محمود بن عمر الزمخشري
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦
كأنّ قتودى فوقها عشّ طائر |
|
على لينة سوقاء تهفو جنوبها (١) |
وجمعها لين. وقرئ : قوّما ، على أصلها. وفيه وجهان : أنه جمع أصل كرهن ورهن. أو اكتفى فيه بالضمة عن الواو. وقرئ : قائما على أصوله ذهابا إلى لفظ ما (فَبِإِذْنِ اللهِ) فقطعها بإذن الله وأمره (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) ولبذل اليهود ويغيظهم إذن في قطعها ، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر أن تقطع نخلهم وتحرق قالوا : يا محمد ، قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض ، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فكان في نفس المؤمنين من ذلك شيء (٢). فنزلت ، يعنى : أنّ الله أذن لهم في قطعها ليزيدكم غيظا ويضاعف لكم حسرة إذا رأيتموهم يتحكمون في أموالكم كيف أحبوا ويتصرفون فيها ما شاءوا. واتفق العلماء أنّ حصون الكفرة وديارهم لا بأس بأن تهدم وتحرق وتغرق وترمى بالمجانيق ، وكذلك أشجارهم لا بأس بقلعها مثمرة كانت أو غير مثمرة. وعن ابن مسعود : قطعوا منها ما كان موضعا للقتال. فإن قلت : لم خصت اللينة بالقطع؟ قلت : إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية ، وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشد وأشق. وروى أن رجلين كانا يقطعان : أحدهما العجوة ، والآخر اللون ، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا : تركتها لرسول الله ، وقال هذا : قطعتها غيظا للكفار (٣). وقد استدل به على جواز الاجتهاد ، وعلى جوازه بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك ،
__________________
(١) لذي الرمة يصف ناقته : والقتود عبدان الرحل بلا أذاته. تتخذ من القتاد وهو شجر صلب ذو شوك. واللينة : النخلة. والسوقاء : طويلة الساق. وهفا الريح والبصير يهفو : عدا بسرعة والجنوب : نوع من الريح ، والضمير للينة : شبه عيدان الرجل فوق الناقة بعش الطائر فوق النخلة ، ويلزم من ذلك تشبيه الناقة بالنخلة في الطول والنجابة. وهو المقصود ، فلو قيل : إن استعمال التشبيه الأول في الثاني من باب المجاز ، أو إرادة الثاني من الأول من باب الكناية لم يكن بعيدا. وفي ذلك إشارة لتشبيه بالطائر في الحذر والتيقظ. وفي قوله «تهفو جنوبها» دلالة على سرعة سير الناقة ، واختراقها للرياح كسرعة سير الريح على النخلة ، فهي مخترقة له ، كأنها سائرة فيه بسرعة.
(٢) أخرجه ابن إسحاق في المغازي والطبري من طريقه : حدثنا يزيد بن رومان فذكره. وذكره ابن هشام عن ابن إسحاق من غير ذكر شيخه : ورواه ابن مردويه من طريق ابن إسحاق عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس. وذكر الواقدي في المغازي «أن الذي أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو حيي بن أخطب» وروى أبو داود في المراسيل من طريق عبد الله بن أبى بكر بن عمرو بن حزم نحوه مختصرا.
(٣) لم أجده بهذا السياق لكن للبخاري في الواقدي ، واستعمل على قطع النخل وحرقها رجلين من أصحابه : أبا ليلى المازني وعبد الله بن سلام فكان أبو ليلى يقطع العجوة وكان الآخر يقطع اللون. فقيل لهما في ذلك. فقال أبو ليلى : كانت العجوة أحرق لهم وقال ابن سلام : قد عرف أن الله سيغنمهم أموالهم ، وكانت العجوة خير أموالهم فأنزل الله الآية. وروى البيهقي في الدلائل من طريق ابن أبى نجيح عن مجاهد قال «نهى بعض المهاجرين بعضا عن قطع النخل وقالوا : إنما هو من مغانم المسلمين. وقال الذين قطعوا : بل هو غيظ للعدو. فنزل القرآن.
واحتج به من يقول : كل مجتهد مصيب.
