نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

الفصل الثالث :

في خواص المحدث

وفيه مباحث :

البحث الأوّل : في أنّه لا يجب في المحدث سبق المادة عليه (١)

ذهبت الفلاسفة إلى أنّ كلّ محدث فإنّه مسبوق بمادة يكون حالّا فيها كالصور والأعراض ، أو موجودا عنها كالمركّب ، أو معها كالنفوس ، وحصروا المحدثات في هذه الأصناف الثلاثة لا غير. وكلّ بسيط غير هذه فإنّه يستحيل أن يكون محدثا عندهم.

واستدلّوا على سبق المادة ، بأنّ كلّ محدث فإنّ عدمه سابق على وجوده ، ووجوده حال عدمه ممكن ، وإلّا امتنع حدوثه ، فذلك الإمكان سابق على وجوده. وليس راجعا إلى صحّة اقتدار القادر عليه ؛ لأنّ هذا الإمكان مأخوذ بالقياس إلى ذات الممكن من غير التفات إلى مؤثّره ، وصحّة اقتدار القادر عليه مأخوذة

__________________

(١) راجع الإشارات ٣ : ٩٧ ـ ١٠١ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٢٣١ ؛ نقد المحصل : ١٢٧ ـ ١٢٨ ؛ شرح القوشجي ، المسألة الخامسة والأربعون من الفصل الأوّل.

٢٤١

بالقياس إلى المؤثّر ، فتغايرا (١). ولأنّه يعلّل الثاني بالأوّل ، فنقول : إنّما صحّ اقتدار القادر عليه لأنّه ممكن ؛ لأنّ الإمكان علّة في صحّة تعلّق المقدورية به ، ولا يصحّ أن يقال : إنّما صحّ اقتدار القادر عليه لأنّه صحّ اقتدار القادر عليه ، فتغايرا. وليس الإمكان عدميّا للفرق بين نفي الإمكان والإمكان العدمي ، ولا جوهرا قائما بذاته ، ولا بالممكن ، لعدمه. فلا بدّ له من محلّ مغاير هو الهيولى (٢).

والجواب : قد بيّنا أنّ الإمكان عدميّ ، وأنّ الفرق لا يستدعي ثبوته كالعدم والامتناع وغيرهما من الصفات العدميّة.

قيل : الإمكان عندهم يقع بالاشتراك اللفظي على أمرين :

أحدهما : ما يقابل الامتناع وهو عندهم صفة عقلية يوصف بها كلّ ما عدا الواجب والممتنع من المتصوّرات ، ولا يلزم من اتّصاف الماهية بها كونها ماديّة.

والثاني : الاستعداد ، وهو موجود عندهم معدود في نوع من أنواع جنس الكيف ، وإذا كان موجودا وعرضا وغير باق بعد الخروج إلى الفعل ، فيحتاج لا محالة قبل الخروج إلى محلّ ، وهو المادة. فهذا البحث معهم يجب أن يكون في إثبات ذلك العرض ونفيه (٣).

وفيه نظر ، فإنّ البحث في الاستعداد كالبحث في الإمكان ، والوجوه الدالّة على نفيه دالّة على نفي الاستعداد (٤).

__________________

(١) أي الإمكان والقدرة ، فليس الإمكان نفس القدرة.

(٢) النجاة قسم الإلهيّات : ٢١٩ ـ ٢٢٠ ؛ الإشارات ٣ : ٩٧ ـ ٩٩.

(٣) نقد المحصل : ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٤) راجع البحث الرابع : في أنّ الإمكان الخاص سلبي ص ١١٢.

٢٤٢

البحث الثاني : في أنّه لا يجب في المحدث سبق المدّة عليه (١)

اختلف الناس هنا ، فذهب المسلمون كافة إلى ذلك ، وذهبت الفلاسفة إلى أنّ كل محدث فإنّه مسبوق بزمان هو موجود غير قارّ الذات متصل اتصال المقادير (٢) ، لأنّ الحادث بعد ما لم يكن (٣) تكون بعديته هذه مضافة إلى قبليّة قد زالت ، فله قبل لا يوجد مع البعد ، وليست تلك القبليّة كقبليّة الواحد على الاثنين التي قد يكون بها ما هو قبل وما هو بعد معا في حصول الوجود (٤) ، بل يجب أن تكون قبلية قبل لا تثبت مع البعد ، بل تزول قبليته عند تجدّد البعدية.

وهذه القبلية مغايرة للعدم ، لأنّ العدم كما كان قبل ، فقد يصحّ أن يكون بعد ، وليس القبل بعد ، ولا الفاعل لأنّه قد يكون الفاعل قبل الحادث (٥) ومعه وبعده ، وليس القبل كذلك. فهو شيء آخر يتجدّد ويتصرّم ، وهو غير قارّ الذات ، وهو متّصل في ذاته ، لإمكان فرض متحرّك يقطع مسافة يوافق حدوث هذا الحادث انقطاعها ، فيكون ابتداء حركته قبل هذا الحادث ، ويكون بين ابتداء الحركة وانتهائها ، كما بين ابتداء الحركة وحدوث الحادث ، فكما كان هناك قبليات وبعديات متصرّمة متجدّدة مطابقة لأجزاء المسافة والحركة، كذا يجب أن يكون بين ابتداء الحركة وابتداء هذا الحدوث.

