الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

مستقيم أن يكون (فَسَيَقُولُونَ) هو العامل في الظرف ، لتدافع دلالتى المضي والاستقبال ، فما وجه هذا الكلام؟ قلت : العامل في إذ محذوف ، لدلالة الكلام عليه ، كما حذف من قوله (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) وقولهم : حينئذ الآن ، وتقديره : وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم ، فسيقولون هذا إفك قديم ، فهذا المضمر صحّ به الكلام ، حيث انتصب به الظرف وكان قوله (فَسَيَقُولُونَ) مسببا عنه كما صحّ بإضمار أنّ قوله (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) لمصادفة (حَتَّى) مجرورها ، والمضارع ناصبه. وقولهم (إِفْكٌ قَدِيمٌ) كقولهم : أساطير الأوّلين (كِتابُ مُوسى) مبتدأ ومن قبله ظرف واقع خبرا مقدما عليه ، وهو ناصب (إِماماً) على الحال ، كقولك : في الدار زيد قائما. وقرئ : ومن قبله كتاب موسى ، على : وآتينا الذين قبله التوراة. ومعنى (إِماماً) : قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه ، كما يؤتم بالإمام (وَرَحْمَةً) لمن آمن به وعمل بما فيه (وَهذا) القرآن (كِتابٌ مُصَدِّقٌ) لكتاب موسى. أو لما بين يديه وتقدّمه من جميع الكتب. وقرئ : مصدق لما بين يديه. و (لِساناً عَرَبِيًّا) حال من ضمير الكتاب في مصدق ، والعامل فيه (مُصَدِّقٌ) ويجوز أن ينتصب حالا عن كتاب (١) لتخصصه بالصفة ، ويعمل فيه معنى الإشارة. وجوّز أن يكون مفعولا لمصدق ، أى : يصدق ذا لسان عربى وهو الرسول. وقرئ : لينذر بالياء والتاء ، ولينذر : من نذر ينذر إذا حذر (وَبُشْرى) في محل النصب معطوف على محل لينذر ، لأنه مفعول له.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ

__________________

ـ وغير ذلك ، فمعنى الآية إذا : وقالوا إذ لم يهتدوا به هذا إفك قديم وداموا على ذلك وأصروا عليه ، فعبر عن وقوعه ثم دوامه بصيغة الاستقبال ، كما قال إبراهيم (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) وقد كانت الهداية واقعة وماضية ولكن أخبر عن وقوعها ، ثم دوامها فعبر بصيغة الاستقبال ، وهذا طريق الجمع بين قوله (سَيَهْدِينِ) وقوله في الأخرى (فَهُوَ يَهْدِينِ) ولو لا دخول الفاء على الفعل لكان هذا الذي ذكرته هو الوجه ، ولكن الفاء المسببة دلت بدخولها على محذوف هو السبب ، وقطعت الفعل عن الظرف المتقدم ، فوجب تقدير المحذوف عاملا فيه لينتظم بتقديره عاملا أمران : مصادفة الظرف للعامل والفعل المعلل لعلته ، فتعين ما ذكره الزمخشري لأجل الفاء لا لتنافى الدلالتين. والله أعلم.

(١) أجاز محمود في نصبه أن يكون حالا عن كتاب لتخصصه بالصفة ... الخ. قال أحمد : وجهان حسنان أعززهما بثالث : وهو النصب على الاختصاص ، وهذه الوجوه في قوله تعالى (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) ، والله أعلم.

٣٠١

وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)(١٦)

قرئ : حسنا ، بضم الحاء وسكون السين. وبضمهما. وبفتحهما. وإحسانا. وكرها ، بالفتح والضم ، وهما لغتان في معنى المشقة ، كالفقر والفقر. وانتصابه على الحال : أى : ذات كره. أو على أنه صفة للمصدر ، أى : حملا ذا كره (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ) ومدّة حمله وفصاله (ثَلاثُونَ شَهْراً) وهذا دليل على أن أقل الحمل ستة أشهر ، لأن مدّة الرضاع إذا كانت حولين لقوله عز وجل (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) بقيت للحمل ستة أشهر. وقرئ : وفصله. والفصل والفصال : كالفطم والفطام ، بناء ومعنى. فإن قلت : المراد بيان مدّة الرضاع لا الفطام ، فكيف عبر عنه بالفصال؟ قلت : لما كان الرضاع يليه الفصال ويلابسه لأنه ينتهى به ويتم : سمى فصالا ، كما سمى المدّة بالأمد من قال :

كل حى مستكمل مدّة العمر

ومود إذا انتهى أمده (١)

وفيه فائدة وهي الدلالة على الرضاع التام المنتهى بالفصال ووقته. وقرئ : حتى إذا استوى وبلغ أشدّه. وبلوغ الأشد : أن يكتهل ويستوفى السنّ التي تستحكم فيها قوّته وعقله وتمييزه ، وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين. وعن قتادة : ثلاث وثلاثون سنة ، ووجهه أن يكون ذلك أوّل الأشد ، وغايته الأربعين. وقيل : لم يبعث نبىّ قط إلا بعد أربعين سنة. والمراد بالنعمة التي استوزع الشكر عليها : نعمة التوحيد والإسلام ، وجمع بين شكرى النعمة عليه وعلى والديه ، لأن النعمة عليهما نعمة عليه. وقيل في العمل المرضى : هو الصلوات الخمس. فإن قلت : ما معنى (فِي) في قوله (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي)؟ قلت : معناه : أن يجعل ذرّيته موقعا للصلاح (٢) ومظنة له كأنه قال : هب لي الصلاح في ذرّيتى وأوقعه فيهم ونحوه :

يجرح في عراقيبها نصلى (٣)

(مِنَ الْمُسْلِمِينَ) من المخلصين. وقرئ : يتقبل ، ويتجاوز ، بفتح الياء ، والضمير فيهما لله عز

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٢٧٧ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٢) قال محمود : «فان قلت : ما معنى في هاهنا ، وأجاب بأن المراد جعل ذريته ... الخ» قال أحمد : ومثله قوله تعالى (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) عدولا عن قوله : إلا مودة القربى. أو المودة للقربى ، والله أعلم.

