نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

المقام الثاني : في أنّ تصوّره أوّل الأوائل

الأمر في هذا ظاهر ، فإنّه لا شيء أعرف عند الإنسان من وجود نفسه ، وثبوت ذاته.

وأيضا فإنّه أعمّ الأشياء والأعمّ جزء الأخص ، والعلم بالكلّ متوقّف على العلم بالجزء ، والمتوقّف عليه أعرف من المتوقف ، فالوجود أعرف.

وهو ضعيف ، لأنّا نمنع كونه أعمّ الأمور ، فإنّ المعلوم والمخبر (١) والمذكور والممكن العام أعمّ من الموجود ، والشيء مساو له ، هذا إن عنى الوجود الخارجي ، وإن عنى المطلق كان مساويا للمعلوم ، والشيء إن أطلق على الذهني فكذلك ، كما قال الشيخ : «إنّ الوجود إمّا خارجيّ أو ذهنيّ ، والشامل لهما الشيئية» ، وإن أريد الخارجي لا غير ، كما هو رأي نفاة شيئية المعدوم كان أخص.

سلّمنا أنّه أعم ، لكن لا نسلّم أنّ الأعم جزء من الأخص ، فإنّ العموم إذا كان عموم العارض لا يوجب كونه جزءا ، والوجود وصف خارجيّ.

وقيل (٢) : إنّ الأعم أعرف ، لأنّ النفس قابلة للتصوّر ولا منع عن الفيض من قبل الله تعالى إلّا لعدم شرط أو وجود مانع ، وكلاهما منتف هنا ، فإنّ (٣) الأعمّ يستحيل اشتراطه بالأخص ، وكلّ ما عدا الوجود فهو أخصّ منه ، والأمور (٤) الخاصّة قد تتعاند ، ولا تعاند صورة ما يعمّها ، لكن كلّ ما يعاند العام فهو يعاند

__________________

(١) ق : «المتميّز» ، وفي ج : «المتحيز».

(٢) والقائل هو الرازي في المباحث المشرقية ١ : ١٠١.

(٣) بيان لانتفاء الشرط في الأعم.

(٤) بيان لانتفاء المانع في الأعم.

٢١

الخاص ، فالأعمّ إذن أقل معاندا وشرطا (١) ، فيكون أولى بالوقوع. فالوجود اللازم للماهيّات لمّا كان أعمّ كان انتقاشه في النفس أكثر من انتقاش غيره.

وفيه نظر ، فإنّا نسلّم أنّ الوجود أعم ، لكن نمنع كون ما هو أقل شرطا ومعاندا في الخارج أعرف ، فإنّه لا شيء أعرف عند الإنسان من ذاته لذاته وليست أعم الموجودات(٢).

المقام الثالث : في كلام الخصم في هذا الباب

اعلم أنّ جماعة أنكروا هذا الحكم (٣) وكلامهم يقع في موضعين (٤) :

الموضع الأوّل : في أنّ الوجود غير متصوّر ، واستدلّوا عليه بوجوه :

الوجه الأوّل : لو تصوّر الوجود لزم اجتماع المثلين ، والتالي باطل على ما يأتي ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّ التصوّر ارتسام صورة المتصوّر في المتصوّر ، فلو كان الوجود متصوّرا لزم ارتسام صورة مساوية له في الذهن ، ولا شك في أنّ الذهن موجود فيجتمع المثلان.

الوجه الثاني : تصوّر الشيء بالحقيقة إنّما يكون بعد أن يتميّز عن غيره ، والتميّز عبارة عن كون الشيء ليس غيره ، وهذا سلب خاص يتوقّف على مطلق السلب ، فتصوّر الوجود إنّما يتمّ بعد تصوّر مطلق السلب ، لكن مطلق السلب إنّما يعلم إذا أضيف إلى مطلق الوجود، فيلزم الدور.

__________________

(١) لاشتمال الخاص على قيود وشروط أكثر ممّا في العام.

(٢) أنظر شرح المواقف ٢ : ٩٢.

(٣) وهو أنّ الوجود بديهي.

(٤) راجع المواقف : ٤٦ ؛ المباحث المشرقية ١ : ١٠٢ ـ ١٠٥.

٢٢

الوجه الثالث : الوجود بسيط والبسيط لا تعقل حقيقته.

الوجه الرابع : لو كان الوجود معلوما لكانت حقيقة الباري تعالى معلومة ، والتالي باطل بما يأتي ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّه سيظهر أنّ حقيقة الله تعالى هي نفس الوجود ، فلو كان الوجود متصوّرا لزم تصوّره تعالى.

الموضع الثاني : في أنّ تصوّره ليس بديهيا لوجوه (١) :

الأوّل : الوجود صفة غير مستقلّة بالمعقولية دون موصوفه ، لكنّ موصوف الوجود هو الماهيات ، وليس تصوّرها بديهيا ، فلا يكون تصوّر الوجود بديهيا.

الثاني : لو كان تصوّره بديهيا لزم بداهة تصوّر لوازمه ، من اشتراكه وزيادته ، لما تقرّر من أنّ العلم بالملزوم علّة للعلم باللازم ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

الثالث : لو كان بديهيا لاشترك العقلاء فيه ، والتالي باطل ؛ لوقوع الخلاف فيه ، حتّى أنّ جماعة من العقلاء زعموا أنّه إنّما يعرف بحدّ أو رسم.