__________________

(١) راجع الإشارات ٣ : ٨٢ وما بعدها ؛ نقد المحصل : ١٢٨ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٥٥ وما يليها.

(٢) أي الخط والسطح والحجم

(٣) وهذا هو تعريف الحادث.

(٤) م : «الموجود» وهو خطأ.

(٥) م : «الحدوث».

٢٤٣

وسيظهر في بطلان الجزء (١) ، أنّ مثل هذا المتّصل لا يتألّف من أجزاء لا تتجزّأ. فيثبت أنّ كل حادث مسبوق بموجود غير قارّ الذات متّصل اتصال المقادير ، وهو الزمان(٢).

والاعتراض : لا نسلّم ثبوت هذه القبليّة في الخارج ، ودليلكم إنّما ينهض بثبوتها مطلقا ، وهو أعمّ من الثبوت الذهني والخارجي ، ولا يدلّ ثبوتها في الذهن على ثبوت موصوفها في الخارج ، فإنّه كما يصحّ وصف الموجود بها ، كذا يصحّ وصف المعدوم بها ، فإنّه دليلكم على ثبوت الزمان ، بل يمتنع ثبوت القبليّة والبعديّة في الخارج لوجوه (٣) :

أ : لو كانت القبليّة موجودة لزم التسلسل ؛ لأنّ القبليّة الواحدة سابقة على كل ما يتأخّر عنها ، فيفتقر إلى قبليّة أخرى ، ويلزم التسلسل لا دفعة واحدة ، بل دفعات لا تتناهى ، وهو غير معقول.

واعترضه أفضل المحقّقين : بأنّ القبليّة والبعديّة اللاحقتين بالزمان إضافيتان عقليتان ، والموجود في الخارج هو الزمان ، وهو الذي تلحقه القبليّة لذاته وتلحق ما سواه ممّا يقع فيه بسببه في العقل ، أمّا نفس القبلية فليس من الموجودات المختصّة بزمان دون زمان ، لأنّها أمر اعتباري (٤) يصحّ تعقّله في جميع الأزمنة ، وإن أخذ من حيث يقع في زمان معيّن ، كان حكمه حكم سائر الموجودات في لحوق قبليّة أخرى يعتبرها العقل به ، ولا يتسلسل ذلك ، بل ينقطع بانقطاع الاعتبار

__________________

(١) في الفصل الأوّل من النوع الأوّل من القاعدة الثالثة من المجلد الثاني.

(٢) الإشارات ٣ : ٨٢ ـ ٨٦.

(٣) انظر الوجوه في شرح الرازي على الإشارات ، وأكثرها ناش من جعله القبلية والبعدية خارجيّتين.

(٤) لأنّ الذهن يتصوّر الامتداد المتصل الموجود في الخارج ويتعقّله ، ثمّ يعتبر القبليّة والبعديّة لقطعة منه.

٢٤٤

الذهني (١).

وفيه نظر ؛ لأنّ فيه اعترافا بأنّ القبليّة ليست في الخارج ، وقد بيّنا أنّ للذهن إلحاقها بالوجودي والعدمي ، ولا يمكن الحاق القبليّة بالزمان لذاته ، وإلّا لوجب اختلاف أجزائه بالذات ، فيلزم وجود أجزاء لا تتجزّأ فيه ، وهو عندهم محال.

لا يقال : كل واحد من العدم والوجود ليس قبلا ولا (٢) بعدا لذاته ، وإلّا لامتنع انقلاب كلّ منهما إلى صفة الآخر ، وهو محال ، فوجب ثبوت شيء يلحقانه غيرهما ، وهو المراد بالزمان.

لأنّا نقول : قد بيّنا أنّ معروضهما قد يكون وجوديّا وقد يكون عدميا ، فلا يجوز الاستدلال بعروضهما لشيء على كون ذلك الشيء ثبوتيا.

ب : القبليّة والبعديّة إضافتان ، فإن كانتا ذهنيّتين لم يجب ثبوت معروضهما في الخارج، وإن كانتا خارجيّتين وجب أن توجدا معا ، وقيل إنّهما لا توجدا معا ، هذا خلف.

اعترضه أفضل المحقّقين بأنّهما إضافتان عقليتان لا توجدان إلّا في العقول ، لأنّ الجزءين (٣) من الزمان اللذين تلحقهما القبليّة والبعديّة لا يوجدان معا ، فكيف توجد الإضافة اللاحقة لهما (٤) ، لكنّ ثبوتهما في العقل لشيء يدل على وجود معروضهما الذي هو الزمان مع ذلك الشيء ويجب أن يكون (٥) وجود معروضهما معا في العقل ، ولا يجب أن يوجدا في الخارج معا (٦).

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ : ٨٨ ـ ٨٩.

(٢) م : «أو».

(٣) كاليوم والأمس.

(٤) في المصدر : «بهما».

(٥) م وج : «أن يكون» ساقط.

(٦) شرح الإشارات ٣ : ٨٨ ـ ٨٩.