(٣) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٥٧٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٣٠٢

وجل. وقرئا بالنون. فإن قلت : ما معنى قوله (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ)؟ قلت : هو نحو قولك : أكرمنى الأمير في ناس من أصحابه ، تريد : أكرمنى في جملة من أكرم منهم ، ونظمنى في عدادهم ، ومحله النصب على الحال ، على معنى : كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين فيهم (وَعْدَ الصِّدْقِ) مصدر مؤكد ، لأن قوله : يتقبل ، ويتجاوز : وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز. وقيل : نزلت في أبى بكر رضى الله عنه وفي أبيه أبى قحافة وأمّه أم الخير وفي أولاده ، واستجابة دعائه فيهم. وقيل : لم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين منهم والأنصار أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته غير أبى بكر.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ)(١٨)

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) مبتدأ خبره : أولئك الذين حق عليهم القول. والمراد بالذي قال : الجنس القائل ذلك القول ، ولذلك وقع الخبر مجموعا. وعن الحسن : هو في الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث. وعن قتادة : هو نعت عبد سوء عاق لوالديه فاجر لربه. وقيل : نزلت في عبد الرحمن بن أبى بكر (١) قبل إسلامه وقد دعاه أبوه أبو بكر وأمّه أمّ رومان إلى الإسلام ، فأفف بهما وقال : ابعثوا لي جدعان بن عمرو وعثمان بن عمرو ، وهما من أجداده حتى أسألهما

__________________

(١) قال محمود : «زعم بعضهم أن المعنى بالآية عبد الرحمن بن أبى بكر ... الخ» قال أحمد : ونحن نختار أن المراد الجنس لا عبد الرحمن بن أبى بكر ، ولكنا لا نختار الرد على قائل ذلك بهذا الوجه ، فان له أن يقول : أراد عبد الرحمن وأمته ، ومثل ذلك قول الله تعالى حكاية عن العزيز يخاطب زليخا (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) فخاطبها وخاطب أمتها ، والمقصودة هي ، وقد عاد إلى خطابها خصوصا بقوله (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) ولكن وجه الرد على من زعم أن المراد عبد الرحمن : ما ذكره الزمخشري ثانيا فقال (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) هم المخلدون في النار في علم الله تعالى ، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم. ونقل أن معاوية كتب إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد فقال عبد الرحمن : لقد جئتم بها هرقلية أتبايعون لأبنائكم فقال مروان أيها الناس : إن هذا هو الذي قال الله فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ ...) الآية فسمعت عائشة فغضبت وقالت : والله ما هو به ، ولو شئت أن أسميه لسميته ، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه فأنت فضض من لعنة الله» قال أحمد : وفي هذه الآية رد على من زعم أن المفرد الجنسي لا يعمم ، لأنه لا يعامل معاملة الجمع لا في الصفة ولا في الخبر ، فلا يجوز أن تقول : الدينار الصفر خير من الدرهم البيض ، وهذا مردود بأن خبر الذي الواقع جنسا جاء على نعت خبر المجموع كما رأيت ، والله أعلم.

٣٠٣

عما يقول محمد ، ويشهدوا لبطلانه أن المراد بالذي قال : جنس القائلين ذلك ، وأنّ قوله الذين حق عليهم القول : هم أصحاب النار ، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم. وعن عائشة رضى الله عنها إنكار نزولها فيه ، وحين كتب معاوية إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد قال عبد الرحمن : لقد جئتم بها هرقلية : تبايعون لأبنائكم ، فقال مروان : يا أيها الناس ، هو الذي قال الله فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) فسمعت عائشة فغضبت وقالت : والله ما هو به ، ولو شئت أن أسميه لسميته (١) ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض من لعنة الله (٢). وقرئ : أف ، بالكسر والفتح بغير تنوين ، وبالحركات الثلاث مع التنوين ، وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر ، كما إذا قال : حس ، علم منه أنه متوجع ، واللام للبيان ، معناه : هذا التأفيف لكما خاصة ، ولأجلكما دون غير كما. وقرئ : أتعدانني : بنونين. وأ تعداني : بأحدهما. وأ تعداني : بالإدغام. وقد قرأ بعضهم : أتعدانني بفتح النون ، كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرتين والياء ، ففتح الأولى تحريا للتخفيف ، كما تحراه من أدغم ومن أطرح أحدهما (أَنْ أُخْرَجَ) أن ابعث وأخرج من الأرض. وقرئ : أخرج (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) يعنى : ولم يبعث منهم أحد (يَسْتَغِيثانِ اللهَ) يقولان : الغياث بالله منك ومن قولك ، وهو استعظام لقوله (وَيْلَكَ) دعاء عليه بالثبور : والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك (فِي أُمَمٍ) نحو قوله (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) وقرئ : أن ، بالفتح ، على معنى : آمن بأن وعد الله حق.

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١٩)

(وَلِكُلٍ) من الجنسين المذكورين (دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أى منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر ، ومن أجل ما عملوا منهما (٣). فإن قلت : كيف قيل : درجات ، وقد جاء : الجنة درجات والنار دركات؟ قلت : يجوز أن يقال ذلك على وجه التغليب ، لاشتمال كل على الفريقين (وَلِيُوَفِّيَهُمْ) وقرئ : بالنون تعليل معلله محذوف لدلالة الكلام عليه ، كأنه قيل :

__________________

(١) أخرجه النسائي ، واللفظ له وابن أبى خيثمة والحاكم وابن مردويه من رواية محمد بن زياد ـ وقال «لما بايع معاوية لابنه قال مروان : سنة أبى بكر وعمر. فقال عبد الرحمن بن أبى بكر : سنة هر قل وقيصر قال مروان : هذا الذي أنزل ـ فذكر الآية فبلغ ذلك عائشة فقالت : كذب والله. ما هو به. فذكره. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه إلى آخره. ولفظ ابن أبى خيثمة «إن معاوية كتب إلى مروان بن الحكم أن يبايع الناس ليزيد بن معاوية. فقال عبد الرحمن لقد جئتم بها هر قلبة ـ إلى آخر لفظ المصنف. قلت : أصله في البخاري من رواية يوسف بن ماهك عن عائشة دون ما في آخره.

(٢) قوله «فأنت فضض من لعنة الله» في الصحاح كل شيء تفرق فهو فضض. وفي الحديث : أنت فضض من لعنة الله ، يعنى : ما انفض من نطفة الرجل وتردد في صلبه. (ع)

(٣) قوله «ومن أجل ما عملوا منهما» لعله : أو من أجل. (ع)

٣٠٤

وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم : قدر جزاءهم على مقادير أعمالهم ، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (٢٠)

ناصب الظرف هو القول المضمر قبل (أَذْهَبْتُمْ) وعرضهم على النار : تعذيبهم بها ، من قولهم : عرض بنو فلان على السيف (١) إذا قتلوا به. ومنه قوله تعالى (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) ويجوز أن يراد : عرض النار عليهم من قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، يريدون : عرض الحوض عليها فقلبوا. ويدل عليه تفسير ابن عباس رضى الله عنه : يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) أى : ما كتب لكم حظ من الطيبات إلا ما قد أصبتموه في دنياكم ، وقد ذهبتم به وأخذتموه ، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها. وعن عمر رضى الله عنه : لو شئت لدعوت بصلائق وصناب (٢) وكراكر وأسنمة ، ولكنى رأيت الله تعالى نعى على قوم طيباتهم فقال : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا (٣). وعنه : لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وأحسنكم لباسا ، ولكنى أستبقى طيباتى : (٤) وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعا ، فقال : أأنتم اليوم خير أم يوم

__________________

(١) قال محمود : «عرضهم على النار إما من قولهم عرض بنو فلان على السيف ... الخ» قال أحمد : وإن كان قولهم : عرضت الناقة على الحوض مقلوبا ، فليس قوله : يعرض الذين كفروا على النار مقلوبا ، لأن الملجئ ثم إلى اعتقاد القلب أن الحوض جماد لا إدراك له ، والناقة هي المدركة ، فهي التي يعرض عليها الحوض حقيقة. وأما النار فقد وردت النصوص بأنها حينئذ مدكرة إدراك الحيوانات بل إدراك أولى العلم ، فالأمر في الآية على ظاهره ، كقولك : عرضت الأسرى على الأمير ، والله أعلم.

