نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

اللازمة لماهية ما يعرضان له ، فإنّه المتنازع ، ولو سلّمنا وجوب حلول المقدار في محل قائم بذاته غير موجود في موضوع ، فلم قلتم إنّه يجب أن يكون حينئذ حالّا في المادة؟!

المسألة الثانية : في تحقيق كون المقدار تعليميّا (١)

اعلم أنّ أنواع المقدار المتصل ذي الوضع ، ثلاثة (٢) ؛ لأنّ المقدار لا بدّ فيه من الانقسام ، فخرجت النقطة ـ التي هي شيء غير منقسم ـ عنه ، وبقي ما ينقسم في جهة واحدة وهو الخط ، وما ينقسم في جهتين وهو السطح ، وما ينقسم في الثلاث وهو الجسم التعليمي. ولا يمكن الزيادة عليها ، لأنّ الخطوط المتقاطعة على زوايا قائمة لا تزيد أبعادها عن الثلاثة.

ثمّ قد سبق أنّ هذا المقدار لا يفارق المادة في الخارج عند أكثرهم ، ويمكن أن يفارقها في الذهن (٣) ، فإنّه يمكننا أن نعتبر مجرّد المقدار وإن لم نلتفت إلى موادّه ككونه مقدارا لأرض أو لماء أو لهواء ، فإذا تخيّلنا الجسمية ـ التي هي الأبعاد الثلاثة ـ من غير اعتبار شيء من المواد البتة (٤) ، ولا أحوالها ، كان ذلك المتخيّل هو الجسم التعليمي ، لأنّه موضوع بعض علم الهندسة.

ثمّ [إنّ] تلك الأبعاد الثلاثة المتخيّلة لا تتخيل ، ولا تحسّ إلّا جسما متناهيا ،

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٣٢٠ ـ ٣٢١.

(٢) أي الكم المتصل القارّ ، راجع مقولات أرسطو من منطقه ١ : ٤٣ ؛ شرح الإشارات ٢ : ١٥٤ وما بعدها ، وراجع في لزوم تعريف المقدار ب «ذي الوضع» شرح شرح الإشارات لقطب الدين الرازي ، والفصل الرابع من المقالة الثالثة من إلهيات الشفاء.

(٣) انظر «كيفية مفارقة السطح للجسم والخط للسطح توهما» في الفصل الرابع من المقالة الثالثة من إلهيات الشفاء.

(٤) م : «البتة» ساقطة.

٣٨١

فتخيّلنا السطح حينئذ ، لأنّه نهاية الجسم ، فإن تخيّلنا السطح من حيث هو ذو بعدين لا غير ، ولم نعتبر كونه مصاحبا للجسم ولا لما يعرض له من الألوان وغيرها بالإطلاق كالخشونة والملاسة (١) وغيرهما (٢) ، كان هذا المتخيّل هو السطح التعليمي. فإن تخيّلنا السطح متناهيا ونظرنا إلى نهايته من حيث هي ذو بعد واحد لا غير ، ولم نلتفت إلى أنّ ذلك الخط يستصحب السطح ، ولا غيره من الأعراض القائمة به كالاستقامة وغيرها (٣) ، كان ذلك المتخيّل خطا تعليميا. وإذا تخيّلنا الخط متناهيا تخيّلنا نهايته وهي النقطة ، فإذا نظرنا إليها من غير التفات إلى مصاحبة الخط وغيره ، فقد جرّدنا النقطة في النظر والاعتبار ، فهذه المقادير إذا أخذت مجرّدة في الذهن عما عداها كانت هي المقادير التعليمية ، لأنّها موضوع علم التعاليم.

واعلم أنّ أخذ الجسم تعليميا يفارق أخذ السطح والخط كذلك ، لأنّ الجسم يمكن أخذه باعتبار أن لا يكون معه شيء آخر كمادة وغيرها ، ويمكن أخذه لا باعتبار أن يكون معه شيء آخر ، وبين الاعتبارين فرق ظاهر ، فإنّ الأوّل أخذ شيء بشرط أن لا يكون معه غيره ، والثاني أخذ شيء لا بشرط أن يكون معه غيره. وأمّا السطح والخط فلا يمكن أخذهما بالاعتبار الأوّل ، بل بالثاني لا غير ، فإنّه لا يمكن تخيّل السطح إلّا بشرط أن يكون معه جسم ، لأنّه لا يمكن أن يتخيّل إلّا على وضع خاص ، ويتوهّم له جهتان ، فيكون منقسما جسما لا سطحا (٤) وكذا الخط والنقطة.

__________________

(١) الملاسة عبارة عن استواء وضع الأجزاء ، والخشونة عبارة عن كون بعضها أرفع وبعضها أخفض.

(٢) كالاستواء والاستدارة.

(٣) كالانحناء ، وهما فصلان منوعان للخط.

(٤) راجع الإشارات ٢ : ١٥٧.

٣٨٢

المسألة الثالثة : في النقطة (١)

وهي الجوهر الفرد عند المتكلّمين (٢) ، وسيأتي البحث فيه. (٣)

وعند الأوائل أنّها عرض قائم بالجسم هي طرف الخط ورسموها بأنّها شيء لا ينقسم بوجه ، ويجب تعيين الشيء بذي الوضع. وإنّما لم ينقسم ؛ لأنّها نهاية الخط ، فلو انقسمت لكان الجزء الأخير منها هو النهاية. ومن هنا نعرف أنّ الخط لا ينقسم في العرض ، والسطح لا ينقسم في العمق. وإذا اجتمعت نقط متعددة لم يحصل منها خط ؛ لأنّ النقطة الوسطى إن لاقت الطرفين بالاسر كان مداخلة ، فلم يحصل مقدار ولا خط ولا غيره ، وإن لاقتهما لا بالاسر انقسمت ، فلا تكون كلّها هي النقطة.

