الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب (١) بين عينيه : آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا ، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة» وقيل : لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم قربى ، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه نزلت. والمعنى : إلا أن تودوني في القربى ، أى : في حق القربى ومن أجلها ، كما تقول : الحب في الله والبغض في الله ، بمعنى : في حقه ومن أجله ، يعنى : أنكم قومي وأحق من أجابنى وأطاعنى ، فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذوني ولا تهيجوا علىّ. وقيل : أتت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال جمعوه وقالوا : يا رسول الله ، قد هدانا الله بك وأنت ابن أختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة ، فاستعن بهذا على ما ينوبك (٢) ، فنزلت وردّه. وقيل (الْقُرْبى) : التقرب إلى الله تعالى ، أى : إلا أن تحبوا الله ورسوله في تقرّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح. وقرئ : إلا مودّة في القربى (مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) عن السدّى أنها المودّة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم : نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه ومودّته فيهم. والظاهر : العموم في أى حسنة كانت ، إلا أنها لما ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى : دل ذلك على أنها تناولت المودّة تناولا أوّليا ، كأنّ سائر الحسنات لها توابع. وقرئ : يزد ، أى : يزد الله. وزيادة حسنها من جهة الله مضاعفتها ، كقوله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) وقرئ : حسنى ، وهي مصدر كالبشرى ، الشكور في صفة الله : مجاز للاعتداد بالطاعة ، وتوفية ثوابها ، والتفضل على المثاب.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٢٤)

(أَمْ) منقطعة. ومعنى الهمزة فيه التوبيخ (٣) ، كأنه قيل : أيتما لكون أن ينسبوا مثله إلى الافتراء ، ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم ، حتى تفترى عليه الكذب فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم ، وهذا الأسلوب مؤدّاه استبعاد الافتراء من مثله ،

__________________

(١) قوله «مكتوب بين عينيه» لعله : مكتوبا. (ع)

(٢) ذكره الثعلبي والواحدي في الأسباب عن ابن عباس بغير سند. ويشبه أن يكون عن الكلبي عن أبى صالح عنه. وروى الطبراني من طريق عثمان بن القطان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأخرجه ابن مردويه عنه.

(٣) قوله «ومعنى الهمزة فيه التوبيخ» لعله : فيها. (ع)

٢٢١

وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم. ومثال هذا : أن يخوّن بغض الأمناء فيقول لعل الله خذلنى ، لعل الله أعمى قلبي ، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب. وإنما يريد استبعاد أن يخوّن مثله ، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم ، ثم قال : ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق (بِكَلِماتِهِ) بوحيه أو بقضائه كقوله تعالى (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) يعنى : لو كان مفتريا كما تزعمون لكشف الله افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه. ويجوز أن يكون عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت (١) والتكذيب ، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مردّ له من نصرتك عليهم ، إنّ الله عليم بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك. وعن قتادة (يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) : ينسك القرآن ويقطع عنك الوحى ، يعنى : لو افترى على الله الكذب لفعل به ذلك ، وقيل (يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) : يربط عليه بالصبر ، حتى لا يشق عليك أذاهم. فإن قلت : إن كان قوله (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) كلاما مبتدأ غير معطوف على يختم ، فما بال الواو ساقطة في الخط؟ قلت : كما سقطت في قوله تعالى (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) وقوله تعالى (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) على أنها مثبتة في بعض المصاحف.

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ)(٢٥)

يقال : قبلت منه الشيء ، وقبلته عنه. فمعنى قبلته منه : أخذته منه وجعلته مبدأ قبولى ومنشأه. ومعنى : قبلته عنه : عزلته عنه وأبنته عنه. والتوبة : أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب بالندم عليهما والعزم على أن لا يعاود ، لأنّ المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب. وإن كان فيه لعبد حق : لم يكن بد من التفصي على طريقه ، وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك ، وكبر ، فلما فرغ من صلاته قال له على رضى الله عنه : يا هذا ، إنّ سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين ، وتوبتك تحتاج إلى التوبة. فقال : يا أمير المؤمنين ، وما التوبة؟ قال : اسم يقع على ستة معان : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، وردّ المظالم ، وإذا به النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية ، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) عن الكبائر إذا تيب عنها ، وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ). قرئ بالتاء والياء : أى : يعلمه فيثيب على حسناته ، ويعاقب على سيئاته.

__________________

(١) قوله «من البهت» أى : اتهام الإنسان بما ليس فيه ، (ع)

٢٢٢

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ)(٢٦)

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) أى يستجيب لهم ، فحذف اللام كما حذف في قوله تعالى (وَإِذا كالُوهُمْ) أى يثيبهم على طاعتهم ويزيدهم على الثواب تفضلا ، أو إذا دعوه استجاب دعاءهم وأعطاهم ما طلبوا وزادهم على مطلوبهم. وقيل : الاستجابة : فعلهم ، أى يستجيبون له بالطاعة إذا دعاهم إليها (وَيَزِيدُهُمْ) هو (مِنْ فَضْلِهِ) على ثوابهم. وعن سعيد بن جبير : هذا من فعلهم : يجيبونه إذا دعاهم. وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له : ما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال : لأنه دعاكم فلم تجيبوه ، ثم قرأ (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) ، (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا).

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)(٢٧)

(لَبَغَوْا) من البغي وهو الظلم ، أى : لبغى هذا على ذاك ، وذاك على هذا ، لأنّ الغنى مبطرة مأشرة (١) ، وكفى بحال قارون عبرة. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «أخوف ما أخاف على أمّتى زهرة الدنيا وكثرتها» (٢) ولبعض العرب :

وقد جعل الوسمىّ ينبت بيننا

وبين بنى رومان نبعا وشوحطا (٣)

يعنى : أنهم أحيوا فحدّثوا أنفسهم بالبغي والتفانن. أو من البغي وهو البذخ والكبر ، أى : لتكبروا في الأرض ، وفعلوا ما يتبع الكبر من الغلو فيها والفساد. وقيل : نزلت في قوم من أهل الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى. قال خباب ابن الأرت : فينا نزلت ، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع فتمنيناها (بِقَدَرٍ) بتقدير. يقال قدره قدرا

__________________

(١) قوله «مبطرة مأشرة» في الصحاح : الأشر : البطر. (ع)

(٢) أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال. ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. بهذا ـ وزاد «وكان يقال خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك» وفي الصحيحين من حديث أبى سعيد الخدري. بلفظ «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا»

(٣) يروى : وقد جعل الوسمي أول مطر السنة ، لأنه يسم الأرض بالنبات. والنبع : شجر تتخذ منه القسي. والشوحط مثله ، أى : قد يشرع المطر في إنبات الأشجار بيننا وبينهم. والمعنى : أنهم يطلبون الاقامة حتى تعظم الأشجار بينهم لأنهم أغنياء لا يكثرون الارتحال كغيرهم. أو المعنى : أنهم كانوا إذا جاء الربيع وبلغت تلك الأشجار يتخذون منها الرماح والقسي ، ويتحاربون. فالكلام كناية عن انتشاب الحرب بين القبيلتين ، وهذا هو الذي يعطيه السياق ، وذكر البينية ، وتخصيص ذلك الشجر.