(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٧)
(أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) جعله له فيئا خاصة. والإيجاف من الوجيف. وهو السير السريع. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الإفاضة من عرفات «ليس البرّ بإيجاف الخيل ولا إيضاع الإبل (١) على هينتكم» (٢) ومعنى (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) فما أو أوجفتم على تحصيله وتغنمه خيلا ولا ركابا ، ولا تعبتم في القتال عليه ، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم. والمعنى : أنّ ما خوّل الله رسوله من أموال بنى النضير شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة ، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم ، فالأمر فيه مفوّض إليه يضعه حيث يشاء ، يعنى : أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهرا ، وذلك أنهم طلبوا القسمة فنزلت. لم يدخل العاطف على هذه الجملة : لأنها بيان للأولى ، فهي منها غير أجنبية عنها. بين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله عليه ، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوما على الأقسام الخمسة. والدولة والدولة ـ بالفتح والضم ـ وقد قرئ بهما ما يدول للإنسان ، أى يدور من الجد. يقال : دالت له الدولة. وأديل لفلان. ومعنى قوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى الفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها جدا بين الأغنياء يتكاثرون به. أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم. ومعنى الدولة الجاهلية : أن الرؤساء منهم كانوا يستأخرون بالغنيمة لأنهم أهل الرياسة والدولة والغلبة ، وكانوا يقولون من عزّ بزّ. والمعنى : كيلا يكون أخذه غلبة وأثرة جاهلية. ومنه قول الحس : اتخذوا عباد الله
__________________
(١) قوله «ولا إيضاع الإبل» في الصحاح : وضع البعير وغيره. أى : أسرع في سيره وأوضعه راكبه اه أى : جعله مسرعا في سيره. (ع)
(٢) أخرجه أبو داود وأحمد وإسحاق والبزار والحاكم من رواية مقسم عن ابن عباس نحوه والبخاري من وجه آخر عن ابن عباس بعضه.
خولا ، ومال الله دولا ، يريد : من غلب منهم أخذه واستأثر به. وقيل : «الدولة» ما يتداول ، كالغرفة : اسم ما يغترف ، يعنى : كيلا يكون الفيء شيئا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه ، فلا يصيب الفقراء. والدولة ـ بالفتح ـ : بمعنى التداول ، أى : كيلا يكون ذا تداول بينهم. أو كيلا يكون إمساكه تداولا بينهم لا يخرجونه إلى الفقراء. وقرئ دولة بالرفع على «كان» التامة كقوله تعالى : وإن كان ذو عسرة ، يعنى كيلا يقع دولة جاهلية ولينقطع أثرها أو كيلا يكون تداول له بينهم. أو كيلا يكون شيء متعاور بينهم غير مخرج إلى الفقراء (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ) من قسمة غنيمة أو فيء (فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ) عن أخذه منها (فَانْتَهُوا) عنه ولا تتبعه أنفسكم (وَاتَّقُوا اللهَ) أن تخالفوه وتتهاونوا بأوامره ونواهيه (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن خالف رسوله ، والأجود أن يكون عاما في كل ما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه ، وأمر الفيء داخل في عمومه. وعن ابن مسعود رضى الله عنه : أنه لقى رجلا محرما وعليه ثيابه فقال له : انزع عنك هذا (١) فقال الرجل : اقرأ علىّ في هذا آية من كتاب الله. قال : نعم ، فقرأها عليه.
(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(٨)
(لِلْفُقَراءِ) بدل من قوله (لِذِي الْقُرْبى) والمعطوف عليه (٢) والذي منع الإبدال من : لله
__________________
(١) أخرجه ابن أبى شيبة حدثنا معاوية بن هشام حدثنا الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن ابن يزيد عن ابن مسعود به ، وأخرجه ابن عبد البر في العلم من طريق يحيى بن آدم عن عطية وأبى بكر بن عباس عن ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن زيد قال «لقى عبد الله بن مسعود» فذكره.
(٢) قال محمود : «هو بدل من قوله لذي القربى وما بعده والذي منع الابدال من لله وللرسول ... الخ» قال أحمد : مذهب أبى حنيفة أن استحقاق ذوى القربى أسهمهم من الفيء موقوف على الفقراء حتى لا يستحقه أغنياؤهم ، وقد أغلظ الشافعي رضى الله عنه فيما نقله عنه إمام الحرمين الرد على هذا المذهب بأن الله تعالى علق الاستحقاق بالقرابة ولم يشترط الحاجة ، وعدم اعتبار القرابة مضادة ومحادة ، واعتذر إمام الحرمين لأبى حنيفة بأن الصدقات لما حرمت عليهم كان فائدة ذكرهم في خمس الفيء والغنيمة أنه لا يمنع صرف ذلك إليهم امتناع صرف الصدقات ، ثم أتبع هذا العذر بأن قال : لا ينبغي أن يعبر به ، فان صيغة الآية ناصة على تعين الاستحقاق لهم تشريفا لهم وتنبيها على عظم أقدارهم ، فمن حمل ذلك على جواز الصرف إليهم مع معارضة هذا الجواز بجواز حرمانهم فقد عطل فحوى الآية ، ثم استعظم الامام وقع ذلك عليهم لأنهم يذهبون إلى اشتراط الايمان في رقبة الظهار زيادة على النص ، فيأتون في إثبات ذلك بالقياس لأنه يستنتج ، وليس من شأنه الثبوت بالقياس. قال : فكذلك يلزمهم أن يعتقدوا أن اشتراط الفقر في القرابة واشتراط الحاجة لقرب ما ذكروه بغرض القرب ، فأما وإن أصلهم المخصوصون من نسب الرسول عليه الصلاة والسلام والثابتون من شجرته كالعجمة ، فلا يبقى مع هذا لمذهبهم وجه انتهى كلام الامام وإنما أوردته ليعلم أن معارضته لأبى حنيفة على أن اشتراط الحاجة عند أبى حنيفة مستند إلى قياس أو نحوه من الأسباب الخارجة من الآية. فلذلك ألزمه أن يكون زيادة على النص ، فأما وقد تلقى أبو حنيفة اعتبار
وللرسول والمعطوف عليهما ، وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عزّ وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) وأنه يترفع برسول الله عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عزّ وجل (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في إيمانهم وجهادهم.
