الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

منه ، كأنه في نفسه شرف : إما لأنه شرف للمنزل عليه ، وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله ، كقوله تعالى (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أو جعل لكثرة ذكره لله وعبادته كأنه ذكر. أو أريد : ذا ذكر ، أى ملكا مذكورا في السماوات وفي الأمم كلها. أو دل قوله (أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) على : أرسل فكأنه قيل : أرسل رسولا ، أو أعمل ذكرا في رسولا إعمال المصدر في المفاعيل ، أى : أنزل الله أن ذكر رسولا أو ذكره رسولا. وقرئ : رسول ، على : هو رسول. أنزله (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا) بعد إنزاله ، أى : ليحصل لهم ما هم عليه الساعة من الإيمان والعمل الصالح : لأنهم كانوا وقت إنزاله غير مؤمنين ، وإنما آمنوا بعد الإنزال والتبليغ. أو ليخرج الذين عرف منهم أنهم يؤمنون. قرئ : يدخله ، بالياء والنون (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) فيه معنى التعجب والتعظيم ، لما رزق المؤمن من الثواب.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)(١٢)

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ) مبتدأ وخبر. وقرئ : مثلهنّ بالنصب ، عطفا على سبع سماوات ، وبالرفع على الابتداء ، وخبره : من الأرض. قيل : ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه. وقيل : بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام ، وغلظ كل سماء كذلك ، والأرضون مثل السماوات (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أى يجرى أمر الله وحكمه بينهن ، وملكه ينفذ فيهن. وعن قتادة : في كل سماء وفي كل أرض خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه. وقيل : هو ما يدبر فيهنّ من عجائب تدبيره. وقرئ : ينزل الأمر. وعن ابن عباس : أن نافع بن الأزرق سأله هل تحت الأرضين خلق؟ قال : نعم. قال : فما الخلق؟ قال : إما ملائكة أو جنّ (لِتَعْلَمُوا) قرئ بالتاء والياء.

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم» (١)

__________________

(١) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.

٥٦١

سورة التحريم

مدنية ، وتسمى سورة النبي صلى الله عليه وسلم

وهي ثنتا عشرة آية [نزلت بعد الحجرات]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(٢)

روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة ، وعلمت بذلك حفصة ، فقال لها : اكتمي علىّ ، وقد حرمت مارية على نفسي (١) ، وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان

__________________

(١) «نقل الزمخشري في سبب نزولها أنه عليه السلام خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة ، فقال لها : اكتمي علىّ وقد حرمت مارية على نفسي ... الخ» قال أحمد : ما أطلقه الزمخشري في حق النبي صلى الله عليه وسلم تقول وافتراء ، والنبي صلى الله عليه وسلم منه براء ، وذلك أن تحريم ما أحله الله على وجهين : اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه ، فهذا بمثابة اعتقاد حكم التحليل فيما حرمه الله عز وجل ، وكلاهما محظور لا يصدر من المتسمين بسمة الايمان ، وإن صدر سلب المؤمن حكم الايمان واسمه. الثاني : الامتناع مما أحله عز وجل ، وحمل التحريم بمجرده صحيح ، لقوله (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) أى منعنا لا غير ، وقد يكون مؤكدا باليمين مع اعتقاد حله ، وهذا مباح صرف وحلال محض ، ولو كان على المنع ترك المباح والامتناع منه غير مباح استحالت حقيقة الحال بلا إشكال ، فإذا علمت بون ما بين القسمين ، فعلى القسم الثاني تحمل الآية ، والتفسير الصحيح يعضده ، فان النبي صلى الله عليه وسلم حلف بالله لا أقرب مارية ، ولما نزلت الآية كفر عن يمينه ، ويدل عليه : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) وقال مالك في المدونة : عن زيد بن أسلم إنما كفر النبي صلى الله عليه وسلم في تحريمه أم ولده ، لأنه حلف أن لا يقربها. ومثله عن الشعبي ، وهذا المقدار مباح ليس في ارتكابه جناح ، وإنما قيل له : لم تحرم ما أحل الله لك ، رفقا به وشفقة عليه ، وتنويها لقدره ولمنصبه صلى الله عليه وسلم : أن يراعى مرضات أزواجه بما يشق عليه ، جريا على ما ألف من لطف الله تعالى بنبيه ورفعه عن أن يحرج بسبب أحد من البشر الذين هم أتباعه ومن أجله خلقوا ، ليظهر الله كمال نبوته بظهور نقصانهم عنه ، والزمخشري قطعا لم يحمل التحريم على هذا الوجه ، لأنه جعله زلة ، فيلزمه أن يحمله على المحمل الأول ، ومعاذ الله وحاش لله وإن آحاد المؤمنين يحاشى عن أن يعتقد تحريم ما أحل الله له ، فكيف لا يربأ بمنصب النبي عليه السلام عما يرتفع عنه منصب عامة الأمة ، وما هذه من الزمخشري إلا جراءة على الله ورسوله ، وإطلاق القول من غير تحرير ، وإبراز الرأى الفاسد بلا تخمير ، نعوذ بالله من ذلك ، وهو المسئول أن يجعل وسيلتنا إليه تعظيما لنبينا صلوات الله عليه ، وأن يجنبنا خطوات للشيطان ، ويقبلنا من عثرات اللسان ، آمين.

٥٦٢

بعدي أمر أمتى ، فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين (١). وقيل : خلا بها في يوم حفصة ، فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم (٢) ، فطلقها واعتزل نساءه ؛ ومكث تسعا وعشرين ليلة في بيت مارية. وروى أن عمر قال لها : لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك ، فنزل جبريل عليه السلام وقال : راجعها فإنها صوّامة قوّامة ، وإنها لمن نسائك في الجنة (٣). وروى أنه شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش ، فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له : إنا نشم منك ريح المغافير ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره التفل ، فحرّم العسل (٤) ، فمعناه (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) من ملك اليمين أو العسل. و (تَبْتَغِي) إما تفسير لتحرم. أو حال : أو

__________________

(١) لم أقف في شيء من الطرق على أن ذلك كان في بيت عائشة رضى الله عنها ، إلا فيما رواه ابن سعد عن الواقدي عن عمر بن عقبة عن شعبة هو مولى ابن عباس سمعت ابن عباس يقول «خرجت حفصة من بيتها. وكان يوم عائشة فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمارية القبطية بيت حفصة ، فجاءت حفصة والباب بحاف فدفعته حتى خرجت الجارية. فقالت حفصة : أما إنى قد رأيت ما صنعت. فقال لها : اكتمي على وهي على حرام ، فانطلقت حفصة إلى عائشة فأخبرتها فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) فأمر فكفر عن يمينه وحبس نساءه» وروى الطبراني في عشرة النساء وابن مردويه في التفسير عنه من طريق موسى بن جعفر بن أبى كثير بن عبد الرحمن عن عمر عن أبى بكر بن عبد الرحمن عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمارية القبطية بيت حفصة بنت عمر فوجدتها معه. فقالت : يا رسول الله في بيتي وتفعل هذا بى من دون نسائك قال : فإنها على حرام أن أمسها يا حفصة ، ألا أبشرك؟ فقالت : بلى. قال : يلي هذا الأمر من بعدي أبو بكر ويليه من بعده أبوك واكتمي هذا على ، فخرجت حتى أتت عائشة فذكرت ذلك كله. وفيه قوله : وكان أدى السرور أن حرمها على نفسه ، فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) وروى الطبراني من طريق الضحاك عن ابن عباس قال «دخلت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها وهو يطأ مارية ، فقال لها لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة ، فان أباك يلي من بعد أبى بكر إذا أنا مت ، فذهبت حفصة فأخبرت عائشة. فقالت عائشة رضى الله عنها : لا أنظر إليك حتى تحرم مارية فحرمها. فأنزل الله الآية».