٢٢٣

وقدرا. (خَبِيرٌ بَصِيرٌ) يعرف ما يؤول إليه أحوالهم ، فيقدّر لهم ما هو أصلح لهم وأقرب إلى جمع شملهم ، فيفقر ويغنى ، ويمنع ويعطى ، ويقبض ويبسط كما توجبه الحكمة الربانية. ولو أغناهم جميعا لبغوا ، ولو أفقرهم لهلكوا. فإن قلت : قد نرى الناس يبغى بعضهم على بعض ، ومنهم مبسوط لهم ، ومنهم مقبوض عنهم ، فإن كان المبسوط لهم يبغون ، فلم بسط لهم : وإن كان المقبوض عنهم يبغون فقد يكون البغي بدون البسط ، فلم شرطه؟ قلت : لا شبهة في أنّ البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب ، وكلاهما سبب ظاهر للإقدام على البغي والإحجام عنه ، فلو عم البسط لغلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه (١) الآن.

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)(٢٨)

قرئ : قنطوا بفتح النون وكسرها (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أى : بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب. وعن عمر رضى الله عنه أنه قيل له : اشتدّ القحط وقنط الناس (٢) فقال : مطروا إذا : أراد هذه الآية. ويجوز أن يريد رحمته في كل شيء ، كأنه قال : ينزل الرحمة التي هي الغيث ، وينشر غيرها من رحمته الواسعة (الْوَلِيُ) الذي يتولى عباده بإحسانه (الْحَمِيدُ) المحمود على ذلك يحمده أهل طاعته.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ)(٢٩)

(وَما بَثَ) يجوز أن يكون مرفوعا ومجرورا يحمل على المضاف إليه أو المضاف. فإن قلت : لم جاز (فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) والدواب في الأرض وحدها؟ قلت : يجوز أن ينسب الشيء إلى جميع المذكور وإن كان ملتبسا ببعضه ، كما يقال : بنو تميم فيهم شاعر مجيد أو شجاع بطل ، وإنما هو في فخذ (٣) من أفخاذهم أو فصيلة من فصائلهم ، وبنو فلان فعلوا كذا ، وإنما فعله نويس

__________________

(١) قوله «عكس ما عليه الآن» لعله : ما هو عليه. (ع)

(٢) أخرجه الثعلبي من طريق قتادة قال «ذكر لنا» فذكره بتمامه. ورواه باختصار عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال «ذكر لنا أن رجلا أتى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين. قحط المطر وقنط الناس. فقال : مطروا إذن».

(٣) قوله «فخذ» العشائر أقلها الفخذ ، وفوقه البطن ، ثم العمارة ، ثم الفصيلة ، ثم القبيلة ، ثم الشعب. فهو أكثرها. أفاده الصحاح. (ع)

٢٢٤

منهم. ومنه قوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) وإنما يخرج من الملح (١). ويجوز أن يكون للملائكة عليهم السلام مشى مع الطيران. فيوصفوا بالدبيب كما يوصف به الأناسى. ولا يبعد أن يخلق في السماوات حيوانا يمشى فيها مشى الأناسى على الأرض ، سبحان الذي خلق ما نعلم وما لا نعلم من أصناف الخلق. (إِذا) يدخل على المضارع كما يدخل على الماضي. قال الله تعالى (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) ومنه (إِذا يَشاءُ) وقال الشاعر:

وإذا ما أشاء أبعث منها

آخر اللّيل ناشطا مذعورا (٢)

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(٣١)

في مصاحف أهل العراق (فَبِما كَسَبَتْ) بإثبات الفاء على تضمين «ما» معنى الشرط. وفي مصاحف أهل المدينة «بما كسبت» بغير فاء ، على أنّ «ما» مبتدأة ، وبما كسبت : خبرها من غير تضمين معنى الشرط. والآية مخصوصة بالمجرمين ، (٣) ولا يمتنع أن يستوفى الله بعض عقاب المجرم ويعفو

__________________

(١) قال محمود : «فان قلت : لم جاز فيهما من دابة والدواب في الأرض وحدها؟ وأجاب بأنه يجوز أن ينسب الشيء إلى جميع المذكور وإن كان لبعضه ، كقوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) وإنما يخرج من الملح ... الخ» قال أحمد : إطلاق الدواب على الأناسى بعيد من عرف اللغة ، فكيف في إطلاقه على الملائكة. والصواب ـ والله أعلم ـ : هو الوجه الأول ، وقد جاء مفسرا في غير ما آية ، كقوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ثم قال (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) فخص هذا الأمر بالأرض ، والله أعلم.

(٢) إذا : ظرف للمستقبل ، فإذا دخل عليه الماضي كان مستقبلا ، أو المضارع كان نصا في الاستقبال ، وجرد من الناقة أمرا آخر لشدة سيرها ، فلذلك قال : منها. وأصل المعنى : أبعثها في آخر الليل كالناشط ، وهو الثور الوحشي يخرج من أرض إلى أخرى ، والمذعور : الخائف وهو كناية عن سريع السير جدا.

(٣) قال محمود : «الآية مخصوصة بالمجرمين ... الخ» قال أحمد : هذه الآية تنكسر عندها القدرية ولا يمكنهم ترويج حيلة في صرفها عن مقتضى نصها ، فإنهم حملوا قوله تعالى (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) على التائب ، وهو غير ممكن لهم هاهنا ، فانه قد أثبت التبعيض في العفو ، ومحال عندهم أن يكون العفو هنا مقرونا بالتوبة ، فانه يلزم تبعيض التوبة أيضا. وهي عندهم لا تتبعض. وكذلك نقل الامام عن أبى هاشم وهو رأس الاعتزال والذي تولى كبره منهم. فلا محمل لها إلا الحق الذي لا مرية فيه ، وهو مرد العفو إلى مشيئة الله تعالى غير موقوف على التوبة. وقول الزمخشري إن الآلام التي تصيب الأطفال والمجانين لها أعواض ، إنما يريد به وجوب العوض على الله تعالى على سياق معتقده ، وقد أخطأ على الأصل والفرع ، لأن المعتزلة وإن أخطأت في إيجاب العوض ، فلم تقل بإيجابه في الأطفال والمجانين. ألا ترى أن القاضي أبا بكر ألزمهم قبح إيلام البهائم والأطفال والمجانين فقال : لا أعواض لها ، وليس مترتبا على استحقاق سابق فيحسن ، فإنما يتم إلزامه بموافقتهم له على أن لا أعواض لها.

