الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

على نصرهم ، وتهكم بهم ، كأنه قال : فلم يجدوا لهم من دون الله آلهة ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله ، كقوله تعالى (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا). (دَيَّاراً) من الأسماء المستعملة في النفي العام ، يقال : ما بالدار ديار وديور ، كقيام وقيوم ، وهو فيعال من الدور. أو من الدار ، أصله ديوار ، ففعل به ما فعل بأصل سيد وميت ، ولو كان فعالا لكان دوّارا. فإن قلت : بم علم أن أولادهم يكفرون ، وكيف وصفهم بالكفر عند الولادة؟ قلت : لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فذاقهم وأكلهم وعرف طباعهم وأحوالهم ، وكان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه ، ويقول : احذر هذا ، فإنه كذاب ، وإن أبى حذرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك ، وقد أخبره الله عزّ وجل أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، ومعنى (لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) لا يلدوا إلا من سيفجر ويكفر. فوصفهم بما يصيرون إليه ، كقوله عليه السلام «من قتل قتيلا فله سلبه» (١)

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً)(٢٨)

(وَلِوالِدَيَ) أبوه لمك بن متوشلخ ، وأمه شمخا بنت أنوش : كانا مؤمنين. وقيل. هما آدم وحواء. وقرأ الحسين بن على : ولولدي ، يريد : ساما وحاما (بَيْتِيَ) منزلي. وقيل: مسجدى. وقيل : سفينتي ، خص أوّلا من يتصل به ، لأنهم أولى وأحق بدعائه ، ثم عم المؤمنين والمؤمنات (تَباراً) هلاكا. فإن قلت : ما فعل صبيانهم حين أغرقوا؟ قلت : غرقوا معهم لا على وجه العقاب (٢) ، ولكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الموت ، وكم منهم من يموت بالغرق والحرق ، وكأن ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمّهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون.

__________________

(١) متفق عليه ، وقد تقدم.

(٢) قال محمود : «ما موجب إغراقهم حين أغرقوا ، وأجاب بأنهم ما أغرقوا لا على وجه العقاب ... الخ» قال أحمد : هذا السؤال مفصح عما في باطنه من وجوب تعليل أفعال الله تعالى ، وعليه يبنى أنه لا يجوز الألم من الله تعالى إلا باستحقاق سابق ، أو لأعواض مترقبة ، أو لغير ذلك من المصالح ، بناء على القاعدة لهم في الصلاح والأصلح والصبيان لا جناية سبقت منهم ولا عوض يترقب فيهم. فبرد السؤال على ذلك. وأما أهل السنة فالله تعالى قد تكفل الجواب عنهم بقوله (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) وهذا الكلام بالنظر إلى خصوص واقعة قوم نوح ، وينجر الكلام منها إلى حكم الله علينا في العدو إذا خيف من مقاتلتهم بالآلات على ذراريهم أن ذلك لا يوجب الاكفاف عن مقاتلتهم بالآلات المهلكة لهم والمذرية ، ويستدل برمي النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف بالمجانيق. وقيل له فيهم الذرية ، فقال : هم من آبائهم ، وأما رميهم بالنار وفيهم الذرية : فمنعه مالك رحمه الله ، إلا أن يخاف غائلتهم فيرمون بها إن لم يندفعوا بغيرها ، والله تعالى أعلم.

٦٢١

ومنه قوله عليه السلام «يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى» (١) وعن الحسن : أنه سئل عن ذلك فقال : علم الله براءتهم فأهلكهم بغير عذاب. وقيل : أعقم الله أرحام نسائهم وأيبس أصلاب آبائهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة ، فلم يكن معهم صبى حين أغرقوا. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح عليه السلام» (٢).

سورة الجنّ

مكية ، وآياتها ٢٨ [نزلت بعد الأعراف]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً)(٥)

قرئ : أحى ، وأصله وحى ، يقال : أوحى إليه ووحى إليه ، فقلبت الواو همزة ، كما يقال : أعد وأزن (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة ، وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإسادة ، وإعاء أخيه ، وقرأ ابن أبى عبلة : وحى على الأصل (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) بالفتح ، لأنه فاعل أوحى. وإنا سمعنا : بالكسر : لأنه مبتدأ محكي بعد القول ، ثم تحمل عليهما البواقي ، فما كان من الوحى فتح ، وما كان من قول الجنّ كسر : وكلهن من قولهم إلا الثنتين الأخريين (وَأَنَّ الْمَساجِدَ) ، (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ) ومن فتح كلهنّ فعطفا

__________________

(١) أخرجه مسلم من طريق ابن الزبير عن عائشة رضى الله عنها.

(٢) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.

٦٢٢

على محل الجار والمجرور في آمنا به ، كأنه قيل : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا ، وأنه كان يقول سفيهنا ، وكذلك البواقي (نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل : كانوا من الشيصبان ، وهم أكثر الجنّ عددا وعامة جنود إبليس منهم (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا) أى : قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم ، كقوله (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً) ، (عَجَباً) بديعا مباينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه ، قائمة فيه دلائل الإعجاز. وعجب مصدر يوضع موضع العجيب. وفيه مبالغة : وهو ما خرج عن حد أشكاله ونظائره (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) يدعو إلى الصواب. وقيل : إلى التوحيد والإيمان. والضمير في (بِهِ) للقرآن ، ولما كان الإيمان به إيمانا بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك : قالوا (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) أى : ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به في طاعة الشيطان. ويجوز أن يكون الضمير لله عز وجل ، لأنّ قوله (بِرَبِّنا) يفسره (جَدُّ رَبِّنا) عظمته من قولك : جدّ فلان في عينى ، أى : عظم. وفي حديث عمر رضى الله عنه : كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا. وروى في أعيننا (١). أو ملكه وسلطانه. أو غناه ، استعارة من الجد الذي هو الدولة والبخت ، لأن الملوك والأغنياء هم المجدودون. والمعنى : وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته. أو لسلطانه وملكوته. أو لغناه. وقوله (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) بيان لذلك. وقرئ : جدّا ربنا ، على التمييز. وجدّ ربنا ، بالكسر : أى صدق ربوبيته وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد ، وذلك أنهم لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والإيمان : تنبهوا على الخطإ فيما اعتقده كفرة الجنّ من تشبيه الله بخلقه واتخاذه صاحبة وولدا ، فاستعظموه ونزهوه عنه. سفيههم : إبليس لعنه الله أو غيره من مردة الجن. والشطط : مجاوزة الحدّ في الظلم وغيره. ومنه : أشط في السوم ، إذا أبعد فيه ، أى : يقول قولا هو في نفسه شطط ، لفرط ما أشط فيه ، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله ، وكان في ظننا أنّ أحدا من الثقلين لن يكذب على الله ولن يفترى عليه ما ليس بحق ، فكنا نصدّقهم فيما أضافوا إليه من ذلك ، حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم وافتراؤهم (كَذِباً) قولا كذبا ، أى : مكذوبا فيه. أو نصب نصب المصدر لأنّ الكذب نوع من القول. ومن قرأ : أن لن تقوّل : وضع كذبا موضع تقوّلا ، ولم يجعله صفة ، لأنّ التقوّل لا يكون إلا كذبا.

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً)(٧)

__________________

(١) لم أره عن عمر ، بل هو عن أنس ، كما مضى في البقرة.

