نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

التعيّن عنه ، ولا ينافي زيادته واختلافه في الحقيقة اشتراك ما انضم إليه في الماهيّة.

وأجاب أفضل المحقّقين في شرح الإشارات : بأنّ تعيّنات الأشخاص من حيث تعلّقها بالمتعيّنات (١) لا تشترك (٢) في شيء ، ومن حيث تشترك في شيء ، فليست بتعيّنات. (٣)

والتحقيق ما بيّناه.

وعن الثاني : بأنّ كلّ ما لا يكون تعيّنه معلول ماهيّته (٤) ، حتّى يكون نوعه في شخصه ، فلا بدّ له من مادة ، ومادته لا بدّ وأن تكون متخصّصة بأعراض شخصيّة ، ويكون تشخّص المادّة بتلك الأعراض علّة لتشخّص ذلك الحادث ؛ ومن الممتنع أن يقترن بتلك المادة في ذلك الوقت فرد آخر من ذلك النوع حتّى يلزم الإشكال. ولا نقول أيضا : بأنّ ذلك الشيء يوجد ويوجد التعيّن ، وبعد حصولهما يتقارنان ، بل حصول الشيء في تلك المادّة المخصوصة هو تعيّنه (٥).

وفيه نظر ؛ لأنّا نمنع المادة على ما يأتي. سلّمنا لكنّ تلك الأعراض إذا كانت متشخصة كان البحث فيها كالبحث في الماهيّات ، وكان توسط المادة عبثا وجاز تشخص الماهيّات بذاتها.

وأجاب أفضل المحقّقين : بأنّ الطبائع تتعيّن بالفصول كالأنواع المركّبة من الأجناس والفصول ، أو بأنفسها كالأنواع البسيطة. ثمّ هي من حيث كونها طبيعة تصلح لأن تكون عامّة عقلية (٦) ، ولأن تكون خاصّة شخصية ، فكما بانضياف

__________________

(١) م : «بالتعيّنات» والصواب ما أثبتناه من نسخة : ق والمصدر.

(٢) ق : «لا يشرك».

(٣) شرح الإشارات ٣ : ٤٩.

(٤) ق : «ماهية».

(٥) والجواب كسابقه للرازي ، المباحث المشرقية ١ : ١٦٦.

(٦) أي الكلّي في الذهن.

١٨١

معنى العموم إليها تصير عامّة ، كذلك بانضياف التعيّنات إليها تصير أشخاصا ، ولا تحتاج إلى تعيّن آخر. ولو كان التعيّن بالفرض أمرا سلبيا ، لما كان عدم الشيء مطلقا (١) ، بل كان شيئا عدميا ، وأمثال هذه الأعدام تصلح لأن تصير فصولا ، فضلا عن أن تكون عوارض(٢).

وعن الثالث : بأنّ تشخص الماهيّة باعتبار أعراض متشخصة بذاتها مستندة إلى الفاعل.

وعن الرابع : أنّ الماهيّة ، إنّما توصف بالوجود بعد اتّصافها بالتعيّن ، وكما أنّ الماهيّة المغايرة للوجود لا توصف بالوجود من حيث هي مغايرة للوجود ، كذلك التعيّن لا يوصف بالوجود من حيث هو تعيّن (٣). والماهيّة المتعيّنة موجود واحد.

وفيه نظر ؛ فإنّا نسلّم أنّ الماهيّة ، إنّما توصف بالوجود بعد اتّصافها بالتعيّن ، لكنّ ذلك لا يدفع الكثرة ، فإنّ المعترض قال : إذا كان التعيّن مغايرا للماهية ، فالوجود القائم بأحدهما ليس هو الوجود القائم بالآخر ، لاستحالة قيام الصفة بمحلّين ، فلا يكون الواحد واحدا بل اثنين وهكذا.

بل الوجه في الجواب أن نقول : لا نعني بالوجود الواحد إلّا الماهيّة المتّصفة في الوجود بالوحدة وذلك وإن أوجب كثرة باعتبار الماهيّة والوحدة ، لكنّها واحدة لا بهذا الاعتبار (٤) الموجب لكثرتها.

قوله : «لو تكثر لزم التسلسل». قلنا : ممنوع ، وإنّما يلزم التسلسل لو احتاجت الماهيّة إلى تعيّن آخر غير ما فرض ثبوته له ، واحتاج التعيّن إلى تعيّن

__________________

(١) وفي المصدر بإضافة «كما ظنه هذا الفاضل» بعد «مطلقا» ، والفاضل هو : الرازي.

(٢) شرح الإشارات ٣ : ٤٩ ـ ٥٠.

(٣) ق : «نفي».

(٤) ق «باعتبار».

١٨٢

آخر وهو ممنوع ، فإنّ الماهيّة تعيّنت بذلك التعيّن (١) والتعيّن متعيّن بذاته ، فانقطع التسلسل.

وعن الخامس : بالمنع من أنّ الماهيّة لا ينضم إليها التعيّن إلّا إذا كانت موجودة ، بل الحقّ العكس ، وهو أنّ الماهيّة لا توجد إلّا بعد انضمام التعيّن إليها ، فتوجد متعيّنة بتعيّن سابق على وجودها ، ولا يلزم الدور ، ولا تعدّد التعيّن.

واعلم : أنّه فرق بين المشخّص (٢) والمميّز ، فإنّ الفصول مميزات للأنواع من الأجناس ، وكذلك العوارض مميّزات أصناف الأنواع (٣) ، وليست مشخصة (٤) لعدم خروجها بالتميّز عن الكلّية ، واحتياجها بعده إلى ما هو أشدّ تخصّصا حتّى ينتهي إلى التشخّص.