٢٢٥

عن بعض. فأمّا من لا جرم له كالأنبياء والأطفال والمجانين ، فهؤلاء إذا أصابهم شيء من ألم أو غيره فللعوض الموفى والمصلحة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ، ولما يعفو الله عنه أكثر» (١) وعن بعضهم : من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه ، وأنّ ما عفا عنه مولاه أكثر : كان قليل النظر في إحسان ربه إليه. وعن آخر : العبد ملازم للجنايات في كل أوان ، وجناياته في طاعاته أكثر من جناياته في معاصيه ، لأنّ جناية المعصية من وجه وجناية الطاعة من وجوه ، والله يطهر عبده من جناياته بأنواع من المصائب ليخفف عنه أثقاله في القيامة ، ولو لا عفوه ورحمته لهلك في أوّل خطوة : وعن على رضى الله عنه وقد رفعه : من «عفى عنه في الدنيا عفى عنه في الآخرة (٢) ومن عوقب في الدنيا لم تثن عليه العقوبة في الآخرة» وعنه رضى الله عنه : هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن (بِمُعْجِزِينَ) بفائتين ما قضى عليكم من المصائب (مِنْ وَلِيٍ) من متول بالرحمة.

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ)(٣٤)

(الْجَوارِ) : السفن. وقرئ : الجوار (كَالْأَعْلامِ) كالجبال. قالت الخنساء :

كأنّه علم في رأسه نار (٣)

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق وابن أبى حاتم من طريق إسماعيل بن سليم عن الحسن والطبري والبيهقي في أواخر الشعب. عن قتادة كلاهما مرسل. ووصله عبد الرزاق من رواية الصلت بن بهرام عن أبى وائل عن البراء رضى الله عنه

(٢) أخرجه ابن ماجة من رواية أبى جحيفة عن على رفعه. بلفظ : من أصاب ذنبا في الدنيا فعوقب به ، فالله أعدل من أن يثنى على عبد عقوبته. ومن أذنب ذنبا فستر الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود في شيء عفا عنه» ورواه أحمد والبزار والحاكم والدارقطني والبيهقي في الشعب في السابع والأربعين. وقال إسحاق في مسنده : أخبرنا عيسى بن يونس عن إسماعيل بن عبد الملك بن أبى الصفراء عن يونس بن حبان عن على نحوه وفيه انقطاع

(٣) وإن صخرا لمولانا وسيدنا

وإن صخرا إذا يشتو لنحار

أغر أبلج تأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

للخنساء ترثى أخاها. ويشتو : أى يدخل في الشتاء ، وهو حكاية حال ماضية. ونحار : كثير نحر الإبل للضيفان كناية عن كثرة كرمه. والأغر : الأبيض. والأبلج : الطلق الوجه المعروف. والهداة : جمع هاد : من يتقدم غيره ليدله. والعلم : الجبل : وفي رأسه نار : صفة علم جاءت لترشيح التشبيه وتقريره ، والمبالغة في توضيح المشبه ـ

٢٢٦

وقرئ : الرياح فيظللن بفتح اللام وكسرها ، من ظل يظل ويظل ، نحو : ضل يضل ويضل (رَواكِدَ) ثوابت لا تجرى (عَلى ظَهْرِهِ) على ظهر البحر (١) (لِكُلِّ صَبَّارٍ) على بلاء الله (شَكُورٍ) لنعمائه ، وهما صفتا المؤمن المخلص ، فجعلهما كناية عنه ، وهو الذي وكل همته بالنظر في آيات الله ، فهو يستملى منها العبر (يُوبِقْهُنَ) يهلكهن. والمعنى : أنه إن يشأ يبتلى المسافرين في البحر بإحدى بليتين : إما أن يسكن الريح فيركد الجواري على متن البحر ويمنعهن من الجري ، وإما أن يرسل الريح عاصفة فيهلكهن إغراقا بسبب ما كسبوا من الذنوب (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) منها ، فإن قلت : علام عطف يوبقهن؟ قلت : على يسكن ، لأنّ المعنى : إن يشأ يسكن الريح فيركدن. أو يعصفها فيغرقن بعصفها. فإن قلت : فما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جزم جزمه؟ قلت : معناه : أو إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم. فإن قلت : فمن قرأ (وَيَعْفُ)؟ قلت : قد استأنف الكلام.

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٣٥)

فإن قلت : فما وجوه القراءات الثلاث في (وَيَعْلَمَ)؟ قلت : أما الجزم فعلى ظاهر العطف وأما الرفع فعلى الاستئناف. وأما النصب فللعطف على تعليل محذوف تقديره : لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ، منه قوله تعالى (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) وقوله تعالى (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) وأما قول الزجاج : النصب على إضمار أن ، لأنّ قبلها جزاء ، تقول : ما تصنع أصنع مثله وأكرمك. وإن شئت وأكرمك ، على : وأنا أكرمك. وإن شئت وأكرمك جزما ، ففيه نظر لما أورده سيبويه في كتابه. قال : واعلم أنّ النصب بالفاء والواو في قوله : إن تأتنى آتك وأعطيك : ضعيف ، وهو نحو من قوله :

وألحق بالحجاز فاستريحا (٢)

فهذا يجوز ، وليس بحدّ الكلام ولا وجهه ، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا ، لأنه ليس بواجب

__________________

ـ وتشهيره ، وعادة دليل الركب : الاهتداء إلى الطريق بالجبال الشامخة ، فإذا كان فوقها نار : علم أن أهلها كرام. ويروى :

وإن صخرا لتأتم الهداة به

(١) قال محمود : «معناه ثوابت لا تجرى على ظهر البحر» قال أحمد : وهم يقولون : إن الريح لم ترد في القرآن إلا عذابا ، بخلاف الرياح. وهذه الآية تخرم الإطلاق ، فان الريح المذكورة هنا نعمة ورحمة. إذ بواسطتها يسير الله السفن في البحر حتى لو سكنت لركدت السفن ، ولا ينكر أن الغالب من ورودها مفردة ما ذكروه. وأما اطراده فلا. وما ورد في الحديث : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا ، فلأجل الغالب في الإطلاق ، والله أعلم.

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٥٥٧ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٢٢٧

أنه يفعل. إلا أن يكون من الأوّل فعل ، فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه : أجازوا فيه هذا على ضعفه اه. ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحدّ الكلام ولا وجهه ، ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه ، وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة. فإن قلت : فكيف يصح المعنى على جزم (وَيَعْلَمَ)؟ قلت : كأنه قال : أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور : هلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين (مِنْ مَحِيصٍ) من محيد عن عقابه.

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(٣٦)

(ما) الأولى ضمنت معنى الشرط ، فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية. عن على رضى الله عنه : اجتمع لأبى بكر رضى الله عنه مال فتصدق به كله في سبيل الله والخير ، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون ، فنزلت.

