعلم الذي هو من الكيفيات النفسانية وتلزمه الاضافة بين العالم والمعلوم.

(٣) وهو الحق عند الرازي فراجع نفس المصادر.

٥٩٨

المسألة الثانية : في أنّ القوّة على الفعل غير داخلة في هذا النوع

زعم القدماء أنّ القوّة على المصارعية داخلة في هذا النوع. وفي التحقيق ليس كذلك ، لأنّ المصارعية تتعلق بأمور ثلاثة :

الأوّل : العلم بتلك الصناعة.

الثاني : القوّة القوية على تلك الأفعال.

وهذان من باب الحال والملكة (١) ، فلا يدخلان تحت هذا النوع ؛ لامتناع دخول حقيقة واحدة تحت مقولتين.

الثالث : كون الأعضاء في خلقتها الطبيعية بحيث يعسر عطفها ونقلها. وهو في التحقيق عبارة عن القوة على المقاومة واللاانفعال ، وهو أحد القسمين المذكورين.

لا يقال : القدرة على تلك الأفعال لها اعتبار من حيث إنّها قدرة ، وهي من باب الحال والملكة ، واعتبار آخر من حيث إنّها قدرة شديدة ، أو من حيث إنّها فاعلة بسهولة ، وهي بهذا الاعتبار من هذا الباب.

لأنّا نقول : الذي فيه قوّة الانصراع أشد ، ففيه أيضا قوّة الصرع ، لكنّها ضعيفة. والذي فيه قوّة الصرع ففيه قوّة الانصراع حاصلة ، لكنّها ضعيفة ، ففي كلّ منهما قوّة الأمرين ، لكنّها في أحدهما أقوى ، وفي الآخر أضعف.

فهذا الاختلاف إن كان في الماهية وجب أن لا تكون شدة القوّة خارجة عن ذات القوّة ، فإنّ الشيء لا يختلف باختلاف ما ينضم إليه من خارج ، وإذا لم تكن الشدة موجودا آخر ، بل القوّة القوية موجود واحد يخالف بماهيته الوحدانية القوّة الضعيفة ، ودخلت تلك الحقيقة في أحد الجنسين امتنع دخولها في الجنس الآخر.

وإن كان الاختلاف في العوارض فهو محال ؛ لأنّه يلزم أن تكون هناك قوة واحدة باقية وتعرض لها الشدة لا لقوة أخرى انضافت إليها ، بل كيفية غير القوّة

__________________

(١) إن ضعفا فهما من باب الحال ، وإن قويا فمن الملكة.

٥٩٩

قارنت القوّة فصارت بها أشد تأثيرا وفعلا ، وهو باطل. ومع بطلانه فالمقصود حاصل ؛ لأنّ القوّة القوية إذا كانت من نوع القوّة الضعيفة ، والقوّة الضعيفة غير داخلة في هذا القسم من الكيفية فالقوّة (١) القوية أيضا غير داخلة ، لأنّ أحد المثلين إذا لم يدخل تحت جنس لم يكن الآخر داخلا تحته.

وأيضا الحرارة لها قوّة شديدة على الإحراق ، فلو دخلت تحت جنس الانفعاليات والانفعالات لزم تقوّمها بجنسين ، وهو محال. فإذن القوّة الشديدة لا تدخل تحت هذا الجنس.

المسألة الثالثة : في أنّ الصلابة واللين وجوديان أم لا؟

قد سبق فيما تقدم في الكيفيات الملموسة أنّ الصلابة هي الاستعداد الطبيعي نحو اللاانفعال ، وأنّ اللين هو الاستعداد الطبيعي نحو الانفعال ، فليس جعل أحدهما عدما للآخر أولى من العكس. فإذن ليس التقابل بينهما تقابل العدم والملكة فهما إذن كيفيتان وجوديتان.

إلّا أنّ لقائل أن يقول : الاستعداد الطبيعي تلزمه أمور ثلاثة :

الأوّل : اللاانغمار وهو عدمي.

الثاني : المقاومة المحسوسة.

الثالث : بقاء الشكل على ما كان ، وهما وجوديان.

وذلك الاستعداد لا يجوز أن يكون عدميا ، لأنّه علّة لأمرين وجوديين ، وعلّة الموجود موجودة ، فذلك الاستعداد أمر وجودي.

وأيضا الانغمار ـ كما حققناه ـ حركة حاصلة في سطح الجسم مقارنة لحدوث شكل مخصوص فيه واستعداده لقبول الحركة ، لأنّه جسم طبيعي ، واستعداده لقبول ذلك الشكل لأنّه متكمّم (٢). وإذا كان كونه جسما طبيعيا

__________________

(١) ج : «القوة».

(٢) في المخطوطة : «مثلين» ، وما أثبتناه من المباحث المشرقية.

٦٠٠