البحث السابع : في كيفيّة تشخّص الماهيّة (٥)

إن تشخّصت لذاتها كان نوعها منحصرا في شخصها ، وامتنع تكثّرها حينئذ ، إذ لو وجد اثنان منها لزم تخلّف المعلول عن علّته واختلاف لوازم الملزومات المتّفقة (٦). وإن لم تقتض التشخّص لذاتها لم تقتض الكثرة ، وإلّا لم يوجد الواحد منها ، فلم توجد الكثرة ، بل لا تقتضي شيئا منهما. وإنّما تتّصف

__________________

(١) ق : «التعيّن» ساقطة.

(٢) ق وج : «المتشخّص».

(٣) ق وج : «فإنّ الفصول مميّزات تخصّص الأجناس ، وكذلك العوارض المقتضية لتصنّف الأنواع».

(٤) ج وق : «متشخصة».

(٥) والعنوان في سائر الكتب «في علّة التشخّص» ، والعنوان الذي اختاره المصنف أفضل لاشتماله على المتشخّص لذاته. راجع المباحث المشرقية ١ : ١٦٦ ؛ كشف المراد : ٩٧.

(٦) م : «المتّفقة» ساقطة.

١٨٣

بأحدهما باعتبار ما يعرض لها (١) ، وتشخّص مثل هذه الماهيّة إنّما يكون (٢) إمّا بحلولها (٣) في مادة شخصيّة ـ تشخّصت إمّا بماهيّة هذا الحالّ ، أو لشيء آخر ـ وإمّا باعتبار حلول أعراض متشخّصة لذاتها فيها ، أو لإضافات فقط من غير أن يكون معنى في الذات كتشخص البسائط والأعراض ، فإن تشخّصها يكون لحصولها في موادّها ومحالّها.

ولمّا كان المتشخّص علّة في التشخّص ، وكان عدم العلّة علّة في عدم المعلول لزم من عدم المشخّص عدم ذلك التشخّص وارتفاعه. وأمّا كلّ عارض للشخص من حيث هو ذلك الشخص (٤) ، وكلّ خاصة له لا يلزم من عدمه عدم ذلك الشخص ، فإنّه يكون عارضا بعد التشخّص ، لا من جملة (٥) مقوّمات التشخّص ، بل من المتقوّمات به.

واعلم : أنّ تقييد الكلّي بالكلّي لا يقتضي التشخّص ، فإنّك إذا عبّرت عن زيد بأنّه «الإنسان العالم» لم يحصل التشخّص المانع من الشركة ، بل بقى احتمال التعدّد كما كان ، فإن زدت وقلت : إنّه «الطويل الزاهد الأبيض ابن فلان الذي تكلّم يوم كذا في موضع كذا» ، لم يحصل التشخّص أيضا ، لإمكان حمل (٦) من حصل فيه هذه الصفات على كثيرين.

وبالجملة فلا بدّ في تشخّص ما يتكثّر أفراده من مشاركة الوضع.

__________________

(١) م : «لها» ساقطة.

(٢) ق : «إنّما يكون» ساقطة.

(٣) م : «لحلولها».

(٤) م : «المشخّص» ، وهو غلط.

(٥) م : «لأنّه ليس من جملة الخ».

(٦) ق : «جملة» ، وهو غلط.

١٨٤

الفصل الثاني :

في مباحث الجزء

البحث الأوّل : في أقسامه (١)

قد عرفت (٢) خواص الجزء ، والفرق بينه وبين العارض. وعرفت أيضا (٣) أنّ التركيب قد يقع في الأمور الخارجية ، وقد يقع في الأمور الذهنية. وكلّ مركّب في الخارج فإنّه مركّب في الذهن دون العكس. ولا بدّ في كلّ مركّب من أجزاء ماديّة وجزء صوري ، سواء كان التركيب في الخارج أو في الذهن. وهذه الأجزاء قد توجد بحيث لا يمكن أن تكون محمولة على المركّب منها ، ويسمّى حينئذ مواد وأجزاء ، وقد يمكن أخذها بحيث يصحّ حملها ، لكن لا (٤) باعتبار كونها أجزاء فإنّ جزء الشيء يمتنع حمله على الكلّ ، فالحيوان إن أخذ منضما إلى الناطق كان هو الإنسان

__________________

(١) راجع كشف المراد : ٩١.

(٢) في البحث الرابع من الفصل الأوّل من المقصد الثالث.

(٣) في البحث الخامس من الفصل الأوّل من المقصد الثالث.

(٤) م : «لا» ساقطة.

١٨٥

بعينه ، ولم يكن محمولا وإن أخذ بشرط التجرّد والخلو عن الناطق كان مادة للإنسان و (١) جزءا منه ولم يكن أيضا محمولا ، وإن أخذ من حيث هو هو لا بشرط شيء كان محمولا. وكلّ جزء محمول فهو إمّا جنس أو فصل ، لأنّ ذلك الجزء إن اختص بتلك الماهيّة ولم يكن مشتركا بينها وبين غيرها فهو الفصل ، لاقتضائه تمييز تلك الماهيّة عمّا يشاركها في جنس أو وجود ، وإن كان مشتركا ، فإن كان تمام المشترك بينها وبين نوع ما كان جنسا ، وفيه منع. وإن لم يكن تمام المشترك ، بل جزءا منه ، فإمّا أن يكون أعمّ منه ، أو مساويا ـ لامتناع كونه أخص ، فإنّ جزء الماهيّة لا يمكن أن يكون أخصّ منها ، وإلّا لوجد المركّب بدون أجزائه ، فلا يكون الجزء متقدّما ، هذا خلف ـ فإن كان مساويا كان فصلا لتمام المشترك ، فكان فصلا مفيدا للماهية (٢) ، وإن كان أعمّ ، فإن كان تمام المشترك بين تمام المشترك وبين ما غايره كان جنسا ، وقد فرض أنّه ليس كذلك ، هذا خلف. وإن لم يكن تمام المشترك تسلسل ، وهو محال.