(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٩)
(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا) معطوف على المهاجرين ، وهم الأنصار. فإن قلت : ما معنى عطف الإيمان على الدار ، ولا يقال : تبوّؤا الإيمان؟ قلت : معناه تبوّؤا الدار وأخلصوا الإيمان ، كقوله :
علفتها تينا وماء باردا
أو : وجعلوا الإيمان مستقرا ومتوطنا لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه ، كما جعلوا المدينة كذلك. أو : أراد دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه. أو سمى المدينة لأنها دار الهجرة
__________________
الحاجة من تقييد هذا البدل المذكور في الآية ، فإنما يسلك معه في واد غير هذا فيقول هو بدل من المساكين لا غيره. وتقريره أنه سبحانه أراد أن يصف المساكين بصفات تؤكد استحقاقهم ويحمل الأغنياء على إيثارهم وأن لا يجدوا في صدورهم حاجة مما أوتوا ، فلما قصد ذلك وقد فصل بين ذكرهم وبين ما يقصد من ذكر صفاتهم بقوله (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) إلى قوله (شَدِيدُ الْعِقابِ) طرى ذكرهم ليكون توطئة للصفات المتتالية بعده ، فذكر بصفة أخرى مناسبة الصفة الأولى مبدلة منها وهي الفقر ، لتشهد التطرية على فائدة الجمع لهم بين صفتي المسكنة والفقر ثم تليت صفاتهم على أثر ذلك وهي إخراجهم من ديارهم وأموالهم مهاجرين ، وابتغاؤهم الفضل والرضوان من الله ، ونصرهم لله ورسوله ، وصدقهم في نياتهم ، إلى آخر ذلك ، فهذا هو الذي يرشد إليه السباق مؤيدا بالأصل فان ذوى القربى ذكروا بصفة الإطلاق : فالأصل بقاؤهم على ذلك حتى يتحقق أنهم مرادون بالتقييد. وما ذكرناه من صرف ذلك إلى المساكين يكفى في إقامة وزن الكلام ، فيبقى ذوو القربى على أصل الإطلاق ، وتلك قاعدة لا يسع الحنفية مدافعتها ، فإنهم يرون الاستثناء المتعقب للجمل يختص بالجملة الأخيرة ، لأن عوده إليها يقيم وزن الكلام وينقى ما تقدمهن على الأصل ، ولا فرق بين التعقيب بالاستثناء والبدل وكل ما سوى هذا ، مع أنه لو جعل بدلا من ذوى القربى مع ما بعده : لم يكن إبداله من ذوى القربى إلا بدل بعض من كل ، فان ذوى القربى منقسمون إلى فقراء وأغنياء ولم يكن إبداله من المساكين إلا بدلا للشيء من الشيء ، وهما لعين واحدة ، فيلزم أن يكون هذا البدل محسوسا بالنوعين المذكورين في حالة واحدة ، وذلك متعذر لما بين النوعين من الاختلاف وللتباين ، وكل منهما يتقاضى ما يأباه الآخر ، فهذا القدر كاف إن شاء الله تعالى ، وعليه أعرب الزجاج الآية فجعله بدلا من المساكين خاصة ، والله تعالى الموفق للصواب.