وقد يقال على سبيل التفهيم : إنّ النقطة بحركتها تفعل الخط ، وليس ذلك على وجه التحقيق ؛ لأنّ حركة النقطة إنّما تكون على شيء من جسم أو سطح أو خط ، فتكون متأخرة عنه (٤).

البحث الثاني عشر : في المكان

وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : في ماهيته (٥)

اختلف القائلون بثبوته في الأعيان في ماهيته ، وضبط المذاهب فيه أن نقول :

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٣٢٤ ـ ٣٢٦.

(٢) راجع الجويني ، الشامل : ٤٦. وفي المعجم الفلسفي لصليبا : «النقطة ثلاثة أقسام : مادية ورياضية ومتافيزيقية ... وأمّا النقطة المتافيزيقية فهي الذرة» ٢ : ٥٠٣.

(٣) في الفصل الأوّل من النوع الأوّل من القاعدة الثالثة من المجلد الثاني.

(٤) راجع الفصل الرابع من المقالة الثالثة من إلهيات الشفاء «في إبطال ما قيل : إنّ النقطة يرتسم منها الخط».

(٥) راجع الفصل السادس من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ طبيعيات النجاة : ١١٨ ـ ١٢٤.

٣٨٣

المكان إمّا أن يكون جوهرا ، أو عرضا ، فإن كان جوهرا ، فإمّا أن يكون قائما بذاته غنيا عن غيره أو لا.

والأوّل هو البعد المفطور الذي بين طرفي الإناء الخالي مثلا أو شبهه ، فإنّ بين غايات الإناء الحاوي للماء أبعادا ثابتة تتعاقب عليها الأجسام ، مساو لما يملأ الإناء منها ، وكذا بين الجدارين وشبههما. ثمّ منهم من جوّز خلو هذا البعد عن المتمكن (١) ، ومنهم من منع. وإن افتقر إلى غيره فهو جزء الجسم إمّا المادة أو الصورة. وإن كان عرضا ، فإمّا أن يكون عبارة عن أي سطح كان ، أو عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المساوي للسطح الظاهر من الجسم المحوي.

والأوّل : مذهب مشهور عند قدماء الحكماء ومتأخّريهم ، ومذهب المتكلّمين آئل إليه ؛ لأنّهم يجعلون المكان هو الفراغ المتوهّم الذي يشغله المتمكّن بالحلول فيه (٢) ، وهو المعتمد عندي.

والثاني : مذهب افلاطون (٣) فإنّه جعل المكان هو الهيولى ؛ لأنّ المكان هو الذي تتعاقب عليه أشياء هي المتمكنات ، والمادة تتعاقب عليها أشياء هي الصور ، فكانا (٤) واحدا.

والثالث : مذهب بعض القدماء ، فإنّ المكان محدود حاصر ، والصورة محدودة حاصرة (٥).

وهذان المذهبان باطلان ؛ لأنّ المكان يفارقه المتحرك بالحركة وينتقل عنه

__________________

(١) وهم القائلون بالخلاء.

(٢) كتاب التعريفات : ٢٩٢.

(٣) راجع المواقف ١١٥ ؛ القبسات : ١٦٤ ، ؛ نهاية الحكمة : ١٣٠.

(٤) أي المكان والهيولى.

(٥) وعلى الرأي الثاني والثالث يكون المكان جوهرا.

٣٨٤

وإليه ، وهو باق في الحالين ، ولا شيء من الهيولى والصورة كذلك ؛ لاستحالة مفارقة الشيء جزئه مع بقائه. ولأنّ المكان مطلوب بالحركة ، والهيولى والصورة لا تطلبان بالحركة ، وليس الكائن الفاسد يطلب صورة لبطلانه عند مفارقة الأولى وحصول غيره. ولأنّ المركّب قد ينسب إلى مادّته ، فيقال : باب خشبي وخاتم فضي ، والشيء لا ينسب إلى مكانه. وأدلّتهم من موجبتين في الشكل الثاني ، فتكون عقيمة غير ناتجة.

وأمّا القائلون بأنّ المكان هو السطح مطلقا فقد احتجّوا عليه ، بأنّ الفلك الحاوي متحرك ، وكلّ متحرك فله مكان ، لكن ليس له سطح من حاو (١) محيط به ، وإلّا لزم عدم تناهي الأجسام ، فلم يبق مكانه إلّا سطح الفلك الذي تحته. ولأنّ كلّ جسم لا بدّ له من مكان ، والأبعاد متناهية ، فلو لم يكن مكان الحاوي سطح المحوى كذبت الكلّية الصادقة.

وهو خطأ لمنع الكبرى ، نعم المتحرك في الأين يجب أن يكون له مكان ، لكن حركة المحدد ليست في الأين ، بل في الوضع. والمكان إن جعلناه البعد صدقت الكلّية على تقدير التناهي ، لأنّ المحدّد في بعد وإن جعلناه السطح الحاوي ، لم يجب صدق الكلّية ، فإنّه لا برهان عليها ، بل على نقيضها. ثمّ يقابل هذا المشهور لمشهور آخر ، وهو أنّ الناس اتّفقوا على أنّ مكان الجسم الواحد واحد ، ولو جعلناه أيّ سطح كان ، لكان لكل ما تحت المحدّد مكانان ، وهو محال.

فإذا بطلت هذه الأقوال بقى (٢) المشهور أمران :

الأوّل : أن يكون المكان هو البعد على ما اخترناه (٣).

__________________

(١) م : «خارج».

(٢) كذا في المخطوطة.

(٣) ق : «أخرناه».

٣٨٥

والثاني : السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوى.