البحث الثاني : في تقسيم الجزء باعتبار آخر

قيل (٣) : أجزاء الماهيّة إمّا أن يكون بعضها أعمّ من البعض فتسمّى متداخلة ، أو لا يكون فتسمّى متباينة. والمتداخلة إمّا أن يكون بعضها أعمّ من الآخر مطلقا ، أو من وجه ، فإن كان مطلقا ، فإمّا أن يكون العام متقوّما بالخاص ،

__________________

(١) م : «و» ساقطة.

(٢) في النسخ : «فكان فصلا» بعد «للماهية» ، ولعلها زيادة من النساخ.

(٣) راجع المباحث المشرقية ١ : ١٤٩ ، وما بعدها ؛ كشف المراد : ٩٢.

١٨٦

أو بالعكس ، والأوّل إمّا أن يكون العام موصوفا والخاص صفة ، فالعام هو الجنس والخاص هو الفصل ، أو يكون الخاص موصوفا بالعام كالموجود الصادق على المقولات العشر. وأمّا الذي يكون الخاص متقوّما بالعام ، فهو كالنوع الأخير المقوّم لخواصّه التي لا توجد في غيره.

والفرق بين انقسام الجنس بالفصول وانقسام النوع بالخواص ـ بعد اشتراكهما في أنّ العام منهما موصوف بالخاص ـ أنّ في (١) الجنس ، العام متقوّم بالخاص ، وفي النوع بالعكس.

وأمّا الذي يكون العموم فيه من وجه ، فهو كالحيوان والأبيض ، إذا ركّب منهما حقيقة.

وأمّا المتباينة (٢) ، فهو كتركيب الشيء باحدى علله أو معلولاته ، أو بما لا يكون علّة ولا معلولا ، فالتركيب مع العلّة الفاعليّة كالعطاء ، فإنّه اسم لفائدة مقرونة بالفاعل. ومع الماديّة ، كالأفطس (٣) إذا جعل اسما للتقعير الذي في الأنف ، ومع الصوريّة ، كالأفطس إذا جعل اسما للأنف الذي فيه تقعير ، ومع الغائية ، كالخاتم ، فإنّه اسم لحلقة مقرونة بغاية التجمّل في الإصبع. والتركيب مع المعلول كالخالق والرازق وغيرهما.

والتركيب مع ما لا يكون علّة ولا معلولا ، فإمّا أن يكون عن أمور بعضها عدميّ وبعضها وجوديّ «كالأوّل» (٤) ، فإنّه اسم لمجموع أمرين : ثبوتي هو كونه

__________________

(١) م : «في» ساقطة.

(٢) أي الذي لا يكون بين الجزءين عموم وخصوص.

(٣) فطس الرجل يفطس فطسا : تطامنت قصبة أنفه وانتشرت ، أو «انفرش أنفه في وجهه» فهو أفطس.

قطر المحيط ٢ : ١٦٠٨.

(٤) أي لفظ «الأوّل».

١٨٧

مبدأ عدميّ هو أنّه لا مبدأ له ، أو كلّها ثبوتيّة ، فإمّا أن تكون كلّها حقيقة متشابهة كتركّب العدد من الوحدات ، أو مختلفة معقولة كتركّب الجسم من الهيولى والصورة ، والعدالة من العفّة والحكمة ، والشجاعة من الإقدام والعقل. أو محسوسة كتركيب الخلقة من اللون والشكل ، والبلقة (١) من السواد والبياض.

وأمّا أن تكون كلّها إضافية كالأقرب والأبعد ، فإنّهما دالّان على إضافات عارضة لاضافات. أو بعضها حقيقية وبعضها إضافية ، كالسرير الذي يعتبر في تحقّق ماهيّته الأجزاء الخشبية ، وهي موجودات حقيقيّة هي الأجزاء الماديّة ، والترتيب الذي هو الجزء الصوري وهو أمر نسبي ، لا أنّه ماهيّة متأصّلة بنفسها.

واعلم : أنّ أكثر هذه الأقسام لا باعتبار الأمر (٢) نفسه ، بل باعتبار عمل الذهن ، وأخذ العارض للشيء جزءا مع ذلك الشيء.

البحث الثالث :

في ما وجد من الأقسام المذكورة في الجواهر والأعراض (٣)

اعلم : أنّ الجوهر الذي هو احدى المقولات العشر بسيط غير مركّب البتة ، وإلّا لم يكن جنسا عاليا. ثمّ إنّ أنواعه يجب تركّبها ، وإلّا لم يكن جنسا.

وإذا وجب تركّبها ، فقد يتركّب بعض أنواعه من جنس وفصل عقليين ، كتركّب المفارقات كالعقول والنفوس من أجناسها وفصولها ، فإنّ الجنس فيها لا يتميّز عن الفصل في الوجود الخارجي. وقد يتركّب من جنس وفصل خارجيين ،

__________________

(١) بلق الشيء : كان فيه سواد وبياض. قطر المحيط ١ : ١٣٨. والبلقة بالضم مصدر.

(٢) ق : «الأمر» ساقطة.

(٣) راجع المباحث المشرقية ١ : ١٥٢.