الرابع : الوجود الذهني مطابق للخارجي ، وكلّ ما هو أشدّ جزئية فهو أولى بالجوهريّة في الخارج ، فإذن الأولى بالحضور ذهنا هي الأمور الجزئية ، فالوجود الأعم يكون مرجوحا ، فلا يكون تصوّره أوليّا.

الخامس : لو كان أوليا لما افتقر إلى برهان ، ولما وقع فيه خلاف.

والجواب عن الأوّل (٢) : المنع من حصول المعقول نفسه ، بل إن كان فصورته وهي مغايرة للحقيقة ، فلا يجتمع المثلان.

__________________

(١) أنظر المواقف : ٤٥.

(٢) أي الوجه الأوّل من الموضع الأوّل (لو تصوّر الوجود لزم اجتماع المثلين الخ).

٢٣

سلّمنا حصول حقيقة الوجود المطلق ، لكنّه مغاير لوجود العاقل ومخالف له.

سلّمنا ، لكنّ لا نسلّم أنّا نفتقر في تصوّر الوجود إلى صورة أخرى غير صورة الوجود الثابتة في نفس الأمر لنا ، فإنّه سيظهر أنّا ندرك ذاتنا بذاتنا لا بصورة أخرى مساوية لذاتنا في ذاتنا ، وإن افتقرنا في تصوّر غيرنا إلى صورة حالّة فينا.

وعن الثاني : أنّ تصوّر الشيء لا يتوقّف على العلم بتميّزه عن غيره وأنّه ليس ذلك الغير ، فإنّ العلم بأنّ حقيقة ما ليست غيرها علم بسلب أمر عن آخر ، والمعلوم فيه مجموع أمور ، والعلم بالمجموع متأخّر عن العلم بكلّ واحد من تلك الأمور ، فإذن العلم بالوجود لا يمكن توقّفه على أنّه ليس غيره. والأصل في ذلك ، أنّ الشيء إذا أخذ لا بشرط غيره ، كان مغايرا له إذا أخذ بشرط لا غيره ، فإنّ الأوّل بسيط والثاني مركّب ، فإذا أخذت الحقيقة بالاعتبار الأوّل لم يتوقّف تصوّرها على تصوّر غيرها ، وإذا أخذت بالاعتبار الثاني ، توقّف تصوّرها على تصوّر ذلك الغير.

وعن الثالث : بالمنع من كون البسيط غير معلوم ، إذ لو كان كذلك لامتنع تعقّل شيء البتة ، نعم إنّه غير معلوم بالحدّ ، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعمّ.

وعن الرابع : أنّ الوجود المعلوم مغاير لحقيقته تعالى على ما سيظهر الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

والجواب عن الأوّل : (١) أنّه لا يلزم من كون الشيء تبعا لغيره في الوجود ، كونه تبعا له في التصوّر. ولو كان تبعا لتصوّر غيره لم يجب كونه كسبيّا ، لجواز كون تصوّر ذلك الغير بديهيا.

__________________

(١) أي الوجه الأوّل من الموضع الثاني (الوجود صفة غير مستقلة الخ) وباقي الأجوبة أيضا مرتبطة بالوجوه المذكورة في هذا الموضع.

٢٤

أيضا بأن نقول : تصوّر الوجود تابع لتعقّل ماهية ما ، لا لتعقّل الماهيات المخصوصة ، وتعقّل ماهية ما أوّلي أيضا ، إلّا أنّ الإشكال باق ، فانّ (١) كون ماهية ما ، ماهيّة ما من العوارض التي لا تستقلّ بالمعقوليّة.

ويمكن أن يقال : إنّ تصوّر الوجود يستدعي تصوّر ماهيّات مخصوصة ، وتصوّر تلك الماهيّات المخصوصة بديهي.

وعن الثاني : أنّه لا يلزم من كون تصوّر الشيء بديهيا ، كون تصوّر لوازمه كذلك.

وأيضا فإنّ كون الوجود زائدا ومشتركا وصفان اعتباريان لا وجود لهما في الخارج ، وإلّا لزم التسلسل ، وإذا لم يكونا من الأمور الوجوديّة ، لم يكونا لازمين للوجود مطلقا ، وأيضا لا نسلّم كون هذين التصوّرين مكتسبين.

وأيضا إنّما يجب تصوّرهما لو كانا من اللوازم البيّنة ، وهو ممنوع.

وعن الثالث : بالمنع من وجوب اشتراك العقلاء في الضروريات.

وأيضا فإنّ أحدا لم يحاول تعريف حصول الشيء وثبوته ، لكن لما اعتقدوا أنّ الوجود ليس الحصول ، بل علّته ، لا جرم عرفوا ما ذهبوا إليه وجعلوه مسمى بالوجود لا نفس الحصول.

وعن الرابع : بالمنع من كون الأخصّ أولى بالوجود الخارجي ، وإن كان أولى بالجوهرية ، أعني الاستغناء ، إلّا أنّ الأعمّ أولى بالوجود منه.

سلّمنا ، لكن نمنع كون الذهني كذلك ، فإنّ الأعم أولى بالوجود الذهني من الأخص ، لما بيّنا أنّ الشيء إذا كان أعمّ كان شرطه ومعانده أقلّ وكان أولى ، وفي الخارج يستحيل وجود الكلّي في الأعيان فظهر الفرق بينهما.

__________________

(١) م : «بانّ».

٢٥

وعن الخامس : أنّ البرهان إنّما هو على صفة من صفاته وهو كونه بديهيّا ، فإنّ كون البديهي بديهيا يجوز أن يكون مكتسبا. ولا يلزم من وقوع الخلاف في أنّ تصوّره بديهي أو لا ، أن لا يكون بديهيا ، فإنّ كونه بديهيا حال من أحوال التصوّر لا نفسه.