فلنشرع في تحقيق الحق منهما فنقول :

إنّ بعض من جعل المكان هو البعد زعم أنّه ضروري ، وأنّ العلم به لا يفتقر إلى دليل ، ومنهم من جعله كسبيا ، واستدل عليه بوجوه (١) :

أ : كون الجسم في المكان ضروري ، وليس احتياجه إلى المكان لسطحه ، فإنّه عرض قائم به عندكم ، بل لجسميته ، والمكان مساو للمتمكن عند العقلاء ، ومساو البعد بعد ، لكنّ أبعاد الجسم ثلاثة ، وللمكان أبعاد ثلاثة ، وهو المطلوب.

ب : إذا اختلطت البسائط حصل نوع اشتباه بينها ، وإنّما يتميّز بعضها عن بعض برفع البعض إلى أن يبقى واحد ، فحينئذ يحصل امتيازه عنها ، ولمّا كان المكان تتعاقب عليه المتمكنات ، وجب أن يعتمد في امتيازه إلى رفعها كلّها ، فالباقي بعد ذلك الرفع يكون هو المكان ، ونحن إذا فرضنا خروج الماء من الإناء ، وعدم دخول الهواء فيه ، حكمنا بأنّ الأبعاد التي كان الماء والهواء يداخلها باقية خالية عن مالئ ، فعرفنا أنّ المكان هو البعد الباقي ، وأنّ ذلك البعد قد كان موجودا حال وجود المالئ فيه.

ج : لو كان المكان هو السطح الحاوي لزم الحكم بحركة ما هو ساكن ، وبسكون ما هو متحرك ، والتالي باطل بالضرورة فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ المكان إذا كان هو السطح الحاوي ، يكون الحجر الواقف في الماء الجاري ، والطير الواقف في الهواء ، متحركين ، لأنّهما تفارقان كلّ حال سطحا حاويا لهما ، ويرد عليهما سطح آخر حاو ، والحركة عبارة عن انتقال الجسم

__________________

(١) انظر الوجوه في الفصل السادس من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء.

٣٨٦

من مكان إلى مكان ، وقد حصل هذا المعنى فيهما ، فكانا متحركين مع أنّهما ساكنان بالضرورة ، وكلّ سكون ففي مكان واحد ، فليس السطح ، فهو البعد الذي لا ينتقل ولا يتبدّل بوجه ، بل يكون ثابتا (١) ، وإنّما تحرك الجسم الحاوي له أو لا (٢) ، ويكون كلّ فلك محوي وكلّ كوكب ساكنا لملازمته السطح الحاوي له ، والضرورة قاضية بحركة الشمس وسكون الحجر في الماء الجاري.

د : من شأن المكان الثبات والبقاء وعدم الحركة والزوال ، وهذا إنّما يتحقّق في البعد ، فإنّه لا يزول ولا ينتقل عن موضعه ولا يتحرك البتة ، وأمّا نهايات المحيط فإنّها قد تتحرك بوجه ما وتزول.

ه : الناس يصفون المكان بالخلو والفراغ تارة ، وبالامتلاء أخرى ، ولا يصفون السطوح بذلك ، فتغايرا.

و : لو جعلنا المكان هو السطح المماس لسطح المتمكن لم يكن لأجزاء المتمكن مكان ، ولو كان عبارة عن البعد كان لها مكان.

ز : النار في حركتها إلى فوق والأرض في حركتها إلى أسفل تطلب مكانا بكلّيتها ، ولا يطلب نهاية الجسم الذي فوقه أو تحته ، فإنّ النهاية يستحيل أن يلاقيها جسم ، فالمطلوب هو البعد على الترتيب.

اعترض على (٣) أ : بانّكم إن عنيتم بكون الجسم مقتضيا للمكان ، أنّه بجسميته يصحّ أن يحيط به جسم آخر فذلك مسلّم ، ولا (٤) يلزم منه مقصودكم ،

__________________

(١) في الشفاء : «دائما واحدا بعينه».

(٢) كذا في النسخ.

(٣) انظر الاعتراضات والجواب على الوجوه في الفصل التاسع من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٣٣٥ ـ ٣٣٦.

(٤) في المباحث المشرقية : «لا» ساقطة.

٣٨٧

وإن عنيتم به أنّ كلّ بعد من جسميته يقتضي بعدا يكون فيه ، فهو مصادرة على المطلوب الأوّل.

وفيه نظر ، لأنّ الأوّل غير ممكن الإرادة ، وإلّا لزم أن يكون كلّ جسم كذلك ، فالمحيط له محيط ، ويلزم عدم تناهي الأبعاد ، وهو محال. بل المراد المعنى الثاني ، وليس مصادرة على المطلوب الأوّل ، بل هو حكم ضروري يشهد به العقل ، فإنّا نعلم بالضرورة أنّ أبعاد الجسم مساوية للأبعاد التي داخلها الجسم.

وعلى ب : بأنّه يلزم ممّا فرضتموه وجود البعد ، ولكنّ الذي فرضتموه محال عندنا ، واللازم عن المحال لا يجب أن يكون صحيحا ، بل يجوز أن يكون محالا.

وفيه نظر ، لأنّ المحال لم يلزم من فرضنا ، بل من الخلاء ، لا من إثبات البعد ؛ لأنّ العقل حاكم بثبوته ، أقصى ما في الباب أنّكم تدّعون وجوب انتفاء الخلاء ، ونحن ننازعكم فيه على ما يأتي ، ولكنّ ذلك لا مدخل له في إثبات البعد ونفيه.

وعلى ج : إن عنيتم بسكون الطير في الهواء ، عدم تبدّل نسبته إلى الأمور الثابتة ، فهو ساكن بهذا المعنى ، لكن لم قلتم إنّ السكون بهذا المعنى يقتضي الاستقرار (١) في مكان واحد؟! وإن عنى بالسكون نفس الاستقرار في مكان واحد ، فهذا الجسم ليس بساكن.