١٨٨

كالإنسان المركّب من الحيوان (١) والناطق. و [قد يتركب] (٢) من أجزاء متباينة لا يكون بعضها جنسا للبعض ، بل ولا يكون محمولا عليه ، إمّا في العقل ، كتركّب الجسم من الهيولى والصورة. أو في الحس كتركّب البدن من الأعضاء ، والبيت من السقف والجدار.

وكذلك العرض قد يتركّب من أجزاء عقليّة ، كما بيّنا في السواد من تركّبه من اللون والقابضيّة اللذين لا يتميّزان إلّا في العقل. وقد يتركّب من أجزاء خارجيّة كتركّب المثلث ، فإنّه سطح تحيط به ثلاثة أضلع ، فالسطح جنس والأضلع الثلاثة أو احاطتها بالسطح فصله. ولكلّ واحد من هذا الجنس والفصل وجود يتميّز به في الخارج عن الآخر. وقد يتألف من أجزاء متباينة كتألّف العدد من الوحدات ، والخلقة من اللون والشكل.

البحث الرابع :

في طريق معرفة تركّب الماهيّة من الجنس والفصل (٣)

قد عرفت في ما تقدّم خاصّة الجزء المطلقة ، وهي السبق في الوجودين والعدمين ، فإذا فرض حقيقتان اشتركتا من وجه ، واختلفتا من آخر ، ووجدت تلك الخاصة في المشترك والمميّز حكمنا بأنّهما جزءان ، لكلّ واحدة من الحقيقتين وقضى العقل بأنّ جهة الاشتراك مغايرة لجهة الامتياز ، فكمال الجزء المشترك هو الجنس ، وكمال الجزء المميّز هو الفصل.

واعلم : أنّه ليس مجرد اشتراك الحقيقتين في وصف ، واختلافهما في آخر

__________________

(١) ق : «و» ساقطة.

(٢) أضفناها طبقا للسياق.

(٣) راجع المباحث المشرقية ١ : ١٥٤.

١٨٩

موجبا لتركّبهما من المشترك والمميّز ، فإنّ البسائط قد تشترك في أوصاف سلبيّة وثبوتيّة ، وتختلف بصفات أخر سلبيّة وثبوتيّة ، فإنّ كلّ بسيطين فرضا يشتركان في سلب ما عداهما عنهما ، ويمتاز كلّ واحد عن صاحبه بنفس حقيقته ، ولا يقتضي ذلك التركيب ، وإلّا لخرج عن كونه بسيطا ، وكلّ بسيط يفرض ، فإنّه يشارك جميع البسائط في الوجود والشيئيّة والمعلوميّة وغيرها من الأوصاف العامّة ، وهي متمايزة بالضرورة ، ولا يلزم تركّبها من الوصف الثبوتي المشترك والمميّز ، وإلّا لم تكن بسائط. وكلّ مركّب ، فإنّ البسيط منه يشاركه في صدقه عليه ، ويمتاز عنه البسيط بسلب الآخر عنه ، ولا يقتضي ذلك التركيب ، فإنّ الإنسان يشارك الحيوان في صدق الحيوانية عليهما ، وثبوت الطبيعة الحيوانيّة لهما ، لكنّ الحيوان لا يمتاز عن الإنسان إلّا بقيد سلبي ، وهو : أنّ الحيوان ليس له إلّا الحيوانيّة ، وللإنسان أمر آخر وراء الحيوانيّة. فإذن الاشتراك والامتياز في الأوصاف الثبوتيّة أو السلبيّة لا توجب التركيب.

نعم إذا وجدنا ماهيتين اشتركتا في بعض مقوّماتهما ، واختلفتا في مقوّمات أخر ، علمنا قطعا تركّب الحقيقة من الجنس الذي هو تمام المشترك ، ومن الفصل الذي هو تمام المميّز. ولا يكفي في ذلك مطلق الاشتراك والامتياز.

فإذا قيل : لمّا ثبت كون الوجود زائدا على الماهيّة باعتبار أنّ الماهيّات قد اشتركت فيه ، وامتازت بأمور أخر ، وقضت الضرورة بأنّ ما به الاشتراك مغاير لما به الامتياز ، أمكن أن يقال : الثبوت مشارك للماهيّات الثابتة في أصل الثبوت ، وممتاز عنها في الحقيقة ، فيلزم أن يكون للوجود وجود آخر.

قلنا : الاشتراك وإن كان في وصف ثبوتي ، وهو مطلق الثبوت ، إلّا أنّ الامتياز بقيد سلبي ، لأنّ الثبوت يتميّز عن الماهيّات الثابتة بأنّ الثبوت ليس له إلّا مفهوم الثابتيّة ، والماهيّات الثابتة لها أمور أخر وراء ذلك المفهوم ، فلا يلزم أن يكون

١٩٠

للثبوت ثبوت آخر.

ولو قيل : البسائط مشتركة في الوجود وممتازة في حقائقها ، فيلزم التركيب.

قلنا : الاشتراك وقع في وصف خارجي ثبوتي لا في وصف مقوّم.

ولو قيل : أفراد النوع متمايز بعضها عن بعض مع كونها مشتركة في الماهيّة. فيلزم الكثرة.

قلنا : الامتياز وقع في أوصاف خارجيّة.

البحث الخامس :

في الفرق بين الطبيعة الجنسيّة (١) والطبيعيّة النوعيّة

إذا أخذ الجسم لا بشرط شيء ، وهو الجسم المأخوذ بمعنى الجنس ، كان كالمجهول ، فلا ندري على أيّ صورة هو (٢) ، وكم صورة يشتمل. فتكون النفس طالبة لحصول ذلك ، إذ (٣) لم يقدّر بعد عند (٤) النفس شيء هو جسم محصّل.