البحث الثاني : في تحقيق ماهيته

وفيه مقامان :

المقام الأوّل : في أنّه بسيط البسيط (١)

يراد به معنيان : أحدهما : الوجود (٢) الذي لا جزء له. والثاني : الذي يتساوى أجزاؤه في الحدّ. والمراد هنا الأوّل ، وظاهر أنّ الوجود كذلك. فإنّا لا نعني بالوجود إلّا الكون في الأعيان ، وهو معنى يعتبره العقل من غير توقف في تصوّره على تصوّر غيره ، ولو كان مركّبا لتوقّف تصوّره على تصوّر جزئه ، ولأنّه لو تركّب لكانت أجزاؤه إمّا وجودات أو عدمات أو ما يعرضان له.

والثاني (٣) باطل ، لأنّه يستحيل تركّب الشيء عمّا ينافيه ويناقضه.

والثالث باطل أيضا ، لأنّ المركّب من تلك الأشياء إمّا أن يتغيّر حاله عند تغيّر حال الأجزاء وجودا وعدما أو لا. والأوّل يستلزم أن يكون للوجود وجود وعدم وهو محال. والثاني محال ؛ لاستحالة كون المعلول على حال واحدة عند وجود

__________________

(١) راجع كشف المراد : ٤١.

(٢) ق وج : «المعنى» بدل «الوجود».

(٣) وهو كون الأجزاء عدمات. والمراد من الثالث كون الأجزاء ما يعرضان له.

٢٦

العلة وعدمها. ولأنّ خاصية الجزء المطلقة وهي التقدم في الوجودين إنّما تتحقّق لو كان للوجود وجود وهو محال.

والأوّل (١) باطل ، لأنّ الجزء إن كان وجودا مطلقا كان المركّب هو نفس الجزء ، هذا خلف ، وانتفت الكلّية والجزئية وهو المطلوب. وإن كان وجودا خاصّا لزم الدور ، وأن لا يكون الوجود وجودا ، لأنّ ما به الامتياز مخالف لما به الاشتراك ، فلا يكون وجودا ، ومقوّم الجزء مقوّم الكل ، هذا خلف. وإن كان وجودا بمعنى أنّه موجود فقد تقدم بطلانه في الثالث. ولأنّه إن كان موجودا بوجود سابق على تحقّق الوجود كان الشيء متقدّما على نفسه. وإن كان موجودا بوجود متأخّر عن الوجود أو مصاحب لم يكن وجود الجزء سابقا على وجود الكلّ ، لكن من خواص الجزء تقدّمه في الوجودين والعدمين على الكلّ.

المقام الثاني : (٢) في أنّ الوجود نفس الكون في الأعيان ، لا ما به الكون في الأعيان (٣)

اعلم أنّا نعني بالوجود ، المعنى المفهوم منه المتعارف عند العقلاء ، وهو

__________________

(١) وهو كون الأجزاء وجودات.

(٢) أنظر المباحث المشرقية ١ : ١٣٣ ـ ١٣٤ ؛ كشف المراد : ٢٩ (في أنّ الوجود ليس هو معنى زائدا على الحصول العيني). هذه العبارة ونظائرها تعرب عن الاعتقاد بأصالة الوجود ، وإن لم يصرّحوا بها ولم يلتزموا بمقدماتها ونتائجها ، ولكنّه ظاهر في كلمات أتباع المشائين. قال بهمنيار : «الوجود حقيقته أنّه في الأعيان لا غير ، وكيف لا يكون في الأعيان ما هذه حقيقته». وقال أيضا : «والفاعل إذا أفاد وجودا فإنّما يفيد حقيقته ، وحقيقته موجوديته ، فقد بان من جميع هذا أنّ وجود الشيء هو أنّه في الأعيان لا ما به يكون في الأعيان». التحصيل : ٢٨٤ و ٢٨٦.

(٣) أي بسببه تكون الماهية في الأعيان ويستند حصولها إلى الوجود ، حتى يكون الحصول في الأعيان غير الوجود.

٢٧

حصول الشيء وتحقّقه وثبوته. وقد نازع في ذلك جماعة المثبتين ، وذهبوا إلى إثبات صفة أخرى مغايرة لذلك سمّوها : «الوجود». وحينئذ يكون إطلاق لفظ «الوجود» على ما قلناه وعلى ما ذهبوا إليه بالاشتراك اللفظي. ويرجع حاصل الكلام إلى أنّه تثبت للذات صفة أخرى وراء الحصول والتحقّق. ولكن يجب عليهم إفادتنا هذا المعنى ، وإقامة البرهان عليه.

فإن قال : أعني بالوجود صفة تقتضي حصول الشيء في الأعيان ، قلنا : يستحيل أن يكون الحصول في الأعيان معلّلا بصفة قائمة بالشيء لوجوه :

الأوّل : اتّصاف الشيء بتلك الصفة التي هي علّة (١) الحصول مسبوق بحصول ذلك الشيء في نفسه ، لأنّ حصول الصفة للشيء فرع على حصول ذلك الشيء في نفسه ، فلو كان حصول غيره له (٢) علّة لحصوله في نفسه لزم الدور.

الثاني : علّة الحصول مخالفة للحصول في الحقيقة ؛ لاستحالة كون المماثل علّة ، وتلك العلّة لها حصول ، وإلّا لزم تعليل الوجود بالعدم ، فيكون حصول تلك العلّة مفتقرا إلى علّة أخرى ويتسلسل.