ومكان ظهور الإيمان بالإيمان (مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل المهاجرين ، لأنهم سبقوهم في تبوّئ دار الهجرة والإيمان. وقيل : من قبل هجرتهم (وَلا يَجِدُونَ) ولا يعلمون في أنفسهم (حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) أى طلب محتاج إليه مما أوتى المهاجرون من الفيء وغيره ، والمحتاج إليه يسمى حاجة ، يقال : خذ منه حاجتك ، وأعطاه من ماله حاجته ، يعنى : أنّ نفوسهم لم تتبع ما أعطوا ولم تطمح إلى شيء منه يحتاج إليه (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أى خلة ، وأصلها : خصاص البيت ، وهي فروجه ، والجملة في موضع الحال ، أى : مفروضة خصاصتهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بنى النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين : أبا دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحرث بن الصمة (١). وقال لهم : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة ، فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها ، فنزلت. الشح ـ بالضم والكسر ، وقد قرئ بهما ـ : اللؤم ، وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع ، كما قال :
يمارس نفسا بين جنبيه كزّة |
|
إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا (٢) |
وقد أضيف إلى النفس ، لأنه غريزة فيها. وأما البخل فهو المنع نفسه. ومنه قوله تعالى (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ). (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) ومن غلب ما أمرته به منه وخالف هواها بمعونة الله وتوفيقه (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الظافرون بما أرادوا. وقرئ : ومن يوقّ
(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١٠)
__________________
(١) ذكره الثعلبي هكذا بغير سند. وروى الواقدي عن معمر عن الزهري عن خارجة بن زيد عن أم العلاء قالت «لما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى النضير قال لثابت بن قيس بن شماس : ادع لي الأنصار كلهم. فقال : إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين. وإن أحببتم أعطينهم وخرجوا من دوركم ، فقال السعدان : بل نقسمه المهاجرين ويكونون في دورنا. فرضيت الأنصار. فأعطى المهاجرين ولم يعط الأنصار ، إلا رجلين محتاجين سهل ابن حنيف وأبا دجانة ونقل سيف بن أبى الحقيق سعد بن معاذ. وكان له ذكر عندهم. وعند أبى داود من رواية عبد الرزاق عن معمر طرف منه وأبهم اسم الأنصاريين. وعند ابن إسحاق في المغازي : حدثني عبد الله بن أبى بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بنى النضير على المهاجرين الأولين دون الأنصار ، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقرا فأعطاهما».
(٢) يصف رجلا بالبخل ، وأنه يعالج نفسه التي بين جنبيه ، كزة ـ بالفتح ـ : شحيحة منقبضة عن فعل الخير إذا غلبها ، وأراد المعروف دعته ثانيا إلى البخل وحجبته عن البذل ، فكأنها قالت له : أمهل فيطاوعها. ومهلا : مصدر حذف فعله وجوبا. وقولها : ذلك ، استعارة تصريحية لوسوستها بالبخل.
(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) عطف أيضا على المهاجرين : وهم الذين هاجروا من بعد. وقيل : التابعون بإحسان (غِلًّا) وقرئ : غمرا ، وهما الحقد.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)(١٢)
(لِإِخْوانِهِمُ) الذين بينهم وبينهم أخوة الكفر ، ولأنهم كانوا يوالونهم ويواخونهم ، وكانوا معهم على المؤمنين في السر (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) في قتالكم أحدا من رسول الله والمسلمين إن حملنا عليه. أو في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة (لَكاذِبُونَ) أى في مواعيدهم لليهود. وفيه دليل على صحة النبوّة : لأنه إخبار بالغيوب. فإن قلت : كيف قيل (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم؟ قلت : معناه : ولئن نصروهم على الفرض والتقدير ، كقوله تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وكما يعلم ما يكون ، فهو يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون. والمعنى : ولئن نصر المنافقون اليهود لينهزمن المنافقون ثم لا ينصرون بعد ذلك ، أى : يهلكهم الله تعالى ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم. أو لينهزمن اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين.
(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ)(١٧)
(رَهْبَةً) مصدر رهب المبنى للمفعول ، كأنه قيل : أشد مرهوبية. وقوله (فِي صُدُورِهِمْ) دلالة على نفاقهم ، يعنى أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله وأنتم أهيب في صدورهم من الله. فإن قلت : كأنهم كانوا يرهبون من الله حتى تكون رهبتهم منهم أشدّ. قلت : معناه أن رهبتهم في السر منكم أشدّ من رهبتهم من الله التي يظهرونها لكم ـ وكانوا يظهرون لهم رهبة شديدة من الله ـ ويجوز أن يريد أنّ اليهود يخافونكم في صدورهم أشدّ من خوفهم من الله ، لأنهم كانوا قوما أولى بأس ونجدة ، فكانوا يتشجعون لهم مع إضمار الخيفة في صدورهم (لا يَفْقَهُونَ) لا يعلمون الله وعظمته حتى يخشوه حق خشيته (لا يُقاتِلُونَكُمْ) لا يقدرون على مقاتلتكم (جَمِيعاً) مجتمعين متساندين ، يعنى اليهود والمنافقين (إِلَّا) كائنين (فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) بالخنادق والدروب (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) دون أن يصحروا لكم (١) ويبارزوكم ، لقذف الله الرعب في قلوبهم ، وأن تأييد الله تعالى ونصره معكم. وقرئ : جدر ، بالتخفيف. وجدار. وجدر وجدر ، وهما : الجدار (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) يعنى أنّ البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا ، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدّة ، لأنّ الشجاع يجبن والعزيز يذل عند محاربة الله ورسوله (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) مجتمعين ذوى ألفة واتحاد (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) متفرقة لا ألفة بينها ، يعنى. أنّ بينهم إحنا وعداوات ، فلا يتعاضدون حق التعاضد ، ولا يرمون عن قوس واحدة. وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم (قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم ويعين على أرواحهم (٢) (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أى مثلهم كمثل أهل بدر في زمان قريب. فإن قلت : بم انتصب (قَرِيباً)؟ قلت : بمثل ، على : كوجود مثل أهل بدر قريبا (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. من قولهم كلأ وبيل : وخيم سيئ العاقبة ، يعنى ذاقوا عذاب القتل في الدنيا (وَلَهُمْ) في الآخرة عذاب النار. مثل المنافقين في إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر ، ثم متاركتهم لهم وإخلافهم (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) إذا استغوى الإنسان (٣) بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة ، والمراد استغواؤه قريشا يوم بدر ، وقوله لهم : لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم ، إلى قوله : إنى بريء منكم. وقرأ ابن مسعود : خالدان فيها ، على أنه خبر أنّ ، و (فِي النَّارِ) لغو ، وعلى القراءة المشهورة : الظرف مستقر ، وخالدين فيها : حال. وقرئ : أنا بريء. وعاقبتهما بالرفع.
