نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-391-1
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦٤٦

ذا كم (١) هو العلّة لهذه القابلية استحال أن تكون هناك كيفية أخرى تفيد هذه القابلية ، لأنّ ما ثبت لذات الشيء استحال احتياجه في إثباته له إلى شيء آخر.

وإذا ثبت أنّ استعداد الانفعال ليس بكيفية زائدة وجب أن يكون الاستعداد نحو اللاانفعال لعلّة وجودية لاستحالة أن يكون سببه نفس المادة التي هي علّة الاستعداد ، ولا أيضا زوال وصف عن المادة ، إذ ليس الاستعداد للانفعال علّة وجوديّة حتى يكون زوالها علّة الاستعداد للاانفعال.

فإذن علّة استعداد اللاانفعال أمر وجودي ، وهذا يوجب الظن بأنّ التقابل بين الصلابة واللين تقابل العدم والملكة.

وفيه نظر ؛ فإنّه لا يلزم من كون الوجودي لازما لأمر أن يكون ذلك الأمر وجوديا. والاستعداد لقبول الانغمار وإن كان حاصلا للمادة ، لكن الاستعداد لعدم قبوله أيضا حاصل للمادة ، ولا يكفي الاستعداد والقبول في الحصول.

قال الشيخ : «وأمّا الرطوبة واليبوسة والصلابة واللين ففي أمرها نظر ، فإنّها إمّا أن تكون ماهيتها هي أنّها استكمال استعداد في أن ينغمر ويتشكل بسهولة ، وفي أن لا ينغمر ولا يتشكل بسهولة. أو يكون أمرا آخر هو في نفسه موجود محصل ، وتلزمه هذه الكيفية ، ويكون إنّما يحس من جهة الأمر الآخر حتى تكون هذه الكيفية دليلا على ذلك الوجود الآخر. وهذا يتبيّن بأن يتأمل حاله في دخوله في الحس ، أهو له من حيث ينغمر ، أو لا ينغمر ، أو من جهة شيء آخر؟

أمّا أنّه لا ينغمر فعدمي ، إنّما يجب أن يحسّه الحس على سبيل تعطله كما يتعطل عند الظلمة. وإبصارنا للظلمة هو أن لا نبصر شيئا. ثمّ الصلب يشبه أن يكون إدراكنا له باللمس كالإدراك الوجودي (٢) ، واللين كغير الوجودي ، الذي لا يحسّ معه بممانعة أصلا.

__________________

(١) الكلمة مشوشة في المخطوطة ، وما أثبتناه من المباحث المشرقية.

(٢) في النسخ : «للوجودي» ، وما أثبتناه من المصدر.

٦٠١

وأمّا الانغمار الذي في اللين فهو قبول حركة على هيئة ، والحركة مع الهيئة غير محسوسة إلّا بواسطة ، فقد يحس الانغمار أيضا بالبصر دون اللمس ، وكذا سرعة الحركة إلى الشكل وبطؤها ، فلا يكون ذلك دليلا على أنّ الصلابة واللين أو الرطوبة أو اليبوسة قد أحسّتا بالبصر.

فإذن ليس ما يلمس هو الانغمار وعدمه ، ولا أيضا الاستعداد ، فإنّ الاستعدادات من حيث هي استعدادات معان تعقل ، وكذلك فإنّ قوّة المصارعي لا يحسها مصارعه ، بل يحس هناك صلابة المقاومة. وكذا الزق المنفوخ فيه الهواء ، فإنّ الهواء الذي فيه لم يصلب بوجه أصلا ، بل هو في طبيعته كما كان ، لكن الحس يحسه كما يحس الصلب. وكذا الرياح فإنّ الأمر الذي نحس من المقاومة هو غير الاستعداد الطبيعي الذي في الشيء الموجود ، فإنّ الهواء لم ينعقد في طبعه صلبا وإن انحصر في الزق ، ولا بأن صار ريحا ، بل الاستعداد الطبيعي موجود فيه ولا يحس به ، فإذن المعنى الذي يحس بذاته إن كان لا بدّ من معنى يحسّ بذاته هو غير ذلك الاستعداد ، وإن كان يقارنه ويصحبه وغير نفس حركة الانغمار وغير الانغمار ، فأحد هذه عدم والآخر من باب الحركة لا من باب الكيف ، والثالث من جنس الكيفيات التي في الكميات حتى دون الكيفيات الانفعالية والانفعالات. والذي يقع من هذا الجنس في المعنيين المعتبرين في الرطوبة واليبوسة هو ما يحس منهما ، والذي يقع في الباب الآخر ، أعني باب القوة واللاقوة ، هو ما لا يحس منهما وهما متلازمان». (١)

واعلم أنّ الشيخ جعل الصلابة واللين في الإشارات من الكيفيات الانفعالية. وقسّم الانفعال إلى السريع والبطيء ، لئلا يحصل الشك في الصلابة وأشباهها في كونها انفعالية ؛ لأنّها ليست ممّا لا ينفعل موضوعها ، بل هي ممّا ينفعل موضوعها بطيئا (٢).

__________________

(١) الفصل الخامس من المقالة الخامسة من مقولات الشفاء : ١٩٤ ـ ١٩٥.

(٢) شرح الاشارات ٢ : ٢٤٥.

٦٠٢

الفصل الرابع :

في القسم الثالث من الكيف وهو :

الكيفيات المختصة بالكميات (١)

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في حقيقة هذا القسم

قيل في تعريفه : إنّه الكيفية التي تعرض أوّلا للكمية ، وبواسطتها للجسم ، فإنّ الشكل يعرض أوّلا للمقدار ، وكذا الاستقامة والانحناء.

اعترض (٢) : بأنّ الخلقة مجموع اللون والشكل ، وهي تعرض أوّلا للجسم الطبيعي فإنّه ما لم يحصل جسم طبيعي لم تحصل خلقة.

فنقول : الأمور العارضة للكمية : منها ما يعرض لها بسبب أنّها كمية ، ومنها ما يعرض بسبب أنّها كمية شيء مخصوص ، وفي كلا القسمين العارض إنّما عرض للكمية أولا.