٢٤٥

وفيه نظر ، فإنّ فيه اعترافا بأنّهما ليس لهما ثبوت في الأعيان ، فلا يلزم وجود معروضهما فيه ، وهو المطلوب.

لا يقال : القبليّة والبعديّة إذا كانا معا في الذهن ، فلا بدّ وأن يوجد معروضهما معا في الذهن ، حتى يصحّ الحكم على أحدهما بالقبليّة وعلى الآخر بالبعديّة ، فحينئذ الحكم بالقبليّة : إمّا أن يكون باعتبار وجود معروضهما في الخارج ، وهو محال ، لعدم اقتضاء الوجود القبليّة والبعديّة. أو باعتبار ذاته وهو محال أيضا ، لأنّ الذاتين من حيث هما ذاتان لا تعرض لاحداهما القبليّة وللأخرى البعديّة. فلا بدّ من أمر مغاير لمعروض (١) القبلية ، يوجد المعروض فيه ، وباعتباره يكون قبلا وكذا البعديّة (٢).

لأنّا نقول : فنرجع بالبحث على ذلك الشيء ، لم صار أحدهما متقدما والآخر متأخّرا؟ فإن أسندتموه إلى ذاتهما فليسند إلى الذاتين. وأيضا يلزم اختلافهما بالماهيّة ، لكنّ أجزاء الزمان متساوية. وأيضا يلزم وجودهما بالفعل ، وأجزاء الزمان عندكم إنّما توجد بالفرض.

ج : لو كانت القبليّة وجوديّة لم يصحّ وصف العدم بها (٣) ، لاستحالة اتّصاف المعدوم بالموجود (٤).

واعترض عليه أفضل المحقّقين : بأنّ العدم المقيّد بشيء ما ، يكون معقولا بسبب ذلك الشيء ، ويصحّ لحوق الاعتبارات العقلية به من حيث هو معقول (٥).

__________________

(١) ق : «بمعروض» ، وهو خطأ.

(٢) م : «البعد».

(٣) مع أنّهم وصفوه بالقبلية في قولهم : «عدم كل حادث قبل وجوده».

(٤) م : «الموجود بالمعدوم» وهو من اشتباه الناسخ.

(٥) شرح الإشارات ٣ : ٩٠.

٢٤٦

وفيه نظر ؛ لأنّ البحث إنّما هو : هل القبليّة وجوديّة أم لا؟ وإذا اعترف بأنّها عقلية بطل النزاع.

د : أجزاء الزمان يعرض لبعضها بالنسبة إلى البعض الآخر هذا التقدّم والتأخّر بعينه(١)، فيلزم أن يكون للزمان زمان آخر.

لا يقال : الفرق بين الزمان وغيره ظاهر ، لأنّ الزمان متقضّ لذاته فلهذا استغنت القبليّة والبعديّة العارضتان له عن زمان آخر ، ولم تستغن القبليّة والبعديّة العارضتان لغيره عنه. ولأنّ القول بالقبليّة والبعديّة يمكن مع القول بكون كل جزء من الزمان مسبوقا بجزء آخر ، ولا يمكن مع القول بحادث هو أوّل الحوادث ، لأنّه ينافي الإشارة إلى ما هو قبل أوّل الحوادث.

لأنّا نقول على الأوّل : أجزاء الزمان إن كانت متساوية في الماهية ، استحال تخصّص بعضها بالتقدّم دون البعض الآخر ، وإن لم تكن ، كان انفصال كلّ جزء عن الآخر بماهيته(٢) ، فيكون الزمان غير متّصل ، بل مركّبا من آنات. وأيضا تجويز وجود قبلية وبعدية لا توجدان معا في جزءين من الزمان من غير زمان يغايرهما ، يقتضي تجويز كون العدم قبل وجود الحادث من غير زمان يغايرهما.

وعلى الثاني : بأنّ معنى قولنا : اليوم متأخّر عن أمس ، ليس هو «أنّه لم يوجد معه»؛ لأنّ اليوم لم يوجد أيضا مع الغد. وإن سلّمنا ، أنّ معناه «أنّه لم يوجد معه» ، كانت هذه المعيّة اضافة عارضة لهما مغايرة لذاتيهما ، فكان المعقول منه : أنّ اليوم ما حصل في الزمان الذي حصل فيه الأمس ، وحينئذ يعود التسلسل. وإن لم يكن معناه أنّه لم يوجد معه ، بل كان معناه : أنّ اليوم لم (٣) يوجد حين كان أمس ، فلفظة

__________________

(١) أي المذكور في عدم الحادث ووجوده بعينه.

(٢) م : «بماهية»

(٣) ق وج : «لا».

٢٤٧

«كان» مشعرة بمضيّ زمان ، وذلك يقتضي أن يكون للزمان زمان آخر.