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)(٣٧)

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) عطف على الذين آمنوا ، وكذلك ما بعده. ومعنى (كَبائِرَ الْإِثْمِ) الكبائر من هذا الجنس. وقرئ : كبير الإثم. وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنه : كبير الإثم هو الشرك (هُمْ يَغْفِرُونَ) أى هم الأخصاء بالغفران في حال الغضب ، لا يغول الغضب أحلامهم كما يغول حلوم الناس ، والمجيء بهم وإيقاعه مبتدأ ، وإسناد (يَغْفِرُونَ) إليه لهذه الفائدة ، ومثله : (هُمْ يَنْتَصِرُونَ).

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(٣٨)

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) نزلت في الأنصار : دعاهم الله عز وجل للإيمان به وطاعته ، فاستجابوا له بأن آمنوا به وأطاعوه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) وأتموا الصلوات الخمس. وكانوا قبل الإسلام وقبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة : إذا كان بهم أمر اجتمعوا وتشاوروا ، فأثنى الله عليهم ، أى : لا ينفردون برأى حتى يجتمعوا عليه. وعن الحسن: ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم» (١) والشورى : مصدر كالفتيا ، بمعنى التشاور. ومعنى

__________________

(١) أخرجه ابن أبى شيبة والبخاري في الأدب وعبد الله بن أحمد في زيادات الزهد. وقد ذكره المصنف مرفوعا في آل عمران.

٢٢٨

قوله (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أى ذو شورى ، وكذلك قولهم : ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضى الله عنه الخلافة شورى.

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ)(٣٩)

هو أن يقتصروا في الانتصار على ما جعله الله لهم ولا يعتدوا. وعن النخعي أنه كان إذا قرأها قال : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق. فإن قلت : أهم محمودون على الانتصار؟ قلت : نعم ، لأنّ من أخذ حقه غير متعد حدّ الله وما أمر به فلم يسرف في القتل إن كان ولى دم أورد على سفيه ، محاماة على عرضه وردعا له ، فهو مطيع. وكل مطيع محمود.

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(٤٠)

كلتا الفعلتين الأولى وجزاؤها سيئة ، لأنها تسوء من تنزل به. قال الله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) : يريد ما يسوءهم من المصائب والبلايا. والمعنى : أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة ، فإذا قال أخزاك الله قال : أخزاك الله (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء ، كما قال تعالى (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ، (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم. وقوله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) دلالة على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة (١) والاعتداء خصوصا في حال الحرد (٢) والتهاب الحمية فربما كان المجازى من الظالمين وهو لا يشعر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد : من كان له على الله أجر فليقم. قال : فيقوم خلق ، فيقال لهم : ما أجركم على الله؟ فيقولون : نحن الذين عفونا عمن ظلمنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة بإذن الله (٣).

__________________

(١) قال محمود : «فيه دلالة على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه ... الخ» قال أحمد : معنى حسن يجاب به عن قول القائل : لم ذكر هذا عقب العفو مع أن الانتصار ليس بظلم ، فيشفى غليل السائل ويحصل منه على كل طائل. ومن هذا النمط والله الموفق : قوله تعالى : (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ).

(٢) قوله «الحرد» في الصحاح : «الحرد» بالتحريك : الغضب. (ع)

(٣) أخرجه العقيلي والطبراني في مكارم الأخلاق وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب في السابع والخمسين كلهم من طريق الفضل بن يسار عن غالب العطار عن الحسن بن أنس رفعه. قال «إذا وقف العبد للحساب ينادى مناد : من كان أجر» على الله فليدخل الجنة ـ الحديث» وله طريق أخرى عند الثعلبي من رواية زهير بن عباد عن ـ

٢٢٩

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٤٢)

(بَعْدَ ظُلْمِهِ) من إضافة المصدر إلى المفعول ، وتفسره قراءة من قرأ : بعد ما ظلم (فَأُولئِكَ) إشارة إلى معنى (مِنْ) دون لفظه (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) للمعاقب ولا للعاتب والعائب (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) يبتدئونهم بالظلم (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون.

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(٤٣)

(وَلَمَنْ صَبَرَ) على الظلم والأذى (وَغَفَرَ) ولم ينتصر وفوّض أمره إلى الله (إِنَّ ذلِكَ) منه (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وحذف الراجع لأنه مفهوم ، كما حذف من قولهم : السمن منوان بدرهم. ويحكى أن رجلا سب رجلا في مجلس الحسن رحمه الله ، فكان المسبوب يكظم ، ويعرق فيمسح العرق ، ثم قام فتلا هذه الآية ، فقال الحسن : عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون. وقالوا : العفو مندوب إليه ، ثم الأمر قد ينعكس في بعض الأحوال ، فيرجع ترك العفو مندوبا إليه ، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي ، وقطع مادة الأذى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل عليه : وهو أن زينب أسمعت عائشة بحضرته ، وكان ينهاها فلا تنتهي ، فقال لعائشة : «دونك فانتصرى» (١).

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ)(٤٤)

__________________

ـ ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس. وأخرى عن البيهقي من رواية الثوري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أتم منه ـ قال البيهقي : المتن غريب ـ والاسناد ضعيف.

(١) أخرجه النسائي من رواية خالد بن مسلمة عن عروة عن عائشة قالت : ما علمت حتى دخلت على زينب بغير إذن وهي بمعنى [بياض بالأصل.] فذكر نحوه. ولم يذكر فيه النهى. ولفظه ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا زينب بنت جحش ـ إلى أن قال : فأقبلت زينب هجم لعائشة فنهاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبت أن تنتهي. قال : لعائشة سبيها فسبتها فغلبتها».

٢٣٠

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) ومن يخذل الله (١) (فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) فليس له من ناصر يتولاه من بعد خذلانه.

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) (٤٦)

(خاشِعِينَ) متضائلين متقاصرين مما يلحقهم (مِنَ الذُّلِ) وقد يعلق من الذل بينظرون ، ويوقف على خاشعين (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) أى يبتدئ نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفى بمسارقة ، كما ترى المصبور ينظر إلى السيف (٢). وهكذا نظر الناظر إلى المكاره : لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينيه منها ، كما يفعل في نظره إلى المحاب. وقيل : يحشرون عميا فلا ينظرون إلا بقلوبهم. وذلك نظر من طرف خفى. وفيه تعسف (يَوْمَ الْقِيامَةِ) إما أن يتعلق بخسروا ، ويكون قوله المؤمنين واقعا في الدنيا ، وإما أن يتعلق بقال ، أى : يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة.