__________________

(١) قارن الفصل الأوّل من المقالة السادسة من مقولات الشفاء : ٢٠٧ ؛ الفصل التاسع من المقالة الثالثة من إلهيات الشفاء ؛ وتعليقة صدر المتألّهين ؛ والمباحث المشرقية ١ : ٥٣٧ وما يليها ، وشرح المواقف ٦ : ١٥١ وما يليها ؛ كشف المراد : ٢٥٥ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٣٨٣.

(٢) أنظر الاعتراض والاجابة عليه في مقولات الشفاء.

٦٠٣

ثمّ اللون حامله الأوّل السطح. والجسم بنفسه غير ملوّن ، بل معنى كون الجسم ملوّنا أنّ سطحه ملوّن.

وليست القوّة واللاقوّة حاملهما العمق وبتوسط الجسم ، بل يحملهما الجسم بمادته وصورته.

فالخلقة ملتئمة من الشكل وحامله السطح بذاته ، ومن اللون وحامله السطح لكونه نهاية لجسم طبيعي. فالحامل الأوّل للخلقة هو الكم. لكن يشكل بلزوم دخول اللون والضوء فيه ، لأنّ حاملهما الأوّل السطح مع أنّهما داخلان في الانفعالات والانفعاليات. ووجود حقيقة واحدة في جنسين محال.

واعلم أنّ التعريف الذي ذكرناه أوّلا يدخل فيه ما يكون عارضا للشيء بواسطة الكمية بتمام ماهيته كالاستقامة والانحناء ، أو ببعض أجزائه كالخلقة المركبة من الشكل واللون ، وكونها من هذا الباب بما فيه من الشكل.

المسألة الثانية : في أقسامه

اعلم أنّ المشهور عند جماعة الحكماء من أقسام هذا النوع من الكيف أنواع ثلاثة : ١ ـ الشكل. ٢ ـ وما ليس بشكل. ٣ ـ وما هو حاصل من شكل وغير شكل. وجعلوا الشكل على ما هو المشهور من أمره أنّه : ما أحاط به حدّ كالكرة والدائرة ، أو حدود كالمربع والمكعب. وما ليس بشكل كالاستقامة والانحناء للخط وكالتقعير والتحديب والتسطيح للسطح. والذي يحصل من شكل وغير شكل هو المسمى صورة وخلقة ، وهو الشكل من حيث هو محسوس في جسم طبيعي أو صناعي وخصوصا بالبصر. وذلك بأن يكون له لون ما فيكون الشكل الملون خلقة وصورة.

فلما ذكرت هذه الوجوه الثلاثة ، قيل : ويشبه أن يكون للكيفية نوع رابع.

٦٠٤

فتذبذب الشرّاح ، فقال بعضهم : إنّه نعني به الأمور التي تسمّى في الفلسفة الأولى : كيفيات ، التي هي الأمور المفارقة أصلا كالمثل المظنونة والتعليميات ، أو كالعقول التي لا تلابس المادة. ولم يشعروا بأنّ إطلاق اسم الكيفية على ذلك ، وعلى هذه المعدودات إنّما هو بالاشتراك اللفظي. وليس حدّ الكيفية في جميعها واحدا فلا يكون ما يجمع تلك الأشياء نوعا من أنواع الكيفية زائدا على أنواع الكيفية المذكورة.

وقال آخرون : إنّ ذلك هو الثقل والخفة ، مع أنّهما عند الكل من جملة ما سلف ذكره ، ومع ذلك فإنّهم بأجمعهم جزموا تربيع الأقسام ولم يجعلوا للكيفية نوعا خارجا عن الأجناس الأربعة.

والحق أنّ هذا القسم الرابع لا بدّ منه ، لكن ليس هو ما ذكروه ، بل الكيفيات العارضة للكميات المنفصلة كالزوجية والفردية فإنّه خواص هذه الأعداد ليست أعدادا ولا فصولا لها ، بل هي عوارض تعرض لأنواعها لازمة. وليست من مقولة المضاف ولا باقي المقولات فهي من الكيفيات. وليست من الحالات والملكات ، ولا قوّة ، ولا عجز ، ولا كيفيات محسوسة ، فهذا هو النوع الذي أهملوه. ولمّا كانت هذه صعبة لم يمثل في قاطيغورياس بها ، بل بما تقدم ؛ لأنّه وضع للمبتدئين.

وطريق تمييز هذه الأقسام بعضها عن بعض أن نقول : الكيفية المختصة بالكمية إمّا أن تكون مختصّة بالمنفصل كالزوجية والفردية ، أو بالمتصل وأقسامه أربعة : الزمان ، والجسم ، والسطح ، والخط.

أمّا الزمان والجسم فلم يدل دليل على اختصاصهما بكيفية لا توجد في الجسم الطبيعي إلّا بواسطتهما. وأمّا السطح والخط ، فالعارض للخط هو الاستدارة والاستقامة. وأمّا العارض للسطح فإمّا أن يعرض له لأجل كونه محاطا بالخط ، أو ليس لأجل ذلك ، فالأوّل الشكل والثاني اللون ومجموعهما الخلقة.

٦٠٥

المسألة الثالثة : في الاستقامة والاستدارة (١)

رسم اقليدس (٢) الخط المستقيم بأنّه «الموضوع على مقابلة أي النقط كانت عليه بعضها لبعض» ؛ فإنّ الخط المستقيم إذا فرض عليه نقط متعددة كم كانت فإنّها بأجمعها تكون على سمت واحد ، بحيث لا يكون بعضها أرفع من بعض ، بل يكون وضع جميعها بالإضافة إلى الخط وضعا واحدا.

ورسم أرشميدس (٣) بأنّه «أقصر خط يصل بين نقطتين» ؛ لأنّ كلّ نقطتين فرضتا أمكن أن يوصل بينهما بخطوط كثيرة مقوسة ، وخط واحد مستقيم هو

__________________

(١) قال الجرجاني : «الاستقامة : هي كون الخط بحيث تنطبق أجزاؤه المفروضة بعضها على بعض على جميع الأوضاع» وعرّف الاستدارة بأنّها «كون السطح بحيث يحيط به خط واحد ويفرض في داخله نقطة تتساوى جميع الخطوط المستقيمة الخارجة منه إليه» التعريفات : ٨.