(٢) قوله «بصلائق وصناب» في الصحاح : الصلائق : الخبز الرقاق. والصناب : صباغ يتخذ من الخردل والزبيب. والكركرة : رحى زور البعير : والزور : أعلى الصدر اه أخذا من مواضع. (ع)

(٣) أخرجه ابن المبارك في الزهد أخبرنا جرير بن حازم أنه سمع الحسن يقول «قدم على أمير المؤمنين عمر وقد أهل البصرة مع أبى موسى الأشعرى قال لو كنا ندخل وأنه كل يوم خبز بيت. فذكر الحديث. وفيه «أما والله ما أجهل من كراكر وأسنمة وصلا وصناب وقال جرير : الصلا هو الشواء والصناب الخردل ، والصلائق الخبز الرقاق. ولكن سمعت الله عير أقواما بأمر فعلوه. فقال : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) الآية. وأخرجه أبو عبيدة في الغريب. وابن سعد وأحمد في الزهد. وأبو نعيم في الحلية كلهم من طريق جرير به.

(٤) أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال ذكر لنا عمر قال : فذكره.

٣٠٥

يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى ، ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ، ويستر بيته كما تستر الكعبة. قالوا : نحن يومئذ خير. قال. بل أنتم اليوم خير (١) وقرئ : أذهبتم بهمزة الاستفهام. وآ أذهبتم بألف بين همزتين ، الهون. والهوان : وقرئ عذاب الهوان ، وقرئ يفسقون بضم السين وكسرها.

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(٢١)

الأحقاف : جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء ، من احقوقف الشيء إذا اعوج ، وكانت عاد أصحاب عمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر من بلاد اليمن. وقيل : بين عمان ومهرة. و (النُّذُرُ) جمع نذير بمعنى المنذر أو الإنذار (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) من قبله (وَمِنْ خَلْفِهِ) ومن بعده. وقرئ : من بين يديه ومن بعده. والمعنى : أنّ هودا عليه السلام قد أنذرهم فقال لهم : لا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم العذاب ، وأعلمهم أنّ الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره وعن ابن عباس رضى الله عنه : يعنى الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه. ومعنى (وَمِنْ خَلْفِهِ) على هذا التفسير ومن بعد إنذاره ، هذا إذا علقت ، وقد خلت النذر بقوله : أنذر قومه ، ولك أن تجعل قوله تعالى (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) اعتراضا بين أنذر قومه وبين (أَلَّا تَعْبُدُوا) ويكون المعنى : واذكر إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم ؛ وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك ، فاذكرهم.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(٢٢)

الإفك : الصرف. يقال أفكه عن رأيه (عَنْ آلِهَتِنا) عن عبادتها (بِما تَعِدُنا) من معاجلة العذاب على الشرك (إِنْ كُنْتَ) صادقا في وعدك.

(قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)(٢٣)

فإن قلت : من أين طابق قوله تعالى (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) جوابا لقولهم (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا)؟

__________________

(١) أخرجه الطبري من رواية سعد عن قتادة قال : ذكر لنا. فذكره. ومن طريقه الشعبي. ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة أهل الصفة من طريق الحسن قال «حسب أضعاف المسلمين» فذكر نحوه مطولا وفي الترمذي من طريق محمد بن كعب القرظي : حدثني من سمع على بن أبى طالب رضى الله عنه قال : بينا نحن جلوس في المسجد إذ طلع علينا مصعب بن عمير ما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى للذي كان فيه من النعمة. ثم قال : كيف بكم ... الحديث نحوه».

٣٠٦

قلت : من حيث إنّ قولهم هذا استعجال منهم بالعذاب. ألا ترى إلى قوله تعالى (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) فقال لهم : لا علم عندي بالوقت الذي يكون فيه تعذيبكم حكمة وصوابا ، إنما علم ذلك عند الله ، فكيف أدعوه بأن يأتيكم بعذابه في وقت عاجل تقترحونه أنتم؟ ومعنى : (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) وقرئ بالتخفيف : أن الذي هو شأنى وشرطي : أن أبلغكم ما أرسلت به من الإنذار والتخويف والصرف عما يعرّضكم لسخط الله بجهدي ، ولكنكم جاهلون لا تعلمون أنّ الرسل لم يبعثوا إلا منذرين لا مقترحين ، ولا سائلين غير ما أذن لهم فيه.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)(٢٥)

(فَلَمَّا رَأَوْهُ) في الضمير وجهان : أن يرجع إلى ما تعدنا ، وأن يكون مبهما قد وضح أمره بقوله (عارِضاً) إما تمييزا وإما حالا. وهذا الوجه أعرب وأفصح. والعارض : السحاب الذي يعرض في أفق السماء. ومثله : الحبى والعنان ، من حبا وعنّ : إذا عرض. وإضافة مستقبل وممطر مجازية غير معرفة ؛ بدليل وقوعهما وهما مضافان إلى معرفتين وصفا للنكرة (بَلْ هُوَ) القول قبله مضمر ، والقائل : هود عليه السلام ، والدليل عليه قراءة من قرأ : قال هود ، بل هو. وقرئ : قل بل ما استعجلتم به هي ريح ، أى قال الله تعالى : قل (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير ، فعبر عن الكثرة بالكلية. وقرئ يدمر كل شيء من دمر دمارا إذا هلك (لا تَرى) الخطاب للرائى من كان. وقرئ : لا يرى ، على البناء للمفعول بالياء والتاء ، وتأويل القراءة بالتاء وهي عن الحسن رضى الله عنه : لا ترى بقايا ولا أشياء منهم إلا مساكنهم. ومنه بيت ذى الرمّة :

وما بقيت إلّا الضلوع الجراشع (١)

وليست بالقوية. وقرئ : لا ترى إلا مسكنهم ، ولا يرى إلا مسكنهم. وروى أنّ الريح كانت تحمل الفسطاط والظعينة فترفعها في الجوّ حتى ترى كأنها جرادة. وقيل : أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم قالت : رأيت ريحا فيها كشهب النار. وروى : أوّل ما عرفوا به أنه عذاب : أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح السماء والأرض ، فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم ، فقلعت الريح

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة ١٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٣٠٧