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ)(٤٧)

(مِنَ اللهِ) من صلة لا مردّ ، أى : لا يرده الله بعد ما حكم به. أو من صلة يأتى ، أى : من قبل أن يأتى من الله يوم لا يقدر أحد على ردّه. والنكير : الإنكار ، أى : ما لكم من مخلص من العذاب ولا تقدرون أن تنكروا شيأ مما اقترفتموه ودوّن في صحائف أعمالكم.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ)(٤٨)

__________________

(١) قوله «ومن يخذل الله. فما له من ولى» تأويل على مذهب المعتزلة : أنه تعالى لا يخلق الشر. وعند أهل السنة : يخلقه كالخير ، فالاضلال خلق الضلال. ومن بعده : أى من بعد إضلاله. (ع)

(٢) قوله «كما ترى المصبور ينظر إلى السيف» أى : المحبوس للقتل. أفاده الصحاح. (ع)

٢٣١

أراد بالإنسان الجمع لا الواحد ، لقوله (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) ولم يرد إلا المجرمين ، لأن إصابة السيئة بما قدّمت أيديهم إنما تستقيم فيهم. والرحمة : النعمة من الصحة والغنى والأمن. والسيئة : البلاء من المرض والفقر والمخاوف. والكفور : البليغ الكفران ، ولم يقل : فإنه كفور ، ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم (١) ، كما قال (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) والمعنى أنه يذكر البلاء وينسى النعم ويغمطها(٢).

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)(٥٠)

لما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدّها : أنبع ذلك أنّ له الملك وأنه يقسم النعمة والبلاء كيف أراد ، ويهب لعباده من الأولاد ما تقتضيه مشيئته ، فيخص بعضا بالإناث وبعضا بالذكور ، وبعضا بالصنفين جميعا ، ويعقم آخرين فلا يهب لهم ولدا قط. فإن قلت : لم قدّم الإناث أوّلا على الذكور مع تقدّمهم عليهنّ ، ثم رجع فقدّمهم ، ولم عرف الذكور بعد ما نكر الإناث؟ قلت. لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنده ، ثم عقبه بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد ، فقدم الإناث لأنّ سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه لا ما يشاؤه الإنسان ، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم ، والأهم واجب التقديم ، وليلى الجنس الذي كانت العرب تعدّه بلاء ذكر البلاء ، وأخر الذكور فلما أخرهم لذلك تدارك تأخيرهم ، وهم أحقاء بالتقديم بتعريفهم ، لأن التعريف تنويه وتشهير ، كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم ، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير ، وعرّف أن تقديمهنّ لم يكن لتقدّمهنّ ، ولكن لمقتض آخر فقال (ذُكْراناً وَإِناثاً) كما قال (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) ، (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) وقيل : نزلت في الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، حيث وهب لشعيب ولوط إناثا ، ولإبراهيم ذكورا ، ولمحمد ذكورا وإناثا ، وجعل يحيى وعيسى عقيمين (إِنَّهُ عَلِيمٌ) بمصالح العباد (قَدِيرٌ) على تكوين ما يصلحهم.

__________________

(١) قال محمود : «لم يقل : فانه كفور ، ليسجل على هذا الجنس أنه موسوم بكفران النعم ... الخ» قال أحمد: وقد أغفل هذه النكتة بعينها في الآية التي قبل هذه ، وهي قوله تعالى (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) فوضع الظالمين موضع الضمير الذي كان من حقه أن يعود على اسم إن ، فيقال : ألا إنهم في عذاب مقيم ، فأتى هذا الظاهر تسجيلا عليهم بلسان ظلمهم

(٢) قوله «وينسى النعم ويغمطها» يبطرها ويحقرها. أفاده الصحاح. (ع)

٢٣٢

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)(٥١)

(وَما كانَ لِبَشَرٍ) وما صح لأحد من البشر (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا) على ثلاثة أوجه : إما على طريق الوحى وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام ، كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده. وعن مجاهد : أوحى الله الزبور إلى داود عليه السلام في صدره. قال عبيد بن الأبرص :

وأوحى إلىّ الله أن قد تأمّروا

بإبل أبى أوفى فقمت على رجل (١)

أى : ألهمنى وقذف في قلبي. وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام ، من غير أن يبصر السامع من يكلمه ، لأنه في ذاته غير مرئى (٢). وقوله (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) مثل أى ، كما يكلم الملك المحتجب بعض خواصه وهو من وراء الحجاب ، فيسمع صوته ولا يرى شخصه ، وذلك كما كلم موسى ويكلم الملائكة. وإما على أن يرسل إليه رسولا من الملائكة فيوحى الملك إليه كما كلم الأنبياء غير موسى. وقيل : وحيا كما أوحى إلى الرسل بواسطة الملائكة (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) أى نبيا كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم. ووحيا ، وأن يرسل : مصدران واقعان موقع الحال ، لأنّ : أن يرسل ، في معنى إرسالا. ومن وراء حجاب : ظرف واقع موقع الحال أيضا ، كقوله تعالى (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) والتقدير : وما صح أن يكلم أحدا إلا موحيا ، أو مسمعا من وراء حجاب ، أو مرسلا. ويجوز أن يكون : وحيا ، موضوعا موضع : كلاما ، لأنّ الوحى كلام خفى في سرعة ، كما تقول : لا أكلمه إلا جهرا وإلا خفانا ، لأنّ الجهر والخفات ضربان من الكلام ، وكذلك إرسالا : جعل الكلام على لسان الرسول بمنزلة الكلام بغير واسطة. تقول : قلت لفلان كذا ، وإنما قاله وكيلك أو رسولك. وقوله (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) معناه : أو إسماعا من وراء حجاب ، ومن جعل (وَحْياً) في معنى : أن يوحى ، وعطف يرسل عليه ، على معنى (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) أى : إلا بأن يوحى. أو بأن يرسل ،

__________________

(١) أى ألهمنى الله وألقى في قلبي : أنهم تأمروا. وأن مخففة من الثقيلة ، واسمها : ضمير القوم أو الحال والشأن. واختار أبو حيان أنها لا اسم لها إذا خففت ، لأنها مهملة. وإن ضمن «أوحى» معنى : قال ، فان تفسيرية ، أى ، قد تآمروا بوزن تفاعلوا ، أى : تشاوروا في الأمر ، أو أجمعوا أمرهم. ومنه (يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) بابل أبى أو في ليغتصبوها ، فقمت في طلبهم لأردها على رجل ، أى : لم أصبر حتى أركب. أو على رجل واحدة ، أى : بسرعة ، فلا أضع رجلي معا في الأرض.

(٢) قوله «لأنه في ذاته غير مرئى» أى : لا تجوز رؤيته ، وهذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فتجوز كما تقرر في محله. (ع)

٢٣٣

فعليه أن يقدر قوله (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) تقديرا يطابقهما عليه ، نحو : أو أن يسمع (١) من وراء حجاب. وقرئ : أو يرسل رسولا فيوحى بالرفع ، على : أو هو يرسل. أو بمعنى مرسلا عطفا على وحيا في معنى موحيا. وروى أنّ اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه ، فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك ، فقال : لم ينظر موسى إلى الله (٢) ، فنزلت. وعن عائشة رضى الله عنها : من زعم أنّ محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية (٣) ، ثم قالت : أو لم تسمعوا ربكم يقول : فتلت هذه الآية. (إِنَّهُ عَلِيٌ) عن صفات المخلوقين (حَكِيمٌ) يجرى أفعاله على موجب الحكمة ، فيكلم تارة بواسطة ، وأخرى بغير واسطة : إما إلهاما ، وإما خطابا.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)(٥٣)

(رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) يريد : ما أوحى إليه ، لأن الخلق يحيون به في دينهم كما يحيى الجسد بالروح. فإن قلت : قد علم أن رسول الله (٤) صلى الله عليه وسلم : ما كان يدرى ما القرآن قبل

__________________

(١) قوله «أو أن يسمع من وراء حجاب» لعله : أو بأن. (ع)

(٢) لم أجده.