ثمّ المتحرك إن عنى به ما يكون مبدأ المفارقة للأمور الثابتة فيه من ذاته أو من غيره ، فهذا متحرك. وإن عنى به ما يكون مبدأ المفارقة من ذاته ، فهذا ليس بمتحرك ولا ساكن ، ولا امتناع في ذلك ، فإنّ الجسم في الآن ليس بمتحرك ولا ساكن.

وفيه نظر ، فإنّ كلّ عاقل يجزم بسكون الطير في الهواء ، والحجر في الماء ، وإن

__________________

(١) كذا في المباحث المشرقية ، وفي المخطوطة : «الاستمرار» ومثله فيما يأتي لاحقا.

٣٨٨

استبدلا سطوحا بعد سطوح على التعاقب ، والسكون هو حصول الجسم في مكان واحد أزيد من زمان واحد ، أو عدم الحركة عمّا من شأنه أن يتحرك ، مع أنّ الحركة تستلزم تعاقب الأمكنة على التساوي ، فلمّا كان هذا الجسم ساكنا ، وكلّ ساكن فإنّه يحفظ مكانا واحدا(١) ، وهذا لا يحفظ سطحا واحدا ، جزم العقل بالمغايرة بين المكان والسطح.

وعلى د : إنّ المكان من شأنه أن لا يتحرك بذاته ، لا أنّه لا يتحرك مطلقا ، فإنّ عدم حركته بالعرض غير مشهور ولا مسلّم ، كيف والمشهور بين الناس أنّ الجرّة مكان للماء وأنّها تتحرك؟!

وفيه نظر ، فإنّه من المشهور أنّ المكان لا يتحرك ، لا بالذات ولا بالعرض ، وإلّا وجب أن يكون له مكان ، لأنّ كلّ متحرك سواء كان بالذات أو بالعرض فله مكان ، والجرة ليست مكانا اتفاقا ، بل إمّا البعد الذي احتوت عليه ، أو السطح الباطن منها ، لكنّ السطح منتقل بانتقالها بخلاف البعد ، فكان جعله في المشهور مكانا أولى من جعل السطح.

وعلى ه : بأنّ الأمور المبنيّة على العرف والعادات ، لا يصحّ التعويل عليها في العقليات ، مع أنّ الناس لا يمتنعون من أن يقولوا : إنّ البسيط الذي هو داخل الجرة مملوء وفارغ.

وفيه نظر ، لأنّ احتياج الجسم إلى المكان أمر حاصل عند فطرة العقل (٢) ، ولا شكّ في أنّ العقل يقسّم المكان إلى حالتي الخلو والامتلاء ويجزم به جزما ضروريا ، فليس مستندا إلى عرف أو عادة يمكن تغييرهما ولا يكون لهما

__________________

(١) ق وج : + «وهذا لا يحفظ مكانا واحدا» ، ولعلّه من زيادة الناسخ.

(٢) قال صدر المتألهين : «ثم من أمعن النظر في حال كل جسم طبيعي يجد أنّ في جبلته طلب المكان والمحافظة عليه» ، الأسفار ٤ : ٤٨.

٣٨٩

أصل عقليّ (١) ، ووصف البسيط بالخلو والامتلاء باعتبار الأبعاد التي اشتمل عليها.

وعلى و : أيّ برهان قام على أنّ لكلّ جسم مكانا ، حتى يحصل لأجزاء البعد مكان؟! بل لها وضع ، والفلك الأقصى له وضع وحركة فيه ، فأمّا أنّ لكل جسم مكانا لا محالة ، فذلك ممّا لم يثبت البتة ، وإذا لم يثبت لم يلزمنا الحكم بأنّ المكان هو البعد لا غير.

وفيه نظر ، لأنّا ندّعي أنّ افتقار كلّ جسم إلى مكان بالمعنى الذي ذكرناه ـ وهو البعد ـ ضروري ، فإنّ الضرورة قاضية بأنّ للجسم أبعادا ثلاثة ، وأن مطابق الأبعاد مساو لها.

وعلى ز : بأنّ طلب النهاية على وجهين :

الأوّل : هو أن يطلب الحجم أن يدخل في نفس السطح ، وذلك محال.

الثاني : أن يطلب أن يلاقيه الآخر ملاقاة المحيط المحاط ، وهذا المعنى يتحقّق مع القول بجعل النهاية مكانا.

وفيه نظر ، فإنّ النار كما تطلب القرب من المحيط كذلك كلّ جزء منها ، فيكون المطلوب هو البعد خاصة.

احتج القائلون بأنّ المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي ، بأنّ للمكان خواص :

أ : أن يكون الجسم فيه.

ب : أنّه لا يسع غيره معه.

ج : أنّه يفارق بالحركة.

د : أنّه يقبل المنتقلات.

__________________

(١) في جميع النسخ : «أصلا عقليا» ، أصلحناها طبقا للسياق.

٣٩٠

ثمّ قد يقال لما يستقر عليه الجسم ويمنعه من النزول : إنّه مكان ، ولمّا تأملوا الجسم الأسفل عرفوا أنّه بأجمعه ليس مكانا للأعلى ، إذ لو عدم الجسم ولم يبق إلّا سطحه الحاوي لكان هو المكان ، لأنّ الأعلى يمكنه أن يستقر عليه ويمنعه من النزول.