__________________
(١) قوله «دون أن يصحروا لكم» في الصحاح «أصحر الرجل» : خرج إلى الصحراء اه. (ع)
(٢) قوله «ويعين على أرواحهم» كذا عبارة النسفي أيضا. (ع)
(٣) قوله «إذا استغوى الإنسان» لعله : إذ ، كعبارة النسفي. (ع)
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(١٩)
كرر الأمر بالتقوى تأكيدا : واتقوا الله في أداء الواجبات ؛ لأنه قرن بما هو عمل ، واتقوا الله في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجرى مجرى الوعيد. والغد : يوم القيامة ، سماه باليوم الذي يلي يومك تقريبا له (١) وعن الحسن : لم يزل يقربه حتى جعله كالغد. ونحوه قوله تعالى (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) يريد : تقريب الزمان الماضي. وقيل : عبر عن الآخرة بالغد كأن الدنيا والآخرة نهاران : يوم وغد. فإن قلت : ما معنى تنكير النفس والغد؟ قلت : أما تنكير النفس فاستقلالا للأنفس النواظر فيما قمن للآخرة ، كأنه قال فلتنظر نفس واحدة في ذلك.
وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره ، كأنه قيل : لغد لا يعرف كنهه لعظمه. وعن مالك بن دينار : مكتوب على باب الجنة : وجدنا ما عملنا ، ربحنا ما قدّمنا. خسرنا ما خلفنا (نَسُوا اللهَ) نسوا حقه ، فجعلهم ناسين حق أنفسهم بالخذلان (٢) ، حتى لم يسعوا لها بما ينفعهم عنده. أو فأراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم ، كقوله تعالى (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ).
(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ)(٢٠)
هذا تنبيه للناس وإيذان لهم بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات : كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما ، وأن الفوز مع أصحاب الجنة ، فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه ، كما تقول لمن يعق أباه : هو أبوك ، تجعله بمنزلة من لا يعرفه ، فتنبهه بذلك على حق الأبوّة الذي يقتضى البر والتعطف.
__________________
(١) قال محمود : «سمى يوم القيامة غدا تقريبا له ... الخ» قال أحمد : وقد قيل في قوله تعالى (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) كقوله (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) حتى قيل : إنه من عكس الكلام الذي يقصد به الافراط فيما يعكس عنه ، كقوله (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) فمعنى رب هاهنا هو معنى كم ، وأبلغ منه قول القائل :
قد أترك القرن مصفرا أنامله
إلا أن الزمخشري فر من هذا المعنى ، لأن الواقع قلة النفوس الناظرة في أمر المعاد ، فنزله على معنى يطابق الواقع ، ويمكن أن يلاحظ الأمر فيسوغ حمله على التكثير النفوس المأمورات بالنظر في المعاد ، وأنه ما من نفس إلا ومن حقها أن تمتثل هذا الأمر ، وهو نظر حسن ، فان الفعل المسند إلى النفس هاهنا ليس وقوع النظر حتى يستقل ، وإنما هو طلب النظر وهو عام التعلق بكل نفس. والانصاف : أن ما ذكره الزمخشري أمكن وأحسن ، والله الموفق.
(٢) قال محمود : «جعلهم ناسين بالخذلان» قال أحمد : بل خلق فيهم النسيان.
وقد استدل أصحاب الشافعي رضى الله عنه بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر ، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر.
(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ)(٢٢)
هذا تمثيل وتخييل (١) ، كما مرّ في قوله تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) وقد دل عليه قوله (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره. وقرئ : مصدّعا على الإدغام (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل.