وكذا إذا أخطرنا اللون بالبال ولم نضمّ إليه قيدا آخر. فإنّ النفس لا تقنع بتحصيل شيء غير متصوّر بالفعل ، بل تطلب في معنى اللون زيادة حتّى يتقرّر بالفعل لونا. وكذا المقدار المطلق لا تتصوّر النفس منه معنى تامّا حتّى يتخصّص بكونه خطا أو سطحا أو جسما ، فإذا تصوّرت كونه خطا فقد يكمل عندها معنى المقدار ، وإن لم تتصوّره مستقيما أو منحنيا. فالطبيعة الجنسية تطلب النفس فيها (٥)

__________________

(١) م : «الجسميّة» ، والصحيح ما أثبتناه. أنظر البحث في المباحث المشرقية ١ : ١٦٣.

(٢) م : «هو» ساقطة.

(٣) م : «إذا»

(٤) م : «عند» ساقطة.

(٥) م : «منها».

١٩١

تحصيل معناها بانضمام بعض الفصول إليها.

وأمّا طبيعية النوع فليس تطلب فيها (١) تحصيل معناها ، بل تحصيل الإشارة إليها. وإذا طلبت النفس تحصيل الإشارة في طبيعة الجنس ، كانت قد فعلت الواجب ، فإنّ ذلك الجنس لا بدّ وأن يشار إليه آخر الأمر ، ولكنّها مع ذلك تكون طالبة لتحصيل ماهيتها قبل طلبها للإشارة ، فإنّ النفس لا يمكنها أن تجعل اللون مشارا إليه إلّا بعد أن تضيف إليه أمورا أخر تنوّع لونيّته وتحصّل ماهيّة تلك الأنواع. وكذلك القول في المقدار ، وفي الكيفيّة.

وأمّا النوع ، فإنّ (٢) العقل لا يطلب تكميل معناه بضمّ شيء آخر إليه ، بل يطلب الإشارة إليه ، وذلك هو طلب الشخصيّة (٣).

البحث السادس : في التناسب بين الحدّ والمحدود (٤)

الحدّ : «قول دالّ على تفصيل ما دلّ عليه الاسم بالإجمال» فإذا قلنا : إنسان ، فقد أشرنا بهذا الاسم إلى حقيقة الإنسان وماهيّته ، من غير التعرّض لذكر شيء من أجزائها ، فإذا حدّدناه بأنّه «الحيوان الناطق» ، فقد فصّلنا معنى الإنسان بذكر هذين الجزءين.

واعلم : أنّا إذا قلنا : للإنسان أنّه «حيوان ناطق» فإنّه في الظاهر يفهم منه تركّبه منهما ، وذلك شيء يقال على سبيل التفهيم والتعليم ، وفي الحقيقة ليس كذلك ، فإنّه ليس الإنسان مجموع الحيوان والناطق ، وليس في الخارج شيء هو

__________________

(١) م : «فيها» ساقطة.

(٢) ج : «فلان».

(٣) وقد نسب الرازي عبارات هذا البحث إلى أبي علي سينا.

(٤) انظر البحث في شرح الإشارات ١ : ٩٥ ، وما بعدها.

١٩٢

الحيوان المطلق والناطق وانضمّ أحدهما إلى الآخر حتّى تحصّلت حقيقة الإنسان ، بل المراد من أنّه «حيوان ناطق» أنّه الحيوان الذي ذلك الحيوان ناطق ؛ فإنّ الناطق داخل في الحيوان ومضمر فيه ، فإنّ الحيوان لا بشرط شيء ، إنّما يحصل ويتمّ لو شرط فيه ثبوت أحد فصوله ، إمّا الناطق أو عدمه ، فإذا قيّد بالناطق يحصل بعد ذلك ، وتحقق له ماهيّة مستقلة تامّة في التعقّل ، ولا يمكن سبق وجود الحيوان قبل انضمام الناطق أو غيره من الفصول إليه ، ثمّ ينضمّ إليه أحدها ، وإلّا لكان عارضا له لا مقوما.

وكذا المقدار ، فإنّه في نفسه يمكن أن يكون خطا أو (١) سطحا أو جسما ، وإنّما يتحصّل مفهوميته بأحدها لا مطلقا ، ولا على أن ينضمّ إليه أحدها ، بل الخط هو نفس المقدار الذي لا عرض له ولا عمق ، لأنّ معنى المقدار هو شيء يحتمل المساواة من حيث هو هو لا بشرط شيء آخر ، والمقدار بهذا المعنى يمكن أن يكون نفسه خطا ، ويمكن أن يكون سطحا ، فإذا فرضناه خطا لم يكن هناك موجودان متغايران انضمّ أحدهما إلى الآخر حتّى حصل الخط ، بل هو موجود واحد.

وفرق بين هذا ، وبين أخذ المقدار بشرط أن لا يؤخذ معه غيره ، فإنّه بهذا الاعتبار يكون فصل الخط خارجا عنه عارضا له ، ويحتاج العقل في كون ذلك المقدار خطا إلى ضمّ

الفصل إليه ، فلهذا كان المقدار بهذا الاعتبار مادّة ، وكان فصل الخط صورة ، وكانا معا جزءين من الخط لا يتضمّن أحدهما الآخر ، ويمتنع حملهما على الخط بخلاف الاعتبار الأوّل. فهكذا ينبغي أن يفهم هذا الموضع.

__________________

(١) ج : «و» بدلا عن «أو» في الموضعين.