الثالث : لو كان الحصول في الأعيان مغايرا للوجود جاز أن تعلم الماهية كائنة في الأعيان قبل العلم بثبوت ذلك الزائد ، فلا يكون وجود الأمور المحسوسة بديهيّا بل مستفادا من الحجة ، ويلزم من الشك في تلك الحجّة الشك في وجود الأمور الضرورية.

الرابع : الإضافات موجودة على ما يأتي. وهي من حيث إنّها موجودة في الأعيان مقولة بالقياس إلى غيرها ، فلو كان وجودها (٣) مستقلا بنفسه ، لكان يمتنع

__________________

(١) ق : «عليه».

(٢) ق : «له» ساقطة.

(٣) م : «وجودا».

٢٨

أن تكون تلك الإضافات الغير المستقلّة في وجودها موجودة ، ولمّا بطل التالي بطل المقدم.

وفي هذه الوجوه نظر :

أمّا الأوّل : فإنّه معارض بنفس الوجود ، فإنّه صفة زائدة على ما يأتي ، فثبوته للشيء إن اقتضى سبق (١) ثبوت الشيء في نفسه لزم التسلسل ، وإلّا فليكن علّة الوجود غير مقتضية لسبق الوجود كما أنّ الوجود غير مقتض.

وأمّا الثاني : فإنّ العلية تقتضي المخالفة ، أمّا في الماهية فلا ، ولهذا جاز تعليل بعض أفراد النوع ببعض آخر ، إلّا أن تكون علّة بماهيته.

وأمّا الثالث : فللمنع من الملازمة الأولى ، مع أنّها لا تفيد نفي تعليل الحصول بعلّة زائدة.

وأمّا الرابع : فالمنع من الصغرى على ما يأتي.

سلّمنا ، لكن لا نسلم استقلال وجودها.

والوجه أن نقول : لو كان الوجود مغايرا للكون في الأعيان وعلّة له لكان العلم بالكون في الأعيان إمّا أن يستلزم العلم بالوجود أو لا ، والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل ، فلأنّ العلم بالكون في الأعيان ضروري ، فيجب أن لا ينفك الإنسان عن العلم بذلك الزائد ، كما لا ينفك عن العلم بالكون في الأعيان ، لكنّ التالي باطل بالضرورة.

وأمّا الثاني ، فلأنّه يستلزم جواز العلم بكون الماهية كائنة في الأعيان وانتفاء العلم بوجودها وهو ضروري البطلان.

__________________

(١) ق : «ثبت» وهو تصحيف عمّا في المتن من نسخة م وج.

٢٩

البحث الثالث : في أنّ الوجود مشترك (١)

اختلف الناس في ذلك ، فالذي ذهب إلى أنّ الوجود نفس الماهية أحال كونه مشتركا ، والذي قال بالزيادة ذهب إلى أنّه مشترك وهو الحق ، لنا وجوه :

الأوّل : الوجود بديهي التصوّر على ما سبق ، ولو لم يكن مشتركا لم يكن كذلك ، لأنّه حينئذ يكون نفس الحقيقة أو أمرا مغايرا للكون في الأعيان وكلاهما مكتسب.

الثاني : الوجود والعدم متقابلان على سبيل منع الجمع والخلوّ بينهما ، وأعرف القضايا عند العقل أنّه لا واسطة بين هذين المتقابلين ، ولمّا كان النفي مفهوما واحدا لا تعدّد فيه ولا امتياز من حيث إنّه نفي ، وجب أن يكون المقابل له كذلك ، إذ لو كان المقابل له أمورا متعدّدة لم يكن التقسيم منحصرا بين الطرفين.

الثالث : إذا عرفنا وجود ممكن جزمنا حينئذ بوجود سببه ، وإذا تردّدنا في كون ذلك السبب واجبا أو ممكنا ، وعلى تقدير كونه ممكنا هل هو جوهر أو عرض؟ وعلى تقدير كونه جوهرا هل هو مجرّد أو مقارن؟ لم يكن ذلك موجبا للتردّد في الجزم بوجود السبب ، وإذا لم يكن التردّد في الخصوصيات موجبا للتردّد في الوجود المطلق ، بل كان ثابتا حال زوال اعتقاد كل خصوصية وثبوت غيرها ، وجب كونه مشتركا بين الجميع ، أمّا لو اعتقدنا كونه ممكنا ثمّ تجدد لنا اعتقاد كونه واجبا لزم زوال اعتقاد الإمكان.

الرابع : أنّه يمكننا أن نقسّم الوجود إلى الواجب والممكن ، ويقبل العقل هذه القسمة ، ومورد التقسيم لا بدّ وأن يكون مشتركا بين الأقسام ، ولا يجوز أن

__________________

(١) أي اشتراكا معنويا ، انظر المباحث المشرقية ١ : ١٠٦ ؛ تلخيص المحصل : ٧٤ ؛ مناهج اليقين : ٩ ؛ شرح المواقف ٢ : ١١٣ ؛ الشواهد الربوبية : ٧.