الأبواب وصرعتهم ، وأما الله عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين ، ثم كشفت الريح عنهم ، فاحتملتهم فطرحتهم في البحر. وروى أنّ هودا لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : اعتزل هود ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا مايلين على الجلود وتلذه الأنفس ، وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال : اللهم إنى أسألك خيرها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت (١) به ، وإذا رأى مخيلة : قام وقعد ، وجاء وذهب ، وتغير لونه ، فيقال له : يا رسول الله ما تخاف؟ فيقول : إنى أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا : «هذا عارض ممطرنا». فإن قلت : ما فائدة إضافة الرب إلى الريح؟ قلت : الدلالة على أن الريح وتصريف أعنتها مما يشهد لعظم قدرته ، لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده. وذكر الأمر وكونها مأمورة من جهته عز وجل : يعضد ذلك ويقوّيه ،

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٢٦)

(إِنْ) نافية ، أى : فيما ما مكنا كم فيه ، إلا أنّ (إِنْ) أحسن في اللفظ ، لما فيه مجامعة (ما) مثلها من التكرير المستبشع. ومثله مجتنب ، ألا ترى أن الأصل في «مهما» : «ماماز» لبشاعة التكرير : قلبوا الألف هاء. ولقد أغث (٢) أبو الطيب في قوله:

لعمرك ماما بان منك لضارب (٣)

وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال :

لعمرك ما إن بان منك لضارب (٤)

__________________

(١) أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والبزار وأبو يعلى والبخاري في الأدب المفرد ، كلهم من رواية عطاء عن عائشة ، ولفظ مسلم قريب من لفظ الكتاب.

(٢) قوله «ولقد أغث أبو الطيب» في الصحاح «أغث» : أى ردؤ وفسد ، تقول : أغث الرجل في منطقه. (ع)

(٣) لعمرك ماما بان منك لضارب

بأقتل مما بان منك لعائب

لأبى الطيب. يقول : وحياتك ليس الذي ظهر منك للضارب يعنى السنان ، أفتل : أى أسرع قتلا من الذي ظهر منك للعائب ، يعنى : اللسان ، بل هما سواء في الحدة. ويجوز أنه استعار القتل للضرب تصريحا.

(٤) قال أحمد : بيت المتنبي ليس كما أنشده ، وإنما هو كما يروى :

لعمرك إن ما بان منك لضارب

بأقتل مما بان منك لعائب

٣٠٨

وقد جعلت إن صلة ، مثلها فيما أنشده الأخفش :

يرجّى المرء ما إن لا يراه

وتعرض دون أدناه الخطوب (١)

وتؤوّل بإنا مكناهم في مثل ما مكناكم فيه : والوجه هو الأوّل ، ولقد جاء عليه غير آية في القرآن (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) ، (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً) وهو أبلغ في التوبيخ ، وأدخل في الحث على الاعتبار (مِنْ شَيْءٍ) أى من شيء من الإغناء ، وهو القليل منه. فإن قلت بم انتصب (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ)؟ قلت : بقوله تعالى (فَما أَغْنى). فإن قلت : لم جرى مجرى التعليل؟ قلت : لاستواء مؤدى التعليل والظرف في قولك : ضربته لإساءته وضربته إذا أساء ، لأنك إذا ضربته في وقت إساءته ، فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه ، إلا أن «إذ ، وحيث ، غلبتا دون سائر الظروف في ذلك.

__________________

ولا يستقيم إلا كذلك لأن قبله :

هو ابن رسول الله وابن صفيه

وشبههما شبهت بعد التجارب

من قصيدة يمدح بها طاهر بن الحسين العلوي ، ولو أنى أبو الطيب عوض «ما» ب «إن» لجاء البيت :

يرى أن إن ما بان منك لضارب

وهذا التكرار أثقل من تكرار «ما» بلا مراء. وإنما فنده الزمخشري وألزمه استعمال «إن» عوض «ما» لاعتقاده أن البيت كما أنشده :

لعمرك ما مابان منك لضارب

بأقتل مما بان منك لعائب

ولو عوض «إن» عوض «ما» كما أصلحه الزمخشري : لزم دخول الباء في خبر «ما» وإنما تدخل الباء في خبر «ما» الحجازية العاملة ، و «إن» لا تعمل عمل «ما» على الصحيح ، فلا يستقيم دخول الباء في خبرها ، فما عدل المتنبي عن ذلك إلا لتعذره عليه من كل وجه. على أنى لا أبرئ المتنبي من التعجرف ، فانه كان مغرى به ، مغرما بالغريب من النظم. ونقل الزمخشري في الآية وجها آخر : وهو جعلها صلة مثلها في قوله :

يرجى المرء ما إن لا يراه

وتعرض دون أدناه الخطوب

قال : ويكون معناه على هذا مكناهم في مثل ما مكناكم ... الخ» قلت : واختص بهذه الطائفة قوله تعالى (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) وقوله (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ).

(١) فان أمسك فان العيش حلو

إلى كأنه عسل مشوب

يرجي المرء ما إن لا يراه

وتعرض دون أدناه الخطوب

وما يدرى الحريص علام يلقى

شراشره أيخطئ أم يصيب

لجابر بن رالان الطائي. وقيل : لا ياس بن الأرت. والشراشر : جمع شرشر ، وهي أطراف الشيء المشرشرة ، أى : المفرقة المنشورة ، وتطلق على الجسد وعلى الثقل ويكنى بها عن النفس كما هنا. وقيل : هي حبال الصيد. يقول : إن أبخل فالعيش حلو عنده كحلاوة العسل الممزوج بالماء لتزول حرارته وضمن «حلو» معنى محبوب ، فعداء بإلى. ثم قال : ولكن لا خير في الإمساك ، فان المرء يرتجى الأمر الغائب عنه. وتحول أهوال الموت أو شدائد الدهر بينه وبين أدنى شيء منه. وإن : زائدة بعد ما الموصولة حملا على ما النافية ، وما يدرى الذي وجه نفسه بكليتها للدنيا عواقب أمره ، أريح أم خسر ، وعلى أنها حبال الصيد ففي الكلام استعارة تمثيلية حيث شبه حال من أخذ في أسباب الأمر جاهلا عاقبته : بحال من نصب الحبال للصيد ، فقد وقد.

٣٠٩

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧))

(ما حَوْلَكُمْ) يا أهل مكة (مِنَ الْقُرى) من نحو حجر ثمود وقرية سدوم وغيرهما. والمراد : أهل القرى. ولذلك قال (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٢٨)

القربان : ما تقرب به إلى الله تعالى ، أى : اتخذوهم شفعاء متقربا بهم إلى الله ، حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وأحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الذين (١) المحذوف (٢) ، والثاني: آلهة. وقربانا : حال ولا يصح أن يكون قربانا مفعولا ثانيا وآلهة بدلا منه لفساد المعنى. وقرئ قربانا بضم الراء. والمعنى : فهلا منعهم من الهلاك آلهتهم (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أى غابوا عن نصرتهم (وَذلِكَ) إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم ، أى : وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة ، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء. وقرئ : إفكهم : والأفك والإفك : كالحذر والحذر. وقرئ : وذلك إفكهم ، أى : وذلك الاتخاذ الذي هذا أثره وثمرته صرفهم عن الحق. وقرئ : أفكهم على التشديد للمبالغة. وآفكهم : جعلهم آفكين. وآفكهم ، أى : قولهم الآفك ذو الإفك ، كما تقول قول كاذب ، وذلك إفك مما كانوا يفترون ، أى : بعض ما كانوا يفترون من الإفك.