(٣) متفق عليه ، وقد تقدم طرف منه في الأنعام.

(٤) قال محمود : «فان قلت : قد علم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يدرى الكتاب قبل الوحى ... الخ» قال أحمد : لما كان معتقد الزمخشري أن الايمان اسم التصديق مضافا إليه كثير من الطاعات فعلا وتركا حتى لا يتناول الموحد العاصي ولو بكبيرة واحدة اسم الايمان ولا ياله وعد المؤمنين ، وتفطن لإمكان الاستدلال على صحة معتقده بهذه الآية : عدها فرصة لينتهزها وغنيمة ، ليحرزها ، وأبعد الظن بايراده مذهب أهل السنة على صورة السؤال ليجيب عنه بمقتضى معتقده ، فكأنه يقول : لو كان الايمان وهو مجرد التوحيد والتصديق كما نقول أهل السنة ، للزم أن ينفى عن النبي عليه الصلاة والسلام قبل المبعث بهذه الآية كونه مصدقا ، ولما كان التصديق ثابتا للنبي عليه الصلاة والسلام قبل البعث باتفاق الفريقين : لزم أن لا يكون الايمان المنفي في الآية عبارة عما اتفق على ثبوته ، وحينئذ يتعين صرفه إلى مجموع أشياء : من جملتها التصديق ، ومن جملتها كثير من الطاعات التي لم تعلم إلا بالوحي ، وحينئذ يستقيم نفيه قبل البعث ، وهذا الذي طمع فيه : يخرط القتاد ، ولا يبلغ منه ما أراد. وذلك أن أهل السنة وإن قالوا : إن الايمان هو التصديق خاصة حتى يتصف به كل موحد وإن كان فاسقا ـ يخصون التصديق بالله وبرسوله ، فالنبي عليه الصلاة والسلام مخاطب في الايمان بالتصديق برسالة نفسه ، كما أن أمته مخاطبون بتصديقه ، ولا ـ

٢٣٤

نزوله عليه ، فما معنى قوله (وَلَا الْإِيمانُ) والأنبياء لا يجوز عليهم إذا عقلوا وتمكنوا من النظر والاستدلال أن يخطئهم الإيمان بالله وتوحيده ، ويجب أن يكونوا معصومين من ارتكاب الكبائر ومن الصغائر التي فيها تنفير قبل المبعث وبعده ، فكيف لا يعصمون من الكفر؟ قلت : الإيمان اسم يتناول أشياء : بعضها الطريق إليه العقل ، وبعضها الطريق إليه السمع ، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل ، وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي. ألا ترى أنه قد فسر الإيمان في قوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) بالصلاة ، لأنها بعض ما يتناوله الإيمان (مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) من له لطف ومن لا لطف له ، فلا هداية تجدى عليه (صِراطِ اللهِ) بدل. وقرئ : لتهدي ، أى : يهديك الله. وقرئ : لتدعو.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ حم عسق كان ممن تصلى عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له» (١).

سورة الزخرف

مكية. وقال مقاتل : إلا قوله (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا)

وهي تسع وثمانون آية [نزلت بعد الشورى]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)(٤)

أقسم بالكتاب المبين وهو القرآن وجعل قوله (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) جوابا للقسم(٢)

__________________

ـ شك أنه قبل الوحى لم يكن يعلم أنه رسول الله ، وما علم ذلك إلا بالوحي ، وإذا كان الايمان عند أهل السنة هو التصديق بالله ورسوله ، ولم يكن هذا المجموع ثابتا قبل الوحى ، بل كان الثابت هو التصديق بالله تعالى خاصة : استقام نفى الايمان قبل الوحى على هذه الطريقة الواضحة ، والله أعلم.

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه باسنادهما إلى أبى بن كعب.

(٢) قال محمود : «أقسم بالكتاب المبين وجعل قوله (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) جوابا للقسم ... الخ» قال أحمد : تنبيه حسن جدا. ووجه التناسب فيه أنه أقسم بالقرآن ، وإنما يقسم بعظيم ، ثم جعل المقسم عليه تعظيم القرآن بأنه قرآن عربى ـ

٢٣٥

وهو من الأيمان الحسنة البديعة ، لتناسب القسم والمقسم عليه ، وكونهما من واد واحد. ونظيره قول أبى تمام :

وثناياك إنّها إغريض (١)

(الْمُبِينِ) البين للذين أنزل عليهم ، لأنه بلغتهم وأساليبهم. وقيل : الواضح للمتدبرين. وقيل (الْمُبِينِ) الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة ، وأبان ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة (جَعَلْناهُ) بمعنى صيرناه معدّى إلى مفعولين. أو بمعنى خلقناه معدّى إلى واحد ، كقوله تعالى (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ). و (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال. ولعلّ : مستعار لمعنى الإرادة (٢) ، لتلاحظ (٣) معناها ومعنى الترجي (٤) ، أى : خلقناه عربيا غير عجمى : إرادة أن تعقله العرب ، ولئلا يقولوا لو لا فصلت آياته ، وقرئ : أمّ الكتاب بالكسر وهو اللوح ، كقوله تعالى (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) سمى بأم الكتاب ، لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب منه تنقل وتستنسخ. على رفيع الشأن في الكتب ، لكونه معجزا من بينها (حَكِيمٌ) ذو حكمة بالغة ، أى : منزلته عندنا منزلة كتاب هما صفتاه ، وهو مثبت في أم الكتاب هكذا.

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ)(٥)

__________________

ـ مرجو به أن يعقل به العالمون ، أى : يتعقلوا آيات الله تعالى فكان جواب القسم مصححا للقسم ، وكذلك أقسم أبو تمام بالثنايا ، وإنما يقسم الشعراء بمثل هذا الاشعار بأنه في غاية الحسن ، ثم جعل المقسم عليه كونها في نهاية الحسن ، لا أنها هي أغريض ، وهو من أحسن تشبيهات الثايا ، فجعل المقسم عليه مصححا للقسم والله أعلم.