٣٠

يكون مورد القسمة اللفظ ، وإنّا لو فرضنا بطلان الوضع لم تبطل قسمة العقل ، ولا خصوصيّة كل واحد من الأقسام ، وإلّا لزم انقسام الشيء إلى نفسه ومقابله ، وهو باطل قطعا. (١)

الخامس : لو لم يكن الوجود مشتركا جاز أن يكون الشيء الواحد واجبا ممكنا ، فلا يتميّز الواجب عن الممكن بالتقسيم بالوجوب والإمكان والتالي باطل فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ مفهوم الوجود إذا كان مختلفا ، جاز أن يكون الوجود للشيء الواحد بأحد مفهوميه واجبا وبالآخر ممكنا ، فلا يكون التقسيم موجبا للامتياز ، أمّا مع اتّحاد المفهوم ، فإنّه يستحيل توارد الوجوب والإمكان عليه بالنسبة إلى الشيء الواحد.

السادس : من قال : إنّ الوجود غير مشترك فقد حكم باشتراكه من حيث لا يشعر ، فإنّ حكمه بأنّه غير مشترك ليس مقصورا على وجود خاص ، بل على كلّ وجود ، فإن كان مفهوم الوجود مختلفا وجب أن يبرهن على كلّ واحد من وجودات الماهيّات بأنّه غير مشترك ، و (٢) يعتقد أنّ استدلاله على : أنّ الوجود غير مشترك ، يتناول كلّ وجود.

والاعتراض على الأوّل : المنع من الصغرى وقد تقدّم (٣).

وعلى الثاني : أن نفي كلّ حقيقة يقابله (٤) تحقّق تلك الحقيقة ، وليس بين ثبوت كل حقيقة ونفيها واسطة ، وليس ثبوتها أمرا زائدا عليها ، أو ان (٥) كان ، لكن

__________________

(١) استدل الرازي بهذا الوجه في أصول الدين : ٢٩.

(٢) م : «أو».

(٣) في المقام الأوّل من البحث الأوّل من الفصل الأوّل من المقصد الأوّل من القاعدة الأولى.

(٤) ق : «مقابله».

(٥) م : «أو كان».

٣١

لا يكون مشتركا بينها وبين غيرها ، وإلّا (١) يلزم على هذا التقدير عدم انحصار القسمة ، لأنّه لا واسطة بين تحقّق كلّ حقيقة ولا تحقّقها ، فإن ادّعيتم ثبوتا عاما مشتركا بين الموجودات في مقابله نفي عام ، فهو نفس النزاع ، ولأنّا نعارض بنفس الوجود ، فإنّا إذا قلنا : الشيء إمّا أن يكون ثابتا أو لا ، فالوجود إن لم يدخل في القسم الثابت دخل في قسم اللاثابت ، فلا يكون الوجود زائدا وإن دخل (٢) فلا (٣) شكّ في أنّه مغاير للماهية الثابتة (٤) ، فيكون الوجود مشاركا للماهية الموجودة في أصل الثبوت وممتازا عنها حينئذ بخصوصيّته ، فيكون للوجود وجود آخر ويتسلسل.

وعلى الثالث : أنّا نعتقد ثبوت شيء يقال عليه لفظة الموجود (٥) ، وإن لم نتصوّره ، ولا يلزم كونه مشتركا.

وعلى الرابع : أنّ مورد التقسيم هو الماهيّة ، فإذا قلنا : الموجود إمّا واجب أو ممكن ، فكأنّا قلنا السواد إمّا تكون سواديته واجبة أو لا ، ولأنّه آت في الوجود (٦) ، لأنّه يمكننا أن نقسم الثابت إلى الوجود والماهيّة الموجودة ، فتكون الثابتيّة مشتركة بين الوجود وغيره وهو محال.

وعلى الخامس : أنّه مصادرة على المطلوب الأوّل ، فإنّ من زعم أنّ الوجود ليس بمشترك زعم أنّ وجود كلّ شيء حقيقته المخصوصة. وإذا استحال أن تكون الحقيقة الواحدة حقيقتين ، استحال أن يكون للشيء وجودان ، فهذه الحجّة إنّما

__________________

(١) ق وج : «ولا».

(٢) أي دخل في القسم الثابت.

(٣) كذا في المباحث المشرقية ، وفي نسخة ق وم وج : «ولا».

(٤) كذا في النسخ ، والصواب بقرينة السياق «اللاثابتة».

(٥) ق وج : «الوجود».

(٦) كذا في جميع النسخ ولعلّ الصحيح : «الثبوت».

٣٢

تتمّ (١) لو ثبت كون الوجود زائدا على الماهية ، وهو نفس النزاع (٢).

وعلى السادس : أنّ الحكم على أنّ الوجود غير مشترك ، ليس حكما على الوجود من حيث هو ، بل على كلّ ما يطلق عليه لفظة الوجود ، كما في قولنا : العين غير مشترك.

والجواب عن الأوّل : ما تقدّم.

وعن الثاني : أنّ مفهوم السلب واحد ، فإنّ سلب السواد وسلب البياض لا يتمايزان إلّا بالإضافة إلى ملكاتهما ، وإذا كان مفهوم السلب واحدا ، فالمقابل له إن كان خصوصيات الماهيّات لم يكن المقابل للسلب أمرا واحدا ، بل أمورا كثيرة ويبطل الحصر ، وإن لم يكن المقابل له نفس الخصوصيّات ، بل أمرا واحدا هو الوجود ، ثبت المطلوب.

وأيضا إنّما نستعمل هذه الحقيقة (٣) لنتوصّل إلى معرفة الحقّ من أحد طرفيها ، ونصحّحه بالبرهان ، ونبطل الباطل منه بالبرهان ، ولو كان قولنا : الإنسان إمّا أن يكون موجودا أو معدوما ، وأنّه لا يخلو عن النفي والإثبات ، معناه أنّ الإنسان لا يخلو عن أن يكون إنسانا ، أو لا يكون ، لكانت حقيّة الحق وباطلية الباطل من الطرفين معلومة بالضرورة ، فإنّا نعلم قطعا أنّ الإنسان إنسان ، وأنّه يستحيل أن لا يكون إنسانا ، ولمّا كان ذلك باطلا ، بطل ما قالوه.