(٢) أخرجه ابن إسحاق ومن طريقه ابن أبى خيثمة قال : أخبرنى بعض آل عمر قال «أصاب النبي صلى الله عليه وسلم جاريته القبطية أم ابراهيم في بيت حفصة وفي يومها. فعثرت حفصة على ذلك. فقالت : يا رسول الله ، لقد جئت أمرا ما جئته إلى أحد من نسائك في بيتي وعلى فراشي ، وفي دولتى؟ قال : أيرضيك أن أحرمها فلا أمسها أبدا؟ قالت : نعم. فحرمها على نفسه. وقال لا تذكريه لأحد من الناس ، وكانت حفصة لا تكتم عائشة شيئا ، فلما خرجت ذهبت إلى عائشة فأخبرتها. فأنزل الله تعالى «يا أيها النبي لم تحرم ، فكفر عن يمينه ، وقرب جاريته» وقوله «وطلقها واعتزل نساءه ومكث تسعة وعشرين ليلة في بيت مارية» : لم أر هذا.

(٣) لم أره هكذا ، وهو عند الحاكم وغيره بغير ذكر سببه ، وقال ابن سعد : أخبرنا زيد» وقال الحرث أخبرنا عفان قال : عن حماد عن أبى عمران الجونى عن قيس بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ، فقال : إن جبريل أتانى فقال لي : راجع حفصة فإنها صوامة قوامة ، وهي زوجتك في الجنة» وروى الحاكم من طريق الحسن بن أبى جعفر عن ثابت عن أنس نحوه وزاد تطليقة ، والحسن ضعيف. واختلف عليه فيه ، ورواه الطبراني والبزار من رواية الحسن المذكور عن عاصم عن عمار رضى الله عنه.

(٤) متفق عليه من حديث عمر بدون قوله «يكره التفل» فعندهما «وكان يشتد عليه أن يوجد منه الريح».

٥٦٣

استئناف ، وكان هذا زلة منه لأنه ليس لأحد أن يحرّم ما أحلّ الله لأن الله عزّ وجل إنما أحلّ ما أحل لحكمة ومصلحة عرفها في إحلاله ، فإذا حرّم كان ذلك قلب المصلحة مفسدة (وَاللهُ غَفُورٌ) قد غفر لك ما زللت فيه (رَحِيمٌ) قد رحمك فلم يؤاخذك به (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) فيه معنيان ، أحدهما : قد شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم ، من قولك : حلل فلان في يمينه ، إذا استثنى فيها. ومنه : حلا أبيت اللعن (١) ، بمعنى : استثن في يمينك إذا أطلقها ، وذلك أن يقول «إن شاء الله» عقيبها ، حتى لا يحنث. والثاني : قد شرع الله لكم تحلتها بالكفارة. ومنه قوله عليه السلام : «لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم» (٢) وقول ذى الرمّة :

قليلا كتحليل الألىّ (٣)

فإن قلت : ما حكم تحريم الحلال؟ قلت : قد اختلف فيه ، فأبو حنيفة براه يمينا في كل شيء ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرّمه ، فإذا حرّم طعاما فقد حلف على أكله ، أو أمة فعلى وطئها ، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية ، وإن نوى الظهار فظهار ، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن «وكذلك إن نوى ثنتين وإن نوى ثلاثا فكما نوى ، وإن قال : نويت الكذب ديّن فيما بينه وبين الله تعالى ، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء. وإن قال : كل حلال علىّ حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو ، وإلا فعلى ما نوى ، ولا يراه الشافعي يمينا. ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهنّ ، وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده. وعن أبى بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وزيد رضى الله عنهم : أنّ الحرام يمين (٤) وعن عمر : إذا نوى الطلاق فرجعى. وعن على رضى الله عنه : ثلاث (٥). وعن زيد : واحدة بائنة. وعن عثمان : ظهار.

__________________

(١) قوله «ومنه : حلا أبيت اللعن» في الصحاح : يقال حلا ، أى استثنى. ويا حالف اذكر حلا ، وهو بالكسر أفاده الصحاح أيضا. (ع)

(٢) أخرجه مسلم من حديث سعيد بن المسيب عن أبى هريرة رضى الله عنه.

(٣) قوله «كتحليل الألى» في الصحاح «الالية» : اليمين على فعلية ، وكذلك الألوة والألوة ، فأما الألوة بالتشديد : فهو العود الذي يتبخر به اه ، فالألى في كلام ذى الرمة جمع الألوة بالتخفيف «كالمدية والمدى ، والخطوة والخطى. (ع)

(٤) حديث أبى بكر رضى الله عنه أخرجه ابن أبى شيبة من رواية جويبر عن الضحاك : أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا : من قال لامرأته : هي على حرام ، فليست بحرام وعليه كفارة يمين. وإسناده ضعيف ومنقطع. وحديث عمر رضى الله عنه مثله ، وله طريق أخرى أخرجها ابن أبى شيبة أيضا من رواية خالد الحذاء عن عكرمة عنه قال «الحرام يمين» وهذا منقطع وحديث ابن عباس رضى الله عنهما مثله متفق عليه من رواية ابن جبير عنه قال : الحرام يمين يكفرها. وفي رواية لمسلم «إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها». وحديث ابن مسعود مثله ، وله طريق أخرى أخرجها عبد الرزاق من طريق الطبراني عن ابن عقبة عن ابن أبى نجيح عن مجاهد عنه ، قال : في الحرام يمين يكفرها. ورجاله ثقات مع انقطاعه. وحديث زيد بن ثابت رضى الله عنه مثله.

(٥) أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن على في قول الرجل لامرأته : أنت على حرام ، هي ثلاث. وهذا منقطع أيضا.

٥٦٤

وكان مسروق لا يراه شيئا ويقول : ما أبالى أحرمتها أم قصعة من ثريد ، وكذلك عن الشعبي قال : ليس بشيء ، محتجا بقوله تعالى (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) وقوله تعالى (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) وما لم يحرّمه الله تعالى فليس لأحد أن يحرّمه ولا أن يصير بتحريمه حراما ، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله : هو حرام علىّ ، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدّمت منه ، وهو قوله عليه السلام : والله لا أقربها بعد اليوم ، فقيل له : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) أى لم تمتنع منه بسبب اليمين ، يعنى : أقدم على ما حلفت عليه ، وكفر عن يمينك. ونحوه قوله تعالى (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) أى ، منعناه منها. وظاهر قوله تعالى (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أنه كانت منه يمين. فإن قلت : هل كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك؟ قلت : عن الحسن : أنه لم يكفر ، لأنه كان مغفورا له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر (١) ، وإنما هو تعليم للمؤمنين. وعن مقاتل : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) سيدكم ومتولى أموركم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما يصلحكم فيشرعه لكم (الْحَكِيمُ) فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما توجبه الحكمة. وقيل : مولاكم أولى بكم من أنفسكم ، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم.