٦٢٣

والرهق : غشيان المحارم. والمعنى : أنّ الإنس باستعاذتهم بهم زادوهم كبرا وكفرا ، وذلك أنّ الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر في بعض مسايره وخاف على نفسه قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، يريد الجن وكبيرهم ، فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا : سدنا الجن والإنس ، فذلك رهقهم. أو فزاد الجن الإنس رهقا بإغوائهم وإضلالهم لاستعاذتهم بهم (وَأَنَّهُمْ) وأنّ الإنس (ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) وهو من كلام الجن ، يقوله بعضهم لبعض. وقيل : الآيتان من جملة الوحى. والضمير في (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا) للجنّ ، والخطاب في (ظَنَنْتُمْ) لكفار قريش.

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً)(٩)

اللمس : المس ، فاستعير للطلب ، لأنّ الماس طالب متعرّف. قال :

مسسنا من الآباء شيئا وكلّنا

إلى نسب في قومه غير واضع (١)

يقال : لمسه والتمسه وتلمسه «كطلبه وأطلبه وتطلبه» ونحوه : الجس. وقولهم ؛ جسوه بأعينهم وتجسسوه. والمعنى : طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها. والحرس : اسم مفرد في معنى الحرّاس ، كالخدم في معنى الخدّام ، ولذلك وصف بشديد ، ولو ذهب إلى معناه لقيل : شدادا ، ونحوه

أخشى رجيلا أو ركيبا غاديا (٢)

لأنّ الرجل والركب مفردان في معنى الرجال والركاب. والرصد : مثل الحرس : اسم جمع

__________________

(١) مسسنا عن الآباء شيئا فكلنا

إلى نسب في قومه غير واضع

فلما بلغنا الأمهات وجدتم

بنى عمكم كانوا كرام المضاجع

ليزيد بن الحاكم الكلابي. ومسسنا : أى نلنا ، فالمس مجاز مرسل ، فكل منا ينتمي إلى نسب في قومه غير منخفض ويروى : إلى حسب ، فاستوينا من جهة الآباء في التفاخر ، فلما بلغنا فيه ذكر الأمهات وجدتم أقاربكم كرام المضاجع كناية عن الأزواج. أو عبر باسم المحل عن الحال فيه ، وهن الأزواج مجازا مرسلا ، وكرم النساء مذموم ، لأنه كناية عن الخنا ، كما يكنى ببخلهن عن العفة ، فلسنا سواء في الأمهات.

(٢) أخشى رجيلا أو ركيبا غاديا

والذئب أخشاه وكلبا عاويا

الرجيل : تصغير رجل. والركيب : تصغير ركب. غاديا : أى سائرا في الغداة على العادة. يقول : أخاف لهرمى. وضعفى الرجل الصغير والركب القليل. والذئب : نصب بمضمر ، كالمذكور على الاشتغال. أى : وأخشى الذئب وكلبا عطف عليه. أو نصب بمضمر ، أى : وأخشى كلبا عاويا. والجملة معطوفة على جملة «أخشى رجيلا» وعيد الكلب بكونه علويا ، لئلا يتوهم كذبه في دعواه.

٦٢٤

للراصد ، على معنى : ذوى شهاب راصدين بالرجم ، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ، ويمنعونهم من الاستماع. ويجوز أن يكون صفة للشهاب ، بمعنى الراصد أو كقوله :

...... ومعى جياعا (١)

يعنى. يجد شهابا راصدا له ولأجله. فإن قلت : كأن الرجم لم يكن في الجاهلية ، وقد قال الله تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) فذكر فائدتين (٢) في خلق الكواكب : التزيين ، ورجم الشياطين؟ قلت : قال بعضهم حدث بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إحدى آياته ، والصحيح أنه كان قبل المبعث ، وقد جاء ذكره في شعر أهل الجاهلية. قال بشر بن أبى خازم :

والعير يرهقها الغبار وجحشها

ينقض خلفهما انقضاض الكوكب (٣)

__________________

(١) قوله : «ومعى جياعا» في الصحاح المعى واحد الأمعاء والجياع جمع الجائع. وأول البيت :

كأن قتود رحلي حين ضمت

حوالب غزرا ومعى جياعا

والقتود : جمع قتد ، وهو خشب الرحل. (ع)

(٢) قال محمود : «إن قلت كأن الرجم لم يكن في الجاهلية. وقد قال تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) فذكر فائدتى الزينة والرجم ... الخ» قال أحمد : ومن عقائدهم أن الرشد والضلال جميعا مرادان لله تعالى بقولهم (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) ولقد أحسنوا الأدب في ذكر إرادة الشر محذوفة الفاعل ، والمراد بالمريد : هو الله عز وجل ، وإبرازهم لاسمه عند إرادة الخير والرشد ، فجمعوا بين العقيدة الصحيحة والآداب المليحة.

(٣) والعير يرهقها الحبار وجحشها

ينقض خلفهما انقضاض الكوكب

فعلاهما سبط كأن ضبابه

محبوب صادات دواجر تنضب

فتجاريا شأوا بطيئا مثله

هيهات شأوهما وشأو التولب

لبشر بن أبى خازم. والعير : الحمار ؛ يرهقها : يكلفها ، أى : الأتان. والجبار ـ بضم المهملة ، وقيل بفتحها ـ : الأثر من كل شيء ، وبالمعجمة : الأرض اللينة. وروى : الغبار ، والانقضاض : الاسراع ، والسبط : الغبار الممتد ، والضباب : ندى يغشى الأرض بالغدوات. والصاد : الديك الذي ينكت التراب فيثير غباره ، ويطلق على القدر من النحاس ومن البرام ، وعلى داء في الرأس يداوى بالكي بالنار. قيل : وعلى العلم ، وفسر به هنا. والدواجر : التواشط ، من دجر إذا نشط سرورا ، أو المظلمات. والليل الدجور والديجور : المظلم. وتنضب : اسم شجر دخانه أبيض ، وعلم على قرية قريبة من مكة. والشأو : الطلق ، يقال : شأى كسهى ، إذا سبق غيره. والتولب : الجحش إذا مضى عليه سنة واحدة ، يقول : إن حمار الوحش يكلف أتانه اقتفاء أثره عند الجري ، وجحشها يسرع خلفها كاسراع شهاب الرجم ، فارتفع فوقهما ممتد من الغبار ، كأن ما أشبه الضباب منه غبار أثارته الديكة لأنها تحبه ، وكأنه مرتفع «خان ذلك الشجر أو مظلمة ، لأنه يحجب الضوء وإن كان أبيض ، فدواجر خبر بعد خبر. ويجوز أنه على حذف العاطف ، فقد أجازه السيرافي وابن عصفور وابن مالك ، ومنعه ابن جنى والسهيلي ، وخرجا ما يوهمه على بدل الاضراب ، ويجوز ذلك هنا أيضا ، فشبه التيار بثلاثة أشياء ، ثم قال : فتجاريا شوطا طويلا ـ

٦٢٥

وقال أوس بن حجر :

وانقضّ كالدّرّي يتبعه

نقع يثور تخاله طنبا (١)

وقال عوف بن الخرع :

يردّ علينا العير من دون إلفه

أو الثّور كالدّرّىّ يتبعه الدّم (٢)

ولكن الشياطين كانت تسترق في بعض الأحوال ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم : كثر الرجم وزاد زيادة ظاهرة ؛ حتى تنبه لها الإنس والجن ، ومنع الاستراق أصلا. وعن معمر : قلت للزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال : نعم. قلت : أرأيت قوله تعالى (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ) فقال : غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الزهري عن على بن الحسين عن ابن عباس رضى الله عنهما : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار ، فقال : ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ فقالوا : كنا نقول : يموت عظيم أو يولد عظيم (٣). وفي قوله (مُلِئَتْ) دليل على أن الحادث هو المل والكثرة ، وكذلك قوله (نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ) أى كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب ، والآن ملئت المقاعد كلها ، وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته.