اعترضه أفضل المحقّقين : بأنّ الزمان ليس له ماهية غير اتّصال الانقضاء والتجدّد ، وذلك الاتصال لا يتجزّأ إلّا في الوهم ، فليس له أجزاء بالفعل ، وليس فيه تقدّم ولا تأخّر قبل التجزئة. ثمّ إذا فرض له أجزاء فالتقدّم والتأخّر ليسا بعارضين يعرضان للأجزاء وتصير الأجزاء بسببهما متقدّما ومتأخّرا ، بل تصوّر عدم الاستقرار الذي هو حقيقة الزمان ، يستلزم تصوّر تقدم وتأخّر للأجزاء المفروضة لعدم الاستقرار لا لشيء آخر ، وهذا معنى لحوق التقدّم والتأخّر الذاتيّين به. وأمّا ما له حقيقة غير عدم الاستقرار يقارنها عدم الاستقرار ، كالحركة وغيرها فإنّما يصير متقدّما ومتأخّرا بتصوّر عروضهما له. وهذا هو الفرق بين ما يلحقه التقدّم والتأخّر لذاته ، وبين ما يلحقه بسبب غيره ، فإنّا إذا قلنا : اليوم [و] (١) أمس ، لم نحتج إلى أن نقول : اليوم متأخّر عن أمس ، لأنّ نفس مفهومهما يشتمل على معنى هذا التأخّر. أمّا إذا قلنا : العدم والوجود ، احتجنا إلى اقتران معنى التقدّم بأحدهما حتى يصير متقدّما. (٢)

وفيه نظر ، فإنّ تفسير الزمان باتّصال الانقضاء والتجدّد ، يقتضي اتصال المعدوم بالموجود ، أو أحد المعدومين بالآخر ، وهو محال ، ولا يقتضي وجوده ، ولأنّ الاتّصال أمر ذهني فكيف يدّعى وجود الزمان بهذا المعنى ، خصوصا وقد فرض عارضا لأمر عدمي.

وقوله : «وليس فيه تقدّم ولا تأخّر قبل التجزئة. [ثم] إذا فرض له أجزاء فالتقدم والتأخّر ، ليسا بعارضين يعرضان للأجزاء ، وتصير الأجزاء بسببهما متقدّما ومتأخّرا ، بل تصوّر عدم الاستقرار الذي هو حقيقة الزمان ، يستلزم تصوّر تقدّم

__________________

(١) أثبتناها من المصدر.

(٢) شرح الإشارات ٣ : ٩٢ ـ ٩٤.

٢٤٨

وتأخّر للأجزاء المفروضة ، لعدم الاستقرار لا لشيء آخر» ، ينافي دليلهم (١) : إنّ التقدّم والتأخّر يعرضان لشيء غير الذاتين اللتين عرضا لهما وهو الزمان لذاته. ثمّ «فرض التجزئة» لا يوجب وجود التجزئة ، فلا يوجب عروض التقدّم والتأخّر للزمان ولا للذوات بسببه.

و «كون التقدّم والتأخّر لا يعرضان لأجزاء الزمان» ينافي عدم استقراره وكونه معروضا للتقدّم والتأخّر ، إذ لا يعرضان له بالنسبة إلى ذاته ، لامتناع عروض هاتين الإضافتين لشيء واحد مطلقا ، بل لا بدّ من أمرين تعرضان لهما الإضافتان ، ولا بالنظر إليه مع غيره فإن لم يعرضا لأجزائه لم يعرضا لشيء البتّة.

وجعل الزمان «عدم الاستقرار» يقتضي كون الزمان عدميا.

والفرق بين اليوم وأمس ، وبين الذوات ليس بجيّد ، لأنّ مفهوم أمس ـ هو الزمان السابق على زمان اليوم ـ ولو لم يوضع لهما هذان اللفظان ، بل قيل زمانان لم يعلم السابق منها من الآخر ، نعم يعلم أنّ أحدهما على الإجمال سابق على الآخر بعرض أنّه موجود غير قارّ كالحركة ، ولا فرق بين علم تقدّم بعض أجزاء الزمان على بعض وعلم تقدّم بعض أجزاء الحركة على بعض ، فإن جعل التقدّم والتأخّر للحركة (٢) بسبب غيرها ، منع ذلك كما يمنع في الزمان.

ه : لو كان الزمان موجودا مع الحركة ، لزم أن يكون للزمان زمان آخر ، بحيث توجد الحركة والزمان معا فيه حتى تصح المعيّة ، إذ ليس المراد بها هنا إلّا المعيّة الزمانية ، فيكون الزمان واقعا في الزمان بعين (٣) ما ذكرتموه.

__________________

(١) م : «دليلكم».

(٢) م : «على الحركة».

(٣) كذا في نسخة : م ، وفي ق : «يعني».

٢٤٩

اعترضه أفضل المحقّقين : بأنّ معيّة ما هو (١) في الزمان للزمان غير المعيّة بالزمان ، أعني : معيّة شيئين يقعان في زمان واحد ، لأنّ الأولى تقتضي نسبة واحدة لشيء غير الزمان إلى الزمان [و] (٢) هي متى (٣) ذلك الشيء ، والأخرى تقتضي نسبتين لشيئين يشتركان في منسوب إليه واحد بالعدد ، [و] (٤) هو زمان ما ، ولذلك لا يحتاج في الأولى (٥) إلى زمان يغاير الموصوفين (٦) بالمعيّة ، ويحتاج في الثانية إليه (٧).