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ)(٣)

(بَعْضِ أَزْواجِهِ) حفصة. والحديث الذي أسر إليها : حديث مارية وإمامة الشيخين نبأت به أفشته إلى عائشة. وقرئ : أنبأت به (وَأَظْهَرَهُ) وأطلع النبي عليه السلام (عَلَيْهِ) على الحديث ، أى : على إفشائه على لسان جبريل. وقيل : أظهر الله الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم من الظهور (عَرَّفَ بَعْضَهُ) أعلم ببعض الحديث تكرما. قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام. وقرئ : عرف بعضه ، أى : جاز عليه ، من قولك للمسىء : لأعرفن لك ذلك ، وقد عرفت ما صنعت. ومنه : أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ، وهو كثير في القرآن ، وكان جزاؤه تطليقه إياها. وقيل : المعرف : حديث الإمامة ، والمعرض عنه : حديث مارية : وروى

__________________

(١) لم أجده. وفي المراسيل لأبى داود عنه خلاف ذلك ، أخرجه من طريق قتادة عنه في تحريم أم إبراهيم. قال : فأمر أن يكفر عن يمينه ، وكذا ذكره ابن اسحق كما تقدم أنه كفر عن يمينه.

٥٦٥

أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : ألم أقل لك اكتمي علىّ ، قالت : والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحا بالكرامة التي خص الله بها أباها. فإن قلت : هلا قيل : فلما نبأت به بعضهن وعرفها بعضه؟ قلت : ليس الغرض بيان من المذاع إليه ومن المعرف ، وإنما هو ذكر جناية حفصة في وجود الإنباء به وإفشائه من قبلها ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرمه وحلمه ، لم يوجد منه إلا الإعلام ببعضه ، وهو حديث الإمامة. ألا ترى أنه لما كان المقصود في قوله (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) ذكر المنبأ ، كيف أتى بضميره.

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ)(٤)

(إِنْ تَتُوبا) خطاب لحفصة وعائشة على طريقة الالتفات ، ليكون أبلغ في معاتبتهما. وعن ابن عباس : لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عنهما حتى حج وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق عدل وعدلت معه بالإداوة ، فسكبت الماء على يده فتوضأ ، فقلت : من هما؟ فقال : عجبا يا ابن عباس ـ كأنه كره ما سألته عنه ـ ثم قال : هما حفصة وعائشة (١) (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) فقد وجد منكما ما يوجب التوبة ، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه. وقرأ ابن مسعود : فقد زاغت (وَإِنْ تَظاهَرا) وإن تعاونا (عَلَيْهِ) بما يسوءه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره ، فلن يعدم هو من يظاهره ، وكيف يعلم المظاهر من الله مولاه أى وليه وناصره ، وزيادة (هُوَ) إيذان بأن نصرته عزيمة من عزائمه ، وأنه يتولى ذلك بذاته (وَجِبْرِيلُ) رأس الكروبيين ، وقرن ذكره بذكره مفردا له من بين الملائكة تعظيما له وإظهارا لمكانته عنده (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ومن صلح من المؤمنين ، يعنى : كل من آمن وعمل صالحا. وعن سعيد بن جبير : من بريء منهم من النفاق. وقيل : الأنبياء وقيل : الصحابة. وقيل : الخلفاء منهم. فإن قلت : صالح المؤمنين واحد أم جمع؟ قلت : هو واحد أريد به الجمع ، كقولك : لا يفعل هذا الصالح من الناس ، تريد الجنس ، كقولك : لا يفعله من صلح منهم. ومثله قولك : كنت في السامر والحاضر. ويجوز أن يكون أصله : صالحوا المؤمنين بالواو ، فكتب بغير واو على اللفظ ، لأنّ لفظ الواحد والجمع واحد فيه ، كما جاءت أشياء في المصحف متبوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط (وَالْمَلائِكَةُ) على تكاثر عددهم ، وامتلاء السماوات من جموعهم (بَعْدَ ذلِكَ) بعد نصرة الله وناموسه وصالحي المؤمنين (ظَهِيرٌ) فوج مظاهر له ، كأنهم يد واحدة على من يعاديه ، فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء

__________________

(١) متفق عليه.

٥٦٦

ظهراؤه؟ فإن قلت : قوله (بَعْدَ ذلِكَ) تعظيم للملائكة ومظاهرتهم. وقد تقدّمت نصرة الله وجبريل وصالح المؤمنين ، ونصرة الله تعالى أعظم وأعظم. قلت : مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله ، فكأنه فضل نصرته تعالى بهم وبمظاهرتهم على غيرها من وجوه نصرته تعالى ، لفضلهم على جميع خلقه (١). وقرئ : تظاهرا. وتتظاهرا. وتظهرا.

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً)(٥)

قرئ : يبدله ، بالتخفيف والتشديد للكثرة (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) مقرّات مخلصات (سائِحاتٍ) صائمات. وقرئ : سيحات ، وهي أبلغ. وقيل للصائم : سائح ، لأنّ السائح لا زاد معه ، فلا يزال ممسكا إلى أن يجد ما يطعمه ، فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره. وقيل : سائحات مهاجرات ، وعن زيد بن أسلم : لم تكن في هذه الأمّة سياحة إلا الهجرة. فإن قلت : كيف تكون المبدلات خيرا منهن ، ولم تكن على وجه الأرض نساء خير من أمّهات المؤمنين؟ (٢) قلت : إذا طلقهن رسول الله لعصيانهن له وإيذائهن إياه ، لم يبقين على تلك الصفة ، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والنزول على هواه ورضاه خيرا منهن ، وقد عرض بذلك في قوله (قانِتاتٍ) لأنّ القنوت هو القيام بطاعة الله ، وطاعة الله في طاعة رسوله. فإن قلت : لم أخليت الصفات كلها عن العاطف (٣) ووسط بين الثيبات والأبكار؟ قلت : لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن (٤) في سائر الصفات ،

__________________

(١) قوله «لفضلهم على جميع خلقه» مذهب المعتزلة تفضيل الملك على البشر ، وأهل السنة على تفضيل بعض البشر على الملائكة. (ع)

(٢) قوله «نساء خير من أمهات المؤمنين» لعله خيرا. (ع)

(٣) قال محمود : «إن قلت لم أخليت هذه الصفات من العاطف ... الخ» قال أحمد : وقد ذكر لي الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله : أن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب رحمه الله كان يعتقد أن الواو في الآية هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية ، لأنها ذكرت مع الصفة الثامنة ، فكان الفاضل يتبجج باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة صلة ، أحدها التي في الصفة الثامنة من قوله (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) عند قوله (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) والثانية في قوله (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) والثالثة في قوله (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) قال الشيخ أبو عمرو بن الحاجب : ولم يزل الفاضل يستحسن ذلك من نفسه إلى أن ذكره يوما بحضرة أبى الجود النحوي المقري فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل ، وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري من دعاء الضرورة إلى الإتيان بها هاهنا ، لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد ، وواو الثمانية إن ثبتت فإنما ترد بحيث لا حاجة إليها إلا للاشعار بتمام نهاية العدد الذي هو السبعة ، فأنصفه الفاضل رحمه الله ، واستحسن ذلك منه وقال : أرشدنا يا أبا الجود.