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ

__________________

(١) قال محمود : «أحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الموصول محذوف ... الخ» قال أحمد : لم يتبين وجه فساد المعنى على هذا الاعراب. ونحن نبينه فنقول : لو كان قربانا مفعولا ثانيا ومعناه متقربا بهم : لصار المعنى إلى أنهم وبخوا على ترك اتخاذ الله متقربا به ، لأن السيد إذا ونخ عبده وقال : اتخذت فلانا سيدا دوني ، فإنما معناه اللوم على نسبة السيادة إلى غيره ، وليس هذا المقصد ، فان الله تعالى يتقرب إليه ولا يتقرب به لغيره ، فإنما وقع التوبيخ على نسبة الالهية إلى غير الله تعالى ، فكان حق الكلام أن يكون آلهة هو المفعول الثاني لا غير.

(٢) قوله «اتخذ الراجع إلى الذين المحذوف» هو الذي أبرزه في قوله : أى اتخذوهم. (ع)

٣١٠

ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٣٢)

(صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً) أملناهم إليك وأقبلنا بهم نحوك. وقرئ : صرفنا بالتشديد ، لأنهم جماعة. والنفر : دون العشرة. ويجمع أنفارا. وفي حديث أبى ذر رضى الله عنه : لو كان هاهنا أحد من أنفارنا (١) (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) الضمير للقرآن. أى : فلما كان بمسمع منهم. أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وتعضده قراءة من قرأ (فَلَمَّا قُضِيَ) أى أتمّ قراءته وفرع منها (قالُوا) قال بعضهم لبعض (أَنْصِتُوا) اسكتوا مستمعين. يقال : أنصت لكذا واستنصت له. روى أنّ الجنّ كانت تسترق السمع ، فلما حرست السماء ورجموا بالشهب قالوا : ما هذا إلا لنبإ حدث ، فنهض سبعة نفر أو تسعة من أشراف جنّ نصيبين أو نينوى : منهم زوبعة ، فضربوا حتى بلغوا تهامة ، ثم اندفعوا إلى وادى نخلة ، فوافقوا (٢) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم في جوف الليل يصلى أو في صلاة الفجر ، فاستمعوا لقراءته ، وذلك عند منصرفه من الطائف حين خرج إليهم يستنصرهم فلم يجيبوه إلى طلبته وأغروا به سفهاء ثقيف (٣). وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم ، وإنما كان يتلو في صلاته فمروا به فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر ، فأنبأه الله باستماعهم (٤). وقيل : بل أمر الله رسوله أن ينذر الجنّ ويقرأ عليهم فصرف إليه نفرا منهم جمعهم له فقال : إنى أمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة فمن يتبعني : قالها ثلاثا ، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : لم يحضره ليلة الجنّ أحد غيرى ، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الحجون فخط لي خطا وقال : لا تخرج منه حتى أعود إليك ، ثم افتتح القرآن وسمعت لغطا شديدا حتى خفت

__________________

(١) هذا طرف من قصة إسلام أبى ذر رضى الله عنه من رواية عبد الله بن الصامت عن أبى ذر ذكره مطولا. وفيه : فبينا أنا في ليلة قمراء ختموانية وقد ضرب الله على أهل مكة فما يطوف غير امرأتين ، فأتيا على فذكر القصة. وفيه ثم انطلقتا يولولان. ويقولان لو كان هاهنا أحد من أنصارنا» أخرجه مسلم مطولا.

(٢) قوله «فوافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم» لعله : فوافوا. (ع)

(٣) متفق عليه بمعناه من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس دون أوله. ودون قوله «وكانوا تسعة نفر أحدهم زوبعة» ودون قوله «في جوف الليل يصلى» ودون قوله «من نينوى» ودون قوله «عند منصرفه إلى آخره» وأما زوبعة فأخرجه الحاكم من رواية ذر عن ابن مسعود قال «هبطوا ـ يعنى الجن ـ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة. فلما سمعوه قالوا أنصتوا. وكانوا تسعة أحدهم زوبعة. فأنزل الله (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ ـ) الآية وقوله «نينوى» أخرجه الطبري من رواية قتادة في هذه الآية قال : ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى الحديث».

(٤) متفق عليه من رواية سعيد بن جبير ، وهو في الذي قبله.

٣١١

على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ثم انقطعوا كقطع السحاب فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت شيئا؟ قلت : نعم رجالا سودا مستثفري ثياب بيض (١) ، فقال : أولئك جنّ نصيبين» (٢) وكانوا اثنى عشر ألفا ، والسورة التي قرأها عليهم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ). فإن قلت : كيف قالوا (مِنْ بَعْدِ مُوسى)؟ قلت : عن عطاء رضى الله عنه : أنهم كانوا على اليهودية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : إنّ الجنّ لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام ، فلذلك قالت : من بعد موسى. فإن قلت : لم بعّض في قوله (مِنْ ذُنُوبِكُمْ)؟ قلت : لأن من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كذنوب المظالم (٣) ونحوها. ونحوه قوله عزّ وجل (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ). فإن قلت : هل للجنّ ثواب كما للإنس؟ قلت : اختلف فيه فقيل : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ، لقوله تعالى (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) وإليه كان يذهب أبو حنيفة رحمه الله. والصحيح أنهم في حكم بنى آدم ، لأنهم مكلفون مثلهم (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أى : لا ينجى منه مهرب ، ولا يسبق قضاءه سابق. ونحوه قوله تعالى (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً).