__________________

ـ مثله ، وإثبات البعد للمثل كناية عن إثباته للشأو. ويحتمل أن ضمير مثله للجحش ، فهو بالنصب. ثم قال : بعد ما بين شوطهما وشوطه كأنه تأخر. ويحتمل أن المعنى : بعد كل من الشوطين وطال.

(١) لأوس بن حجر يصف فرسا بشدة العدو والسرعة ، كالكوكب الدري نسبة للدر لصفاته ، أو مأخوذ من الدرء لدرئه الظلام ، يتبعه : أى الفرس نقع ، أى غبار ينتشر تظنه طنبا بضمتين ، وهو حبل الخيمة كما يتبع الدري شعاعه ممتدا عند هويه ، فقد شبه النقع بالطنب تصريحا ، وبشعاع الكوكب : ضمنا.

(٢) لعوف بن الخرع ، يصف فرسا بشدة العدو في الصيد ، وأنه يرد عليه الحمار الوحشي حال كونه. أى الحمار من دون إلفه أى بقربه أو يرده من دونه ، أى من قربه ، وإذا رده من جنب ألفه كان رده وهو وحده أهون عليه ، لأنه إذا كان مع إلفه كان أشد فرارا. ويجوز أن المعنى : حال كون الحمار بدون إلفه أى منفردا لا إلف معه يوجب ارتباكه. أو يرد علينا الثور الوحشي حال كونه ، أى الثور ، كالدرى. أو حال كون الفرس كالدرى ، أى : كالكوكب نسبة للدر لصفاء جوهره وإضاءته. أو من الدرة ، أى : الدفع ، لأنه يدرؤ الظلام حال كون الكوكب يتبعه عند سقوطه من السماء خط أحمر من ضوئه يشبه الدم ، فالدم : استعارة مصرحة.

(٣) أخرجه مسلم من رواية الأوزاعي عن الزهري عن على بن الحسين عن ابن عباس أخبرنى رجال من الأنصار ، وقال «بينما هم جلوس ـ فذكره مطولا» ورواه الترمذي من رواية معمر عن الزهري عن على بن الحسين عن ابن عباس قال «بينما ـ فذكره» ولم يقل : أخبرنى رجال.

٦٢٦

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)(١٠)

يقولون : لما حدث هذا الحادث من كثرة الرجم ومنع الاستراق ، قلنا : ما هذا إلا لأمر أراده الله بأهل الأرض ، ولا يخلو من أن يكون شرا أو رشدا ، أى : خيرا ، من عذاب أو رحمة ، أو من خذلان أو توفيق.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً)(١١)

(مِنَّا الصَّالِحُونَ) منا الأبرار المتقون (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) ومنا قوم دون ذلك ، فحذف الموصوف ، كقوله (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه. أو أرادوا الطالحين (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) بيان للقسمة المذكورة ، أى : كنا ذوى مذاهب مفترقة مختلفة. أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة. أو كنا في طرائق مختلفة ، كقوله :

كما عسل الطّريق الثّعلب (١)

أو كانت طرائقنا طرائق قددا على حذف المضاف الذي هو الطرائق وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه ؛ والقدّة من قدّ ، كالقطعة من قطع ، ووصفت الطرائق بالقدد ، لدلالتها على معنى التقطع والتفرّق.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً)(١٢)

(فِي الْأَرْضِ) و (هَرَباً) حالان ، أى : لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها ، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء. وقيل : لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرا ، ولن نعجزه هربا إن طلبنا. والظن بمعنى اليقين ، وهذه صفة أحوال الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم : منهم أخيار ، وأشرار ، ومقتصدون ، وأنهم يعتقدون أنّ الله عز وجل عزيز غالب لا يفوته مطلب ولا ينجى عنه مهرب.

(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً)(١٣)

(لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) هو سماعهم القرآن وإيمانهم به (فَلا يَخافُ) فهو لا يخاف ، أى فهو غير خائف ، ولأنّ الكلام في تقدير مبتدإ وخبر دخلت الفاء ، ولو لا ذاك لقيل : لا يخف. فإن

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٩٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٦٢٧

قلت : أى فائدة : في رفع الفعل وتقدير مبتدإ قبله حتى يقع خبرا له ووجوب إدخال الفاء ، وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يقال. لا يخف؟ قلت : الفائدة فيه أنه إذا فعل ذلك ، فكأنه قيل : فهو لا يخاف ، فكان دالا على تحقيق أنّ المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره وقرأ الأعمش : فلا يخف ، على النهى (بَخْساً وَلا رَهَقاً) أى جزاء بخس ولا رهق ، لأنه لم يبخس أحدا حقا ولا رهق ظلم أحد (١) فلا يخاف جزاءهما. وفيه دلالة على أن من حق من آمن بالله أن يجتنب المظالم. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم» (٢) ويجوز أن يراد : فلا يخاف أن يبخس بل يجزى الجزاء الأوفى ، ولا أن ترهقه ذلة ، من قوله عز وجل (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ).

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(١٥)

(الْقاسِطُونَ) الكافرون الجائرون عن طريق الحق. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه : أنّ الحجاج قال له حين أراد قتله : ما تقول فىّ؟ قال : قاسط عادل ، فقال القوم : ما أحسن ما قال ، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل ، فقال الحجاج : يا جهلة ، إنه سماني ظالما مشركا ، وتلا لهم قوله تعالى (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) وقوله تعالى (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) وقد زعم من لا يرى للجن ثوابا أنّ الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم ، وكفى به وعدا أن قال (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) فذكر سبب الثواب وموجبه ، والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد.

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً)(١٧)

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) أن مخففة من الثقيلة ، وهو من جملة الموحى. والمعنى : وأوحى إلىّ أن الشأن والحديث لو استقام الجن على الطريقة المثلى ، أى : لو ثبت أبوهم الجان على ما كان

__________________

(١) قوله «ولا رهق ظلم أحد» في الصحاح : رهقه بالكسر يرهقه رهقا ، أى : غشيه. (ع)

(٢) أخرجه ابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديث فضالة بن عبيد بهذا. وأتم منه. وفي الباب عن أبى هريرة بلفظ «المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» وأخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم. وعن أنس أخرجه ابن حبان والحاكم أيضا. وعن أبى مالك الأشعرى وواثلة بن الأسقع ، أخرجهما الطبراني مطولا. وأخرج حديث واثلة أبو يعلى. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه عبد بن حميد.