(٤) قوله «لا يجتمعن فيهما اجتماعهن» لعل فيه قلبا ، والأصل : لا يجتمعان فيهن اجتماع سائر الصفات فيهن. (ع)

٥٦٧

فلم يكن بد من الواو.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٧)

(قُوا أَنْفُسَكُمْ) بترك المعاصي وفعل الطاعات (وَأَهْلِيكُمْ) بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم. وفي الحديث «رحم الله رجلا قال يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعلّ الله يجمعهم معه في الجنة» (١) وقيل : إنّ أشد الناس عذابا يوم القيامة من جهل أهله. وقرئ : وأهلوكم (٢) ، عطفا على واو (قُوا) وحسن العطف للفاصل. فإن قلت : أليس التقدير : قوا أنفسكم ، وليق أهلوكم أنفسهم؟ قلت : لا ، ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو ، وأنفسكم واقع بعده ، فكأنه قيل : قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه ، فجعلت ضميرهما معا على لفظ المخاطب (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) نوعا من النار لا يتقد إلا بالناس والحجارة ، كما يتقد غيرها من النيران بالحطب. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : هي حجارة الكبريت ، وهي أشدّ الأشياء حرا إذا أو قد عليها. وقرئ : وقودها بالضم ، أى ذو وقودها (عَلَيْها) يلي أمرها وتعذيب أهلها (مَلائِكَةٌ) يعنى الزبانية التسعة عشر وأعوانهم (غِلاظٌ شِدادٌ) في أجرامهم غلظة وشدّة ، أى : جفاء وقوّة. أو في أفعالهم جفاء وخشونة ، لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله والغضب له والانتقام من أعدائه (ما أَمَرَهُمْ) في محل النصب على البدل ، أى : لا يعصون ما أمر الله. أى : أمره ، كقوله تعالى (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) أو لا يعصونه فيما أمرهم. فإن قلت : أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت : لا ، فإنّ معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها. ومعنى الثانية : أنهم يؤدون ما يؤمرون

__________________

(١) لم أجده.

(٢) قال محمود في قوله تعالى (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) : قرئ وأهلوكم. قال أحمد : ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو ، وأنفسكم واقع بعده ، كأنه قال : قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم ، ولكن لما اجتمع ضمير المخاطب والغائبين : غلب ضمير الخطاب على ضمير الغيبة. ثم قال : فان قلت قوله (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أليس الجملتان في معنى واحد؟ وأجاب بأن معنى الأولى أنهم يلتزمون الأوامر ولا يأتونها ... الخ» قال أحمد : جوابه الأول مفرع على قاعدته الفاسدة في اعتقاد خلود الفساق في جهنم ، ولعله إنما أورد السؤال ليتكلف عنه بجواب ينفس عما في نفسه مما لا يطيق كتمانه من هذا الباطل نعوذ بالله منه ، وإلا فالسؤال غير وارد ، فانه لا يمتنع أن المؤمن يحذر من عذاب الكافر أن يناله على الإيمان ، كقوله في آل عمران خطابا للمؤمنين (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ، وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

٥٦٨

به لا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه. فإن قلت : قد خاطب الله المشركين المكذبين بالوحي بهذا بعينه في قوله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) وقال (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) فجعلها معدّة للكافرين ، فما معنى مخاطبته به المؤمنين؟ قلت: الفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار ، فإنهم مساكنون الكفار في دار واحدة فقيل للذين آمنوا : قوا أنفسكم باجتناب الفسوق مساكنة الكفار الذين أعدت لهم هذه النار الموصوفة. ويجوز أن يأمرهم بالتوقي من الارتداد ، والندم على الدخول في الإسلام ، وأن يكون خطابا للذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون ، ويعضد ذلك قوله تعالى على أثره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى : يقال لهم ذلك عند دخولهم النار لا تعتذروا ، لأنه لا عذر لكم. أو لأنه لا ينفعكم الاعتذار.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٨)

(تَوْبَةً نَصُوحاً) وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازى ، والنصح : صفة التائبين ، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم ، فيأتوا بها على طريقها متداركة للفرطات ماحية للسيئات ، وذلك : أن يتوبوا عن القبائح لقبحها ، نادمين عليها ، مغتمين أشدّ الاغتمام لارتكابها ، عازمين على أنهم لا يعودون في قبيح من القبائح إلى أن يعود اللبن في الضرع ، موطنين أنفسهم على ذلك. وعن على رضى الله تعالى عنه : أنه سمع أعرابيا يقول : اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك ، فقال : يا هذا ، إنّ سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين. قال : وما التوبة؟ قال : يجمعها ستة أشياء : على الماضي من الذنوب : الندامة ، وللفرائض : الإعادة ، ورد المظالم ، واستحلال الخصوم ، وأن تعزم على أن لا تعود ، وأن تذيب نفسك في طاعة الله ، كما ربيتها في المعصية ، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي. وعن حذيفة : بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب ثم يعود فيه. وعن شهر بن حوشب : أن لا يعود ولو حز بالسيف وأحرق بالنار. وعن ابن السماك : أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك وتستعد لمنتظرك. وقيل : توبة لا يتاب منها. وعن السدى : لا تصح التوبة إلا بنصيحة النفس والمؤمنين ، لأن من صحت توبته أحب أن يكون الناس مثله. وقيل : نصوحا من نصاحة الثوب ، أى : توبة ترفو

٥٦٩

خروقك في دينك ، وترم خلك (١). وقيل : خالصة ، من قولهم : عسل ناصح إذا خلص من الشمع. ويجوز أن يراد : توبة تنصح الناس ، أى : تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها ، واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها. وقرأ زيد بن على : توبا نصوحا. وقرئ : نصوحا بالضم ، وهو مصدر نصح. والنصح والنصوح ، كالشكر والشكور ، والكفر والكفور أى : ذات نصوح. أو تنصح نصوحا. أو توبوا لنصح أنفسكم على أنه مفعول له (عَسى رَبُّكُمْ) إطماع من الله لعباده ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون على ما جرت به عادة الجبابرة من الإجابة بعسى ولعل. ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت. والثاني : أن يجيء به تعليما العباد وجوب الترجح بين الخوف والرجاء ، والذي يدل على المعنى الأول وأنه في معنى البت : قراءة ابن أبى عبلة : ويدخلكم بالجزم ، عطفا على محل (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ) كأنه قيل : توبوا يوجب لكم تكفير سيئاتكم ويدخلكم (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ) نصب بيدخلكم ، ولا يخزى : تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسوق ، واستحماد إلى المؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم (يَسْعى نُورُهُمْ) على الصراط (أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) قال ابن عباس : يقولون ذلك إذا طفئ نور المنافقين إشفاقا. وعن الحسن : الله متممه لهم ولكنهم يدعون تقربا إلى الله ، كقوله تعالى (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) وهو مغفور له. وقيل : يقوله أدناهم منزلة ، لأنهم يعطون من النور قدر ما يبصرون به مواطئ أقدامهم ، لأنّ النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه تفضلا. وقيل : السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط ، وبعضهم كالريح ، وبعضهم حبوا وزحفا ، فأولئك الذين يقولون (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) فإن قلت : كيف يشفقون والمؤمنون آمنون ، (أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ). (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) ، (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) أو كيف (٢) يتقربون وليست الدار دار تقرّب؟ قلت : أما الإشفاق فيجوز أن يكون على عادة البشرية وإن كانوا معتقدين الأمن. وأما التقرّب فلما كانت حالهم كحال المتقربين حيث يطلبون ما هو حاصل لهم من الرحمة : سماه تقرّبا.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٩)

(جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف (وَالْمُنافِقِينَ) بالاحتجاج ، واستعمل الغلظة والخشونة على

__________________

(١) قوله «وترم خلك» في الصحاح «الخل» الثوب البالي. وعبارة النسفي : خالك. وفي الصحاح «الخلل» بالتحريك : الفرجة بين الشيئين ، وفساد في الأمر. (ع)

(٢) قوله «أو كيف» لعله : وكيف. (ع)

٥٧٠

الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة. وعن قتادة : مجاهدة المنافقين لإقامة الحدود عليهم. وعن مجاهد : بالوعيد. وقيل : بإفشاء أسرارهم.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)(١٠)

مثل الله عز وجل حال الكفار ـ في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم (١) من غير إبقاء ولا محاباة ، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة نسب أو وصلة صهر ، لأن عداوتهم لهم وكفرهم بالله ورسوله قطع العلائق وبت الوصل ، وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد ، وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبيا من أنبياء الله ـ بحال امرأة نوح وامرأة لوط : لما نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن الرسولان عنهما بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج إغناء مّا من عذاب الله (وَقِيلَ) لهما عند موتهما أو يوم القيامة : (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ) سائر (الدَّاخِلِينَ) الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء. أو مع داخليها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط. ومثل حال المؤمنين ـ في أنّ وصلة الكافرين لا تضرهم ولا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند الله ـ بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله تعالى ، مع كونها زوجة أعدى أعداء الله الناطق بالكلمة العظمى ، ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين ، مع أنّ قومها كانوا كفارا. وفي طىّ هذين التمثيلين تعريض بأمّى المؤمنين المذكورتين في أوّل السورة وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم (٢) بما كرهه وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده ، لما في التمثيل من ذكر الكفر. ونحوه في التغليظ قوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله ، فإنّ ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين ، والتعريض بحفصة أرجح ، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله ، وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدا يدق عن تفطن العالم ويزل عن نبصره.

__________________

(١) قوله «حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم» أى الذين بينهم وبين المؤمنين علاقة. وقوله «مثلهم» أى ممن لا علاقة بينهم وبين المؤمنين. (ع)

(٢) قوله «على التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم» لعله من التظاهر ، كعبارة النسفي. (ع)

٥٧١

فإن قلت ، ما فائدة قوله (مِنْ عِبادِنا)؟ قلت : لما كان مبنى التمثيل على وجود الصلاح في الإنسان كائنا من كان ، وأنه وحده هو الذي يبلغ به الفوز وينال ما عند الله : قال عبدين من عبادنا صالحين ، فذكر النبيين المشهورين العلمين بأنهما عبدان لم يكونا إلا كسائر عبادنا ، من غير تفاوت بينهما وبينهم إلا بالصلاح وحده إظهارا وإبانة ، لأن عبدا من العباد لا يرجح عنده إلا بالصلاح لا غير ، وأن ما سواه مما يرجح به الناس عند الناس ليس بسبب للرجحان عنده. فإن قلت : ما كانت خيانتهما؟ قلت : نفاقهما وإبطانهما الكفر ، وتظاهرهما على الرسولين ، فامرأة نوح قالت لقومه : إنه مجنون ، وامرأة لوط دلت على ضيفانه. ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور لأنه سمج في الطباع نقيصة عند كل أحد ، بخلاف الكفر فإن الكفار لا يستسمجونه بل يستحسنونه ويسمونه حقا ، وعن ابن عباس رضى الله عنهما «ما بغت امرأة نبى قط» (١).

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ)(١٢)

وامرأة فرعون : : آسية بنت مزاحم. وقيل : هي عمة موسى عليه السلام آمنت حين سمعت بتلقف عصا موسى الإفك ، فعذبها فرعون. عن أبى هريرة : أن فرعون وتد امرأته بأربعة أوتاد ، واستقبل بها الشمس ، وأضجعها على ظهرها ، ووضع رحى على صدرها. وقيل : أمر بأن تلقى عليها صخرة عظيمة فدعت الله فرقى بروحها ، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه. وعن الحسن : فنجاها الله أكرم نجاة ؛ فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتتنعم فيها. وقيل : لما قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة : أريت بيتها في الجنة يبنى. وقيل : إنه من درة. وقيل : كانت تعذب في الشمس فتظلها الملائكة. فإن قلت : ما معنى الجمع بين عندك وفي الجنة؟ قلت طلبت القرب من رحمة الله والبعد من عذاب أعدائه ، ثم بينت مكان القرب بقولها (فِي الْجَنَّةِ) أو أرادت ارتفاع الدرجة في الجنة وأن تكون جنتها من الجنان التي هي أقرب إلى العرش وهي جنات المأوى ، فعبرت عن القرب إلى العرش بقولها (عِنْدَكَ). (مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) من عمل فرعون. أو من نفس فرعون الخبيثة وسلطانه الغشوم ، وخصوصا

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق والطبري وابن مردويه من طريق عنه في تفسير هود وهنا.

٥٧٢

من عمله وهو : الكفر ، وعبادة الأصنام ، والظلم ، والتعذيب بغير جرم (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) من القبط كلهم. وفيه دليل على أنّ الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل : من سير الصالحين وسنن الأنبياء والمرسلين : (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ). (فِيهِ) في الفرج. وقرأ ابن مسعود : فيها ، كما قرئ في سورة الأنبياء ، والضمير للجملة ، وقد مرّ لي في هذا الظرف كلام. ومن بدع التفاسير : أنّ الفرج هو جيب الدرع ، ومعنى أحصنته : منعته جبريل ، وأنه جمع في التمثيل بين التي لها زوج والتى لا زوج لها ، تسلية للأرامل وتطييبا لأنفسهنّ (وَصَدَّقَتْ) قرئ بالتشديد والتخفيف على أنها جعلت الكلمات والكتب صادقة ، يعنى : وصفتها بالصدق ، وهو معنى التصديق بعينه. فإن قلت : فما كلمات الله وكتبه؟ قلت : يجوز أن يراد بكلماته : صحفه التي أنزلها على إدريس وغيره ، سماها كلمات لقصرها (١) ، وبكتبه : الكتب الأربعة (٢) ، وأن يراد جميع ما كلم الله به ملائكته وغيرهم ، وجميع ما كتبه في اللوح وغيره. وقرئ : بكلمة الله وكتابه. أى : بعيسى وبالكتاب المنزل عليه وهو الإنجيل. فإن قلت : لم قيل (مِنَ الْقانِتِينَ) على التذكير؟ قلت : لأنّ القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين ، فغلب ذكوره على إناثه. و (مِنْ) للتبعيض. ويجوز أن يكون لابتداء الغاية ، على أنها ولدت من القانتين ، لأنها من أعقاب هرون أخى موسى صلوات الله عليهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد. وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» (٣) وأما ما روى أنّ عائشة سألت