وفيه نظر ؛ فإنّ الفرق بين معيّة ما هو في الزمان للزمان ، ومعيّة الشيئين بالزمان غير مفيدة للغرض. لأنّا نقول : المعيّة بين الشيئين مطلقا إن اقتضت ثالثا تحصل به المعيّة وجب ثبوت ذلك في الزمان نفسه ، وإلّا لم يجب ثبوت الزمان مطلقا ، وإن حصل في بعض الأشياء دون بعض كان تحكّما محضا.

البحث الثالث : في أنّ كلّ محدث فإنّه ممكن

هذا المطلوب ظاهر ، فإنّ المحدث لا بدّ وأن يكون مسبوقا بالعدم ، أو مسبوقا بالغير على اختلاف التفسير ، وإذا كان مسبوقا بالعدم كانت ماهيته (٨)

__________________

(١) كالحركة.

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) ق وج : «من» ، وفي م : «مطموسة والصواب ما أثبتناه. من المصدر

(٤) ما بين المعقوفتين من المصدر.

(٥) أي في المعية الأولى وهي معيّة الزمان للحركة.

(٦) لأنّ الزمان أحد الموصوفين والآخر هي الحركة.

(٧) شرح الإشارات ٣ : ٩٢ ـ ٩٤.

(٨) ق : «ماهية».

٢٥٠

موصوفة بالعدم والوجود ، ولا نعني بالممكن ، إلّا ما يجوز عليه العدم والوجود ، والوقوع يستلزم الجواز.

لا يقال : لم لا يجوز أن يكون موصوفا بالوجود على سبيل الوجوب في وقت ، وموصوفا بالعدم في وقت آخر على سبيل الوجوب ، فحينئذ تحقّق الحدوث دون الإمكان.

لأنّا نقول : اتّصاف الذات بالوجود ، إن (١) كان واجبا لنفس تلك الذات وجب دوامه بدوام الذات (٢) ، وإن كان لغيرها كانت الماهية في نفسها غير مقتضية للوجود ولا للعدم ، بل كلاهما جائز عليه بالنسبة إلى الذات ، وهو معنى الممكن. وكذا البحث في طرف العدم. وإذا كان مسبوقا بالغير كان معناه : أنّ وجوده مستند إلى ذلك الغير ، وكل مستند إلى غيره فإنّه مفتقر إلى ذلك الغير ، وكل مفتقر إلى الغير ممكن بالضرورة.

__________________

(١) ق : «وإن».

(٢) ق : «الذاتي».

٢٥١
٢٥٢

الفصل الرابع :

في المتقدّم والمتأخّر (١) والمع

وفيه مباحث :

البحث الأوّل : في أقسام هذه الأنواع (٢)

ذهب الأوائل إلى أنّ التقدّم يقال على خمسة أنحاء بالتشكيك وزاد المتكلّمون قسما سادسا (٣).

الأوّل : التقدّم بالعلّية

وهو أن يكون شيئان وجود أحدهما صادر عن الآخر ومستند إليه ، ووجود

__________________

(١) ج : «التقدّم والتأخّر».

(٢) انظر الأقسام وما يلحق بها في منطق أرسطو ١ : ٧٠ ـ ٧٣ ؛ الفصل الرابع من المقالة السادسة من قاطيغورياس (مقولات) الشفاء ؛ شرح الإشارات ٣ : ١٠٩ وما يليها ؛ الفصل الأوّل من المقالة الرابعة من إلهيات الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥٧٠ ـ ٥٧١.

(٣) وقال الفيلسوف الكبير العلّامة الطباطبائي : وقد تنبّهوا بذلك إلى أنّ في الوجود أقساما أخر من التقدم والتأخر الحقيقيّين فاستقرءوها فأنهوها إلى تسعة أقسام : الأوّل والثاني والثالث ما بالرتبة وما بالشرف وما بالزمان ، الرابع بالطبع ، الخامس بالعلّية ، السادس بالتجوهر ، السابع بالدهر وقد زاد هذا القسم السيد المحقق الداماد ، الثامن بالحقيقة والمجاز ، والتاسع بالحق وقد زاد صدر المتألهين القسمين الأخيرين. نهاية الحكمة : ٢٢٥ ، ٢٢٦.

٢٥٣

الآخر ليس صادرا عن الأوّل ، فما يستحق أحدهما ـ الذي هو المعلول ـ الوجود إلّا وقد حصل للآخر ـ الذي هو العلّة ـ الوجود ووصل إليه ، وأمّا الآخر (١) فليس يتوسّط أحدهما(٢) بينه وبين ذلك الآخر في الوجود (٣) ، بل يصل إليه الوجود لا عنه ، وليس يصل إلى ذلك (٤) إلّا مارّا على الآخر ، كتقدّم حركة اليد على حركة الخاتم ، فإنّه يصحّ أن يقال : لو لا حركة اليد لما تحرّك الخاتم ، ولا يصحّ أن يقال : لو لا حركة الخاتم لما تحرّكت اليد ، ويصحّ أن يقال : تحرّكت يدي فتحرّك الخاتم ، ولا يصح أن يقال : تحرّك الخاتم فتحرّكت يدي.

فهذا النوع من الترتب (٥) معلوم لكل عاقل ، وهو المراد بالتقدّم.