ثمّ إنّهم يجعلون للسهم النافذ في الهواء مكانا ، وللطير الواقف في الجو مكانا ، وليس تحتهما ما يمنعهما من النزول ، فيحصل من أقوالهم أنّ المكان هو السطح المماس الحاوي لوجود الأمارات الأربع المتفق عليها بين الجماهير فيه ، فإنّ الجسم يحصل فيه ، ولا يسع معه غيره ، ويفارقه المتحرك بالحركة ، ويقبل المنتقلات. وأيضا القول بأنّ المكان هو البعد محال ، فيكون هو السطح ، إذ لا يعقل غيرهما. وبيان الأوّل من وجوه (١) :

الأوّل : لو كان المكان هو البعد لزم التداخل ، أو حلول المعدوم في المعدوم ، أو حلول المعدوم في الموجود ، أو بالعكس ، أو مساواة الكل للجزء في المقدار. والأقسام بأسرها باطلة بالضرورة ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ المكان لو كان هو البعد لكان مغايرا لبعد الجسم المتمكن بالضرورة ، فإذا حلّ فيه فإمّا أن يبقى البعدان كما كانا متميزين ، فيكون الكلّ مساويا لجزئه في المقدار ، ضرورة عدم اتّساع الإناء بعد حلول الماء فيه ، وعدم زيادة مقدار الماء باعتبار حلوله في الإناء ، وإن لم يبقيا متميزين لزم التداخل. وإن حصل العدم ، فإن عدما معا لزم حلول المعدوم في المعدوم ، وإن عدم المتمكن لزم حلول المعدوم في الموجود ، وإن عدم المكان لزم العكس.

الثاني : لو كان المكان هو البعد لزم اجتماع بعدين متماثلي الماهية في مادة

__________________

(١) راجع الفصل السابع من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٣٣٦ ـ ٣٣٨.

٣٩١

واحدة ، فلا يحصل الامتياز بينهما بالذاتيات ولا باللوازم ، لتساويهما في الماهيّة ولوازمها ، ولا بالعوارض (١) لتساوي نسبتها إليهما ؛ لأنّ المثلين إذا حلّا في مادة واحدة ، لم يكن أحدهما بعروض العارض له أولى من الآخر ، فإمّا أن يكون عارضا لهما ، أو لا يعرض لشيء منهما ، وعلى التقديرين يرتفع الامتياز والاثنينية والتعدّد ، ويلزم من ذلك ما تقدّم من المحالات.

لا يقال ، يمتاز أحدهما عن الآخر بكون أحدهما حالّا في الجسم ، والآخر محلّا له.

لأنّا نقول : إنّهما مثلان ، فتخصيص أحدهما بالحاليّة والآخر بالمحلّية ترجيح من غير مرجح.

الثالث : البعد الشخصي هو البعد المشار إليه بين طرفي هذا الإناء ، أو بين هذين الجدارين مثلا ، فلو كان المكان هو البعد ، مع أنّ للمتمكن بعدا آخر لاجتمع بين طرفي الإناء بعدان ، مع أنّ البعد المشار إليه الشخصي (٢) ليس إلّا بعدا واحدا ، وذلك يفضي إلى الشك في المحسوسات في أنّ الواحد منها هل هو واحد أم أكثر؟ بل جوّز العقل أن يكون أكثر من بعدين وثلاثة ، وإلى ما لا يتناهى ، وهذا معلوم البطلان بالضرورة ، فإذن ليس بين طرفي الإناء إلّا بعد المتمكن.

لا يقال : إنّما حكمنا بتعدّد البعد بين طرفي الإناء ، لأنّا قدّرنا خروج المتمكن منه ، وعدم دخول آخر ، ثمّ وجدنا بعد ذلك بعدا فارغا فحكمنا بوجوده حال خلوه عن بعد المتمكن ، فإذا فرضنا وجود المتمكن فيه علمنا أنّه قد اجتمع بعدان ، بخلاف غيره من الأشخاص ، فإنّ المحسوس من الجسم الواحد ليس إلّا الواحد ، فلا يلزم تشكك العقل في أنّ هذا الإنسان واحد أو اثنان؟ ولا البعد ثلاثة

__________________

(١) أي العوارض المفارقة.

(٢) ق : «الشخصين».

٣٩٢

أو أزيد؟

لأنّا نقول : فرض خروج الماء وعدم دخول جسم آخر فيه فرض لوجود الخلاء ، وهو محال ، فيكون المبنيّ عليه محالا ، ولو فرضنا إمكانه ، لكن استفدنا منه أنّ الواحد في الماهيّة وفي الإشارة الحسية ، قد لا يكون واحدا بالشخص ، بل كثيرا به. وإذا جوّزنا ذلك ، وثبت أنّ هذا الطريق لم يوجد في الإنسان المشار إليه ، ولكن مع ذلك لا يمكننا القطع بكونه إنسانا واحدا ، لإمكان وجود طريق آخر يقتضي ما اقتضاه الأوّل من كثرة الإنسان الواحد وتعدّده بالشخص كما في البعد ، وإن لم يعلم ذلك الطريق ، فيلزم ممّا قالوه الشك في وحدة جميع الأشخاص.

الرابع : من المعلوم بالضرورة امتناع تداخل الأجسام ، والمعنيّ من امتناع تداخلها وجوب تباينها في الأحياز ، بحيث يكون حيّز كلّ واحد منها يباين حيّز الآخر ويغايره ، والضرورة قاضية بإسناد هذا الحكم في الأجسام إلى الشيء الذي له بذاته حصول في الحيّز والجهة ؛ لأنّ ما عداه من الصور والأعراض لا مدخل له في هذا الامتناع ، لأنّ ما لا يكون بذاته حاصلا في الحيّز استحال أن يقتضي أن يكون بذاته حاصلا في جهة غير جهة شيء آخر ، ومعلوم أنّ الذي لذاته يقتضي الحصول في الحيّز ، إنّما هو المقدار ، فإنّ الهيولى متجرّدة في ذاتها عن الوضع والمكان ، وإنّما يعرض لها ذلك بواسطة المقدار ، والصورة أيضا لا مدخل لها في ذلك ، إذ لا مقدار لها حتى يمانع الداخل في المكان ، وليست في ذاتها شاغلة للحيّز ، ولأنّ الجسم قد يزداد مكانه لازدياد مقداره بواسطة التخلخل ، وينقص مكانه لنقص مقداره بواسطة التكاثف ، مع بقاء الصورة الجسمية في الأحوال كلّها. وكذا الصورة النوعية وجميع الأعراض لا حظّ لها في شغل الحيّز ولا ممانعة الغير فيه بالذات ، بل الشاغل بالذات الممانع للغير فيه ليس إلّا المقدار ، فامتناع المداخلة إنّما حصل بالذات للمقدار ، وبالعرض لغيره.