٦٢٨

عليه من عبادة الله والطاعة ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام ، لأنعمنا عليهم ولوسعنا رزقهم. وذكر الماء الغدق وهو الكثير بفتح الدال وكسرها. وقرئ بهما ، لأنه أصل المعاش وسعة الرزق (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خوّلوا منه. ويجوز أن يكون معناه : وأن لو استقام الجن الذين استمعوا على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاسماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لوسعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم ، لنفتنهم فيه : لتكون النعمة سببا في اتباعهم شهواتهم ، ووقوعهم في الفتنة ، وازديادهم إثما ، أو لنعذبهم في كفران النعمة (عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) عن عبادته أو عن موعظته أو عن وحيه (يَسْلُكْهُ) وقرئ بالنون مضمومة ومفتوحة ، أى : ندخله (عَذاباً) والأصل : نسلكه في عذاب ، كقوله (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) فعدّى إلى مفعولين : إمّا بحذف الجار وإيصال الفعل ، كقوله (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) وإمّا بتضمينه معنى «ندخله» يقال : سلكه وأسلكه. قال :

حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة (١)

والصعد : مصدر صعد ، يقال : صعد صعدا وصعودا ، فوصف به العذاب ، لأنه يتصعد المعذب أى يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. ومنه قول عمر رضى الله عنه : ما تصعدنى شيء ما تصعدتنى خطبة النكاح (٢) ، يريد : ما شق علىّ ولا غلبني.

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً)(١٨)

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ) من جملة الموحى. وقيل معناه : ولأن المساجد (لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا) على أنّ اللام متعلقة بلا تدعوا ، أى : فلا تدعوا (مَعَ اللهِ أَحَداً) في المساجد ، لأنها لله خاصة ولعبادته. وعن الحسن : يعنى الأرض كلها ، لأنها جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم مسجدا. وقيل : المراد بها المسجد الحرام ، لأنه قبلة المساجد. ومنه قوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) وعن قتادة : كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم أشركوا بالله ، فأمرنا أن نخلص لله الدعوة إذا دخلنا المساجد. وقيل : المساجد أعضاء السجود السبعة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أسجد على سبعة آراب : وهي الجبهة ، والأنف ، واليدان ،

__________________

(١) قوله «إذا أسلكوهم في قتائدة» في الصحاح : «قتائدة» اسم عقبة. قال عبد مناف بن ربع :

حتى إذا أسلكوهم في قتائدة

شلا كما تطرد الجمالة الشردا

والشل : الطرد. والشرد : جمع شارد ، كالخدم جمع خادم. (ع)

(٢) حدثني أبو عبيدة في الغريب من رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عمر بهذا ، وهو منقطع.

٦٢٩

والركبتان ، والقدمان (١)». وقيل : هي جمع مسجد وهو السجود.

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً)(١٩)

(عَبْدُ اللهِ) النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قلت : هلا قيل : رسول الله أو النبي؟ قلت : لأن تقديره : وأوحى إلىّ أنه لما قام عبد الله. فلما كان واقعا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه : جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل. أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله لله ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر ، حتى يكونوا عليه لبدا. ومعنى (قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) قام يعبده ، يريد : قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن فاستمعوا لقراءته صلى الله عليه وسلم (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أى يزدحمون عليه متراكمين تعجبا مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه به قائما وراكعا وساجدا ، وإعجابا بما تلا من القرآن ، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله ، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره. وقيل معناه : لما قام رسولا يعبد الله وحده مخالفا للمشركين في عبادتهم الآلهة من دونه : كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمين (لِبَداً) جمع لبدة وهو ما تلبد بعضه على بعض ، ومنها «لبدة الأسد» وقرئ : لبدا واللبدة في معنى اللبدة ، ولبدا : جمع لا بد ، كساجد وسجد. ولبدا بضمتين : جمع لبود ، كصبور وصبر. وعن قتادة : تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه. فأبى الله إلا أن ينصره ويظهره على من ناوأه. ومن قرأ : وإنه ، بالكسر : جعله من كلام الجن : قالوه لقومهم حين رجعوا إليهم حاكين ما رأوا من صلاته وازدحام أصحابه عليه في ائتمامهم به.

(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ

__________________

(١) أخرجه البزار من حديث العباس بهذا اللفظ ، لكن قال «الوجه عوض الجبهة والأنف» ورواه الأربعة في السنن من حديثه بلفظ «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب : وجهه وكفاه وقدماء وركبتاه» وفي الصحيحين عن ابن عباس مرفوعا «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم» وفي لفظ «أعضاء» وعند أبى داود «أمرت» وقال «أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة آراب»

٦٣٠

رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً)(٢٨)

(قُلْ) للمتظاهرين عليه (١) (إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) يريد : ما أتيتكم بأمر منكر ، إنما أعبد ربى وحده (وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) وليس ذاك مما يوجب إطباقكم على مقتى وعداوتي. أو قال للجن عند ازدحامهم متعجبين : ليس ما ترون من عبادتي الله ورفضى الإشراك به بأمر يتعجب منه ، إنما يتعجب ممن يدعو غير الله ويجعل له شريكا. أو قال الجن لقومهم ذلك حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَلا رَشَداً) ولا نفعا. أو أراد بالضر : الغىّ ، ويدل عليه قراءة أبىّ «غيا ولا رشدا» والمعنى : لا أستطيع أن أضركم وأن أنفعكم ، إنما الضارّ والنافع الله (٢). أو لا أستطيع أن أقسركم على الغىّ والرشد ، إنما القادر على ذلك الله عز وجل : و (إِلَّا بَلاغاً) استثناء منه. أى لا أملك إلا بلاغا من الله (٣). و (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي) جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفى الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه ، على معنى أنّ الله إن أراد به سوءا من مرض أو موت أو غيرهما : لم يصح أن يجيره منه أحد أو يجد من دونه ملاذا يأوى إليه : والملتحد الملتجأ ، وأصله المدّخل ، من اللحد. وقيل : محيصا ومعدلا. وقرئ : قال لا أملك ،

__________________

(١) قوله «قال للمتظاهرين عليه» هذه قراءة غير عاصم وحمزة ، كذا في النسفي ، وهو يفيد أن قراءتهما (قُلْ) بصيغة الأمر ، كأنه سقط من كلام المصنف ذكر هذه القراءة فليحرر.

(٢) قال محمود : «معناه أى لا أستطيع أن أنفعكم أو أضركم إنما النافع والضار الله عز وجل ... الخ» قال أحمد : في الآية دليل بين على أن الله تعالى هو الذي يملك لعباده الرشد والغى أى يخلقهما لا غير ، فان النبي صلى الله عليه وسلم إنما سلب ذلك عن قدر» ليمحض إضافته إلى قدرة الله وحده ، وفطن الزمخشري لذلك فأخذ يعمل الحبل ، فتارة يحمل الرشد على مطلق النفع ، فيضيف ذلك إلى الله تعالى ، وتارة يكنع عنه لأن فيه إبطالا لخصوصية الرشد المنصوص عليه في الآية ، فيثور له من تقليده الرأى الفاسد ثوائر تصرفه عن الحق وعن اعتقاد أن الله تعالى هو الذي يخلق الرشد لعبيده مقارنا لاختيارهم ، فيدخل زيادة القسر ، لأن معنى ما ورد من إضافة الرشد إلى قدرة انه تعالى عندهم أنه يخلق أن يخضع لها الرقاب ، فيخلق العبد لنفسه عند ظهورها رشدا. فيضاف إلى قدرة الله تعالى ، لأنه خلق السبب وهو في الحقيقة مخلوق بقدرة العبد «هذه قاعدة القدرية وعقيدتهم ، وما الجن بعد هذا إلا أوفر منهم عقلا وأسد منهم نظرا ، لأنهم قالوا : وأنا لا ندرى أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ، فأضافوا الرشد نفسه إلى إرادة الله عز وجل وقدرته.