١٩٣

البحث السابع : في النسبة بين الجنس والفصل (١)

اعلم : أنّ كلّ واحد منهما يناسب صاحبه في كونهما جزئي النوع على المعنى الذي قرّرناه في البحث السابق.

والفصل مقسّم للجنس (٢) على معنى : أنّ الطبيعة الجسميّة باعتبار ضمّ الفصل إليها تصير خاصّة مباينة في التحصيل للحصّة الأخرى المنضمّة إلى الفصل الآخر. وبهذا الاعتبار يمتنع أن يكون الفصل لازما للطبيعة الجنسيّة ، وإلّا لوجد في جميع صور وجودها فلا يكون مقسّما لها ولا أخص ولا يحدث بسبب انضمامه إلى الطبيعة تخصيص لبعض أفرادها عن البعض.

وقد زعم بعض من لا مزيد تحقيق له : أنّ الجنس لا يجب أن يكون لازما للفصل. وتمسّك بأنّ النطق الذي هو مبدأ فصل الإنسان مشترك بين الإنسان والملك ، مع أنّ الملك ليس بحيوان ، لأنّ النطق هو «القوّة على إدراك المعلومات» وهو معنى مشترك بين الإنسان والملك ، والحيوان مشترك بين الإنسان والفرس ، فإذا اعتبرنا حال الإنسان مع الفرس ، كان الحيوان جنسا والناطق فصلا. وإذا اعتبرنا حال الإنسان مع الملك ، كان الناطق جنسا والحيوان فصلا ، فجوّز انقلاب كل من الجنس والفصل إلى الآخر.

والجواب : ليس فصل الإنسان عبارة عن النطق الذي هو «القوّة على إدراك

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ١٥٧.

(٢) نسبة الفصل إلى الجنس تسمّى بالتقسيم ، وإلى النوع بالتقويم ، أي تقويم ماهية النوع ، وإلى الحصّة والفرد تسمى بالتقويم أيضا ، لكن بمعنى تقويم الوجود. راجع شرح الإشارات ١ : ٨٩. ومن هذا الكتاب ص ٢٠٠.

١٩٤

المعلومات» (١) ، بل ذلك لازم للفصل الذي هو الجوهر القوي على هذه الأحوال ، وهو عبارة عن «النفس الناطقة» في الإنسان ، وعن النفس الملكيّة في الملائكة. والنفوس البشريّة مخالفة بالحقيقة للنفوس السماويّة.

واعلم : أنّ الجنس لا يجوز أن يكون داخلا في طبيعة الفصل ، لأنّ الجنس عبارة عن كمال الذاتي المشترك ، والفصل عن كمال الجزء المميّز ، وصريح العقل حاكم بالتغاير بينهما.

قيل (٢) : إنّما يتمّ ذلك لو جعلنا الجوهريّة مقولة على ما تحتها قول اللوازم والعوارض ، لا قول الأجناس والمقوّمات ، لأنّه لو كان الجوهر جنسا لوجب أن تتمايز أفراده بفصول مقوّمة له ، لكن مقوّم الجوهر يجب أن يكون جوهرا ، فتكون الفصول جواهر (٣) ، فيدخل الجنس في طبيعة الفصل. فظهر أنّه إنّما يتمّ هذا لو جعلنا الجوهر لازما لا مقوّما.

وفيه نظر ، فإنّه لا يلزم من جوهرية الفصل أن يكون الجوهر جزءا منه وجنسا له ، لجواز صدق الجوهر عليه صدق اللازم على ملزومه ، ولا يلزم من جنسيّة الجوهر كونه جنسا لجميع ما يقال عليه ، بل ذلك ممتنع ، فإنّ الأجناس تصدق على فصولها ويمتنع أن تكون أجناسا لها.

قيل (٤) : الفصل علّة للحصّة من الجنس ، لأنّ أجزاء الماهيّة لا بدّ وأن يكون بعضها علّة لوجود البعض ، لامتناع الاستغناء مطلقا ، ولا يجوز أن تكون العلّة الجنس ، وإلّا لوجد الفصل أينما وجد الجنس ، هذا خلف. فوجب أن تكون العلّة الفصل.

__________________

(١) ق : «المعقولات».

(٢) و (٤) والقائل هو الرازي في المباحث المشرقية ١ : ١٥٦ ـ ١٥٧.

(٣) ق «فيكون الفصل جوهرا».

١٩٥

وهذا الدليل ليس بشيء ، لأنّ المطلوب إن كان هو أنّ الفصل علّة تامّة ، لم يلزم من نفيها الاستغناء ، لجواز كونه جزء العلّة ، وذلك كاف في الحاجة المشترطة في التركيب. وإن كان هو كون الفصل علّة بوجه ما ، جاز أن تكون العلّة هو الجنس ، ولا يلزم وجود الفصل في جميع موارده كغيره من العلل الناقصة ، بل الوجه في العلّية : أنّا قد بيّنا أنّ الجنس أمر مبهم في نفسه ، غير متحصّل في ذاته ، وإنّما يتعيّن ويتحصّل ماهيّته بالفصل ، كما قلنا في المقدار ، فإنّه لا يمكن تحصّل مقدار مطلق ، بل إنّما يتحصّل لو كان خطا أو سطحا أو جسما.