(٢) اقليدس : عالم رياضيات يوناني نشأ في الاسكندرية ربما في عهد بطليموس (٣٢٣ ـ ٢٨٥ ق. م) أنشأ مدرسة مشهورة بالاسكندرية وقام بتنظيم وتنسيق علم الرياضيات في عصره وضمنه مؤلفه «الأصول» المحتوي على ثلاث عشرة مقالة ظلّت حتى عهدنا هذا ، أساس دراسة مبادئ الهندسة ، ويحتمل أن يكون الجزء الأكبر من هذه المقالات من أبحاث اقليدس وإضافاته ، وليست مجرد جمع معلومات رياضية. ومن مؤلّفاته الأخرى «الظاهرة» و «التقويم» و «البصريات» و «القسمة». الموسوعة العربية الميسّرة : ١٨٥.

(٣) أرشميدس : (٢٨٧ ـ ٢١٢ ق. م) رياضي وفيزيائي ومخترع اغريقي ، اشتهر ببحوثه في الهندسة (الدائرة ، الاسطوانة ، القطع المكافئ) والفيزياء والميكانيكا والهيدروستاتيكا ، وضع قاعدة أرشميدس للأجسام المغمورة ، وله اختراعات كثيرة منها آلات حربية ومرايا محرقة وآلة سماوية تمثل الحركات الظاهرة للأفلاك بدقة عجيبة. من مصنفاته كتاب المسبع في الدائرة ، وكتاب مساحة الدائرة ، وكتاب الكرة والاسطوانة ، وكتاب المثلثات ، وكتاب المفروضات ، وغيرها. راجع الموسوعة العربية الميسّرة : ١١٨ ، وتاريخ الفلسفة اليونانية ، يوسف كرم : ٢١٠.

٦٠٦

أقصرها.

وهذا التعريف ليس بصواب ، لأنّ المستدير يمتنع أن يصير مستقيما ، فلا يمكن انطباقه عليه ، فلا يوصف بأنّه أقصر أو أطول أو مساو.

وبهذا يظهر فساد قول من قال : كلّ قوس فهي أعظم من وترها ؛ فإنّ ذلك يقال على سبيل التخيّل الكاذب.

ورسم أيضا بأنّه «الذي تتطابق أجزاؤه بعضها بعضا على جميع الأوضاع» ؛ فإنّ المستقيم إذا قسمته أمكن أن يطابق بين أحد القسمين والآخر على جميع الأوضاع. بخلاف المنحني ، فإنّك إذا فصلت منه جزءا ثمّ انطبق ذلك الجزء على باقي الخط المنحني ، فربما ينطبق عليه بوضع واحد ، بأن يجعل محدّب أحدهما في مقعّر الآخر. فإن جعل مقعره على مقعره لم يتطابقا.

ورسم أيضا بأنّه «الذي إذا أثبت نهاياته وأدير كما يدر المحور لم يتغيّر عن وضعه». وأمّا المنحني فإنّه عند الفتل (١) تتغير الجهة المحدبة إلى غير وضعها.

ورسم أيضا بأنّه «الذي يستر وسطه طرفيه».

وأمّا السطح المستوي فالرسوم الثلاثة الأول جارية فيه ، فإنّه يصدق عليه أنّه «إذا خطّ فيه خطوط كثيرة لم يكن بعضها أرفع وبعضها أخفض». وأنّه «أصغر السطوح التي نهاياتها واحدة». وأنّه «الذي تطابق أجزاؤه بعضها بعضا على كلّ الأوضاع».

__________________

(١) الكلمة في ق مشوشة ، وما أثبتناه من ج ، وفي المباحث المشرقية : «القلب».

٦٠٧

المسألة الرابعة : في إثبات الدائرة

نعني بالدائرة (١) : «السطح المستوي الذي يحيط به خط واحد في داخله نقطة كل الخطوط المستقيمة الخارجة منها إلى المحيط متساوية» وقد اتفق الجميع من المتكلّمين والفلاسفة على إثبات الخط المستقيم. وأمّا الدائرة فقد أنكرها مثبتوا الجزء الذي لا يتجزأ من الحكماء والمتكلمين ، وأثبتها النافون له منهم.

واحتج مثبتوا الدائرة بوجوه (٢) :

الأوّل : الجسم إمّا بسيط أو مركب ، والبسيط لا بدّ منه ، وإلّا لزم نفي المركب ، فيلزم نفي الأجسام بأسرها ، وهو محال. والشكل الطبيعي للبسيط إنّما هو الكرة ، لأنّ طبيعته واحدة ، والواحد لا تتكرر آثاره الطبيعية (٣) ، وغير الكرى من الأشكال كثير ، فلا يصدر عن البسيط إلّا الكرة ، ويحصل من قطعها بنصفين دائرتان عليهما.

وفيه نظر بمنع استناد الشكل إلى الطبيعة ، كيف وأنّه لازم للجسم بسبب التناهي الذي ليس لازما للماهية.

الثاني : إذا تخيّلنا سطحا مستويا وتخيلنا خطا مستقيما مرسوما في ذلك البسيط ، وأثبتنا أحد طرفيه على ذلك السطح ، ثمّ حرّكنا ذلك الخط على ذلك

__________________

(١) الدائرة : منحن مقفل تقع جميع نقطه في مستوى واحد ، وعلى نفس البعد من نقطة تسمّى المركز. كما يمكن تعريف الدائرة أيضا بأنّها قطاع مخروط نتج عن تقاطع مستوي عمودي على محور مخروط مع سطح ذلك المخروط. ويطلق اسم الدائرة أيضا على المساحة التي يحيط بها ذلك المنحني ، بينما يسمّى المنحني نفسه بمحيط الدائرة. الموسوعة العربية الميسّرة : ١١٨.

(٢) انظر الوجوه في التحصيل : ٤٠٤.

(٣) قال الشيخ : «ويجب أن يكون الشكل الّذي يقتضيه [طبيعة] البسيط مستديرا وإلّا لاختلف هيئته في مادّة واحدة عن قوّة واحدة» شرح الإشارات ٢ : ٢٠٣.