(٣) قال محمود : «هو اعتراض. وقوله (إِلَّا بَلاغاً) استثناء من قوله (لا أَمْلِكُ) أى لا أملك لكم إلا بلاغا. وقيل بلاغا يدل من ملتحدا ... الخ» قال أحمد : فيكون تقدير الكلام : بلاغا من الله مستفادا من قوله (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً).

٦٣١

أى قال عبد الله للمشركين أو للجن. ويجوز أن يكون من حكاية الجن لقومهم. وقيل (بَلاغاً) بدل من (مُلْتَحَداً) أى : لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلنى به. وقيل : (إِلَّا) هي «إن لا» ومعناه : أن لا أبلغ بلاغا ، كقولك : إن لا قياما فقعودا (وَرِسالاتِهِ) عطف على بلاغا ، كأنه قيل : لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات. والمعنى : إلا أن أبلغ عن الله فأقول : قال الله كذا ، ناسبا لقوله إليه ، وأن أبلغ رسالاته التي أرسلنى بها من غير زيادة ولا نقصان. فإن قلت : ألا يقال : بلغ عنه. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «بلغوا عنى بلغوا عنى»؟ (١) قلت : من ليست بصلة للتبليغ ، إنما هي بمنزلة من في قوله (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) بمعنى بلاغا كائنا من الله. وقرئ : فأن له نار جهنم ، على : فجزاؤه أنّ له نار جهنم ، كقوله (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) أى : فحكمه أنّ لله خمسه. وقال (خالِدِينَ) حملا على معنى الجمع في من. فإن قلت : بم تعلق «حتى» ، وجعل ما بعده غاية له؟ قلت : بقوله (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ، ويستضعفون أنصاره ويستقلون عددهم (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) من يوم بدر وإظهار الله له عليهم. أو من يوم القيامة (فَسَيَعْلَمُونَ) حينئذ أنهم (أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال : من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده ، كأنه قال : لا يزالون على ما هم عليه (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) قال المشركون : متى يكون هذا الموعود؟ إنكارا له ، فقيل (قُلْ) إنه كائن لا ريب فيه ، فلا تنكروه ، فإن الله قد وعد ذلك وهو لا يخلف الميعاد. وأما وقته فما أدرى متى يكون ، لأنّ الله لم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة. فإن قلت : ما معنى قوله (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) والأمد يكون قريبا وبعيدا ألا ترى إلى قوله (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً)؟ قلت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقرب الموعد ، فكأنه قال : ما أدرى أهو حال متوقع في كل ساعة أم مؤجل ضربت له غاية أى : هو (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ) فلا يطلع. و (مِنْ رَسُولٍ) تبيين لمن ارتضى ، يعنى : أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي هو مصطفى للنبوة خاصة ، لا كل مرتضى. وفي هذا إبطال للكرامات (٢) ، لأنّ الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين ، فليسوا برسل (٣). وقد

__________________

(١) أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي بلفظ «بلغوا عنى ولو آية ... الحديث».

(٢) قوله «وفي هذا إبطال للكرامات» إبطالها مذهب المعتزلة ، وإثباتها مذهب أهل السنة ، وهي لا تنحصر في الاخبار بالغيب. (ع)

(٣) قال محمود : «إبطال للكرامات ، لأنه حصر ذلك في المرتضى من الرسل ، والولي وإن كان من المرتضين ... الخ» قال أحمد : ادعى عاما واستدل خاصا ، فان دعواه إبطال الكرامات بجميع أنواعها ، والمدلول عليه بالآية إبطال اطلاع الولي على الغيب خاصة ، ولا يكون كرامة وخارق للعادة إلا الاطلاع على الغيب لا غير ، وما القدرية إلا ولهم شبهة في إبطالها ، وذلك أن الله عز وجل لا يتخذ منهم وليا أبدا وهم لم يحدثوا بذلك عن أشياعهم ـ

٦٣٢

خصّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم ، لأنّ أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) يدي من ارتضى للرسالة (وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين يطردونهم عنه ويعصمونه من وساوسهم وتخاليطهم ، حتى يبلغ ما أوحى به إليه. وعن الضحاك : ما بعث نبىّ إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك (لِيَعْلَمَ) الله (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) يعنى الأنبياء : وحد أولا على اللفظ في قوله (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) ثم جمع على المعنى ، كقوله (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ) والمعنى : ليبلغوا رسالات ربهم كما هي ، محروسة من الزيادة والنقصان ، وذكر العلم كذكره في قوله تعالى (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ) وقرئ : ليعلم ، على البناء للمفعول (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) بما عند الرسل من الحكم والشرائع ، لا يفوته منها شيء ولا ينسى منها حرفا ، فهو مهيمن عليها حافظ لها (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) من القطر والرمل وورق الأشجار ، وزبد البحار ، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه. وعددا : حال ، أى : وضبط كل شيء معدودا محصورا. أو مصدر في معنى إحصاء.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الجن كان له بعدد كل جنى صدق محمدا صلى الله عليه وسلم وكذب به عتق رقبة» (١).

__________________

ـ فط ، فلا جرم أنهم يستمرون على الإنكار ولا يعلمون أن شرط الكرامة الولاية ، وهي مسلوبة عنهم اتفاقا وأما سلب الايمان فمسألة خلاف ، فما أطمع من يكون إيمانه مسألة خلاف وهو يريد الكرامة لأنه لم يؤتها والله الموفق.

(١) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب.

٦٣٣

سورة المزمل

مكية [إلا الآيات ١٠ و ١١ و ٢٠ فمدنية]

وآياتها ١٩ وقيل ٢٠ [نزلت بعد القلم]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)(٤)

(الْمُزَّمِّلُ) المتزمّل ، وهو الذي تزمّل في ثيابه : أى تلفف بها ، بإدغام التاء في الزاى : ونحوه : المدثر في المتدثر. وقرئ : المتزمّل على الأصل ؛ والمزمل بتخفيف الزاى وفتح الميم وكسرها. على أنه اسم فاعل أو مفعول ، من زمله ، وهو الذي زمله غيره أو زمل نفسه ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما بالليل متزمّلا في قطيفة ، فنبه ونودي بما يهجن إليه (١) الحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفته واستعداده للاستثقال في النوم ، كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن. ألا ترى إلى قول ذى الرمّة :

وكائن تخطّت ناقتي من مفازة

ومن نائم عن ليلها متزمّل (٢)

__________________

(١) قال محمود : «هو المتلفف في ثيابه كالمدثر ونودي بما يهجن إليه ... الخ» قال أحمد : أما قوله الأول أن نداءه بذلك تهجين للحالة التي ذكر أنه كان عليها واستشهاده بالأبيات المذكورة. فخطأ وسوء أدب. ومن اعتبر عادة خطاب الله تعالى له في الإكرام والاحترام : علم بطلان ما تخيله الزمخشري ، فقد قال العلماء : أنه لم يخاطب باسمه نداء ، وأن ذلك من خصائصه دون سائر الرسل إكراما له وتشريفا ، فأين تداؤه بصيغة مهجنة من نسائه ، باسمه ، واستشهاده على ذلك بأبيات قيلت ذما في جفاة حفاة من الرعاء ، فأنا أبرأ إلى الله من ذلك وأربأ به صلى الله عليه وسلم ، ولقد ذكرت بقوله :

أوردها سعد وسعد مشتمل

ما وقعت عليه من كلام ابن خروف النحوي يرد على الزمخشري ويخطئ رأيه في تصنيفه المفصل ، وإجحامه في الاختصار بمعاني كلام سيبويه ، حتى سماه ابن خروف : البرنامج ، وأنشد عليه :

أوردها سعد وسعد مشتمل

ما هكذا تورد يا سعد الإبل

وأما ما نقله أن ذلك كان في مرط عائشة رضى الله عنها فبعيد ، فان السورة مكية ، وبنى النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضى الله عنها بالمدينة. والصحيح في الآية ما ذكره آخرا ، لأن ذلك كان في بيت خديجة عند ما لقبه جبريل أول مرة ، فبذلك وردت الأحاديث الصحيحة ، والله أعلم.