قيل عليه : تقدّم العلّة على المعلول إمّا أن يكون لماهيتها ، أو لنفس العلّية والمعلولية ، أو لمجموع الأمرين ، أعني : الماهية مع اعتبار العلّية والمعلولية ، والأقسام الثلاثة باطلة ، فالتقدم المذكور باطل.

أمّا بطلان الأوّل ، فلأنّا إذا فرضنا حركة اليد من حيث هي هي ، وحركة الخاتم من حيث هي هي ، لم يكن لإحداهما تقدّم على الأخرى ولا تأخّر ولا معيّة ، لأنّا قد بيّنا أنّ كلّ ماهيّة إذا اعتبرت من حيث هي هي فهي لا متقدّمة ولا متأخّرة ولا مقارنة ، ولا واحدة ولا كثيرة ، لأنّ كلّ ذلك لواحق تلحق الماهية خارجة عنها.

وأمّا بطلان الثاني ، فلأنّ العلّية والمعلولية وصفان اضافيان ، فيكونان معا في الوجود ، فيستحيل أن يكون لأحدهما تقدّم على الآخر ، وإذا كانت الماهية من حيث هي غير متقدّمة ، ولا من حيث هي علّة متقدّمة أيضا ، امتنع أن يكون

__________________

(١) وهي العلّة.

(٢) أي المعلول.

(٣) وفي تفسير «المتوسط» اختلاف بين الطوسي والرازي راجع شرح الإشارات ٣ : ١١٢.

(٤) أي المعلول.

(٥) م : «من الترتّب» محذوف.

٢٥٤

المجموع متقدّما ، لتأخّر المركّب عن مفرداته.

وأجيب : بأنّا لا نعني بهذا التقدّم والتأخّر إلّا احتياج أحدهما إلى الآخر في الوجود وتوقّفه عليه.

إلّا أنّ هذا كالمخالف للمشهور ، لأنّهم يعلّلون هذا التقدّم بهذه الحاجة ، فيقولون : لمّا احتاجت حركة الخاتم إلى حركة الاصبع ، وجب أن يكون لحركة الإصبع تقدّم على حركة الخاتم ، وهذا مشعر بكون التقدّم والتأخّر معلولين للحاجة (١).

وفي السؤال نظر ، فإنّ الماهيّة من حيث هي هي ، وإن لم تكن متقدّمة ولا متأخّرة ولا مصاحبة ، لكن قد يلحقها اقتضاء ذلك كزوجية الاثنين ، فإنّها صادرة عن الاثنين من حيث هي هي لا باعتبار لحوق آخر بها.

وقولهم : «الماهية إذا أخذت من حيث هي هي لا تكون متقدّمة ولا متأخرة» ، لا يعنون بذلك أنّها لا تتصف بشيء من ذلك ، فإنّه محال خلو الماهية عن ذلك ، بل يعنون به: أنّ أخذها من حيث هي هي ، مغاير لأخذها من حيث هي مقتضية لأحدهما (٢) أو متّصفة (٣) به.

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز أن يكون الاقتضاء من حيث إنّ الماهية علّة قوله : العلّية والمعلولية إضافتان توجدان معا. قلنا : توجدان معا في العقل (٤) ، لكن يثبت لأحدهما صفة المبدئيّة وللآخر صفة المعلولية ، كما في اضافتي التقدّم والتأخّر. والأصل فيه أنّ الإضافة مغايرة لمبدإ الإضافة ، والعلّة هي الماهية من حيث هي مبدأ إضافة العلّية ، وهذا الاعتبار متقدّم على إضافة العلّية.

__________________

(١) المباحث المشرقية ١ : ٥٧١.

(٢) ق وج : «لأحدها».

(٣) م : «مقتضية».

(٤) ق : «الفعل».

٢٥٥

وقيل أيضا (١) : إن كان المراد من تقدّم العلّة على معلولها ، كونها مؤثّرة فيه ، كان معنى قولنا : العلّة متقدّمة على المعلول ، هو أنّ المؤثّر في الشيء مؤثّر فيه ، وهذا تكرار خال عن الفائدة ، وإن كان المراد شيئا آخر فلا بدّ من إفادة تصوّره.

وأجاب أفضل المحقّقين : بأنّ تقدّم الشيء الذي منه الوجود على الشيء الذي له الوجود في الوجود معلوم ببديهة العقل (٢).

وفيه نظر ، فإنّ المعلوم بالبديهة هو الاحتياج والإسناد ، أمّا التقدّم فإنّه المتنازع.

الثاني : التقدم بالذات

كتقدّم الواحد على الاثنين ، فإنّا نعلم بالضرورة أنّه لا يصحّ للاثنين وجود ، إلّا إذا كان الواحد موجودا ، وقد يوجد الواحد وإن لم يوجد الاثنان. وكذا الجزء والكلّ ، والموصوف مع صفته ، والشرط مع مشروطه وجزء العلّة مع المعلول. والمتقدّم هنا محتاج إليه والمتأخّر محتاج.