__________________

(١) قال محمود : «يجوز أن يراد بالكلمات الصحف التي أنزلها الله تعالى على إدريس وغيره : سماها كلمات لقصرها ... الخ» قال أحمد : هو يعتقد حدوث كلام الله ويجحد الكلام القديم. فلا جرم أن كلامه لا يعدو الاشعار بأن كلمات الله متناهية ، لأنه في الوجه الأول جعلها مجموعة جمع قلة لقصرها ، وفي الثاني حصرها بقوله «جميع» وأين وصفه لها بالقصر والحصر من الآيتين التوأمتين اللتين إحداهما قوله (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) والأخرى قوله (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ...) الآية وما هو في الحقيقة إلا غير مؤمن بكلمات الله تعالى ، فالحق أن كلام الله تعالى صفة من صفات كماله أزلية أبدية غير متناهية ، فهكذا آمنت امرأة فرعون المتلو ثناؤها في كتاب الله العزيز ، ثبتنا الله على الايمان ، ووقانا الخذلان ، والله المستعان.

(٢) قوله «وبكتبه الكتب الأربعة» لعلها علمت بالإنجيل والقرآن نزولهما. (ع)

(٣) أخرجه الثعلبي من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة عن عمرو بن مرة سمع مرة عن أبى موسى بهذا. وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عمرو بن مرة من هذا الوجه. قال : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا يوسف القاضي حدثنا عمرو بن مرزوق بهذا. وهو في البخاري من رواية مرة عن أبى موسى دون ذكر خديجة وفاطمة

٥٧٣

رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف سمى الله المسلمة؟ تعنى مريم ، ولم يسم الكافرة؟ فقال: بغضالها : قالت : وما اسمها؟ قال : اسم امرأة نوح «واعلة» واسم امرأة لوط «واهلة» فحديث أثر الصنعة عليه ظاهر بين ، ولقد سمى الله تعالى جماعة من الكفار بأسمائهم وكناهم ، ولو كانت التسمية للحب وتركها البغض لسمى آسية ، وقد قرن بينها وبين مريم في التمثيل للمؤمنين ، وأبى الله إلا أن يجعل للمصنوع أمارة تنم عليه ، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكم وأسلم من ذلك.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ سورة التحريم آتاه الله توبة نصوحا» (١)

سورة الملك

مكية ، وهي ثلاثون آية [نزلت بعد الطور]

وتسمى : الواقية ، والمنجية ، لأنها تقى وتنجي قارئها من عذاب القبر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (٤)

(تَبارَكَ) تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) على كل موجود (وَهُوَ

__________________

ـ رضى الله عنهما. وفي ابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس رضى الله عنهما رفعه «أفضل نساء العالمين أربع ... فذكره».

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه باسنادهما إلى أبى بن كعب.

٥٧٤

عَلى كُلِ) ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة (قَدِيرٌ) وذكر اليد مجاز عن الإحاطة بالملك والاستيلاء عليه. والحياة : ما يصح بوجوده الإحساس. وقيل : ما يوجب كون الشيء حيا ، وهو الذي يصح منه أن يعلم ويقدر. والموت عدم ذلك (١) فيه ، ومعنى خلق الموت والحياة : إيجاد ذلك المصحح وإعدامه. والمعنى : خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون (لِيَبْلُوَكُمْ) وسمى علم الواقع منهم باختيارهم «بلوى» وهي الخبرة استعارة من فعل المختبر. ونحوه قوله تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ* حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ). فإن قلت : من أين تعلق قوله (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) بفعل البلوى (٢)؟ قلت : من حيث أنه تضمن معنى العلم ، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملا ، وإذا قلت : علمته أزيد أحسن عملا أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه ، كما تقول : علمته هو أحسن عملا. فإن قلت : أتسمى هذا تعليقا؟ قلت : لا ، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسدّ مسدّ المفعولين جميعا ، كقولك : علمت أيهما عمرو ، وعلمت أزيد منطلق. ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدرا بحرف الاستفهام وغير مصدر به ، ولو كان تعليقا لا فترقت الحالتان كما افترقتا في قولك : علمت أزيد منطلق. وعلمت زيدا منطلقا. (أَحْسَنُ عَمَلاً). قيل : أخلصه وأصوبه ، لأنه إذا كان خالصا غير صواب لم يقبل ، وكذلك إذا كان صوابا غير خالص ، فالخالص : أن يكون لوجه الله تعالى ، والصواب : أن يكون على السنة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلاها ، فلما بلغ قوله (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال : «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله» (٣) يعنى : أيكم أتم عقلا عن الله وفهما لأغراضه ، والمراد : أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل وتستمكنون منه ، وسلط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح ، لأن وراءه البعث والجزاء الذي لا بد منه. وقدم الموت على الحياة ، لأنّ أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم (وَهُوَ الْعَزِيزُ)

__________________

(١) قال محمود : «أى ما يوجب كون الشيء حيا أو ما يصح بوجوده الاحساس والموت عدم ذلك ... الخ» قال أحمد : أخطأ في تفسير الموت ديدنه المعروف أن يفسر ويتبع التفسير آراء القدرية ، ومنها قطع الله ذكرها :

أن الموت عدم ، وهو خطأ صراح. ومعتقد أهل السنة أنه أمر وجودى يضاد الحياة ، وكيف يكون العدم بهذه المثابة ، ولو كان العدم مخلوقا حادثا وعدم الحوادث مقرر أزلا : للزم قطع الحوادث أزلا ، وذلك أبشم من القول بقدم العالم ، فانظر إلى هذا الهوى أين مؤداه. وكيف أهوى بصاحبه فأرداه ، نعوذ بالله من الزلل والخطل.

(٢) قال محمود : «أين تعلق قوله (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) بفعل البلوى؟ وأجاب بأن معناه ليعلمكم أيكم أحسن عملا ، لأن البلوى تتضمن العلم ... الخ» قال أحمد : التعليق عن أحد المفعولين مختلف فيه بين النحاة ، والأصح ما أجازه ، وهو في هذا الفن يمشى وفيه يدرج ويدرى كيف يدخل فيه ويخرج.

(٣) تقدم الكلام عليه في أول سورة هود.