(٢) لذي الرمة. وكائن : بمعنى كم الخيرية ، والأكثر استعمالها مع «من» كقول : وكائن من كذا. والمتزمل

٦٣٤

يريد : الكسلان المتقاعس الذي لا ينهض في معاظم الأمور وكفايات الخطوب ، ولا يحمل نفسه المشاق والمتاعب ، ونحوه :

فأنت به حوش الفؤاد سبطّنا

سهدا إذا ما نام ليل الهوجل (١)

وفي أمثالهم :

أوردها سعد وسعد مشتمل

ما هكذا تورد يا سعد الإبل (٢)

__________________

ـ المتلفف في ثيابه عند كثرة النوم ، يقول : كثيرا من المفاوز تخطته ناقتي وسارته ، وكثيرا من نائم وغافل عن ليلها ـ أى : المفازة أو الناقة ـ متكاسل عما فيه من عظائم الأمور ، فالمتزمل كناية عن ذلك.

(١) ولقد سربت على الظلام بمغشم

جلد من الفتيان غير مثقل

ممن حملن به وهن عواقد

حبك النطاق فشب غير مهبل

ومبرأ من كل غير حيضة

وفساد مرضعة وداء مغيل

حملت به في ليلة مزؤدة

كرها وعقد نطاقها لم يحلل

فأتت به حوش الفؤاد مبطنا

سهدا إذا ما نام ليل الهوجل

لأبى كبير الهذلي يصف مأبط شرا ، واسمه : جابر بن ثابت ، تزوج الهذلي بأمه بعد جابر فخاف منه ، فأغرته على قتله فخرج به متحيلا لذلك فلم يقدر ، فمدحه بالشجاعة والفطنة : يقول : سرت ليلا في الظلمة بمغشم ، أى مع فتى يقدم على الأمر بلا مبالاة ولا تدبير ولا خوف عاقبة ، مع جراءة ، جلد ، أى : صلب صبور غير مثقل ، أى : خفيف في السير منزه عن كل ما يوجب الضعف والثباطؤ ، وبينه بقوله : ممن حملن. أى : هو ممن حملن ، أى جنس النسوة به ، أو هو بعض الفتيان الذين حملت بهم النسوة ، وأفرد ضمير «به» مراعاة للفظ «من» وضمن العمل معنى العلوق ، فعداه بالباء ، وإلا فهو يتعدى بنفسه. والحبك : جمع حباك كخزام. أو جمع حبيك أو حبيكة ، وهو الخيوط التي يحبك بها النطاق. والمهبل : المدعو عليه بالهبل ، أى ، الثكل والفقد. والغبر ـ بالضم فالتشديد ـ : بقية الحيض وغيره ، وكذلك الغبر ـ بالضم وبالفتح مع السكون. والغابر : الباقي والذاهب. ويجوز أن غبر : جمع غابر ، وغبر يغبر غبورا ـ كدخل ـ : بقي وذهب ، أى : لم تحمل به أمه في زمن بقية الحيض. ومرضع : من الصفات المختصة بالمؤنث ، والغالب تجريدها من التاء ، فما هنا على خلاف الغالب. والغيلة : إحبال الرجل امرأته وهي ترضع ولدها : فيمرض ، فالمغيل : الممرض بالغيلة. وفي حديث مسلم : لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم ، وكان القياس في مغيل إعلاله كمقيم ومبين ومعين ، لكن جاء على الأصل شذوذا للضرورة ، وروى معضل ، أى معى ومعجز للأطباء. وزأده ـ كذعره : إذا خوفه ، فهو مزؤود ومذعور فالمزءودة : المخوفة ، وتخويف الليلة مجاز عقلى : كشربت الكوز. والخوف في الحقيقة المرأة. ويروى بالنصب على الحال ، لكن يضيع ذكر ليلة ، إلا أن يقدر وصفها بمظلمة ، والنطاق : ما يشد به الوسط. وحوش الفؤاد بالضم وحشى القلب لحدته وتوقده ونفوره عن الناس. والرجل الحوش والحوشى : الذي يجانب الناس مبطنا خميص البطن منضمره : سهدا ـ بضمتين ـ : كثير السهاد أى السهر : وإسناد النوم إلى الليل مجاز عقلى ، وإنما النائم الهوجل : وهو الرجل الطويل الأحمق ، ومن تجربة العرب : أن المرأة إذا حملت بولدها كارهة غير مستعدة للوطء : جاء ولدها نجيبا ، حكى عن أم تأبط شرا أنها قالت فيه : والله إنه الشيطان ، ما رأيته ضاحكا قط ، ولا هم بشيء في صباء إلا فعله ، ولقد حملت به في ليلة ظلماء ، وإن نطاقى لمشدود ، وذلك يدل على نجابته وشجاعته.

(٢) لمالك بن زيد مناة يخاطب أخاه ، وكان قد بنى على امرأته فلم يحسن سعد القيام بأمر الإبل ، فقال : أوردها

٦٣٥

فذمه بالاشتمال بكسائه ، وجعل ذلك خلاف الجلد والكبس ، وأمر بأن يختار على الهجود التهجد ، وعلى التزمل التشمر ، والتخفف للعبادة والمجاهدة في الله ، لا جرم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تشمر لذلك مع أصحابه حق التشمر ، وأقبلوا على إحياء لياليهم ، ورفضوا له الرقاد والدعة ، وتجاهدوا فيه حتى انتفخت أقدامهم واصفرت ألوانهم ، وظهرت السيمى في وجوههم وترامى أمرهم إلى حد رحمهم له ربهم ، فخفف عنهم. وقيل : كان متزملا في مرط لعائشة (١) يصلى ، فهو على هذا ليس بتهجين ، بل هو ثناء عليه وتحسين لحاله التي كان عليها ، وأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه. وعن عائشة رضى الله عنها : أنها سئلت ما كان تزميله؟ قالت : كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا نصفه علىّ وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلى ، فسئلت : ما كان؟ قالت : والله ما كان خزا ولا قزا ولا مرعزى (٢) ولا إبريسما ولا صوفا : كان سداه شعرا ولحمته وبرا (٣). وقيل : دخل على خديجة ، وقد جئث فرقا (٤) أول ما أتاه جبريل وبوادره ترعد ، فقال : زملوني زملوني ، وحسب أنه عرض له ، فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبريل : يا أيها المزمل (٥). وعن عكرمة : أنّ المعنى : يا أيها الذي زمل أمرا عظيما ، أى : حمله. والزمل : الحمل. وازدمله : احتمله. وقرئ : قم الليل بضم الميم وفتحها. قال عثمان بن جنى : الغرض بهذه الحركة التبلغ بها هربا من التقاء الساكنين ، فبأى الحركات تحرّك فقد وقع الغرض (نِصْفَهُ) بدل من الليل. وإلا قليلا : استثناء من النصف ، كأنه قال : قم أقل من نصف الليل. والضمير في منه وعليه للنصف ، والمعنى : التخيير بين أمرين ، بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه. وإن شئت جعلت