__________________

(١) قوله «مستثفري ثياب بيض» في القاموس «الاستئفار» : أن يدخل إزاره بين فخذيه ملويا وإدخال الكلب ذنبه بين فخذيه حتى يلزقه ببطنه اه (ع)

(٢) لم أجده بتمامه في سياق واحد. بل وجدته مفرقا. فروى الطبري من رواية قتادة ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنى أمرت أن أقرأ على الجن. فأيكم يتبعني فأطرقوا ثلاثا إلا ابن مسعود قاتبعه حتى دخل شعبا يقال له شعب الحجون قال : وخط على ابن مسعود خطا. فذكر أى قوله حتى خفت عليه ـ وزاد فيه : فقلت ما هذا اللغط؟ فقال : اختصموا إلى في جبل قضيت بينهم بالحق» وروى الحاكم والطبراني والدارقطني من طريق أبى عثمان ابن شيبة الخزاعي وكان رجلا من أهل الشام أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو بمكة : من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجن فليفعل. فلم يحضر منهم أحد غيرى. قال : فانطلقت حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا ثم أمرنى أن أجلس فيه ، ثم انطلق حتى قام. فافتتح القرآن ـ الحديث» ولم يذكر قوله «رجالا سودا إلى آخره» وروى الطبري من رواية عمرو بن غيلان الثقفي أنه سأل ابن مسعود فذكر القصة. وفيها فقال «رأيت شيئا؟ قلت : نعم. قد رأيت رجالا سودا مستشعرين بثياب بيض. فقال : أولئك جن نصيبين سألونى المتاع ـ فذكر الحديث» وليس فيه عددهم ولا اسم السورة. وروى ابن أبى حاتم من رواية عكرمة في هذه الآية قال «كانوا من جن نصيبين جاءوا من جزيرة الموصل. وكانوا اثنى عشر ألفا» فهذه الأحاديث من مجموعها ما ذكر إلا اسم السورة.

(٣) قال محمود : «إنما بعض المغفرة لأن من الذنوب مالا يغفره الايمان كذنوب المظالم» قال أحمد : ليس ما أطلقه من أن الايمان لا يغفر المظالم بصحيح ، لأن الحربي لو نهب الأموال المصونة وسفك الدماء المحقونة ثم حسن إسلامه : جب الإسلام عنه إثم ما تقدم بلا إشكال. ويقال : إنه ما وعد المغفرة الكافر على تقدير الايمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضة ، وهذا منه ، فان لم يكن لاطراده بذلك سر فما هو إلا أن مقام الكافر قبض لا بسط ، فلذلك لم يبسط رجاءه في مغفرة جملة الذنوب. وقد ورد في حق المؤمنين مثله كثيرا ، والله أعلم.

٣١٢

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٣٣)

(بِقادِرٍ) محله الرفع ، لأنه خبر أن ، يدل عليه قراءة عبد الله : قادر ، وإنما دخلت الباء لاشتمال النفي في أوّل الآية على أن وما في حيزها. وقال الزجاج : لو قلت : ما ظننت أنّ زيدا بقائم : جاز ، كأنه قيل : أليس الله بقادر. ألا ترى إلى وقوع بلى مقرّرة للقدرة على كل شيء من البعث وغيره ، لا لرؤيتهم. وقرئ : يقدر. ويقال : عييت بالأمر ، إذا لم تعرف وجهه. ومنه (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ).

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)(٣٤)

(أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) محكي بعد قول مضمر ، وهذا المضمر هو ناصب الظرف. وهذا إشارة إلى العذاب ، بدليل قوله تعالى (فَذُوقُوا الْعَذابَ) والمعنى : التهكم بهم ، والتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده ، وقولهم (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)(٣٥)

(أُولُوا الْعَزْمِ) أولوا الجد والثبات والصبر. و (مِنَ) يجوز أن تكون للتبعيض ، ويراد بأولى العزم : بعض الأنبياء. قيل : هم نوح ، صبر على أذى قومه : كانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم على النار وذبح ولده ، وإسحاق على الذبح ، ويعقوب على فقد ولده وذهاب بصره ، ويوسف على الجب والسجن ، وأيوب على الضرّ ، وموسى قال له قومه : إنا لمدركون ، قال : كلا إنّ معى ربى سيهدين ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها. وقال الله تعالى في آدم (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) وفي يونس (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) ويجوز أن تكون للبيان ، فيكون أولو العزم صفة الرسل كلهم (وَلا تَسْتَعْجِلْ) لكفار قريش بالعذاب ، أى : لا تدع لهم بتعجيله ، فإنه نازل بهم لا محالة ، وإن تأخر ، وأنهم مستقصرون حينئذ مدّة لبثهم في الدنيا حتى يحسبوها (ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ)

٣١٣

أى هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة. أو هذا تبليغ من الرسول عليه السلام (فَهَلْ يُهْلَكُ) إلا الخارجون عن الاتعاظ به ، والعمل بموجبه. ويدل على معنى التبليغ قراءة من قرأ : بلغ فهل يهلك : وقرئ : بلاغا ، أى بلغوا بلاغا : وقرئ : يهلك ، بفتح الياء وكسر اللام وفتحها ، من هلك وهلك. ونهلك بالنون (إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ).

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الأحقاف كتب له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا» (١).

سورة محمد صلى الله عليه وسلم

مدنية عند مجاهد. وقال الضحاك وسعيد بن جبير : مكية. وهي سورة القتال

وهي تسع وثلاثون آية. وقيل ثمان وثلاثون [نزلت بعد الحديد]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ)(٢)

(وَصَدُّوا). وأعرضوا وامتنعوا عن الدخول في الإسلام : أو صدّوا غيرهم عنه. قال ابن عباس رضى الله عنه : هم المطعمون يوم بدر. وعن مقاتل : كانوا اثنى عشر رجلا من أهل الشرك يصدّون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر. وقيل : هم أهل الكتاب الذين كفروا وصدّوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإسلام. وقيل : هو عامّ في كل من كفر وصدّ (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أبطلها وأحبطها. وحقيقته : جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يتقبلها

__________________

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب رضى الله عنه.

٣١٤

ويثيب عليها ، كالضالة من الإبل (١) التي هي بمضيعة لا ربّ لها يحفظها ويعتنى بأمرها. أو جعلها ضالة في كفرهم ومعاصيهم ومغلوبة بها ، كما يضل الماء في اللبن. وأعمالهم : ما عملوه في كفرهم بما كانوا يسمونه مكارم : من صلة الأرحام وفك الأسارى وقرى الأضياف وحفظ الجوار.

وقيل : أبطل ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والصدّ عن سبيل الله : بأن نصره عليهم وأظهر دينه على الدين كله (وَالَّذِينَ آمَنُوا) قال مقاتل : هم ناس من قريش. وقيل : من الأنصار. وقيل : هم مؤمنو أهل الكتاب. وقيل : هو عام. وقوله (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) اختصاص للإيمان بالمنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين ما يجب به الإيمان تعظيما لشأنه وتعليما ، لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به. وأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي قوله (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) وقيل : معناها إنّ دين محمد هو الحق ، إذ لا يرد عليه النسخ ، وهو ناسخ لغيره. وقرئ : نزل وأنزل ، على البناء للمفعول. ونزّل على البناء للفاعل ، ونزل بالتخفيف (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي لرجوعهم عنها وتوبتهم (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أى حالهم وشأنهم بالتوفيق في أمور الدين ، وبالتسليط على الدنيا بما أعطاهم من النصرة والتأييد.