٥٧٥

الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل (الْغَفُورُ) لمن تاب من أهل الإساءة (طِباقاً) مطابقة بعضها فوق بعض ، من طابق النعل : إذا خصفها طبقا على طبق ، وهذا وصف بالمصدر. أو على ذات طباق ، أو على : طوبقت طباقا (مِنْ تَفاوُتٍ) وقرئ : من تفوت. ومعنى البناءين واحد ، كقولهم : تظاهروا من نسائهم. وتظهروا. وتعاهدته وتعهدته ، أى : من اختلاف واضطراب في الخلقة ولا تناقض ، إنما هي مستوية مستقيمة. وحقيقة التفاوت : عدم التناسب ، كأن بعض الشيء يفوت بعضا ولا يلائمه. ومنه قولهم : خلق متفاوت. وفي نقيضه : متناصف. فإن قلت : كيف موقع هذه الجملة مما قبلها؟ قلت : هي صفة مشايعة لقوله (طِباقاً) وأصلها : ما ترى فيهنّ من تفاوت ، فوضع مكان الضمير قوله (خَلْقِ الرَّحْمنِ) تعظيما لخلقهنّ ، وتنبيها على سبب سلامتهنّ من التفاوت : وهو أنه خلق الرحمن ، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب ، والخطاب في ما ترى للرسول أو لكل مخاطب. وقوله تعالى (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) متعلق به على معنى التسبيب ، أخبره بأنه لا تفاوت في خلقهنّ ، ثم قال (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة ، ولا تبقى معك شبهة فيه (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) من صدوع وشقوق : جمع فطر وهو الشق. يقال : فطره فانفطر. ومنه : فطر ناب البعير ، كما يقال : شق وبزل. ومعناه : شق اللحم فطلع. وأمره بتكرير البصر فيهنّ متصفحا ومتتبعا يلتمس عيبا وخللا (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ) أى إن رجعت البصر وكررت النظر لم يرجع إليك بصرك بما التمسته من رؤية الخلل وإدراك العيب ، بل يرجع إليك بالخسوء والحسور ، أى : بالبعد عن إصابة الملتمس. كأنه يطرد عن ذلك طردا بالصغار والقماءة (١). وبالإعياء والكلال لطول الإجالة والبرديد. فإن قلت : كيف ينقلب البصر خاسئا حسيرا برجعه كرّتين اثنتين؟ قلت : معنى التثنية التكرير بكثرة (٢) ، كقولك : لبيك وسعديك ، تريد إجابات كثيرة بعضها في أثر بعض ، وقولهم في المثل : دهدرّين سعد القين (٣) من ذلك. أى : باطلا بعد باطل. فإن قلت : فما معنى ثم ارجع؟ قلت : أمره يرجع

__________________

(١) قوله «بالصغار والقماءة» أى : الصغر والذل ، كما في الصحاح. (ع)

(٢) قال محمود : «لم خص الكرتين؟ فأجاب بأن معنى التئنية هاهنا التكثير ... الخ» قال أحمد : وفي قوله (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ) وضع الظاهر موضع المضمر. وفيه من الفائدة : التنبيه على أن الذي يرجع خاسئا حسيرا غير مدرك الفطور : هو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن ، فإذا لم يدرك شيء دل على أنه لا شيء. ومن هذا القبيل قوله (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) وأصله : ما ترى في خلقهن من تفاوت ، ولكنه ذكرهن منسربات لخلق الرحمن ، تنبيها على السبب الذي ربأ بهن على الفطور والتفاوت.

(٣) قوله «دهدرين ... الخ» في القاموس بضم الدالين وفتح الراء المشددة : اسم لبطل ، وللباطل والكذب كالدهدر. ودهدرين سعد القين : أى بطل سعد الحداد. أو أن فينا ادعى أن اسمه سعد زمانا ، ثم تبين كذبه ، فقيل له ذلك» أى : جمعت باطلا إلى باطل يا سعد الحصاد. ويروى منفصلا «ده» أمر من الدهاء ، و «درين» من در : أى تتابع ، أى : بالغ في الكذب يا سعد. وفيه غير ذلك ، فراجعه ، كذا بهامش الأصل. (ع)

٥٧٦

البصر ، ثم أمره بأن لا يقتنع بالرجعة الأولى وبالنظرة الحمقاء ، وأن يتوقف بعدها ويجم بصره ، ثم يعاود ويعاود ، إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة ، فإنه لا يعثر على شيء من فطور.

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) (٥)

(الدُّنْيا) القربى ، لأنها أقرب السماوات إلى الناس ، ومعناها : السماء الدنيا منكم. والمصابيح السرج ، سميت بها الكواكب ، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بأثقاب المصابيح (١) ، فقيل : ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها (بِمَصابِيحَ) أى بأى مصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة ، وضممنا إلى ذلك منافع أخر : أنا (جَعَلْناها رُجُوماً) أعدائكم : (لِلشَّياطِينِ) الذين يخرجونكم من النور إلى الظلمات وتهتدون بها في ظلمات البر والبحر. قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها. فمن تأوّل فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به وعن محمد بن كعب : في السماء والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم ، ولكنهم يبتغون الكهانة ويتخذون النجوم علة. والرجوم : جمع رجم : وهو مصدر سمى به ما يرجم به. ومعنى كونها مراجم للشياطين : أنّ الشهب التي تنقض لرمي المسترقة منهم منفصلة من نار الكواكب ، لا أنهم يرجمون بالكواكب أنفسها ، لأنها قارة في الفلك على حالها. وما ذاك إلا كقبس يؤخذ من نار ، والنار ثابتة كاملة لا تنقص. وقيل : من الشياطين المرجومة من يقتله الشهاب. ومنهم من يخبله. وقيل : معناه وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم النجامون (٢) (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) في الآخرة بعد عذاب الإحراق بالشهب في الدنيا.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا

__________________

(١) قوله «ودورهم بأثقاب المصابيح» في الصحاح «ثقبت النار» : اتقدت. وأثقبتها أنا. وشهاب ثاقب ، أى : مضيء. (ع)

(٢) حمل الزمخشري الشياطين على ظاهره ، ونقل عن بعضهم أن معناه : وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيب ... الخ. قال أحمد : وهذا من الاستطراد. لما ذكر وعيد الشياطين استطرد ذلك وعيد الكافرين عموما والله أعلم.

٥٧٧

وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)(١٢)

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أى : ولكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم (عَذابُ جَهَنَّمَ) ليس الشياطين المرجومين مخصوصين بذلك. وقرئ عذاب جهنم بالنصب عطفا على عذاب السعير (إِذا أُلْقُوا فِيها) أى طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة ، ويرمى به. ومثله قوله تعالى (حَصَبُ جَهَنَّمَ). (سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) إمّا لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها. أو من أنفسهم ، كقوله (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) وإما للنار تشبيها لحسيسها (١) المنكر الفظيع بالشهيق (وَهِيَ تَفُورُ) تغلى بهم غليان المرجل بما فيه. وجعلت كالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم ، ويقولون : فلان يتميز غيظا ويتقصف غضبا ، وغضب فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء : إذا وصفوه بالإفراط فيه. ويجوز أن يراد : غيظ الزبانية (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) توبيخ يزدادون به عذابا إلى عذابهم وحسرة إلى حسرتهم. وخزنتها : مالك وأعوانه من الزبانية (قالُوا بَلى) اعتراف منهم بعدل الله ، وإقرار بأن الله عز وعلا أزاح عللهم ببعثة الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه ، وأنهم لم يؤتوا من قدره كما تزعم المجبرة (٢) ، وإنما أتوا من قبل أنفسهم ، واختيارهم خلاف ما اختار الله وأمر به وأوعد على ضده. فإن قلت : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) من المخاطبون به؟ قلت : هو من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين ، على أنّ النذير بمعنى الإنذار. والمعنى : ألم يأتكم أهل نذير. أو وصف منذروهم لغلوهم في الإنذار ، كأنهم ليسوا إلا إنذارا ، وكذلك (قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) ونظيره قوله تعالى (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أى حاملا رسالته. ويجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول : أرادوا حكاية ما كانوا عليه من ضلالهم في الدنيا. أو أرادوا بالضلال : الهلاك. أو سموا عقاب الضلال باسمه. أو من كلام الرسل لهم حكوه للخزنة ، أى قالوا لنا هذا فلم نقبله (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ)