__________________

ـ سعد إلى الماء والحال أنه مشتمل متلفف بثيابه لا متشمر. وذكر الظاهر مكان المضمر : فيه نوع من التوبيخ. ما هكذا تورد ، أى : تساق إلى الماء ، وكان معرضا عنه فالتفت إليه ونداؤه نداء البعيد : دلالة على أنه بليد. وحق هاء التنبيه : الدخول على اسم الاشارة ، لكن قدمت على كاف التشبيه مبادرة واهتماما بالتنبيه. ويروى بدل الشطر الثاني : يا سعد ما تروى بهذا كالإبل. وهذاك اسم إشارة ، وصار هذا البيت يضرب مثلا لكل من لم يحسن القيام بشأن ما تولاه.

(١) قوله «وقيل كان متزملا في مرط لعائشة» كيف والسورة مكية. (ع)

(٢) قوله «ولا مرعزى» المرعزى الزغب الذي تحت شعر العنز اه صحاح. (ع)

(٣) لم أره هكذا ومن قوله «ما كان خزا» رواه البيهقي في الدعوات من حديثها في ليلة النصف من شعبان «انسل النبي صلى الله عليه وسلم من مرطى. ثم قالت : والله ما كان مرطى من حرير ولا قز. ولا كتان ولا كرسف ولا صوف. فقلنا : من أى شيء كان؟ قالت : إن كان سداه لمن شعر وإن كانت لحمته لمن وبر».

(٤) «قوله وقد جئث فرقا» أى أفزع ، فهو مجؤوث : أى مذعور ، كذا في الصحاح. وفيه البوادر من الإنسان وغيره : اللحمة التي بين المنكب والعنق. (ع)

(٥) لم أره هكذا. وأصله في الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها.

٦٣٦

نصفه بدلا من قليلا ، وكان تخييرا بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص منه وبين قيام الزائد عليه ، وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل ، وإن شئت قلت : لما كان معنى (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ) إذا أبدلت النصف من الليل ، قم أقل من نصف الليل ، رجع الضمير في منه وعليه إلى الأقل من النصف ، فكأنه قيل : قم أقل من نصف الليل. أو : قم أنقص من ذلك الأقل أو أزيد منه قليلا ، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث. ويجوز إذا أبدلت نصفه من قليلا وفسرته به أن تجعل قليلا الثاني بمعنى نصف النصف : وهو الربع ، كأنه قيل. أو انقص منه قليلا نصفه. وتجعل المزيد على هذا القليل ، أعنى الربع ، نصف الربع كأنه قيل : أو زد عليه قليلا نصفه. ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث ، فيكون تخييرا بين النصف والثلث والربع. فإن قلت : أكان القيام فرضا أم نفلا؟ قلت : عن عائشة رضى الله عنها أنّ الله جعله تطوّعا بعد أن كان فريضة. وقيل : كان فرضا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ، ثم نسخ بهنّ إلا ما تطوّعوا به. وعن الحسن : كان قيام ثلث الليل فريضة ، وكانوا على ذلك سنة. وقيل : كان واجبا ، وإنما وقع التخيير في المقدار ، ثم نسخ بعد عشر سنين. وعن الكلبي : كان يقوم الرجل حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين ، ومنهم من قال : كان نفلا بدليل التخيير في المقدار ، ولقوله تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ). ترتيل القرآن : قراءته على ترسل وتؤدة بتبيين الحروف وإشباع الحركات ، حتى يجيء المتلوّ منه شبيها بالثغر المرتل : وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان ، وألا يهذه هذا ولا يسرده سردا (١) ، كما قال عمر رضى الله عنه : شر السير الحقحقة. وشر القراءة الهذرمة ، حتى يشبه المتلو في تتابعه الثغر الألص (٢). وسئلت عائشة رضى الله عنها عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت : لا كسردكم هذا ، لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها. و (تَرْتِيلاً) تأكيد في إيجاب الأمر به ، وأنه ما لا بد منه للقارئ.

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)(٥)

هذه الآية اعتراض ، ويعنى بالقول الثقيل : القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي

__________________

(١) قوله «وأن لا يهذّه هذّا ولا يسرده» الهذ : الاسراع. والسرد : التتابع. والحقحقة : شدة السير. والألص : متقارب الأسنان. أفاده الصحاح. وفيه «الهذرمة» سرعة القراءة. (ع)

(٢) لم أره عنه من رواية منصور ، وإنما قال أبو عبيد بن قتيبة في الغريب قال عمر «شر القراءة الهزرمة» وأخرجه الخطيب في الجامع من رواية منصور بن جعفر قال : قرأت على أبى محمد بن درستويه. قال : قرأنا على ابن قتيبة بهذا وروى ابن المبارك في الزهد من رواية الحسن قال «كان يقال : شر السير الجعجعة» ورواه ابن عدى مرفوعا من رواية الحسن بن دينار عن الحسن بن أبى هريرة. والحسن بن دينار ضعيف.

٦٣٧

تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين ، خاصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه متحملها بنفسه ومحملها أمته ، فهي أثقل عليه وأبهظ له ، وأراد بهذا الاعتراض : أن ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن ، لأنّ الليل وقت السبات والراحة والهدوء فلا بد لمن أحياه من مضادة لطبعه ومجاهدة لنفسه. وعن ابن عباس رضى الله عنه : كان إذا نزل عليه الوحى ثقل عليه (١) وتربد له (٢) جلده. وعن عائشة رضى الله عنها : رأيته ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليرفض عرقا (٣). وعن الحسن : ثقيل في الميزان. وقيل : ثقيل على المنافقين. وقيل : كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف.

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً)(٦)

(ناشِئَةَ اللَّيْلِ) النفس الناشئة بالليل ، التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة (٤) ، أى: تنهض وترتفع ، من نشأت السحابة : إذا ارتفعت. ونشأ من مكانه ونشز : إذا نهض ، قال :

نشأنا إلى خوص برى نيّها السّرى

وألصق منها مشرفات القماحد (٥)

وقيام الليل ، على أنّ الناشئة مصدر من نشأ إذا قام ونهض على فاعلة : كالعاقبة. ويدل عليه ما روى عن عبيد بن عمير : قلت لعائشة : رجل قام من أوّل الليل ، أتقولين له قام ناشئة؟ قالت لا ، إنما الناشئة القيام بعد النوم. ففسرت الناشئة بالقيام عن المضجع أو العبادة التي تنشأ بالليل ، أى : تحدث ، وترتفع. وقيل : هي ساعات الليل كلها ، لأنها تحدث واحدة بعد أخرى. وقيل : الساعات الأول منه. وعن على بن الحسين رضى الله عنهما أنه كان يصلى بين المغرب والعشاء ويقول : أما سمعتم قول الله تعالى (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) هذه ناشئة الليل (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) هي خاصة دون ناشئة النهار ، أشدّ مواطأة يواطئ قلبها لسانها : إن أردت النفس. أو يواطئ فيها قلب

__________________

(١) أخرجه أحمد من حديث ابن عباس في قصة ابن أمية. قال «وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى عرفوا ذلك في تربد جلده» وأبو نعيم في الدلائل «كان إذا نزل عليه الوحى تربد له وجهه وجسده» وفي الباب حديث عبادة بن الصامت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى كرب لذلك وتربد وجهه.