٦٠٨

البسيط حول ذلك الطرف الثابت إلى أن يعود إلى موضعه الذي ابتدأت منه الحركة ، حدث من هذه الحركة دائرة ؛ لأنّ الطرف المتحرك من الخط تحرك على مسافة ، والنقطة لا مساحة لها. فالمسافة التي تحركت عليها النقطة ليس لها عرض فهي خط مستقيم ، هي في وسط هذا السطح المستدير. وكلّ الخطوط المستقيمة الخارجة منها إلى المحيط متساوية ؛ لأنّ كلها مساو للخط المتحرك ، والخطوط المساوية للخط الواحد متساوية ، فثبتت الدائرة.

ولا بدّ من إقامة الدلالة على ثبات أحد طرفي هذا الخط حال حركة الآخر ، ولأنّ هذه الدائرة وهمية لا حقيقية.

الثالث : لنفرض جسما قائما على سطح معتدل قياما معتدلا ، فالطرف المماس للسطح يلاقي بنقطة منه نقطة من السطح ، فإذا أميل ذلك الجسم حتى سقط ، فإن ثبتت تلك النقطة في موضعها فقد فعل كلّ واحدة من النقط المفروضة في رأس المتحرك ربع دائرة. وإن لم تثبت فإمّا أن يكون عند انحدار أحد الرأسين إلى السفل يصعد الآخر إلى العلو أو لا ، بل يتحرك على السطح.

ويلزم من الأوّل أن يكون كلّ من الطرفين قد فعل نصف دائرة ومركزها النقطة المتجددة (١) بين الصاعد والهابط.

والثاني محال ؛ لأنّ ذلك الانحدار ليس طبيعيا ولا قسريا ، لأنّ القاسر ليس إلّا أنّ الطرف العالي لمّا نزل وتعذر انعطاف ذلك الجسم ليبسه واتصاله ، اضطر العالي إلى تحريك السافل ، لكن هذه الضرورة تندفع باشالة السافل ، فيكون المحرك منقسما إلى قسمين : أحدهما مائل إلى فوق بالقسر ، والآخر إلى السفل بالطبع ، وبينهما مركز هو حدّ الحركتين. فظاهر أنّه إن لزم عن انحدار الطرف الفوقاني إلى السفل حركة الطرف الأسفل إلى فوق وجبت الدائرة ، وإن لم يلزم فوجود الدائرة أظهر.

__________________

(١) كذا في النسخ والشفاء ، وفي النجاة : ٢١٧ : «المتحددة» ، وفي المباحث المشرقية : «المنحدرة».

٦٠٩

وهذا أيضا وهمي لا حقيقي ، لكن الشيخ سلك نهجا آخر (١) ألزم فيه القائلين بثبوت الجزء إثبات الدائرة ، وهو أنّه لا شكّ أنّ هنا دائرة محسوسة ، فإن كانت حقيقية فالمطلوب ، وإن لم يكن في الحقيقة كذلك فإنّما يكون بسبب تضريس على بسيطها وتقعير و (٢) لا يكون لها مركز في الحقيقة ، بل في الحس.

فنقول : إذا وضعنا طرف خط ـ مركب من أجزاء لا تتجزأ ـ على ما هو مركز في الحس ، ووضعنا الطرف الآخر من ذلك الخط على جزء من المحيط ، ثمّ نزيله عنه ونضعه على الجزء الذي يلاصق الجزء الأوّل من المحيط ، فإن لم ينطبق عليه ، فذلك يكون إمّا بزيادة أو نقصان ، فإن كانت الزيادة والنقصان بمقدار جزء ، أمكن إلحاقه به أو حذفه عنه حتى تتم الدائرة. وإن كان أقل من جزء لزم انقسام الجزء. وإن انطبق عليه ، فإن كان بين هذا الجزء والجزء الأوّل فرجة ، فإن لم تتسع للجزء فقد وجد ما هو أصغر من الجزء ، وذلك يوجب التجزئة ، وإن اتّسعت ملئت به. وإن لم تكن بينهما فرجة ، فقد وجد في المحيط جزءان متصلان لا انفراج بينهما ، ويكون الخط الخارج مما فرض مركزا ممكن الانطباق عليهما. وإذا أمكن في جزءين نقلنا البحث منه إلى ثالث ورابع ، وهكذا حتى يأتي على جميع أجزاء الدائرة.

واعلم أنّ هذا مبني على إمكان ثبات الطرف من الخط الذي عند المركز وهو ممنوع.

المسألة الخامسة : في أنّ المستقيم يخالف المستدير بالنوع (٣)

إنّه من المعلوم أنّ بين الخط المستقيم والخط المستدير مخالفة ، ولا شك في أنّ

__________________

(١) في الفصل التاسع من المقالة الثالثة من إلهيات الشفاء. راجع أيضا إلهيات النجاة (فصل في الاستطراد لإثبات الدائرة).

(٢) في النسخ : «أو» ، ولعلّ الصواب ما أثبتناه طبقا للمعنى.

(٣) قارن المباحث المشرقية ١ : ٥٤٢ ـ ٥٤٣.

٦١٠

المتصف بهما هو الخط. وذلك الخط الموصوف بالاستقامة لا يجوز بقاؤه عند زوال الاستقامة، لأنّه عارض للسطح العارض للجسم ، فما لم يتغير حال الجسم استحال تغير حال الخط. ومتى تغير حال الجسم في امتداداته فقد عدم الزائل ، وحدث الطارئ.

فإذن يستحيل أن يبقى الخط المستقيم بعينه عند زوال وصف الاستقامة. فإذن الاستقامة تكون فصلا أو لازمة للفصل ، وكيفما كان وجب أن يكون مخالفا للمستدير بالنوع.