__________________

(١) قوله «تشبيها لحسيسها» في الصحاح : الحس والحسيس : الصوت ، والخفي. (ع)

(٢) قوله «كما تزعم المجبرة» إن كان مراده أهل السنة كعادته لقولهم : إنه تعالى هو الخالق لأفعال العباد ، وأنها بقضائه تعالى وقدره ، بل من جهة ما لهم فيها من الكسب والاختيار كما تقرر في محله وإن كان مراده القائلين بالجبر المحض وأن العبد كالريشة المعلقة في الهواء لا دخل له في عمله أصلا ، فقد أصاب الفرق الضروري بين حركة اليد في البطش وحركتها في الارتعاش ، كما تقرر في علم التوحيد ، فارجع إليه. (ع)

٥٧٨

الإنذار سماع طالبين للحق (١). أو نعقله عقل متأمّلين. وقيل : إنما جمع بين السمع والعقل ، لأنّ مدار التكليف على أدلة السمع والعقل. ومن بدع التفاسير : أنّ المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب (٢) الرأى ، كأنّ هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين ، وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم ، وكأن من كان من هؤلاء فهو من من الناجين لا محالة ، وعدّة المبشرين من الصحابة : عشرة ، لم يضم إليهم حادي عشر ، وكأن من يجوز على الصراط أكثرهم لم يسمعوا باسم هذين الفريقين (بِذَنْبِهِمْ) بكفرهم في تكذيبهم الرسل (فَسُحْقاً) قرئ بالتخفيف والتثقيل ، أى : فبعدا لهم ، اعترفوا أو جحدوا ، فإنّ ذلك لا ينفعهم.

(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(١٤)

ظاهره الأمر بأحد الأمرين : الإسرار والإجهار. ومعناه : ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم (٣) في علم الله بهما ، ثم أنه علله ب (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أى بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها ، فكيف لا يعلم ما تكلم به. ثم أنكر أن لا يحيط علما بالمضمر والمسر والمجهر (مَنْ خَلَقَ) الأشياء (٤) ، وحاله أنه اللطيف الخبير ، المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه

__________________

(١) قال محمود : «معناه لو كنا نسمع للانذار سماع طالبين للحق ... الخ» قال أحمد : إن عنى أن الأحكام الشرعية تستفاد من العقل كما تستفاد من السمع بناء على قاعدة التحسين والتقبيح ، فهو غير بعيد من أصحاب السعير. وإن عنى أن العقل يرشد إلى العقائد الصحيحة والسمع يختص بالأحكام الشرعية : فهو مع أهل السنة.

(٢) قال محمود : «ومن بدع التفاسير أن المراد : لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأى ... الخ» قال أحمد : ولو تفطن نبيه لهذه الآية لعدها دليلا على تفضيل السمع على البصر ، فانه قد استدل على ذلك بأخفى منها.

(٣) قوله «إسراركم وإجهاركم» في الصحاح «إجهار الكلام» : إعلانه. (ع)

(٤) قال محمود : «أنكر أن لا يحيط علما بالسر أو الجهر من خلق ذلك ... الخ» قال أحمد : هذه الآية رد على المعتزلة وتصحيح الطريق التي يسلكها أهل السنة في الرد عليهم ، فان أهل السنة يستدلون على أن العبد لا يخلق أفعاله بأنه لا يعلمها ، وهو استدلال بنفي اللازم الذي هو العلم على نفى الملزوم الذي هو الخلق ، وبهذه الملازمة دلت الآية ، فان الله تعالى أرشد إلى الاستدلال على ثبوت العلم له عز وجل بثبوت الخلق ، وهو استدلال بوجود الملزوم على وجود اللازم ، فهو نور واحد يقتبس منه ثبوت العلم الباري عز وجل ، وإبطال خلق العبد لأفعاله ، وإعراب الآية ينزل على هذا المعنى ، فان الوجه فيها أن يكون (مَنْ) فاعلا مرادا به الخالق ، ومفعول العلم محذوف تقديره : ذلك إشارة إلى السر والجهر ومفعول خلق محذوف ضميره عائد إلى ذلك. والتقدير في الجميع : ألا يعلم السر والجهر من خلقهما. ومتى حذونا غير هذا الوجه من الاعراب ألقانا إلى مضايق التكلف والتعسف ، فمن المحتمل أن يكون من مفعولة واقعة على فاعل السر والجهر ، والتقدير : ألا يعلم الله المسرين والجاهرين ، وليس مطابقا ـ

٥٧٩

وما بطن. ويجوز أن يكون (مَنْ خَلَقَ) منصوبا بمعنى : ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله. وروى أنّ المشركين كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء ، فيظهر الله رسوله عليها ، فيقولون : أسروا قولكم لئلا يسمعه إله محمد ، فنبه الله على جهلهم. فإن قلت : قدرت في (أَلا يَعْلَمُ) مفعولا على معنى : ألا يعلم ذلك المذكور مما أضمر في القلب وأظهر باللسان من خلق ، فهلا جعلته مثل قولهم : هو يعطى ويمنع ، وهلا كان المعنى : ألا يكون عالما من هو خالق ، لأنّ الخلق لا يصح إلا مع العلم؟ قلت : أبت ذلك الحال التي هي قوله (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) لأنك لو قلت : ألا يكون عالما من هو خالق وهو اللطيف الخبير : لم يكن معنى صحيحا ، لأنّ ألا يعلم معتمد على الحال. والشيء لا يوقت بنفسه ، فلا يقال : ألا يعلم وهو عالم ، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)(١٥)

المشي في مناكبها : مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية ، لأنّ المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشى في مناكبها لم يترك (١). وقيل : مناكبها جبالها. قال الزجاج : معناه سهل لكم السلوك في جبالها ، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها ، فهو أبلغ التذليل. وقيل جوانبها. والمعنى : وإليه نشوركم ، فهو مسائلكم (٢) عن شكر ما أنعم به عليكم.

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ)(١٩)

(مَنْ فِي السَّماءِ) فيه وجهان : أحدهما من ملكوته في السماء ، لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه. والثاني: أنهم

__________________

ـ للمفصل ، فانه لم يقع ذوات الفاعلين ، وإنما وقع على أفعالهم من السر والجهر. وعليه وقع الاستدلال. ويحتمل غير ذلك أبعد منه. والأول هو الأولى لفظا ومعنى. والله الموفق.

(١) قوله «لم يترك» لعل هنا سقطا تقديره : لم يترك شيئا منها إلا قد ذلله. (ع)

(٢) قوله «فهو مسائلكم» عبارة النسفي : سائلكم. (ع)

٥٨٠