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ)(٣)

(ذلِكَ) مبتدأ وما بعده خبره ، أى : ذلك الأمر وهو إضلال أعمال أحد الفريقين وتكفير سيئات الثاني : كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق. ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدإ محذوف ، أى. الأمر كما ذكر بهذا السبب ، فيكون محل الجار والمجرور منصوبا على هذا ، ومرفوعا على الأوّل و (الْباطِلَ) ما لا ينتفع به. وعن مجاهد : الباطل الشيطان : وهذا الكلام يسميه علماء البيان التفسير (كَذلِكَ) مثل ذلك الضرب (يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) والضمير راجع إلى الناس ، أو إلى المذكورين من الفريقين ، على معنى : أنه يضرب أمثالهم لأجل الناس

__________________

(١) قال محمود : «معناه جعلها كالضالة من الإبل ... الخ» قال أحمد : هذا المعنى الثاني حسن متمكن مليء بمقابلة قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ثم قال (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) وتحرير المقابلة بينهما أن الكفار ضلت أعمالهم الصالحة في جملة أعمالهم السيئة من الكفر والمعاصي ، حتى صار صالحهم مستهلكا في غمار سيئهم ، ومقابله في المؤمنين ستر الله لأعمالهم السيئة في كنف أعمالهم الصالحة من الايمان والطاعة ، حتى صار سيئهم مكفرا ممحقا في جنب صالح أعمالهم ، وإلى هذا التمثيل الحسن في عدم تقبل صالح الكفار والتجاوز عن سيئ أعمال المؤمنين وقعت الاشارة بقوله تعالى (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) والله أعلم.

٣١٥

ليعتبروا بهم. فإن قلت : أين ضرب الأمثال؟ قلت : في أن جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين. أو في أن جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) (٦)

(لَقِيتُمُ) من اللقاء وهو الحرب (فَضَرْبَ الرِّقابِ) أصله : فاضربوا الرقاب ضربا ، فحذف الفعل وقدّم المصدر فأنيب منابه مضافا إلى المفعول. وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد ، لأنك تذكر المصدر وتدل على الفعل بالنصبة التي فيه. وضرب الرقاب عبارة عن القتل ، لأنّ الواجب أن تضرب الرقاب خاصة دون غيرها من الأعضاء ، وذلك أنهم كانوا يقولون : ضرب الأمير رقبة فلان ، وضرب عنقه وعلاوته ، وضرب ما فيه عيناه (١) إذا قتله ، وذلك أن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته ، فوقع عبارة عن القتل ، وإن ضرب بغير رقبته من المقاتل كما ذكرنا في قوله (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) على أن في هذه العبارة من الغلظة والشدّة ما ليس في لفظ القتل ، لما فيه (٢) من تصوير القتل بأشنع صورة وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه. ولقد زاد في هذه الغلظة في قوله تعالى (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ). (أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أكثرتم قتلهم وأغلظتموه ، من الشيء الثخين : وهو الغليظ. أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) فأسروهم. والوثاق بالفتح والكسر : ـ اسم ما يوثق به (مَنًّا) و (فِداءً) منصوبان بفعليهما مضمرين ، أى : فإمّا تمنون منا ، وإما تفدون فداء. والمعنى : التخيير بعد الأسر بين أن يمنوا عليهم فيطلقوهم ، وبين أن يفادوهم. فإن قلت : كيف حكم أسارى المشركين؟ قلت : أمّا عند أبى حنيفة وأصحابه فأحد أمرين : إمّا قتلهم وإمّا استرقاقهم : أيهما رأى الإمام ، ويقولون في المنّ والفداء المذكورين في الآية : نزل ذلك في يوم بدر ثم نسخ. وعن مجاهد : ليس اليوم منّ ولا فداء ، وإنما هو الإسلام أو ضرب العنق. ويجوز أن يراد بالمنّ : أن يمنّ عليهم بترك القتل ويسترقوا.

__________________

(١) قوله «وضرب ما فيه عيناه» لعله كناية عن رأسه أو عن وجهه. (ع)

(٢) قوله «لما فيه من تصوير القتل» لعله لما فيها. (ع)

٣١٦

أو يمنّ عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية ، وكونهم من أهل الذمّة. وبالفداء أن يفادى بأساراهم أسارى المشركين ، فقد رواه الطحاوي مذهبا عن أبى حنيفة ، والمشهور أنه لا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره ، خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين ، وأما الشافعي فيقول : للإمام أن يختار أحد أربعة على حسب ما اقتضاه نظره للمسلمين ، وهو : القتل ، والاسترقاق (١) ، والفداء بأسارى المسلمين ، والمن. ويحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منّ على أبى عروة الحجبي (٢) ، وعلى ثمامة بن أثال الحنفي ، (٣) وفادى رجل برجلين من المشركين (٤) : وهذا كله منسوخ عند أصحاب الرأى. وقرئ : فدى ، بالقصر مع فتح الفاء. أوزار الحرب : آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع. قال الأعشى :

وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا (٥)

وسميت أوزارها لأنه لما لم يكن لها بد من جرّها فكأنها تحملها وتستقل بها ، فإذا انقضت فكأنها وضعتها. وقيل. أوزارها آثامها ، يعنى : حتى يترك أهل الحرب. هم المشركون شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا. فإن قلت : (حَتَّى) بم تعلقت؟ قلت : لا تخلو إما أن تتعلق بالضرب والشد : أو بالمن والفداء ، فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رضى الله عنه : أنهم لا يزالون على ذلك أبدا إلى أن لا يكون حرب مع المشركين. وذلك إذا لم يبق لهم شوكة. وقيل : إذا نزل عيسى ابن مريم عليه السلام. وعند أبى حنيفة رحمه الله : إذا علق بالضرب والشد ، فالمعنى : أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار ، وذلك حين لا تبقى شوكة للمشركين. وإذا علق بالمن والفداء ، فالمعنى : أنه يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها

__________________

(١) قوله «وهو القتل والاسترقاق» لعله : وهي ... (ع)

(٢) هو مذكور في المغازي لابن إسحاق وغيره «أنه أسر يوم بدر. فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير فداء ثم أسره يوم أحد فقتله صبرا» ورواه الواقدي عن ابن أخى الزهري عن عمه عن سعيد بن المسيب.

(٣) قوله «على ثمامة بن أثال الحنفي» هو في حديث أبى هريرة عند الشيخين مطولا

(٤) قوله «وفادى رجلا برجلين من المشركين» : هذا طرف من حديث أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما من حديث عمران ، ولكن فيه «أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسروا رجلا من بنى عقيل ، وكانت ثقيف أسرت رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففداه النبي صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف» وروى البيهقي في المعرفة عن الشافعي من هذا الوجه مثل لفظ الكتاب. ثم قال : أظنه من الكاتب ، والصحيح الأول.

(٥) للأعشى ، واستعار الأوزار لآلات الحرب على طريق التصريحية ، ويحتمل أنه شبيه الحرب بمطايا ذات أوزار ، أى : أحمال ثقال على طريق المكنية ، وإثبات الأوزار تخييل ، ورماحا : بدل.