وأيضا فقد عرفت أنّه ما لم يعرض للجسم تغيّر لم يتغيّر حال الخط. ثمّ إنّ الجسم إذا انحنى بعد ما لم يكن كذلك ، فذلك إمّا لأنّه تفرق اتصال خطّه (١) ، ولو كان كذلك لكان ذلك الخط قد انقسم إلى خطوط ، وكلّ واحد منها مستقيم. وإمّا أن يكون لأنّ ذلك الخط بعينه قد امتدّ ، وهو باطل ؛ لأنّ الخط الواحد لا يكون بعينه موضوعا لتوارد الطول والقصر عليه ، لأنّ الخط هو نفس الطول فكيف يكون موردا للطول ، وإذا استحال ذلك امتنع انتقال أحدهما إلى الآخر.

ولأنّه لا معنى للخط المستقيم إلّا تلك النهاية المخصوصة ، فإذا وجد المستدير لم تبق النهاية الأولى ، فلم يبق الخط الذي كان مستقيما.

واعلم أنّ الضرورة تدفع ذلك ، فإنّا نعلم أنّ الغصن الرطب المستقيم يقبل الانحناء ، ولا يعدم حال انحنائه.

تذنيبان (٢) :

الأوّل : الدوائر المختلفة بالصّغر والكبر مختلفة بالنوع ، لأنّه لمّا استحال انتقال الخط الواحد من محدب خاص إلى محدب أقل أو أكثر كان ذلك دليلا على

__________________

(١) س وج والمباحث المشرقية : «حد به» بدل «خطّه».

(٢) راجع نفس المصدر ، وكشف المراد : ٢٥٦.

٦١١

أنّ ذلك المحدب فصل أو لازم للفصل ، وزوال الفصل يستلزم عدم الحقيقة.

الثاني : الخط المستدير والمستقيم لا يتضادان ، لوجوب وحدة الموضوع في المتضادين ، وامتناع تحقّقه هنا. وأيضا لو ضاد مطلق المستقيم مطلق المستدير تضاد الواحد بالشخص من أحدهما الواحد بالشخص من الآخر ؛ لأنّ ضد الواحد بالشخص واحد بالشخص ، كما أنّ ضد الواحد بالنوع والعموم واحد بالنوع والعموم. والتالي [باطل] ؛ لأنّ كلّ خط شخصي يمكن أن يكون وترا لقسي غير متشابهة لا نهاية لها ، وليس بعضها بالضدية له أولى من الآخر ، بل كلما كان أشد تقعيرا كان أقرب إلى الضدية من الأبعد ، لكن تلك الشدة غير متناهية ، فلا يتحقّق الطرف الذي هو الضد الآخر.

المسألة السادسة : في عدم تناسب المستدير والمستقيم (١)

اعلم أنّ المستدير لمّا امتنع أن يصير مستقيما ، امتنع أن ينطبق عليه فيمتنع وصفه بأنّه مساو له أو أزيد أو أنقص (٢) ، لأنّ وصفه بذلك إنّما يكون مع مطابقته إيّاه.

لا يقال : إنّا نعلم بالضرورة أنّ القوس أعظم من الوتر ، وأنّ الوتر أصغر من القوس.

لأنّا نقول : قد سلّم بعضهم امكان وصف المستدير بأنّه أزيد من المستقيم أو أنقص منه ، لكن يستحيل وصفه بالمساواة له.

وزعم أنّ الشيئين قد تكون بينهما مناسبة بالزيادة أو النقصان مع استحالة

__________________

(١) قارن المباحث المشرقية ١ : ٥٤٣ ـ ٥٤٤. واعترض صدر المتألّهين على هذا الرأي فراجع الأسفار ٤ : ١٧١ ـ ١٧٢.

(٢) فلا يقال إنّ المستدير نصفه أو ثلثه أو عادله أو مشارك له.

٦١٢

وقوع المناسبة بينهما بالمساواة ، للعلم بأنّ زاوية مستقيمة الخطين ـ حادة ـ أعظم من زاوية حاصلة من قوس ومستقيم ، وأصغر من أخرى مع امتناع أن تكون بين زاوية مستقيمة الخطين ، وزاوية من قوس ومستقيم مساواة.

وإنّما قلنا إنّ الحادة المستقيمة الخطين أعظم من الزاوية الحادثة من القوس والمستقيم ؛ لأنّ القوسية توجد بالفعل في تلك وزيادة.

وإنّما كانت الأخرى أصغر من القوسية ، لأنّ المستقيمة الخطين [لا] (١) توجد فيها تلك وزيادة.

ومنع آخرون من كون القوس أعظم من الوتر ، وظاهر أنّه ليس كذلك ؛ لأنّ الأعظم يوجد فيه ما وجد في الأصغر وزيادة ، وليس يمكن أن يوجد في القوس مثل الوتر. نعم هذا الحكم إنّما هو بحسب الوهم بمعنى أنّ المستدير لو صار مستقيما لكان أعظم من الوتر حيث يوجد فيه الوتر بعد استقامته وزيادة ، فيكون اعتبار ذلك التفاوت بحسب وهم غير ممكن الوجود.

المسألة السابعة : في حقيقة الشكل (٢)

اعلم أنّ الشكل وإن قيل في حده في المشهور على ما حده اقليدس : إنّه «ما أحاط به حدّ واحد أو حدود» أمّا الحد الواحد فكالدائرة والكرة. وأمّا الحدود فكالمضلعات كالمثلث والمربع. لكنّه إذا حقّق كانت ماهيته من الكيفيات

__________________

(١) ما بين المعقوفتين مأخوذ من عبارات الرازي.

(٢) راجع الفصل الأوّل من المقالة السادسة من مقولات الشفاء : ٢٠٥. والشكل بالفتح وكذا بالكسر ، وسكون الكاف ، عند الحكماء والمهندسين هو الهيئة الحاصلة من احاطة الحد الواحد أو الحدود بالمقدار ، أي الجسم التعليمي أو السطح. والمراد بالاحاطة التامة ، فخرجت الزاوية فانّها على الأصح هيئة للمقدار من جهة أنّه محاط بحد واحد أو أكثر احاطة غير تامة. كشاف اصطلاحات الفنون ١ : ٧٨٣ ؛ راجع أيضا المباحث المشرقية ١ : ٥٤٥.