(١) وثناياك إنها إغريض

ولآل نوار أرض وميض

وأقاح منور في بطاح

هزه في الصباح روض أريض

لأبى تمام. والاغريض : البرد. والطلع والنوار : كرمان نور الشجر ، واحده نوارة. والوميض : شديد البريق واللمعان. والأقاح : نور أبيض طيب الرائحة. والأريض : طيب الأرض ، فيكون نضرا بهيجا : أقسم بثناياها أى : مقدم أسنانها ، إنها : أى ثناياها إغريض. فالقسم وجوابه متعلقان بشيء واحد ، وشبههما بالبرد وبنوار الأرض الشبيه باللآلئ ، فاضافتها إليه للتشبيه. ووميض : نعت مقطوع للنوار. أو تابع للاغريض ، لكن الأول أجزل ، وشبهه بالأقاح الذي نور في البطاح ، لأنه أنضر وأزهى. وهزه في الصباح من صفة الأقاح «وخص الصباح ليكون على الزهر بقية من الندى ، فيكون في غاية النضرة والزهو. وفيه إيماء لتشبيه قوام محبوبته بأغصان الروض في التمايل وظهور الزهور في أعلى كل منهما ، ولك أن تجعل «وميض» صفة للآلئ ، وإن كانت جمعا ، لأن فعيل بمعنى فاعل قد يعامل معاملته فعيل بمعنى مفعول ، فيطلق على الواحد والمتعدد مذكرا ومؤنثا. ويروى بدل الشطر الثاني : ولآل توم ورق وميض. والتوم : واحده تومة «وهي حبة تعمل من الفضة كالدرة ، ولا إشكال في إعرابه.

(٢) قال محمود : «ولعل مستعار لمعنى الارادة» «فسره بالارادة» قال أحمد : قد بينا فساد ذلك غير ما مرة.

(٣) قوله «لتلاحظ معناها» لعله : ليلاحظ. (ع)

(٤) قوله «ومعنى الترجي» لعله : أو معنى. (ع)

٢٣٦

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) بمعنى : أفننحى عنكم الذكر ونذوده عنكم على سبيل المجاز ، من قولهم : ضرب الغرائب عن الحوض. ومنه قول الحجاج : ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. وقال طرفة :

أضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسّيف قونس الفرس (١)

والفاء للعطف على محذوف ، تقديره : أنهملكم فنضرب عنكم الذكر ، إنكارا لأن يكون الأمر على خلاف ما قدّم من إنزاله الكتاب. وخلقه قرآنا عربيا ، ليعقلوه ويعملوا بمواجبه. وصفحا على وجهين. إما مصدر من صفح عنه : إذا أعرض ، منتصب على أنه مفعول له ، على معنى : أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضا عنكم. وإمّا بمعنى الجانب من قولهم : نظر إليه بصفح وجهه وصفح وجهه ، على معنى : أفننحيه عنكم جانبا ، فينتصب على الظرف كما تقول : ضعه جانبا ، وامش جانبا. وتعضده قراءة من قرأ : صفحا بالضم. وفي هذه القراءة وجه آخر : وهو أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح ، وينتصب على الحال ، أى : صافحين معرضين (أَنْ كُنْتُمْ) أى : لأن كنتم. وقرئ : إن كنتم ، وإذ كنتم. فإن قلت : كيف استقام معنى إن الشرطية ، وقد كانوا مسرفين على البتّ؟ قلت : هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدل (٢) بصحة الأمر ، المتحقق لثبوته ، كما يقول الأجير : إن كنت عملت لك فوفني حقي ، وهو عالم بذلك ، ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق : فعل من له شك في الاستحقاق ، مع وضوحه استجهالا له.

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ)(٨)

(وَما يَأْتِيهِمْ) حكاية حال ماضية مستمرة ، أى : كانوا على ذلك. وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزاء قومه. الضمير في (أَشَدَّ مِنْهُمْ) للقوم المسرفين ، لأنه صرف الخطاب عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره عنهم (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أى سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تسير مسير المثل ، وهذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووعيد لهم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩)

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة ٨٧ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٢) قوله «عن المدل» أى : المواثق. أفاده الصحاح. (ع)

.

٢٣٧

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ)(١١)

فإن قلت : قوله (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) وما سرد من الأوصاف عقيبه إن كان من قولهم (١) ، فما تصنع بقوله (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) وإن كان من قول الله ، فما وجهه؟ قلت : هو من قول الله لا من قولهم. ومعنى قوله (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) الذي من صفته كيت وكيت ، لينسبنّ خلقها إلى الذي هذه أوصافه وليسندنه إليه. (بِقَدَرٍ) بمقدار يسلم معه البلاد والعباد ، ولم يكن طوفانا.

(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ)(١٤)

و (الْأَزْواجَ) الأصناف (ما تَرْكَبُونَ) أى تركبونه. فإن قلت : يقال : ركبوا الأنعام وركبوا في الفلك (٢). وقد ذكر الجنسين فكيف قال ما تركبونه؟ قلت : غلب المتعدّى بغير

__________________

(١) قال محمود : «فان قلت : قوله (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) وما سرد من الأوصاف عقبه إن كان من قولهم ... الخ» قال أحمد : الذي يظهر أن الكلام مجزأ ، فبعضه من قولهم ، وبعضه من قول الله تعالى ، فالذي هو من قولهم (خَلَقَهُنَ) ، وما بعده من قول الله عز وجل ، وأصل الكلام أنهم قالوا : خلقهن الله ؛ ويدل عليه قوله في الآية الأخرى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَ) ثم لما قالوا : خلقهن الله وصف الله تعالى ذاته بهذه الصفات ، ولما سبق الكلام كله سياقه وأخذه ، حذف الموصوف من كلامهم ، وأقيمت الصفات المذكورة في كلام الله تعالى مقامه كأنه كلام واحد. ونظير هذا أن تقول للرجل : من أكرمك من القوم؟ فيقول أكرمنى زيد ، فتقول أنت واصفا للمذكور : الكريم الجواد الذي من صفته كذا وكذا ، ثم لما وقع الانتقال من كلامهم إلى كلام الله عز وجل ، جرى كلامه عز وجل على ما عرف من الافتنان في البلاغة ، فجاء أوله على لفظ الغيبة وآخره على الانتقال منها ، إلى التكلم في قوله (فَأَنْشَرْنا) كل ذلك افتنان في أفنان البلاغة. ومن هذا النمط قوله تعالى حكاية عن موسى (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) فجاء أول الكلام حكاية عن موسى ، إلى قوله (وَلا يَنْسى) ثم وقع الانتقال من كلام موسى إلى كلام الله تعالى ، فوصف ذاته أوصافا متصلة بكلام موسى ، حتى كأنه كلام واحد. وابتدأ في ذكر صفاته على لفظ الغيبة إلى قوله (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) فانظر إلى تحقيق التطبيق بين الآيتين تر العجب ، والله الموفق.