فالوجود ينال الأنواع أوّلا حيث تضمّنت الأجناس [و] (١) الفصول ، ثم يعرض الأجناس متحقّقة بعدها. وإذا امتنع تحصّله إلّا منضمّا إلى الفصل كان وجوده متوقّفا عليه ، فلهذا كان (٢) علّة ، إذ ليس معنى العلّية (٣) إلّا توقف الوجود على الوجود. فثبت أنّ للفصل بالنسبة إلى الجنس خاصّتين. إحداهما : تقسيم الطبيعة الجنسيّة. والثانية : تقويم الحصّة التي للنوع منها ، أي تكون علّة لوجودها (٤). وله ثالثة بالنسبة إلى النوع وهي التقويم بمعنى كونه علّة لحقيقته. وتقسيمه للجنس قبل تقويمه للنوع ، لأنّ تحصيل الجزء سابق على تحصيل الكلّ.

لا يقال : الناطق إن كان علّة لمطلق الجنس لم يكن مقسّما (٥) له ، وإن كان علّة للحصّة المخصوصة بنوعه ، فلا بدّ وأن يفرض تخصيص ذلك الجنس أوّلا حتّى يكون الفصل علّة له ، لكن ذلك الجنس متى تخصّص فقد دخل في الوجود ، فلا يكون الناطق علّة.

__________________

(١) أضفناها طبقا للسياق.

(٢) م : «كانت».

(٣) في النسخ العلّة ، وما أثبتناه أوفق للمعنى.

(٤) انظر شرح الإشارات ١ : ٨٩.

(٥) م : «منقسما» ، والصواب ما أثبتناه من نسخة : ق.

١٩٦

لأنّا نقول : الحيوان من حيث هو هو يحتاج إلى علّة ما تقوّم وجوده وتخصّصه وتعيّنه وتخصص العلّة بالناطق مثلا إنّما جاء من قبل الناطق ، فإنّ الحيوان مثلا لا يحتاج باعتبار حيوانيّته المطلقة إلى الناطق ، بل لأنّ الناطقيّة لذاتها علّة لذلك الحيوان ، فالحاجة المطلقة جاءت من قبل الجنس ، وتعيّن العلّة جاء من قبل العلّة.

البحث الثامن : في الفصل (١)

قد عرفت (٢) أنّ الفصل كمال الجزء (٣) المميّز ، وأنّه مقسّم ، وقسمته لازمة لا عارضة ككون الجسم متحرّكا تارة وغير متحرك أخرى. ويجب أن لا يكون عروضه بسبب شيء أعمّ منه كلحوق الأبيض والأسود للحيوان لا باعتبار أنّه حيوان ، بل باعتبار أنّه جسم قائم بالفعل موضوع لهذه العوارض. وكذا الذكورة والأنوثة عرضت للإنسان باعتبار أنّه حيوان ، ولا بسبب شيء أخصّ منه ، فإنّه حينئذ يكون لازما للفصل ، أو فصلا بعيدا لا قريبا ، كما نقول : الجوهر إمّا أن يكون قابلا للحركة أو لا يكون ، فإنّ قابلية الحركة عرضت بسبب الجسميّة لا بسبب الجوهريّة. وهذا القبول لازم للفصل لا أنّه فصل.

وإذا قلنا : الجسم إمّا ناطق أو غير ناطق ، لم يكن الجسم بما هو جسم مستعدا لأن يكون ناطقا ، بل يحتاج أن يكون أوّلا ذا نفس حتّى يصير ناطقا (٤).

واعلم : أنّ القسمة اللازمة اللاحقة لا بواسطة أعمّ أو أخص ، لا يجب أن

__________________

(١) انظر المباحث المشرقية ١ : ١٥٩ ، وما يليها ، (في أحكام الفصل وهي عشرة).

(٢) في البحث الرابع ص ١٩٤ ، وفي مواضع أخرى.

(٣) ق وج : «الجزء» ساقطة.

(٤) وهذا مثال للفصل البعيد.

١٩٧

تكون بالفصول ، فإنّ من اللوازم ما هو كذلك كالذكورة والأنوثة ، وليسا فصلين لأنّه يمكننا أن نتوهّم الحيوان موجودا لا ذكرا ولا أنثى ، ولا يمكننا أن نتصوّر الحيوان موجودا لا (١) ناطقا ولا غير ناطق. ولأنّ الحيوان إنّما صار ذكرا لحرارة عرضت لمزاجه في ابتداء تكوّنه وفي رحم أمّه ، ولو عرضت له برودة لكان ذلك الشخص بعينه أنثى ، وليس شأن الفصول كذلك ، فليس الحيوان الذي صار إنسانا يمكن زوال الناطقيّة عنه ويصير فرسا.

واعلم : أنّ بعض الماهيّات اعتبارية ، ومثلها جاز أن تكون فصولها عدميّة. وأمّا الماهيّات المحصّلة في الأعيان ، فإنّه يمتنع أن تكون فصولها عدميّة ، لما تقرّر من أنّ الفصل علّة للجنس ، وعلل الأمور الوجوديّة ، يمتنع أن تكون عدميّة.

قال أفضل المحقّقين : لا استبعاد في جعل الأمور العدميّة عدم الملكة فصولا للماهيّات المحصّلة ، لأنّ الفصل ليس بمقوّم للماهيّة الموجودة في الأعيان من حيث وجودها في الأعيان ، إنّما هو مقوّم لها من حيث وجودها في العقل مطابقا لما في الأعيان ، لأنّ الجنس أمر مبهم في العقل غير محصّل في الوجود ، إنّما يتحصّل بالفصل معقولا مطابقا للذي في الأعيان وهو النوع ، وذلك كالمعنى الجنسي من الكم المتّصل الذي هو الطول مثلا ، فإنّه يقع على المقدار الذي يكون له مع الطول عرض وهو السطح ، وعلى المقدار الذي لا يكون له ذلك وهو الخط. ثمّ إنّه يتحصل خطا بتقيّده بعدم العرض له ، ويتحصّل سطحا بوجوده له. وكذلك الكمّ الذي هو جنس عال ، فإنّه يتحصّل بالمتّصل والمنفصل نوعين هما المقدار والعدد. والفصل فصل (٢) مبدؤه عدم الاشتراك في حدّ مخصوص. وبالحقيقة يكون الشيء الذي يفيد الامتياز وجوديّا ومبدأ الامتياز فيه عدميّا. ويكون الفصل هو

__________________

(١) م : «لا» حذفت سهوا.