٦١٣

المختصة بالكميات وهو «هيئة إحاطة الحدّ الواحد أو الحدود بالجسم» فإنّ المربع مثلا حقيقته مركبة من سطح وحدود أربعة محيطة به ، وهيئة مخصوصة ـ هي هيئة إحاطة تلك الحدود به ـ وهذه الهيئة مغايرة للسطح والأضلاع التي هي الحدود ، ولهذا لا يصح أن يقال: التربيع ما تحيط به الحدود الأربعة ، بل هو هيئة إحاطة الحدود الأربعة بذلك السطح.

فإذن المربع عبارة عن سطح أحاطت به حدود أربعة ، ولا شك أنّ السطح لا يخرج عن كونه سطحا لو أخذ مع أي وصف اتفق. ولا شك في أنّ الشكل المأخوذ بالمعنى الذي حده اقليدس ليس من الكيف ، بل الذي يمكن جعله من الكيف إنّما هو هيئة احاطة الحدّ الواحد أو الحدود بذلك السطح. والشكل الذي عرّفه المهندسون إنّما هو لما يستعملونه شكلا في اصطلاحهم وكأنّهم يشيرون بذلك إلى المقدار ذي الشكل ، ولهذا لا يقنعون (١) بوصف الشكل بالمساواة لشكل آخر وعدمها عدم الملكة ، وينسبونه إليه بالنصفية والثلثية وغيرهما ، ويعنون بذلك مقدارا مشكلا ، والشكل الذي هو كيف مغاير لذلك ؛ لأنّ الشيء الذي تحيط به الحدود بالذات هو المحدود ، والمحدود بالذات هو المقدار ، والمقدار بالذات هو كم ، والشكل كيف ، والكيف ليس بكم.

فإذن الشكل الذي هو من باب الكيف عبارة عن هيئة الإحاطة.

واعلم أنّ الشيخ نقل عمّن تقدمه ، أنّ الشكل من الكيفيات العارضة لظاهر الجسم دون باطنه ، ونسب قائله إلى البلاهة والغفلة ، لأنّ الأشكال المجسمة إنّما وجودها من حيث هي مجسمة بأن تكون سارية في الجسم كلّه ، فإنّ الشكل إن كان ما أحاط به حدّ أو حدود، فإنّما تحيط (٢) الحدود بالسطوح والسطوح بالعمق.

__________________

(١) وذكر جميع النساخ نسخة أخرى في الهامش وهي «يعنون».

(٢) في الشفاء : «فإنّنا نحيط».

٦١٤

ثمّ شرع في تحقيق ذلك بأنّ هنا حدودا وشيئا ذا حدود وهيئة بسبب الحدود ، فالحدود ليست أشكالا ، بل هي أطراف. ولا يجوز أن يقال لشيء منها : إنّه في ظاهر المحدود ، حتى يقال : إنّ السطح في ظاهر الجسم ، أو الخط في ظاهر السطح ؛ لأنّ الظاهر غير الذي في الظاهر. وليس السطح إلّا نفس ظاهر الجسم ، والخط ليس في ظاهر السطح بل نفس ظاهره. فأمّا إن عنوا الشيء المتحدد ، فهو مقدار لا كيفية. وإن عنوا الهيئة الحاصلة من التحدد فإنّما يكون في الظاهر منها ما يوجد في السطح وحده من الهيئات ، إمّا شكلا كالتربيع ، أو هيئة غير شكل كالتسطيح والتقبيب والتقعير. وأمّا المجسمات من الأشكال ، فليست هيئات توجد في الحدود ، بل هي هيئات توجد في جملة المحدود بالحدود ، وفي الحدود وجود إنّيتها (١) بالشركة ، ليست نسبتها إلى الحدود أولى من نسبتها إلى المحدود. فلو كانت الكرية في نفس السطح لكانت تقبيبا أو تقعيرا لا كرية ، كما لو كانت الدائرة في نفس الخط لكانت استدارة وتقويسا لا دائرة. وكما أنّ شكل الدائرة موضوعها السطح لا نفس الخط ، كذلك شكل الكرة موضوعه الجسم لا ظاهره الذي هو السطح ، وإن كان شكل الدائرة لا يتم إلّا بالانعطاف للخط ، وكان شكل الكرة لا يتم [إلّا] بتقبيب السطح. وهذه الأشكال وإن كانت تحدث للمحدودات بالحدود ، فليست هي الحدود ، وإن كانت الحدود عللا لها ، فليست عللا لها في أنفسها بل في شيء آخر يتحدد بها.

واعلم أنّ الحدود أنفسها لا يقال إنّها موجودة إلّا في المحدود نفسه جملته ، فإنّ الخط نهاية للسطح الذي هو خطه على أنّه نهاية لجملته فهو موجود بأنّه نهاية في جملته وجود الصفة في الموصوف ، وليس موجودا في طرف منه ، ولا في جزء منه دون سائر أجزائه بالقوّة. فكذلك الشكل المجسّم هو صفة للجسم كلّه ليست

__________________

(١) في النسخ : «وجوداتها» بدل «وجودانيّتها».

٦١٥

موجودة في السطح الذي هو الطرف فقط ، ومع ذلك جعلوه شكلا. (١)

وفي هذا نظر ، فإنّهم إذا جعلوا الشكل هيئة إحاطة الحدّ الواحد أو الحدود بالجسم ، كان متعلّقا بالحدّ أو بالحدود ، كما إذا قالوا اللون هيئة عارضة للسطح ، فإنّا نعلم تعلّقه بالسطح ونشك في ثبوته للجسم.

المسألة الثامنة : في أنّ الشكل من الكيف أو الوضع؟ (٢)

المشهور أنّ الشكل من باب الكيف ، ونقل عن ثابت [بن قرة] أنّه من باب الوضع (٣) ؛ لأنّ الوضع ـ بمعنى المقولة ـ هيئة تعرض للشيء بسبب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض ، والتربيع والتثليث كذلك ، لأنّها هيئات تحصل للمربع والمثلث بسبب أطرافهما وحدودهما ، فهي من الوضع.