(٢) قال محمود : «يقال ركبت الدابة وركبت في الفلك ... الخ» قال أحمد : لم يحرر العبارة في هذا الموضع فان قوله «غلب المتعدي بغير واسطة على المتعدي بنفسه» يوهم أن بين الفعلين تباينا وليس ـ

٢٣٨

واسطة ، لقوّته على المتعدّى بواسطة ، فقيل : تركبونه (عَلى ظُهُورِهِ) على ظهور ما تركبون وهو الفلك والأنعام. ومعنى ذكر نعمة الله عليهم : أن يذكروها في قلوبهم معترفين بها مستعظمين لها ، ثم يحمدوا عليها بألسنتهم ، وهو ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال : «بسم الله» فإذا استوى على الدابة قال : «الحمد لله على كل حال ، سبحان الذي سخر لنا هذا ... إلى قوله ... لمنقلبون» وكبر ثلاثا وهلل ثلاثا (١). وقالوا : إذا ركب (٢) في السفينة قال : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وعن الحسن بن على رضى الله عنهما أنه رأى رجلا يركب دابة فقال : سبحان الذي سخر لنا هذا. فقال : أبهذا أمرتم؟ فقال : وبم أمرنا؟ قال : أن تذكروا نعمة (٣) ربكم : كان قد أغفل التحميد فنبهه عليه. وهذا من حسن مراعاتهم لآداب الله ومحافظتهم على دقيقها وجليلها. جعلنا الله من المقتدين بهم ، والسائرين بسيرتهم ، فما أحسن بالعاقل النظر في لطائف الصناعات ، فكيف بالنظر في لطائف الديانات؟ (مُقْرِنِينَ) مطيقين. يقال : أقرن الشيء ، إذا أطاقه. قال ابن هرمة :

__________________

ـ كذلك ، فان المتعدي إلى الأنعام هو عين الفعل المتعدي إلى السفن غاية ما ، ثم إن العرب خصته باعتبار بعض مفاعيله بالواسطة ، وباعتبار بعضها بالتعدي بنفسه ، والاختلاف بالتعدي والقصور. أو باختلاف آلات التعدي. وباختلاف أعداد المفاعيل لا يوجب الاختلاف في المعنى ، فمن ثم يعدون الفعل الواحد مرة بنفسه ومرة بواسطة ، مثل : سكرت وأخواته ، ويعدون الأفعال المترادفة بآلات مختلفة ، مثل دعوت وصليت ، فإنك تقول : صلى النبي على آل أبى أوفى ، ولو قلت : دعا على آل أبى أوفى : لأفهم عكس المقصود ، ولكن دعا لآل أبى أوفى ، ويعدون بعضها إلى مفعولين ، ومرادفه إلى مفعول واحد ، كعلم وعرف ، فلا يترتب على الاختلاف بالتعدي. والقصور : الاختلاف في المعنى ، فالذي يحرر من هذا : أن ركب باعتبار القبيلين معناه واحد ، وإن خص أحدهما باقتران الواسطة والآخر بسقوطها ، فالصواب أحد الأمرين : إما تقدير المتعلقين على ما هما عليه لو انفردا ، فيكون التقدير ما تركبونه وتركبون فيه ، والأقرب تعليله باعتبار التعدي بنفسه ، ويكون هذا من تغليب أحد اعتباري الفعل على الآخر ، وهو أسهل من التغليب في قوله تعالى (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) على أحد التأويلين فيه : فان التباين ثم ثابت بين الفعلين من حيث المعنى ، أعنى : أجمع على الأمر وجمع الشركاء ، ولكن لما تقاربا : غلب أحدهما على الآخر ، ثم جعل المغلب هو المتعدي بنفسه ، والله أعلم.

(١) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث على. وأسنده الثعلبي باللفظ المذكور هنا. ولمسلم من طريق على الأرزى عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) الآية.

(٢) لم أجده من فعله صلى الله عليه وسلم. وفي الطبراني من حديث الضحاك عن ابن عباس رفعه «أمان لأمتى من الغرق إذا ركبوا في الفلك أن يقولوا : بسم الله ، وما قدروا الله حق قدره ـ الآية بسم الله مجريها ومرساها» ورواه في الدعاء من حديث الحسن بن على رضى الله عنهما.

(٣) أخرجه الطبري والطبراني في الدعاء من طريق مجلس عن حسين بن على فذكره.

٢٣٩

وأقرنت ما حمّلتنى ولقلّما

يطاق احتمال الصّد يا دعد والهجر (١)

وحقيقة «أقرنه» : وجده قرينته وما يقرن به ، لأنّ الصعب لا يكون قرينة للضعيف. ألا ترى إلى قولهم في الضعيف : لا يقرن به الصعبة. وقرئ : مقرنين ، والمعنى واحد. فإن قلت : كيف اتصل بذلك قوله (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ)؟ قلت : كم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحمت (٢) أو طاح من ظهرها فهلك ، وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم فغرقوا ، فلما كان الركوب مباشرة أمر مخطر ، واتصالا بسبب من أسباب التلف : كان من حق الراكب وقد اتصل بسبب من أسباب التلف أن لا ينسى عند اتصاله به يومه ، وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله غير منفلت من قضائه ، ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعد اللقاء الله بإصلاحه من نفسه ، والحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله وهو غافل عنه ، ويستعيذ بالله من مقام من يقول لقرنائه : تعالوا نتنزه على الخيل أو في بعض الزوارق ، فيركبون حاملين مع أنفسهم أوانى الخمر والمعازف ، فلا يزالون يسقون حتى تميل طلاهم (٣) وهم على ظهور الدواب ، أو في بطون السفن وهي تجرى بهم ، لا يذكرون إلا الشيطان ، ولا يمتثلون إلا أوامره. وقد بلغني أنّ بعض السلاطين ركب وهو يشرب من بلد إلى بلد بينهما مسيرة شهر ، فلم يصح إلا بعد ما اطمأنت به الدار ، فلم يشعر بمسيره ولا أحس به ، فكم بين فعل أولئك الراكبين وبين ما أمره الله به في هذه الآية. وقيل : يذكرون عند الركوب ركوب الجنازة.

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ)(١٨)

__________________

(١) لابن هرمة «وأقرنت الشيء : إذا وجدته قرينا لك لا يزيد عنك ، ثم استعمل في الاطاقة توسعا. ولقلما اللام للقسم. وقل : فعل. وما : كافة ، ركبت معه فصار المراد منه النفي ولا فاعل له ، وشبه المعقول من الصد والهجر بالمحسوس على طريق الكناية والحمل تخييل. يقول : أطقت ما حملتني إياه من صدك عنى وهجرك لي ، والحال أنه لا يطاق احتمالهما. وفي الاعتراض بندائها : نوع استعطاف.

(٢) قوله «أو شمست أو تقحمت» في الصحاح : شمس الفرس شموسا وشماسا : منع ظهره. وفيه «القحمة» بالضم : المهلكة. وقحم الطريق : مصاعبه اه ، فتقحم الدابة براكبها : خوضها به في قحمته. (ع)

(٣) قوله «حتى تميل طلاهم» في الصحاح «الطلى» الأعناق. قال الأصمعي : واحدتها طلية. وقال أبو عمرو والفراء : واحدتها طلاة. (ع)

٢٤٠