٣١٧

إلا أن يتأول المن والفداء بما ذكرنا من التأويل (ذلِكَ) أى الأمر ذلك ، أو افعلوا ذلك (لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) لانتقم منهم ببعض أسباب الهلك : من خسف ، أو رجفة ، أو حاصب ، أو غرق. أو موت جارف ، (وَلكِنْ) أمركم بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين : أن يجاهدوا ويصبروا حتى يستوجبوا الثواب العظيم ، والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض ما وجب لهم من العذاب. وقرئ : قتلوا ، بالتخفيف والتشديد : وقتلوا. وقاتلوا. وقرئ : فلن يضل أعمالهم ، وتضل أعمالهم : على البناء للمفعول. ويضل أعمالهم من ضل. وعن قتادة : أنها نزلت في يوم أحد (عَرَّفَها لَهُمْ) أعلمها لهم وبينها بما يعلم به كل أحد منزلته ودرجته من الجنة. قال مجاهد : يهتدى أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطئون ، كأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا لا يستدلون عليها. وعن مقاتل : إن الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشى بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه الله. أو طيبها لهم ، من العرف : وهو طيب الرائحة. وفي كلام بعضهم : عزف كنوح القمارى (١) ، وعرف كفوح القمارى. أو حددها لهم ، فجنة كل أحد محدودة مفرزة عن غيرها ، من : عرف الدار وارفها. والعرف والارف ، الحدود.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)(٧)

(إِنْ تَنْصُرُوا) دين (اللهَ) ورسوله (يَنْصُرْكُمْ) على عدوكم ويفتح لكم (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) في مواطن الحرب أو على محجة الإسلام.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ)(٩)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) يحتمل الرفع على الابتداء والنصب بما يفسره (فَتَعْساً لَهُمْ) كأنه قال : أتعس الذين كفروا. فإن قلت : علام عطف قوله (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ)؟ قلت : على الفعل الذي نصب تعسا ، لأنّ المعنى فقال : تعسا لهم ، أو فقضى تعسا لهم. وتعسا له : نقيض «لعاله» قال الأعشى :

فالتّعس أولى لها من أن أقول لعا (٢)

__________________

(١) قوله «عزف كنوح القمارى» العزف : الغناء. والقمارى : جمع قمرى ، اسم طير. والعود القمارى : منسوب إلى موضع ببلاد الهند. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) وبلدة يرهب الجواب دلجتها

حتى تراه عليها يبتغى الشيما

كلفت مجهولها نفسي وشايعنى

همى عليها إذا ما آلها لمعا

٣١٨

يريد : فالعثور والانحطاط أقرب لها من الانتعاش والثبوت. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : يريد في الدنيا القتل ، وفي الآخرة التردي في النار (كَرِهُوا) القرآن وما أنزل الله فيه من التكاليف والأحكام ، لأنهم قد ألفوا الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذ فشق عليهم ذلك وتعاظمهم.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها)(١٠)

دمره : أهلكه ، ودمر عليه : أهلك عليه ما يختص به. والمعنى : دمر الله عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأموالهم وأولادهم وكل ما كان لهم (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) الضمير للعاقبة المذكورة أو للهلكة ، لأن التدمير يدل عليها. أو للسنة ، لقوله عزّ وعلا (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا).

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ)(١١)

(مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) وليهم وناصرهم. وفي قراءة ابن مسعود : ولى الذين آمنوا. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في الشعب يوم أحد وقد فشت فيهم الجراحات ، وفيه نزلت ، فنادى المشركون : اعل هبل : فنادى المسلمون : الله أعلى وأجل ، فنادى المشركون : يوم بيوم والحرب سجال ، إن لنا عزى ولا عزى لكم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ، إن القتلى مختلفة أما قتلانا فأحياء يرزقون وأما قتلاكم ففي النار يعذبون (١). فإن قلت : قوله تعالى (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) مناقض لهذه الآية. قلت : لا تناقض بينهما ، لأن الله مولى عباده جميعا على معنى أنه ربهم ومالك أمرهم ؛ وأما على معنى الناصر فهو مول المؤمنين خاصة.

__________________

 ـ بذات لوث عفرناة إذا عثرت

فالتعس أولى لها من أن يقال لعا

للأعشى ، أى : ورب مفازة يخاف الجواب : أى كثير السير ، من جبت الأرض : قطعتها بالسير. والدلجة من دلج وأدلج ، وزن افتعل. وأدلج وزن أكرم : إذا سار ليلا. والدلجة : ساعة من الليل ، أى : يخاف المعتاد على السير من سيرها ليلا ، حتى يطلب الجماعات المساعدين له على سيرها ، كلفت نفسي سير المجهول منها ، وعاونني عزمي على سيرها وقت لمعان آلها وهو السراب الذي يرى عند شدة الحر ، كأنه ماء ، مع أن سير الهاجرة أشد من سير الليل ، ثم قال : مع ناقة صاحبة قوة. ويطلق اللوث على الضعف أيضا ، فهو من الأضداد. عفرناة : غليظة. ويقال للعاثر : لعا لك : دعاء له بالانتعاش. وتعسا له : دعاء عليه بالسقوط ، يريد أنها لا تعثر ، ولو عثرت فالدعاء عليها أحق بها من الدعاء لها.

(١) أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال «ذكر لنا أن هذه الآية. يعنى (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) نزلت يوم أحد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات. الخ» سواء. وله شاهد في البخاري من حديث البراء بن عازب.

٣١٩

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)(١٢)

(يَتَمَتَّعُونَ) ينتفعون بمتاع الحياة الدنيا أياما قلائل (وَيَأْكُلُونَ) غافلين غير مفكرين في العاقبة (كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) في مسارحها ومعالفها ، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح (مَثْوىً لَهُمْ) منزل ومقام.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ)(١٣)

وقرئ : وكائن ، بوزن كاعن (١). وأراد بالقرية أهلها ، ولذلك قال (أَهْلَكْناهُمْ) كأنه قال : وكم من قوم هم أشد قوّة من قومك الذين أخرجوك أهلكناهم. ومعنى أخرجوك: كانوا سبب خروجك. فإن قلت : كيف قال (فَلا ناصِرَ لَهُمْ)؟ وإنما هو أمر قد مضى. قلت : مجراه مجرى الحال المحكية ، كأنه قال أهلكناهم فهم لا ينصرون.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ)(١٤)

من زين له : هم أهل مكة الذين زين لهم الشيطان شركهم وعداوتهم لله ورسوله ، ومن كان على بينة من ربه أى على حجة من عنده وبرهان : وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرئ : أمن كان على بينة من ربه. وقال تعالى (سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا) للحمل على لفظ (مِنْ) ومعناه.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ)(١٥)

__________________

(١) قوله «وكائن بوزن كاعن» في الصحاح «كائن» : معناها معنى كم في الخبر والاستفهام ، وفيها لغتان : كأين. مثال كعين وكائن : مثال كاعن اه. (ع)

٣٢٠