وهو خطأ ، فإنّ الوضع بمعنى المقولة يشترط فيه نسبة أخرى هي نسبة أجزائه إلى أمور خارجة عنها. والأشكال ليست كذلك ، لأنّها هيئة تحصل بسبب نسبة الأطراف والحدود ، وأطراف الشيء ليست أجزاء للشيء. ولأنّ الوضع هيئة حاصلة بسبب نسبة أجزاء الشيء إلى الأمور الخارجة عنه مع نسبة أجزائه بعضها إلى بعض ، فإنّ المنتكس لا تتغير نسبة أجزائه بعضها إلى بعض ، مع أنّ وضعه متغيّر لتغيّر نسبة أجزائه إلى الأمور الخارجة. والأشكال هيئات تعرض بسبب نسبة الأجزاء فقط بعضها إلى بعض ، ولا يعتبر النسبة إلى الأمور الخارجة ، ولذلك فإنّ المربع لا تختلف مربّعيته عند اختلاف نسبة حدوده إلى الخارجيات عنه. فلما توقف الوضع على النسبتين دون الشكل علم أنّه ليس منه.

__________________

(١) الفصل الثاني من المقالة الخامسة من مقولات الشفاء.

(٢) قارن الفصل الأوّل من المقالة السادسة من مقولات الشفاء : ٢١٠ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥٤٦ ـ ٥٤٧ ؛ الأسفار ٤ : ١٧٤ ـ ١٧٦ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٣٨٥.

(٣) وهو ما ذهب إليه الرازي كما في المصدر نفسه.

٦١٦

اعترض بأنّكم جعلتم الكيف ما لا يوجب تصوّره تصوّر غيره ، وهيئة التربيع يوجب تصوّرها تصوّر غيرها ، فإنّ تلك الهيئة لا يمكن أن تتصوّر إلّا عند تصوّر النسب التي بين أطراف المربع التي لا تعقل إلّا بعد تعقل أطراف السطح التي لا تعقل إلّا بعد تعقل السطح ، فتعقل هيئة التربيع يتوقف على تعقل هذه الأمور ، فكيف تدخل في مقولة الكيف.

ثمّ قولكم «الوضع إنّما يحصل بسبب نسبة الأجزاء ، والشكل إنّما يحصل بسبب نسبة الأطراف ، والأطراف ليست أجزاء» ضعيف ، لأنّا إذا قلنا : الوضع هو الهيئة الحاصلة للجسم بسبب نسب الأمور المتباينة الجهة التي هي فيه ، دخل فيه الشكل ؛ لأنّ الأمور المتباينة الجهة التي في الجسم قد تكون أجزاء للجسم ، وقد تكون أطرافا له. فإذن الهيئة الحاصلة بسبب نسبة الحدود داخلة في الوضع.

وقولهم : «الوضع هو الذي يتوقف على حصول النسب التي بين أجزاء الشيء ، وبين أمور خارجية منها» ، فنقول : كل ما يتوقف تحققه على حصول نسب بين أجزاء الشيء وبين أطرافه فذلك من الوضع. وهو على قسمين : منه ما يكفي في تحققه النسب التي بين أجزائه كالتربيع والتثليث. ومنه ما لا بدّ مع ذلك من اعتبار النسب التي بين تلك الأجزاء والأمور الخارجة عنها كالجلوس والسجود ، فإذن الشكل من باب الوضع.

وفيه نظر ، فإنّه كما أنّ من الكيفيات المحسوسة ما هو بسيط كالسواد والبياض والحرارة والبرودة ، وما هو مركب كالغبرة والقتورة ، كذا من الأشكال ما هو بسيط كالكرية ، ومركب كالتربيع ، فإنّ هيئة التربيع لمّا توقف تعريفها على معرفة الحدود الأربعة التي تركبت هيئة التربيع من هيئاتها ، وجب أخذ محالها في تعقلها قائمة بها ، ولم يخرجها ذلك عن مقولتها المندرجة تحتها. وهيئة التربيع إنّما يتوقف تصوّرها على تصوّر محلها لا غير. وتبديل الأجزاء في الوضع بالأمور المتباينة الجهة يخرج الوضع المصطلح عليه ـ الذي يقع البحث فيه ـ عن حقيقته ويبقى

٦١٧

البحث في شيء آخر لم يتعرض له. ولا يكفي في الوضع النسبة التي بين أجزاء الشيء وبين أطرافه ، حتى يلزم أن يكون الشكل من مقولة الوضع.

قال الشيخ : من قال «الشكل من الوضع ، لأنّ الشكل متعلّق بحدود بينها تجاور خاص يوضع بعضها عند بعض» ، فلقد غلط من وجوه :

الأوّل : أخذ الحدود مكان الأجزاء ، وإنّما الاعتبار في الوضع بالأجزاء ، وفي الشكل بالحدود.

الثاني : حسب أنّ هذا الوضع من المقولة الخاصة ، ولم يعرف أنّ هذا من المضاف. وإنّما الوضع الذي من المقولة ، هو وضع أجزاء الشيء عند خارج مباين ، لا وضع أجزاء الشيء في نفسه.

الثالث : ظن أنّ تعلّق الشيء بمقولة يوجب أن يكون منها ، فإنّ الشكل وإن كان لا يحصل إلّا بالإضافة بين الحدود أو وضع أيضا ، فليس يجب أن يكون الشكل وضعا فإنّ المربع أيضا لا يحصل إلّا بعدد من الحدود ، وليس يجب أن يكون المربع عددا. ألا ترى أنّه لا يقال : إنّ المربع هو عدد الحدود ، ولا أنّ المربع وضع الحدود عند حد ، فليس يقال عليه هذان ، فكذا لا يقال : إنّه داخل في مقولتهما ، بل يقال : إنّ المربع حاصل عن وضع كذا وعن حدّ كذا.