والمعارضة بالوجود باطلة ؛ فإنّ الوجود وإن شارك (٤) الماهيّات الموجودة في أصل الثبوت ، لكن يمتاز عنها بقيد سلبي وهو أنّه لا مفهوم له سوى الوجود

__________________

(١) ق : «تستمر».

(٢) وفي نقل الرازي «المطلوب».

(٣) أي قضية أنّ الشيء لا يخلو من النفي والإثبات.

(٤) م : «ساوى».

٣٣

وإنّما تحصل الكثرة لو كان الاشتراك بأمر ثبوتي والامتياز بأمر ثبوتي.

والتحقيق : أنّ الوجود ليس له وجود آخر وإلّا لزم التسلسل ، وكذا الماهيّات ليس لها ثبوت في أنفسها مغاير لمطلق الوجود الثابت لها ، ولا يلزم أن تكون عدميّة ، لأنّها من حيث هي هي لا ثابتة ولا معدومة على أن يكونا داخلين في مفهومها وإن لم ينفك عنها ، فالماهية المجردة عن الثبوت ليس لها ثبوت آخر ، فإنّ الماهيّة من حيث إنّها ماهيّة ليست إلّا تلك الماهية ، ولا توصف بوصفي الوجود والعدم ، لأنّهما مفهومان زائدان على مفهوم كونها تلك الماهية.

وعن الثالث : أنّا نعتقد ثبوت معنى حقيقي ، لا مجرّد لفظ وتسمية ، وذلك المعنى متصوّر لنا بالضرورة على ما سبق.

وعن الرابع : أنّ الوجوب والإمكان أمران اعتباريان عقليان من قبيل النسب والإضافات ، لا تعقل إلّا بين شيئين ، فلا يمكن أن يكون مورد القسمة هو الماهية لا غير ، لأنّه حينئذ يبقى التقدير : الماهية إمّا تكون واجبة أو ماهية ، أو لا تكون ، و (١) هذه قسمة باطلة ، فإنّ الماهية يجب أن تكون تلك الماهية ، ويمتنع أن لا (٢) تكون تلك الماهية.

وعن الخامس : أنّ هذه الحجّة تتوقّف على كون الوجود زائدا على الماهية ، لكن يمكن أن يسلّم الخصم ذلك ويمنع اشتراكه.

وعن السادس : أنّ الحكم على الشيء يستدعي تصوّر المحكوم عليه ، ولو كان الحكم على ما يطلق عليه لفظ الوجود ، فإن كان على وجود خاص وجب تصوّره ، وليس أولى من غيره ، وإن كان على وجود مطلق ثبت المطلوب.

واحتج المانعون : بأنّ الوجود نفس الماهية ، فلا يكون مشتركا ، والصغرى

__________________

(١) العبارة في م وج : «إمّا أن تكون الماهية واجبة أو تكون ماهية أو لا تكون».

(٢) ق : «لا» ساقطة.

٣٤

يأتي بيانها ، والكبرى ضرورية.

والجواب : المنع من الصغرى ، وسيأتي.

واعلم أنّ الحكم باشتراك الوجود أمر بيّن عند العقل ، فإنّه إذا نسب موجودا إلى مثله حكم بينهما بمشاركة ليست هي نسبة موجود إلى معدوم ، وذلك المشترك هو الوجود ، ولا يمكن أن يكون ذلك المشترك راجعا إلى اللفظ ، فإنّ الواضع لو وضع لطائفة من الموجودات والمعدومات لفظا واحدا ، ولم يضع لجميع الموجودات اسما واحدا ، لم تكن المقاربة بين تلك الموجودات والمعدومات المتّحدة في الاسم أكثر من التي بين الموجودات المتغايرة في الاسم.

البحث الرابع : في كيفية اشتراكه

اعلم أنّ كلّ معنى كلّي صادق على جزئيات مندرجة تحته ، فإمّا أن تتساوى تلك الجزئيات المندرجة تحته في مقوليته عليها ، ويسمّى المتواطئ ، كالحيوان بالنسبة إلى جزئياته ، وإمّا أن لا تتساوى ، بل تختلف بأحد أمور ثلاثة :

الشدّة : بأن يكون ذلك المعنى أشدّ في بعض تلك الجزئيات من غيره ، كالبياض الذي هو أشدّ في الثلج منه في العاج.

والأوّليّة : بأن يكون ذلك المعنى في بعض جزئياته أقدم منه في الآخر ، كالوجود الذي هو في العلّة أقدم منه في المعلول.

والأولويّة : بأن يكون ذلك المعنى في بعض جزئياته أولى منه في الآخر ، كالوجود فإنّه في الجوهر أولى منه في العرض.

إذا ثبت هذا فنقول : الوجود مقول بالتشكيك على ما تحته من الموجودات ، فإنّه في واجب الوجود أشدّ وأولى وأقدم منه في غيره ، وكذا ثبوته في الجواهر

٣٥

والأعراض ، بل وفي نفس الجواهر ، وكذا الأعراض. فإنّ الأعراض الباقية أولى بالوجود من غيرها. وهذا المقول بالتشكيك يقع على الجزئيات المندرجة تحته لا بالاشتراك اللفظي البحت، بل بمعنى واحد في جميع تلك الجزئيات ، ولكن لا على السواء ، بل إمّا بالتقديم والتأخير ، كوقوع المتّصل على المقدار وعلى الجسم ذي المقدار ، أو بالأولويّة وعدمها كوقوع الواحد على ما لا ينقسم أصلا ، وعلى ما لا ينقسم باعتبار دون اعتبار ، أو بالشدّة والضعف ، كالبياض على الثلج والعاج.