ويصحّ وجود المتقدّم والمتأخّر في هذين القسمين (٣) معا في الزمان ، بل يجب في الأوّل المقارنة الزمانية بينهما ، ويمكن في الثاني (٤). ويشتركان أيضا في أنّ المتأخّر محتاج إلى المتقدّم في تحقّقه ، ولا يكون الآخر محتاجا إلى المتأخّر. لكنّ الفرق بينهما ، أنّ المحتاج إليه في الأوّل ، هو الذي بانفراده يفيد وجود المحتاج ، ويلزم من وجود المتقدّم وجود المتأخّر. ويقترنان في الارتفاع زمانا كما اقترنا في الوجود. وكلّ واحد منهما يرتفع مع ارتفاع صاحبه ، إلّا أنّ ارتفاع المعلول يكون تابعا ومعلولا

__________________

(١) والقائل هو الرازي في شرح الإشارات ٣ : ١١٢.

(٢) نفس المصدر : ١١٣.

(٣) وهما التقدّم بالعليّة والتقدّم بالذات.

(٤) م : «الباقي» ، وانظر الفروق المذكورة في نفس المصدر : ١١٠.

٢٥٦

لارتفاع العلّة من غير عكس ، كما كانا في طرف الوجود على هذه النسبة ، فإنّهما يوجدان معا بالزمان ، ويكون وجود كلّ من العلّة والمعلول مع وجود صاحبه ، لكنّ وجود المعلول يكون تابعا ومعلولا لوجود العلّة.

وأمّا في الثاني ، فإنّ وجود المتقدّم (١) لا ينفرد بإيجاد المتأخّر ، بل يحتاج إلى غيره ينضم إليه ، حتى يتحصّل للمتأخر وجود ، فالمتأخّر بالذات يستلزم المتقدّم في الوجود من غير انعكاس ، فإنّ المتقدّم يمكن أن يوجد لا مع المتأخّر ، أمّا المتأخّر فلا يمكن أن يوجد إلّا مع المتقدّم.

وقد يقال لهذا المشترك : تأخّر وتقدّم بالطبع. وقد يقال : المشترك تأخّر بالذات فيكون مشتركا لفظا بينه وبين المتأخّر بالذات. ويقال للمتقدّم بالعلّية : إنّه متقدّم بالطبع أيضا (٢) ، فالتقدّم بالعلّية مختصّ بالأوّل لا غير ، ولا شركة لفظية فيه ، وأمّا التقدّم بالطبع وبالذات فيقالان بالاشتراك على الأوّل والثاني والمشترك (٣) ، وهذا التقدّم المشترك هو التقدّم الحقيقي الذي لا ينقلب إلى صاحبه ، فإنّ العلّة وجزئها لا يمكن تأخّرهما عن المعلول (٤) بخلاف المتقدّم بالزمان وغيره من أقسام التقدّم الذي يجوز أن ينقلب المتقدّم فيه فيصير متأخّرا ، وهو هو في الحالين.

الثالث : التقدّم بالزمان

وهو أن يكون شيئان في زمانين ، ابتداء وجود أحدهما في زمان ، والآخر في زمان آخر ، ومن المعلوم بالضرورة تقدم أحد الزمانين على الآخر ، فما قارن وجوده

__________________

(١) ق : «المتقدم» ساقطة.

(٢) في ق سقط من قوله «وقد يقال» إلى قوله «بالطبع أيضا».

(٣) نفس المصدر.

(٤) ولهذا خصّه الشيخ بأنّه الذي يكون باستحقاق الوجود ، نفس المصدر : ١٠٩.

٢٥٧

الزمان المتقدّم ، يقال له : إنّه متقدّم على ما قارن وجوده الزمان المتأخّر ، وذلك كتقدّم الأب على الابن.

والزمان إمّا ماض أو مستقبل أو حاضر ، فالمتقدّم في الماضي هو ما كان أبعد من الآن ، والمتأخّر هو ما كان أقرب منه. والمتقدّم في المستقبل هو ما كان أقرب من الآن ، والمتأخّر هو ما كان أبعد منه. وأمّا الآن نفسه فإنّه متقدّم بالنسبة إلى المستقبل ، ومتأخّر بالنسبة إلى الماضي. وهذا المتأخّر لا يمكن أن يجامع المتقدّم في الزمان الذي به تقدّم. فانقسم المتقدّم في الأنواع الثلاثة إلى أقسام ثلاثة : منها ما يجب أن يجامع المتقدّم المتأخّر في زمان المتقدّم (١) ، ومنها ما يمتنع ، ومنها ما يمكن.

الرابع : التقدّم بالرتبة

وهو ما كان أقرب من مبدأ معيّن ، ثمّ المراتب : منها طبيعية كترتب الأنواع التي بعضها تحت بعض ، والأجناس التي بعضها فوق بعض. ومنها وضعيّة كترتّب الصفوف في المسجد بالنسبة إلى المحراب ، أو إلى الباب. وكذلك التقدّم في المرتبة قد يكون طبيعيا ، كتقدّم الجنس المتوسّط على الأخير إذا ابتدأت من العالي (٢) وبالعكس إذا ابتدأت من النوع(٣) وقد يكون وضعيا ، كتقدّم الصف القريب من الإمام إن جعل الإمام مبدأ ، وبالعكس إن جعل الباب مبدأ (٤).