٣٩٣

الخامس : الضرورة قاضية بأنّ مجموع البعدين أكثر من واحد ، وأنّ الكثرة في البعدين توجب زيادة العظم ، لأنّ زيادة المقدار على المقدار يقتضي الزيادة في العظم ، ولا شك في أنّ الجسم الداخل في الإناء كان له مقدار متفرد عن المقدار الذي أثبتّموه بين طرفي الإناء ، فلو كان هناك مقدار آخر ، لكانا أعظم من الواحد ، ومعلوم أنّه ليس كذلك ، لأنّ مجموعهما هو الذي بين النهايات ، وهو بعينه قدر كلّ واحد منهما.

اعترض بأنّ البعدين إنّما يكونان أعظم من الواحد لو لم يتداخلا ، أمّا على تقدير التداخل فلا ، لأنّ الإشارة حينئذ إلى أحدهما تكون بعينها الإشارة إلى الآخر ، وإذا لم يتداخلا تكون الإشارة إلى أحدهما غير الإشارة إلى الآخر ، فيحصل العظم حينئذ ، لكن نمنع عدم حصول التداخل ، وليس النزاع إلّا فيه.

فالحاصل أنّه لا يمكن أن يكون مجموع البعدين أعظم من البعد الواحد إلّا بعد بيان امتناع تداخلهما ، ولو بيّنا امتناع تداخلهما بوجوب كون مجموعهما أعظم من كلّ واحد منهما لزم الدور.

والجواب عن الأوّل (١) : بأنّ الأمارات المذكورة المشهورة عند جماهير القوم ، وهي الأربعة السابقة ، موجودة في البعد الذي ادّعيناه ، فإنّه يصدق عليه بالحقيقة أنّ الجسم فيه بجملته وأجزائه ، فهو أحق بالمطّرد (٢) فيه من كونه في السطح. وكذا أنّه لا يسع معه غيره ، فإنّ البعد أولى ، فإنّا لو فرضنا جسما مملوءا من رمل ، ثمّ أفضنا (٣) عليه ماء وسعه السطح دون البعد. وكذا قبوله للمنتقلات ، لثباته ، وإمكان توارد المتمكنات عليه وعدم حركته وانتقاله ، بخلاف السطح المنتقل

__________________

(١) وهو ما ذكر قبل ذكر الوجوه وكذا الجواب الثاني الآتي.

(٢) م : «المطرو».

(٣) م : «صببنا».

٣٩٤

المتبدل ، مع أنّهم لا يصفون السطح بقبوله للمنتقلات ، كيف والسطح عرض غير مستقل بالقيام بذاته. وكذا أنّه يفارق بالحركة ، فإنّه للبعد الذي يفارقه المتمكن مع ثباته أولى من السطح الذي يتحرك وينتقل بانتقال محله ، وجعل المكان لما يستقر عليه ، ويمنعه من النزول لا يتأتى في السطح أيضا.

وعن الثاني : أنّه لا يلزم من بطلان كون المكان هو البعد جعل المكان سطحا ، لجواز أن يكون أمرا مغايرا لهما ، لازما لأحدهما أو غير لازم ، والتداخل إنّما يحكم بامتناعه بين المقادير الحالّة في المواد ، لا مجرد البعد الذي ليس في مادة ، فإنّه لا يمانع غيره ، إذ ليس إلّا فراغا متوهما.

وعن الثالث : بأنّ البعدين المذكورين يتّحدان ويتداخلان ، على أنّ أحدهما ليس على ما يقولون ، من أنّه كمّ متّصل متحقّق في الخارج ، بل هو فراغ متوهّم يحصل له التقدير(١) بالعرض ، على معنى أنّا لو فرضنا فيه تعاقب جسمين متفاوتين قدر التفاوت باعتبار تفاوتهما ، لا أنّه في نفسه شيء متحقّق يختلف باختلاف المقادير ، وحينئذ يتميّزان بذاتيهما وحقيقتيهما ، وإن تشاركا في اعتبار قبول التقدير ، لكنّه في أحدهما حقيقي (٢) دون الآخر.

وعن الرابع : أنّا نسلّم وحدة البعد المشار إليه بين طرفي الإناء ، وبين الجدارين ، لكن بعد الجسم إذا حلّ فيه لم يلزم تعدّده ، لأنّهما يتّحدان ويتداخلان ، وتجويز تعدّد الأشخاص باعتبار تعدّد البعد تجويز للسفسطة ، فإنّ الضرورة حكمت بتعدّد الشخصين دون البعدين المتحدين ، وفرض الخلاء وإن كان محالا ، لكن لا يستلزم رفع البعد بين طرفي الإناء ، لأنّه أمر محسوس.

__________________

(١) م : «البعدين».

(٢) في جميع النسخ : «حقيقيا» ، أصلحناها طبقا للسياق.

٣٩٥

وعن الخامس : بأنّ المقتضي لامتناع التداخل ليس إلّا المقدار الحالّ في المادة بحيث يكون مفتقرا إلى بعد يحلّ فيه ، ولا تداخل غيره ممّا هو حالّ في المادة فيه ، لا مطلق المقدار المجرّد أو الفراغ المتوهّم ، إذ لا ممانعة فيهما.