والمعنى الواحد المشكّك يمتنع أن يكون ماهية ، أو جزء ماهية لتلك الأشياء ، فإنّ الماهيّة لا تختلف ولا جزئها ، بل إنّما يكون عارضا خارجا لازما أو مفارقا ، فالبياض لازم لبياض الثلج وبياض العاج ، وكذا الوجود في وقوعه على وجود الواجب ، ووجودات الممكنات المختلفة بالهويّة التي لا أسماء لها بالتفصيل ، ويقع على جملتها اسم واحد. هكذا قاله أفضل المحققين.

وعندي فيه نظر ، فإنّ اسم البياض إن كان للمعنى الأزيد أو الأنقص أو الأوسط لم يكن دالّا على الباقيين إلّا بنوع من المجاز ، وإن كان للمعنى المشترك بينها كان متواطئا ، وليس اختلاف هذه الجزئيات أشدّ من اختلاف الأنواع المندرجة تحت جنس واحد.

لا يقال : الحرارة اسم للكيفية التي تصدر عنها الآثار المحسوسة ، فإذا كانت تلك الكيفيّة في بعض الجزئيات أكثر تأثيرا من غيرها ، كانت أولى باسم الحرارة ، وكذا البياض وشبهه ، وهذا هو معنى المشكّك.

لأنّا نقول : الجوهر أيضا كذلك.

وبالجملة : فعندي في المشكّك إشكال ، وليس هذا موضع تحقيقه.

فالموجودات على ما ذكره معان مجهولة الأسماء ، شرح أسمائها أنّه موجود

٣٦

كذا أو (١) الموجود الذي لا (٢) سبب له ، ثم يلزم الجميع في الذهن الوجود العام ، كما أنّا لو لم نعرف الكميّة والكيفيّة وغيرهما من الأعراض بأسمائها ورسومها لكنّا نقول في الكم : هو عرض ما أو موجود ما في موضوع. ونسبة الوجود إلى أقسامه كنسبة الشيء إلى ما تحته ، لكنّ أقسام الشيء معلومة الأسماء والخواص ، ولا كذا أقسام الوجود ، وهذا كما أنّ أنواع الأعداد معان مجهولة الأسامي فيعبّر عنها ببعض لوازمها ، فيقال : عشرة ، أي العدد الذي من خواصّه ولوازمه الانقسام إلى عشرة آحاد.

البحث الخامس : في أنّ الوجود زائد على الماهيّة (٣)

اختلف الناس في ذلك ، فذهب «أبو الحسن الأشعري» (٤) و «أبو الحسين البصري» (٥) إلى أنّ وجود كل شيء نفس ماهيته.

__________________

(١) ق : «و» بدل «أو».

(٢) م : «لا» ساقطة.

(٣) لاحظ الكتب التالية في هذا البحث : المباحث المشرقية ١ : ١١٢ ؛ أصول الدين للرازي : ٣٠ ؛ مناهج اليقين : ١٠ ؛ كشف المراد : ٢٤ ؛ المواقف : ٤٨.

(٤) هو علي بن إسماعيل بن أبي بشر ـ واسمه إسحاق ـ بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى ، أبو الحسن الأشعري المتكلّم صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة وغيرهم. وهو بصري سكن بغداد إلى أن توفّي بها. ولد أبو الحسن الأشعري في سنة ستين ومائتين ، ومات سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة ، وذكر لي أبو القاسم عبد الواحد بن علي الأسدي أنّ الأشعري مات ببغداد بعد سنة عشرين ، وقبل سنة ثلاثين وثلاثمائة ، ودفن في مشرعة الروايا في تربة إلى جانبها مسجد. تاريخ بغداد ١١ : ٣٤٦.

(٥) هو محمد بن علي بن الطيب ، أبو الحسين المتكلّم ، صاحب التصانيف على مذاهب المعتزلة ، بصري سكن بغداد ودرس بها الكلام إلى حين وفاته ، ومات ببغداد في يوم الثلاثاء الخامس من شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وأربعمائة ، ودفن في مقبرة الشونيزي. تاريخ بغداد ٣ : ١٠ ، ووفيات الأعيان ٤ : ٢٧١.

٣٧

وقال أصحاب «أبي هاشم» (١) : أنّه زائد على الماهيّة مطلقا.

وأمّا الأوائل ، فإنّهم فصّلوا وقالوا : وجود الله تعالى نفس حقيقته ، وأمّا وجودات الممكنات ، فإنّها زائدة على ذواتها.

وسيأتي البحث في وجود واجب الوجود تعالى ، وأمّا وجود الممكنات ، فالحقّ أنّه زائد(٢) عليها لوجوه :

الأوّل : إنّ الوجود مشترك بين الموجودات على ما سبق ، فيكون مغايرا لها ، وإلّا لزم اشتراك الماهيّات في خصوصياتها ، واللازم باطل بالضرورة.

الثاني : لو كان الوجود نفس الماهيّة لكان قول القائل : الجوهر موجود يتنزّل منزلة قولنا : الجوهر جوهر ، أو الموجود موجود ، والتالي باطل قطعا ، فإنّا ندرك تفرقة بين حمل الوجود على الجوهر وبين حمل الجوهر على نفسه ، ونعقل من الأوّل قضية حملية مفيدة دون الثاني ، فيكون المقدّم باطلا.