الخامس : التقدّم بالشرف

كتقدّم الفاضل على المفضول. فهذه الأقسام الخمسة اقتصر الأوائل عليها.

__________________

(١) م : «التقدم».

(٢) كما إذا فرضنا المبدأ هو الجوهر فيتقدم الجسم على الحيوان.

(٣) وهذا كما إذا فرضنا المبدأ هو الإنسان فيتقدم الحيوان على الجسم.

(٤) والرتبة في مثال ترتب الصفوف حسيّة ، وفي مثال ترتب الأنواع والأجناس عقليّة.

٢٥٨

البحث الثاني : في الحصر

ذهب الأوائل إلى حصر أقسام التقدّم في هذه الأنواع الخمسة ، ولا برهان لهم على ذلك سوى الاستقراء (١) ، وهو لا يفيد اليقين ، خصوصا وقد أبدى المتكلّمون قسما سادسا للتقدّم ، وهو تقدّم بعض أجزاء الزمان على البعض ، كتقدّم الأمس على اليوم ، فإنّه ليس بالعلّية وهو ظاهر ، لاستحالة اجتماعهما في الوجود ، وإلّا لم يكن الزمان متقضيا (٢) ، فلا يكون الزمان زمانا ، ووجوب اجتماع العلّة والمعلول فيه ولأنّ أجزاءه متساوية فيستحيل اختصاص أحدهما بالعلّية والآخر بالمعلولية ، ولأنّه لو كان المتقدّم علّة والمتأخّر معلولا ، لوجب اختلاف حقيقتهما ، فيكون الزمان مركّبا من أجزاء لا تتجزأ غير متناهية بالفعل ، وهو محال عندهم.

ولا بالذات لهذه الوجوه أيضا.

ولا بالشرف ، إذ لا يعقل شرف أحد أجزاء الزمان وخسّة الآخر ، ولأنّ المتقدّم بالشرف قد يجامع المتأخّر ، ولأنّه يستلزم وجود أجزاء الزمان بالفعل.

ولا بالرتبة الحسّية ، إذ الزمان ليس من ذوات الأوضاع وهو ظاهر. ولا هو بمحسوس ، وإلّا لم يشك في وجوده ، مع أنّ أكثر الناس نفاه ، واختلف مثبتوه في حقيقته.

ولا بالرتبة العقلية (٣) أيضا ، (٤) فإنّ هذا النوع من التقدّم يمكن أن يجتمع

__________________

(١) لاحظ نهاية الفصل الثاني من مقولات الجوهر النضيد : ٢٨.

(٢) وفي المخطوطات : «مقتضيا».

(٣) ق : «الجعلية».

(٤) في النسخ : «وأيضا» ، والصحيح ما أثبتناه طبقا للمعنى.

٢٥٩

المتقدّم به مع المتأخّر في الزمان ، بخلاف أجزاء الزمان.

ولا بالزمان ، وإلّا لزم أن يكون للزمان زمان آخر ، بحيث يوجد الأمس في زمان متقدّم ، واليوم في زمان متأخّر ، ويتسلسل.

لا يقال ، تقدّم بعض أجزاء الزمان على البعض راجع إلى التقدّم بالزمان ، وذلك غير محوج له إلى زمان آخر ، لأنّ ما عدا الزمان إنّما يتقدّم بالزمان ، أمّا الزمان نفسه فلا.

لأنّا نقول : قد بيّنا امتناع ذلك باقتضائه انقسام الزمان بالفعل إلى ما لا يتناهى ، واختلاف أجزاء الزمان بالنوع ، وهو محال عندكم (١).

وللمتكلّمين نوع آخر من التقدّم ، يثبتونه في حق الله تعالى بالنسبة إلى العالم ، وهو التقدّم بزمان تقديري ، على معنى : أنّا لو فرضنا أزمنة لا نهاية لها لكان الله تعالى متقدّما بها(٢).

البحث الثالث : في أنّ مقوليّة التقدّم على أنواعه بأيّ معنى هو؟ (٣)

قد وقعت المشاجرة بين الأوائل في وقوع التقدّم على أنواعه الخمسة ، فقال طائفة منهم : إنّه واقع عليها بالتشكيك (٤) ، وذلك لأنّها اشتركت في معنى واحد ، هو الموضوع له التقدّم ، واختلفت فيه بالأوّليّة وعدمها ، وذلك المعنى المشترك ، هو أنّ المتقدّم بما هو متقدّم له شيء ليس للمتأخّر ، ولا شيء للمتأخّر إلّا وهو موجود للمتقدّم ، ثمّ هذا التقدّم يوجد للمتقدّم بالعلّية قبل المتقدّم بالطبع ، وللمتقدّم

__________________

(١) راجع كشف المراد ، المسألة الثالثة والثلاثون من الفصل الأوّل.

(٢) م : «مسبوقا بها».

(٣) راجع إلهيات الشفاء ، الفصل الأوّل من المقالة الرابعة ؛ الأسفار ٣ : ٢٥٨ ـ ٢٦٧.

(٤) لاحظ القبسات : ٦١.

٢٦٠