المسألة التاسعة : الزاوية (١)

اختلف الحكماء في الزاوية ، من أي مقولة هي؟ فقال بعضهم : إنّها من

__________________

(١) الزاوية في اللغة «كنج» [بالفارسية] ، وعند المهندسين تطلق بالاشتراك على معنيين ، أحدهما : الزاوية المسطحة وتسمّى بسيطة أيضا وهي هيئة عارضة للسطح المحدّب عند ملتقى خطين يحيطان به سواء كانا مستقيمين أو غير مستقيمين أو كان أحدهما مستقيما والآخر غير مستقيم. وثانيهما : الزاوية المجسمة وهي هيئة تحدث للجسم المحدّب عند نقطة منه من حيث هو ، أي الجسم المحدّب ذو حدود متصلة بها. وهذا أشمل مما قيل الزاوية المجسمة هي ما يحصل عند تلاقي السطحين ؛ لأنّه لا يشمل مثل زاوية رأس المخروط. كشاف اصطلاحات الفنون ١ : ٦٢٤ ـ ٦٢٥. وانظر البحث في الفصل الثاني من المقالة السادسة من مقولات الشفاء.

٦١٨

مقولة الكم ؛ لأنّها تقبل المساواة واللامساواة ، وتقبل التجزئة (١) ، فتكون كمّا. وقد أبطله ابن الهيثم (٢) : بأنّ حقيقة الزاوية تبطل بالتضعيف مرة أو مرارا ، فإنّ القائمة تبطل إذا ضوعفت مرة ، ولا تبقى حقيقتها ، والحادة قد تضاعفت مرارا فتبطل ، ولا تبقى زاوية البتة، ولا شيء من المقدار تبطل حقيقته بالتضعيف.

وقال آخرون : إنّها من الكيف ، لأنّها تقبل المشابهة واللامشابهة. وليس ذلك بسبب موضوعها الذي هو كم ، فهو لذاتها ، فتكون كيفا. وأمّا قبولها للمساواة والمفاوتة فبسبب موضوعها الذي هو الكم ، كما أنّ الأشكال تقبل ذلك بسبب موضوعاتها التي هي كم.

اعترض : ويشكل بجواز كون المشابهة مقولة عليها بالعرض لا بسبب محلّها ، بل بسبب ما يحل فيها ، فإنّ الشيء كما يوصف بوصف محلّه بالعرض ، كذا يوصف بوصف حالّه بالعرض ، وهم لم يبطلوه.

وقال آخرون : إنّها من مقولة المضاف ، لأنّ اقليدس حدّها بأنّها تماس خطين. وقول اقليدس ليس حجة ، وبطلانه ظاهر ؛ لأنّ كلّ زاوية توصف بأنّها كبرى أو صغرى ، ولا شيء من التماس كذلك ، ولأنّ التماس محمول على الخطين بالشركة ، والزاوية ليست كذلك.

وقال آخرون : الزاوية المسطّحة مقدار متوسط بين الخط والسطح.

قال الشيخ (٣) : لا ينبغي أن يلتفت إلى ما قاله بعض المتكلّفين لما لا يعنيه :

__________________

(١) وتوصف بالصغرى والكبرى وبكونها نصفا وثلثا. شرح المواقف ٦ : ١٥٤.

(٢) محمد بن الحسن بن الهيثم أبو علي (٣٥٤ ـ نحو ٤٣٠ ه‍) مهندس من أهل البصرة ، يلقّب ببطليموس الثاني. له تصانيف في الهندسة. ويقول سارطون : «إنّ ابن الهيثم أعظم عالم ظهر عند العرب في علم الطبيعة ، بل أعظم علماء الطبيعة في القرون الوسطى» استوطن قبة على باب الجامع الأزهر إلى أن توفّي. أعلام الزركلي ٦ : ٨٣ ـ ٨٤.

(٣) المصدر نفسه : ٢١٥. وراجع أيضا الفصل الرابع من المقالة الثالثة من إلهيات الشفاء.

٦١٩

إنّ الزاوية «جنس آخر من الكم بين الخط والسطح» (١) ظانا أنّ قولهم «الخط له طول فقط ، وأنّ السطح له طول وعرض» ، هو أن يكون له طول وعرض هما حدّان قائمان أحدهما على الآخر ، حاسبا أنّ الخط يتكوّن عن حركة نقطة ، ثمّ السطح عن حركة الخط بكليته لا إلى جهة امتداده ، بل على عمود عرضا حتى يكون إذا ثبت طرف وتحرّك طرف بحيث تكون إحدى نقطتيه ساكنة والأخرى متحركة ، لم يكن السطح تاما ، بل فعل شيئا بين السطح والخط. وكذا الزاوية المجسمة مقدار متوسط بين السطح والجسم ؛ لأنّ الجسم إنّما يحدث بحركة السطح ، لا في جهة امتداده ، فإذا فرض أحد طرفيه ساكنا لم يكن الحادث جسما تاما.

فإنّ هذا لمّا أخطأ في معرفة الطول والعرض تمادى به الخطأ إلى أن تهوش وجهل ماهية السطح والجسم ، وظن أنّ السطح لا يكون ذا عرض إلّا إذا كان محاطا بحدود أربعة. والجسم لا يكون ذا عمق إلّا إذا كان محاطا بحدود ستة. ولم يعرف معنى قول القدماء : السطح ذو طول وعرض ، والجسم ذو طول وعرض وعمق.

بل الزاوية المسطحة سطح ، ولذلك يمكن أن يفرض فيها بعد ، ويفرض آخر قائما عليه ، والزاوية المجسمة جسم لمثل ذلك ، أعني : إذا عنينا بالزاوية المقدار الذي له هذا النوع من التحدد ، فأمّا إذا ذهبنا إلى الهيئة فإنّ الزاوية كيفية.

ومن جعل الزاوية من الكم رسمها تارة بأنّها «سطح أو جسم ينتهي إلى نقطة».

__________________

(١) فيكون عدد أجناس المقادير على هذا الرأي خمسة بزيادة جنسين آخرين لا أربعة بزيادة جنس واحد كما ذكره الشيخ ؛ إذ المتوسّط بين السطح والخط لو صحّ تحصّله ووجوده لكان جنسا مباينا للمتوسّط بين الجسم والسطح لو صحّ ذلك.

وأمّا الشيخ ، فالتحقيق عنده في أمر الزاوية انّها ليست من الأنواع الذاتية للمقدار ، بل من الأفراد الصنفية لأنّها هي المقدار ، أعني : السطح أو الجسم بشرط عروض هيئة له وهي كونه محاطا بين نهايات متلاقية عند نقطة واحدة. راجع تعليقة صدر المتألّهين.

٦٢٠