وعن السادس : أنّ الزيادة في العظم إنّما تحصل في الأبعاد الحالّة في المواد المتغايرة أو المنسوبة إليها لامتناع التداخل فيها ، أمّا الأبعاد الخالية أو الفراغ المتوهم فلا يحصل فيها هذا الحكم ، لإمكان تداخل غيرها معها.

المسألة الثانية : في إثباته

اعلم : أنّ كثيرا من الأشياء الثابتة عينا أو المعدومة ، قد يعلم ببعض عوارضه ، ويكون مجهولا باعتبار ماهيته ووجوده ، فيصحّ طلب الماهيّة وطلب الوجود أيضا ، والمكان من هذا القبيل ، فإنّه من المشهور عند الجمهور الخواص التي له ، وإن اختلفوا في وجوده وماهيته.

وقد قدّمنا بيان حقيقته ، فلنشرع الآن في بيان وجوده ، فنقول (١) :

من المعلوم أنّ الخواص التي حكم العقلاء بثبوتها للمكان لا يصحّ عروضها لمعدوم صرف ونفي محض ، بل إنّما يعرض لشيء له تحقّق وتعيّن ، مع أنّ الضرورة قاضية بإثبات المكان المدّعى ثبوته عند الكل. أمّا على البعد أو الفراغ المتوهّم ، فإنّ الفطرة شاهدة به ، لقضاء العقل بثبوت فراغ متوهّم أو بعد ممتد من طرفي الإناء ، سواء حلّ فيه جسم كالماء أو لا ، فإنكاره ضروري البطلان. وأمّا السطح فلأنّ الأجسام متناهية فالسطوح ثابتة ، فلا وجه لادّعاء نفيه.

وأيضا الانتقال هو التغير في الأين ، لوجود الانتقال مع عدم التغيّر في

__________________

(١) قارن المباحث المشرقية ١ : ٣٣١ ـ ٣٣٢.

٣٩٦

الجوهر والكم والكيف وغيرها ، وقد لا يوجد الانتقال عند حصول التغيّر في تلك الأمور ، فإذن الانتقال تغيّر في الأين ، أي في نسبته إلى المكان ، وذلك يوجب وجود المكان. ولأنّ الجسم يحضر ويغيب ، ثمّ يحضر غيره حيث هو ، وبالضرورة يحصل أمر مشترك بين المتعاقبين ، وليس غير المكان.

ولأنّ الضرورة قاضية بوجود الفوق والسفل ، وذلك يقتضي وجود المكان.

واحتج منكروه بوجوه (١) :

أ : لو كان موجودا لكان إمّا جوهرا أو عرضا ، فإن كان جوهرا استحال أن يكون جسما ، لاحتياج كلّ جسم إلى مكان ، فلو كان المكان جسما لافتقر إلى مكان آخر ، فيتسلسل أو يدور. ولأنّ المكان يداخله المتمكن فلو كان جسما لزم تداخل جسمين وهو محال بالضرورة. ولأنّه ليس من بسائط الأجسام ، ولا من مركّباتها ، لأنّه ليس شيء منهما يشار إليه أنّه هو المكان. ويستحيل أن يكون جوهرا غير متحيّز (٢) ، لأنّ المطابقة واجبة بين المكان والمتمكن بحيث لا يفضل أحدهما على الآخر في المقدار ، ولا يتصوّر ذلك بين الجسم والمجرد المعقول. ولأنّ المكان مقصود بالإشارة الحسّية ، ولا شيء من الجواهر العقلية كذلك. ولأنّ الخواص الأربعة المشهورة عند الجمهور منفية عن المجرّد ، فلا يكون هو المكان.

وإن كان عرضا استحال أن يكون قائما بذاته ، بل لا بدّ له من محل يحلّ فيه ، فإن كان محلّه المتمكن لزم انتقاله بانتقاله ، فتكون الحركة مع المكان ، لا منه ولا إليه ، وهو محال. ولأنّ العرض يكون موجودا في المحل ، ولا يكون المحل موجودا فيه ، فلا يكون الجسم موجودا في المكان ، ولاستلزامه الدور. ولا يجوز أن يكون قائما بغيره ،

__________________

(١) قارن الفصل التاسع من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ والمباحث المشرقية ١ : ٣٢٧ ـ ٣٣٠ ؛ المواقف ١ : ١١٣ ؛ الأسفار ٤ : ٣٩ ـ ٤٠.

(٢) أي جوهرا مجردا غير جسم.

٣٩٧

وإلّا لاشتق لذلك الغير منه اسم ، فكان المتمكن من قام به المكان لا من قام بالمكان ، فيكون المتمكن هو الحاوي لا المحوي. ولأنّ المساواة منتفية (١) بين الجسم والعرض ، والمكان مساو ، والعرض ليس بمساو ، فلا يكون المكان عرضا. ولأنّ الجسم لا يعقل وجوده إلّا في مكان ، فله سبق وتقدّم عليه ، فلو كان عرضا لزم أن يكون العرض أقدم في الاختراع من الجسم ، وهو محال لتأخّره عنه. وإذا بطل أن يكون المكان جوهرا وبطل أن يكون عرضا استحال تحقّقه في الأعيان.

ب : لو افتقر كلّ متحرك إلى المكان لكان المكان : إمّا أن يكون محتاجا إلى الحركة ، وهو باطل لوجود المكان مع عدم الحركة في الذهن والخارج معا ، ولأنّ الحركة عبارة عن الانتقال من مكان إلى مكان فماهيتها مسبوقة بالمكان وتحقّقه ، فلا يجوز أن يحتاج في تحقّقه إلى الحركة المتأخرة عنه ، وإلّا دار.