(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٢٤)
(الْغَيْبِ) المعدوم (وَالشَّهادَةِ) الموجود المدرك كأنه يشاهده. وقيل : ما غاب عن العباد وما شاهدوه. وقيل : السر والعلانية. وقيل : الدنيا والآخرة (الْقُدُّوسُ) بالضم والفتح ـ وقد قرئ بهما ـ البليغ في النزاهة عما يستقبح. ونظيره : السبوح ، وفي تسبيح الملائكة : سبوح قدوس رب الملائكة والروح. و (السَّلامُ) بمعنى السلامة. ومنه (دارُ السَّلامِ) و (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) وصف به مبالغة في وصف كونه سليما من النقائص. أو في إعطائه السلامة والمؤمن واهب الأمن. وقرئ بفتح الميم بمعنى المؤمن به على حذف الجار ، كما تقول في قوم موسى من قوله تعالى (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) المختارون بلفظ صفة السبعين. و (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب على كل شيء ، الحافظ له ، مفيعل من الأمن ، إلا أن همزته قلبت هاء. و (الْجَبَّارُ) القاهر الذي جبر خلقه على ما أراد ، أى أجبره ، و (الْمُتَكَبِّرُ) البليغ الكبرياء والعظمة. وقيل : المتكبر عن ظلم عباده. و (الْخالِقُ) المقدر لما يوجده و (الْبارِئُ) المميز بعضه من بعض بالأشكال
__________________
(١) قال محمود : «هذا تخييل وتمثيل كما تقدم الخ» قال أحمد : وهذا مما تقدم إنكارى عليه فيه ، أفلا كان يتأدب بأدب الآية : حيث سمى الله هذا مثلا ولم يقل : وتلك الخيالات نضربها للناس ، ألهمنا الله حسن الأدب معه والله الموفق.
المختلفة. و (الْمُصَوِّرُ) الممثل. وعن حاطب بن أبى بلتعة أنه قرأ : البارئ المصوّر ، بفتح الواو ونصب الراء ، أى : الذي يبرأ المصوّر أى : يميز ما يصوّره بتفاوت الهيئات. وقرأ ابن مسعود : وما في الأرض.
عن أبى هريرة رضى الله عنه : سألت حبيبي صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم فقال : «عليك بآخر الحشر فأكثر قراءته» (١) فأعدت عليه فأعاد علىّ ، فأعدت عليه فأعاد علىّ. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» (٢)
سورة الممتحنة
مدنية ، وهي ثلاث عشرة آية (٣) [نزلت بعد الأحزاب]
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)(٢)
__________________
(١) أخرجه الثعلبي من رواية على بن رزيق عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عنه. وفي الواحدي من حديث ابن عباس رفعه «اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر.
(٢) أخرجه الثعلبي من رواية يزيد بن أبان عن أنس بهذا.
(٣) قوله «مدنية وهي ثلاث عشرة آية» لفظ مكية ومدنية ساقط من النسخة المنقول منها ، ولعله من سهو الناسخ. وفي المصاحف وفي كتب التفسير : أنها مدنية ، ولذا وضعناه في هذه النسخة كما ترى ، ثم رأيت في بعض المصاحف أنها مكية ، لكن آياتها وسبب نزولها يفيدان أنها مدنية ، فليحرر. (ع)
روى أن مولاة لأبى عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح ، فقال لها : أمسلمة جئت؟ قالت : لا. قال : أفمهاجرة جئت؟ قالت : لا. قال : فما جاء بك؟ قالت : كنتم الأهل والموالي والعشيرة ، وقد ذهبت الموالي ، تعنى : قتلوا يوم بدر ، فاحتجت حاجة شديدة (١) فحث عليها بنى عبد المطلب فكسوها وحملوها وزوّدوها ، فأناها حاطب بن أبى بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا ، واستحملها كتابا إلى أهل مكة نسخته : من حاطب بن أبى بلتعة إلى أهل مكة ، اعلموا أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم ، فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وعمارا وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد ـ وكانوا فرسانا ـ وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة ، فخذوه منها وخلوها ، فإن أبت فاضربوا عنقها ، فأدركوها فجحدت وحلفت ، فهموا بالرجوع فقال على رضى الله عنه : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله ، وسل سيفه ، وقال : أخرجى الكتاب أو تضعي رأسك ، فأخرجته من عقاص شعرها. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة : هي أحدهم (٢) ، فاستحضر رسول الله حاطبا وقال :
__________________
(١) هكذا ذكره الثعلبي والبغوي والواحدي بغير إسناد. وفيه مخالفة شديدة لما في الصحيحين وهو مخرج فيهما من طريق عبد الله بن أبى رافع عن على ومن طريق أبى عبد الرحمن السلمي عن على. وفي رواية لابن حبان عن على خرجت أنا والزبير وطلحة والمقداد ، وأخرجه ابن إسحاق في السيرة قال : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا. قال «لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة كتب حاطب ابن أبى بلتعة إلى قريش كتابا يخبرهم فيه بأمره ، ثم أعطاه امرأة زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة. وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا. فجعلته في رأسها. ثم فتلت عليه قرونها ثم خرجت به. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما فعل حاطب» فذكر القصة ، وذكر الواقدي من طريق يزيد بن رومان ، وسماها كنود وذكر أن الجعل كان عشرة دنانير. وروى الطبري وابن أبى حاتم وأبو يعلى من طريق أبى البختري عن الحرث عن على قال «لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتى مكة أسر إلى أناس من أصحابه أنه يريد مكة ، فيهم حاطب ابن أبى بلتعة : وأفشى في الناس أنه يريد خيبر ـ فكتب حاطب ـ فذكره» وفيه فأخرجته من قبلها.