(٢) أي أنّ الانفصال فصل للمنفصل ، ومبدأ ذلك عدم الاشتراك في حدّ مخصوص ، وهو أمر عدمي.

١٩٨

الشيء الذي من شأنه ذلك العدم ، وعلى هذا الوجه لا يكون ممتنعا وذلك هو المراد من الفصول العدميّة.

وفيه نظر ، فإنّ أحدا لم يمنع كون بعض الوجوديّات من شأنها عدم خاص سواء كان فصلا أو غيره. والنزاع ليس في ذلك ، بل في كون الفصل نفسه عدميّا.

واعلم : أنّه لا يمكن أن يكون لشيء واحد فصلان ثابتان في مرتبة واحدة ، لأنّ التمييز إن حصل بأحدهما لم يكن الآخر مميّزا ، لاستحالة استناد المعلول الواحد بالشخص إلى العلل المتعدّدة ، وإن لم يحصل لم يكن فصلا. نعم يجوز أن يتركّب الفصل من أمرين ، ويكون كلّ واحد منهما فصلا ناقصا ، والفصل التام واحد هو مجموعهما ، وذلك ممّا لا نزاع فيه (١).

واعلم : أنّ الفصول الحقيقية قلّ (٢) أن يدركها الإنسان ، إلّا (٣) بواسطة أعراضها الصادرة عنها. فإذا اتّفق أن يكون لبعض الفصول أعراض متعدّدة أخذ أظهرها عند العقل وجعل فصلا ، وليس في نفس الأمر فصلا ، بل الفصل هو مبدأ ذلك العرض ، كما أنّ النفس الإنسانيّة التي هي فصل الإنسان بالحقيقة مجهولة الماهيّة عند العقل ، وإنّما تتصوّر بعوارضها. ولما صدر عنها النطق والضحك وغيرهما ، وكان النطق أظهرها ، جعل الناطق فصلا دون الضاحك ، للعلم بتقدم الناطق على الضاحك.

فإن اتّفق أن يحصل عرضان يشتبه تقدّم أحدهما على الآخر وكلاهما واضحان عند العقل ، أمكن الاستدلال بهما معا على الفصل ، كما في الحسّاس والمتحرّك بالإرادة ، فإنّ قوّة الحسّ والحركة أمران صدرا عن النفس الحيوانيّة ، ولم

__________________

(١) وذلك كفصل الحيوان فإنّه «الحسّاس» و «المتحرّك بالإرادة».

(٢) الكلمة مشوّشة في النسخ ، وما أثبتناه هو المحتمل.

(٣) في النسخ : «لا» والصحيح ما أثبتناه طبقا للسياق.

١٩٩

يحصل عندنا شعور بتقدّم أحدهما على الآخر ، فأخذنا هما معا في التعريف ، وليس واحد منهما بفصل ، فإنّ الحيوان ليس مركّبا من الجسم وقوّة الحس ، ولا قوّة التحريك ، لأنّ هذين أمران يعرضان للنفس الحيوانيّة بعد تحصّلها (١) ، وصيرورة بعض الأجسام باعتبارها حيوانا لكن (٢) لعدم شعورنا بالفصول في نفس الأمر ـ لا التي هي فصول في أذهاننا ـ وعدم الأسماء لها ـ لا لعارضها ـ يضطر إلى العدول عن الفصول الحقيقيّة إلى لوازمها للضرورة.

وليس كلامنا في الفصول بحسب تعقّلنا وتصرّفنا ، بل من جهة كيفية الوجود في نفسه. ولهذا الاشتباه توهّم بعض الناس جواز تعدّد الفصول في مرتبة واحدة ، وتمثّل في ذلك بالحسّاس والمتحرّك بالإرادة. والتحقيق فيه : ما قلناه. نعم يجوز أن تتعدّد فصول الشيء الواحد في مراتب متعددة كالناطق الذي هو فصل قريب ، والحساس الذي هو فصل بعيد ، والنمو الذي هو فصل أبعد.

واعلم : أنّ الفصول لما كانت عللا للأجناس وجب تناهيها ، لما يأتي من وجوب تناهي العلل ، ولأنّها أجزاء الماهيّات ، ويمتنع أن تكون للماهيّة أجزاء غير متناهية ، لامتناع تصوّرها حينئذ ، فإنّ الذهن لا يمكنه استحضار ما لا نهاية له على التفصيل. فلهذا وجب تناهي الأجناس في التصاعد والتنازل ، وإلّا لما تحصّلت الأنواع ولا الأشخاص (٣).

واعلم : أنّ الفصل الأخير هو العلّة الأولى ، فإنّ الناطقيّة علّة لوجود النفس الحيوانيّة، وهي علّة القوّة النباتيّة ، التي هي علّة الجسميّة ، التي هي علّة الجوهريّة.

__________________

(١) م : «تحصيلها».

(٢) م : حذفت عبارات بدايتها من «لكنّ» ونهايتها إلى «في نفسه».

(٣) راجع : شرح الإشارات ١ : ٨٢.

٢٠٠