وإمّا أن تكون الحركة محتاجة إلى المكان ، فيجب أن يكون المكان إحدى علل الحركة(٢) ، لأن كلّ ما يحتاج إليه الشيء فانّه يكون علّة له ، ولكنّ المكان ليس علّة فاعلية للحركة ؛ لأنّه لا يلزم من وجود المكان بالفعل وجود الحركة ، ولأنّ كلّ حركة فإنّها مستندة إلى علّة فاعلية غير المكان. وليس علّة مادية ؛ لأنّ مادة الحركة هي المتحرك لا المكان ، لأنّ الحركة إنّما تحلّ المتحرك. وليس علّة صورية ، لأنّ المكان ليس هيئة وصورة للحركة ، ولأنّه قد يوجد بالفعل من دون الحركة ، والصورة يجب مقارنتها لذي الصورة زمانا. ولا علّة غائية ، لأنّ الغاية إنّما يجب وجودها في الأعيان عند الوصول إلى الغاية ، والمكان يجب حصوله قبل الوصول إلى الغاية ؛ ولأنّ المكان لو كان كما لا يشتاق إليه المتحرك ، لكان من كمالات الإنسان أن يحصل في أمكنة يشتاق إليها ؛ ولأنّ الكمال منه خاص هو الجزء

__________________

(١) ج : «منفيّة».

(٢) راجع التعريفات : ٢٠٢.

٣٩٨

الصوري للشيء ، ومنه مشترك بين الشيء وغيره ، وليس المكان صورة للمتحرك ولا للحركة، وليس مشتركا ؛ لأنّه خاص بالمتمكّن دون غيره.

ج : لو كان كلّ جسم في مكان لكانت الأجسام النامية في مكان ، ويجب أن ينمو وأن يتحرك بحركتها ، فيكون لمكانها مكان آخر ويتسلسل إلى غير النهاية.

د : لو كان الانتقال يوجب المكان للجسم المتحرك ، لكانت السطوح والخطوط والنقط في أمكنة ، لأنّه قد يقع لها الحركة واستبدال القرب بالبعد ، كما يقع للجسم ، لوجود العلّة فيها ، ولا مدخل لخصوصيّات المنتقلات ، لكنّ التالي باطل ؛ لأنّ المكان مساو للمتمكن (١) ، ومساوي النقطة يجب أن يكون نقطة ، فمكان النقطة يجب أن يكون نقطة ، ثمّ ليس إحدى النقطتين بأن تكون مكانا للأخرى أولى من العكس ، لتساويهما في الماهية ، فتكون كلّ واحدة منهما مكانا للأخرى ، فتكون كلّ واحدة منهما حالا في الأخرى ومحلّا له ، وهو محال.

ولأنّ كلّ ما له مكان فإنّه يستحق مكانا طبيعيّا يقتضيه طباعه ، وله مكان غريب ، ويكون له ميل إلى مكانه الطبيعي الملائم له ، وميل عن الغريب ، والميل هو الثقل والخفة ، فيكون للنقطة ثقل وخفة ، وهو محال.

ولأنّ النقطة والخط والسطح أمور عدمية ؛ لأنّها نهايات ، والنهاية عبارة عن فناء ذي النهاية وعدمه ، فلا يعقل أن يكون مكانا ومحلّا للأشياء الثابتة في الأعيان ، ويستحيل أن يكون لها أمكنة.

والجواب (٢) عن ـ أ ـ أن نقول إنّ المكان جوهر قائم بذاته هو البعد ، وليس

__________________

(١) كما مرّ في ذكر أمارات المكان بأنّه لا يسع غيره معه.

(٢) راجع الأجوبة في الفصل التاسع من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٣٣٠ ـ ٣٣١.

٣٩٩

بجسم ولا مجرّد ، أو يكون عرضا قائما بغير المتمكن هو السطح الباطن ، على الخلاف.

وحديث الاشتقاق راجع إلى بحث لفظي لا معنوي ، فلا يجوز ذكره في هذه المطالب العلمية. على أنّا نمنع وجوب الاشتقاق ، فكثير من الأعراض قائمة بمحالّها ، ولم يشتق لها منها أسماء كأنواع الروائح.

سلّمنا ، لكن نمنع أنّ المتمكن مشتق من المكان ، بل من «التمكن» وهذا التمكن معنى ثابت للجسم المتمكن في المكان لا للمكان.

سلّمنا اشتقاقه من المكان ، لكن يجوز أن يقوم العرض بمحلّ ويشتق لغيره منه اسم كالقتل والضرب الحالّين في المقتول والمضروب والاشتقاق للقاتل ، وكالعلم فإنّه حالّ في العالم ، ويشتق منه اسم المعلوم.

والمساواة ثابتة هاهنا ، إذ المراد منها مطابقة نهايات المتمكن لنهايات المكان ، والحاوي متناه وله تقدم على المحوي بنهاياته ولوازمه.

وعن ـ ب ـ المنع من حصر المحتاج إليه في العلل الأربع ، فإنّ الاثنين محتاج إلى الواحد ، وليس الواحد فاعلا للاثنين ، ولا مادة له ، ولا صورة ، ولا غاية ، بل هذا نوع آخر من التقدم يسمّى التقدم بالطبع (١) ، فالحركة محتاجة إلى المكان ، إذ لا يمكن وجودها إلّا في محل يتحرك على المكان.

وفي سند المنع نظر ، فإنّا نختار أنّ الواحد جزء مادة للاثنين ، أو جزء فاعل. نعم لو قيل بأنّ المكان جزء مادة للحركة ، لاستحالة حلولها في غيره وغير المتمكن ، أمكن.

وعن ـ ج ـ أنّ النامي يستبدل مكانا بعد مكان ، كما يستبدل مقدارا بعد

__________________

(١) قال الجرجاني : «وقد يمكن ألّا يكون المتقدم علّة للمتأخّر ، كتقدّم الواحد على الاثنين ، فإنّ الاثنين يتوقّف على الواحد ، ولا يكون الواحد مؤثّرا فيه» التعريفات : ٨٨.

٤٠٠