(٢) هكذا رواه البيهقي في الدلائل وابن مردويه من طريق الحاكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس. وسماهم : عبد العزيز بن حنظل ، ومقيس بن صبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح ، وأم سارة مولاة لقريش ولفظه قريب من لفظ الكتاب وفي الدارقطني من طريق عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد المخزومي عن أبيه عن جده قال «أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة وسماهم ، إلا أنه قال «الحويرث بن نقيذ وسارة» وذكره ابن إسحاق بغير إسناد فذكر الخمسة ، وقال فيه : وسارة مولاة لبعض بنى عبد المطلب» ورواه الدارقطني أيضا والحاكم من طريق مصعب بن سعد عن أبيه ، وجعل عوض سارة عكرمة بن أبى جهل. وقال الواقدي في المغازي ، وتبعه ابن سعد «أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بقتل ستة نفر وأربع نسوة : عكرمة وهبار بن الأسود ، وعبد الله بن حنظل وابن أبى سرح ، ومصعب بن صبابة. والحويرث بن نفيل ، وهند بنت عتبة ، وسارة مولاة عمر بن هاشم ومرينا ومرينة «فقتل منهم ابن حنظل ومقيسا والحويرث».
ما حملك عليه؟ فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك. ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكنى كنت امرأ ملصقا في قريش. وروى : عزيزا فيهم ، أى : غريبا ، ولم أكن من أنفسها ، وكل من معكم من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيرى ، فخشيت على أهلى ، فأردت أن أتخذ عندهم يدا ، وقد علمت أن الله تعالى ينزل عليهم بأسه. وأن كتابي لا يغنى عنهم شيئا ، فصدّقه وقبل عذره ، فقال عمر : دعى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ؛ فقال : «وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ففاضت عينا عمر وقال. الله ورسوله أعلم ، فنزلت. عدى «اتخذ» إلى مفعوليه ، وهما عدوى ، أولياء. والعدوّ : فعول ، من عدا ، كعفوّ من عفا ؛ ولكونه على زنه المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد. فإن قلت : (تُلْقُونَ) بم يتعلق؟ قلت : يجوز أن يتعلق بلا تتخذوا حالا من ضميره ؛ وبأولياء صفة له. ويجوز أن يكون استئنافا. فإن قلت : إذا جعلته صفة لأولياء وقد جرى على غير من هوله ، فأين الضمير البارز وهو قولك : تلقون إليهم أنتم بالمودّة؟ قلت : ذلك إنما اشترطوه في الأسماء دون الأفعال ، لو قيل : أولياء ملقين إليهم بالمودّة على الوصف. لما كان بد من الضمير البارز ، والإلقاء عبارة عن إيصال المودّة والإفضاء بها إليهم : يقال ألقى إليه خراشى صدره (١) ، وأفضى إليه بقشوره. والباء في (بِالْمَوَدَّةِ) إما زائدة مؤكدة للتعدى مثلها في (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وإما ثابتة على أن مفعول تلقون محذوف ، معناه : تلقون إليهم أخبار رسول الله بسبب المودّة الى بينكم وبينهم. وكذلك قوله (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أى : تفضون إليهم بمودتكم سرا. أو تسرون إليهم إسرار رسول الله بسبب المودّة. فإن قلت : (وَقَدْ كَفَرُوا) حال مماذا؟ قلت : إما من (لا تَتَّخِذُوا) وإما من (تُلْقُونَ) أى : لا تتولوهم أو توادّونهم وهذه حالهم. و (يُخْرِجُونَ) استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوّهم. أو حال من كفروا. و (أَنْ تُؤْمِنُوا) تعليل ليخرجون ، أى يخرجونكم لإيمانكم. و (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) متعلق بلا تتخذوا ، يعنى : لا تتولوا أعدائى إن كنتم أوليائى. وقول النحويين في مثله : هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه. و (تُسِرُّونَ) استئناف ، ومعناه : أىّ طائل لكم في إسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمى لا تفاوت بينهما ، وأنا مطلع رسولي على ما تسرون (وَمَنْ يَفْعَلْهُ) ومن يفعل هذا الإسرار فقد أخطأ طريق الحق والصواب. وقرأ الجحدري : لما جاءكم ، أى : كفروا لأجل ما جاءكم ، بمعنى : أن ما كان يجب
__________________
(١) قوله «يقال ألقى اليه خراشى صدره» في الصحاح «الخرشاء» مثل الحرباء : جلد الحية وقشرة البيضة بعد أن يخرج ما قبلها ، ثم يشبه به كل شيء فيه انتفاخ وتعتق كالرغوة ، وقد يسمى البلغم خراشاء. يقال : ألقى خراشى صدره ، اه. (ع)