لا يقال : إذا قلنا : السواد موجود ، أردنا به أنّ المتصوّر في العقل موجود محصّل في الخارج ، وذلك لا يقتضي أنّ كونه محصّلا في الخارج زائد عليه ، بل يقتضي امتياز كونه محصّلا في الخارج عن كونه متصوّرا في الذهن. ولأنّا نقول : الليث أسد فيفيد ، ولو قلنا : الليث ليث لم يفد.

ونقول : واجب الوجود موجود مع أنّ وجوده نفس حقيقته.

لأنّا نقول : نحن لا ندّعي أنّ الوجود زائد على كونه محصّلا في الخارج ، بل

__________________

(١) هو أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي محمّد الجبّائي ، كان هو وأبوه من كبار المعتزلة. ولد أبو هاشم سنة ٢٤٧ من الهجرة ، وتوفي سنة ٣٢١ ببغداد ، والجبّائي ـ بضمّ الجيم وتشديد الباء الموحّدة ـ وهي نسبة إلى قرية من قرى البصرة. وفيات الأعيان ٣ : ١٨٣.

(٢) وهو رأي الحكماء بمعنى أنّه زائد عليها بتحليل العقل لا في الخارج ، خلافا للأشعري حيث يقول بعينية مفهومهما أيضا.

٣٨

كونه محصّلا في الخارج زائد على سواديته ، وما ذكرتموه تسليم لنا في ذلك ، فقولنا : الليث أسد ، نشير به إلى أنّه سمّي (١) باسم الأسد ، فالحمل في اللفظ بعد الوضع ، ولو انتفى الوضع انتفى الحمل بخلاف حمل الوجود على السواد ، فإنّه يصحّ وإن لم يكن وضع ، وحمل الوجود على واجب الوجود حمل على المغاير ، فإنّ المفهوم من واجب الوجود ليس نفس حقيقته ، بل وصف سلبي معناه المستغني عن غيره.

الثالث : الوجود بديهي التصوّر ، والماهية ليست كذلك ، فالوجود مغاير للماهية.

الرابع : الوجود مقابل للعدم ، وقابل للقسمة بالوجوب والإمكان ، وخصوصيات الماهيّات غير قابلة لهذه الأحكام.

الخامس : لو لم يكن الوجود زائدا على الماهية لزم نفي الإمكان ، والتالي باطل بالضرورة فالمقدّم مثله.

بيان الشرطيّة : أنّ الماهية بشرط الوجود يستحيل عليها العدم ، وبشرط العدم يستحيل عليها الوجود ، فلا تكون ممكنة مع هذين الاعتبارين ، وإنّما تكون ممكنة من حيث هي هي ، فلو كان الوجود نفس الماهية استحال الحكم عليها بإمكان العدم والوجود ، لاستحالة قبول الشيء لما ينافيه وتزايد الوجود.

السادس : لو لم يكن الوجود زائدا على الماهية ، لكان إمّا نفس الماهية أو جزئها ، والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل : فلما تقدّم. ولأنّه يلزم امتناع إقامة برهان ما على وجود شيء واستحالة التشكيك في وجود كلّ شيء.

__________________

(١) م وج : «مسمّى».

٣٩

لا يقال (١) : سلّمنا ، أنّ الشك يدلّ على المغايرة ، لكنّه إنّما يثبت بالنسبة إلى الموجود الخارجي ، أمّا الذهني فلا.

لأنّا نقول : قد نعقل الماهية ونشك في وجودها الذهني ، ولهذا أنكره جماعة ، فالوجود الذهني وإن كان لازما للشعور بالشيء لكنّه غير لازم في الشعور به (٢). ولأنّ الماهية الموجودة في الأعيان ، وهي غير معقولة لعاقل ، تكون حقيقتها حاصلة ، ووجودها الذهني غير حاصل ، ويلزم منه المطلوب.

لا يقال : نعارض بالوجود ، فإنّا نتصوّره ونشك في حصوله في الأعيان ، فيلزم أن يكون للوجود وجود ويتسلسل.

لأنّا نقول : الشك في الشيء قد يكون في ثبوته لشيء ، وقد يكون في ثبوت آخر له. والشك في الوجود إنّما هو بالمعنى الأوّل ، لا بمعنى ثبوت وجود آخر له ، لامتناع وصف الوجود بالوجود والعدم ، فإنّه (٣) لو اتصف بالوجود لزم التسلسل ، ولو اتّصف بالعدم ، لكان الشيء موصوفا بنقيضه ، وإذا كان معنى الشك في الوجود هو أنّه هل هو ثابت لغيره أو لا؟ ثبت المطلوب. أمّا الشك في الماهية فليس معناه هذا ، بل هل ثبت (٤) لها وجود أم لا؟ وفيه نظر.

ولأنّ الوجود مستند إلى الفاعل وحاصل بجعل جاعل ، بخلاف الماهية.

ولأنّ الفصل علّة لوجود الحصّة لا لماهياتها.

ولأنّ العلّة متقدمة على المعلول في الوجود لا في الماهية.

__________________

(١) لا يقال الأوّل والثاني مع الجواب عنهما موجود في المباحث المشرقية ١ : ١١٥.

(٢) أي بالوجود الذهني.

(٣) م : «لأنّه».

(٤) ق وج : «يثبت».

٤٠