(٢) قوله «وتربد» أى تعبس. (ع)

(٣) متفق عليه من حديث عائشة.

(٤) قال محمود : «قيل الناشئة النفس القائمة بالليل التي تنشأ عن مضجعها ... الخ» قال أحمد : فان حملت الناشئة على النفس فاضافة المواطأة إليها حقيقة ، وإن حملتها على الساعات أو المصدر فهو من الاتساع المجازى

(٥) نشأنا : نهضنا. والخوص ـ جمع خوصاء : الناقة المرتفعة الأعلى ، الضخمة الأسفل. والى : الشحم. والسرى : سير الليل. والقماحد : جمع قمحدوة : وهي أعلى عظم الرأس. يقول : نهضنا إلى نوق عظيمة أذاب شحمها سير الليل ، وألصق عظام رأسها بعضها ببعض ، كناية عن تمرنها على السير واعتيادها له.

٦٣٨

القائم لسانه : إن أردت القيام أو العبادة أو الساعات. أو أشدّ موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص. وعن الحسن : أشدّ موافقة بين السر والعلانية ، لانقطاع رؤية الخلائق. وقرئ : أشدّ وطأ بالفتح والكسر. والمعنى : أشد ثبات قدم وأبعد من الزلل. أو أثقل وأغلظ على المصلى من صلاة النهار ، من قوله عليه السلام «اللهم اشدد وطأتك على مضر» (١) (وَأَقْوَمُ قِيلاً) وأسد مقالا وأثبت قراءة لهدوّ الأصوات. وعن أنس رضى الله عنه أنه قرأ : وأصوب قيلا ، فقيل له : يا أبا حمزة ، إنما هي : وأقوم ، فقال : إنّ أقوم وأصوب وأهيأ واحد. وروى أبو زيد الأنصارى عن أبى سرار الغنوي أنه كان يقرأ : فحاسوا ، محاء غير معجمة ، فقيل له : إنما هو (فَجاسُوا) بالجيم ، فقال : وجاسوا وحاسوا واحد.

(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً)(٧)

(سَبْحاً) تصرفا وتقلبا في مهماتك وشواغلك ، ولا تفرغ إلا بالليل ، فعليك بمناجاة الله التي تقتضي فراغ البال وانتفاء الشواغل. وأما القراءة بالخاء. فاستعارة من سبخ الصوف : وهو نفشه ونشر أجزائه ، لانتشار الهم وتفرّق القلب بالشواغل : كلفه قيام الليل ، ثم ذكر الحكمة فيما كلفه منه : وهو أن الليل أعون على المواطأة وأشد للقراءة ، لهدوّ الرجل وخفوت الصوت : وأنه أجمع للقلب وأضم لنشر الهم من النهار ، لأنه وقت تفرق الهموم وتوزع الخواطر والتقلب في حوائج المعاش والمعاد. وقيل : فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك. وقيل : إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً)(١٠)

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) ودم على ذكره في ليلك ونهارك ، واحرص عليه. وذكر الله يتناول كل ما كان من ذكر طيب : تسبيح ، وتهليل ، وتكبير ، وتمجيد ، وتوحيد ، وصلاة ، وتلاوة قرآن ، ودراسة علم ، وغير ذلك مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغرق به ساعة ليله ونهاره (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ) وانقطع إليه. فإن قلت : كيف قيل (تَبْتِيلاً) مكان تبتلا؟ قلت : لأن معنى تبتل بتل نفسه ، فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) قرئ مرفوعا على المدح ، ومجرورا على البدل من ربك. وعن ابن عباس : على القسم بإضمار حرف

__________________

(١) متفق عليه من حديث أبى هريرة ، وقد تقدم في الأنبياء.

٦٣٩

القسم ، كقولك : الله لأفعلنّ ، وجوابه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كما تقول : والله لا أحد في الدار إلا زيد. وقرأ ابن عباس : رب المشارق والمغارب (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) مسبب على التهليلة ، لأنه هو وحده هو الذي (١) يجب لتوحده بالربوبية أن توكل إليه الأمور. وقيل (وَكِيلاً) : كفيلا بما وعدك من النصر والإظهار. الهجر الجميل : أن يجانبهم بقلبه وهواه ، ويخالفهم مع حسن المخالقة والمداراة والإغضاء وترك المكافأة. وعن أبى الدرداء رضى الله عنه: إنا لنكشر في وجوه قوم ونضحك إليهم ، وإن قلوبنا لتقليهم (٢). وقيل : هو منسوخ بآية السيف.

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً)(١٤)

إذا عرف الرجل من صاحبه أنه مستهم بخطب يريد أن يكفاه ، أو بعدوّ يشتهى أن ينتقم له منه وهو مضطلع بذلك مقتدر عليه قال : ذرني وإياه ، أى : لا تحتاج إلى الظفر (٣) بمرادك ومشتهاك ، إلا أن تخلى بيني وبينه بأن تكل أمره إلىّ وتستكفينيه ، فإنّ فىّ ما يفرغ بالك ويجلى همك ، وليس ثم منع حتى يطلب إليه أن يذره وإياه إلا ترك الاستكفاء والتفويض ، كأنه إذا لم يكل أمره إليه ، فكأنه منعه منه ، فإذا وكله إليه فقد أزال المنع وتركه وإياه ، وفيه دليل على الوثوق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما تدور حوله أمنية المخاطب وبما يزيد عليه. النعمة ـ بالفتح ـ التنعم ، وبالكسر : الإنعام ، وبالضم : المسرة ، يقال : نعم ، ونعمة عين ، وهم صناديد قريش ، وكانوا أهل تنعم وترفه (إِنَّ لَدَيْنا) ما يضاد تنعمهم من أنكال : وهي القيود الثقال : عن الشعبي ، إذا ارتفعوا استقلت بهم. الواحد : نكل ونكل. ومن جحيم : وهي النار الشديدة الحر والاتقاد. ومن طعام ذى غصة وهو الذي ينشب في الحلوق فلا يساغ يعنى الضريع وشجر الزقوم. ومن عذاب أليم من سائر العذاب فلا ترى موكولا إليه أمرهم موذورا بينه وبينهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام. وروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق (٤). وعن

__________________

(١) قوله «هو الذي» لعله «الذي» بدون : هو. (ع)

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه تعليقا في الأدب : ويذكر عن أبى الدرداء. ووصله البيهقي في الشعب في السادس والخميسين من طريق أبى الأحوص يعنى ولد أحوص بن حكم عن أبى الزهراء قال قال أبو الدرداء. ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة أبى الدرداء من طريق سفيان عن خلف بن حوشب قال قال أبو الدرداء مثل رواية البيهقي.

(٣) قوله «لا تحتاج إلى الظفر» لعله : في الظفر. (ع)

(٤) أخرجه أحمد في الزهد والطبري من طريق وكيع عن حمزة الزيات عن حمران بن أعين «أن النبي صلى الله ـ

٦٤٠