أن يكون سبب إيمانهم جعلوه سببا لكفرهم. (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) خالصي العداوة ، ولا يكونوا لكم أولياء كما أنتم (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) بالقتال والشتم ، وتمنوا لو ترتدون عن دينكم ، فإذن مودة أمثالهم ومناصحتهم خطأ عظيم منكم ومغالطة لأنفسكم ونحوه قوله تعالى (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) فإن قلت : كيف أورد جواب الشرط مضارعا مثله ثم قال (وَوَدُّوا) بلفظ الماضي؟ قلت : الماضي وإن كان يجرى في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب ، فإن فيه نكتة ، كأنه قيل : وودّوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم ، يعنى : أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعا : من قتل الأنفس ، وتمزيق الأعراض ، وردّكم كفارا ، وردكم كفارا أسبق المضارّ عندهم وأوّلها ، لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم ، لأنكم بذّالون لها دونه ، والعدوّ أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه.
(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٣)
(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) أى قراباتكم (وَلا أَوْلادُكُمْ) الذي توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم ، ثم قال (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) وبين أقاربكم وأولادكم (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ...) الآية فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من يفرّ منكم غدا : خطأ رأيهم في موالاة الكفار بما يرجع إلى حال من والوه أوّلا ، ثم بما يرجع إلى حال من اقتضى تلك الموالاة ثانيا ، ليربهم أن ما أقدموا عليه من أى جهة نظرت فيه وجدته باطلا. قرئ : يفصل ويفصّل ، على البناء للمفعول. ويفصل ويفصّل ، على البناء للفاعل وهو الله عزّ وجل. ونفصل ونفصل ، بالنون.
(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٥)
وقرئ. أسوة وإسوة. وهو اسم المؤتسى به ، أى كان فيهم مذهب حسن مرضى بأن يؤتسى به ويتبع أثره ، وهو قولهم لكفار قومهم ما قالوا ، حيث كاشفوهم بالعداوة وقشروا لهم العصا ، وأظهروا البغضاء والمقت ، وصرحوا بأن سبب عداوتهم وبغضائهم ليس إلا كفرهم بالله ، وما دام هذا السبب قائما كانت العداوة قائمة ، حتى إن أزالوه وآمنوا بالله وحده انقلبت العداوة موالاة ، والبغضاء محبة ، والمقت مقة (١) ، فأفصحوا عن محض الإخلاص. ومعنى (كَفَرْنا بِكُمْ) وبما تعبدون من دون الله : أنا لا نعتدّ بشأنكم ولا بشأن آلهتكم ، وما أنتم عندنا على شيء. فإن قلت : مم استثنى قوله (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ)؟ قلت : من قوله (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) لأنه أراد بالأسوة الحسنة : قولهم الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذونه سنة يستنون بها. فإن قلت : فإن كان قوله (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) مستثنى من القول الذي هو أسوة حسنة ، فما بال قوله (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) وهو غير حقيق بالاستثناء. ألا ترى إلى قوله (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً)؟ قلت : أراد استثناء جملة قوله لأبيه ، والقصد إلى موعد الاستغفار له ، وما بعده مبنىّ عليه وتابع له ، كأنه قال : أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار. فإن قلت : بم اتصل قوله (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا)؟ قلت : بما قبل الاستثناء ، وهو من جملة الأسوة الحسنة. ويجوز أن يكون المعنى : قولوا ربنا ، أمرا من الله تعالى للمؤمنين بأن يقولوه ، وتعليما منه لهم تتميما لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار ، والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم ، وتنبيها على الإنابة إلى الله والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر ، والاستغفار مما فرط منهم. وقرئ : برآء كشركاء ، وبراء كظراف. وبراء على إبدال الضم من الكسر ، كرخال ورباب. وبراء (٢) على الوصف بالمصدر. والبراء والبراءة كالظماء والظماءة.
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(٦)
ثم كرّر الحث على الائتساء بإبراهيم وقومه تقريرا وتأكيدا عليهم ، ولذلك جاء به مصدرا بالقسم لأنه الغاية في التأكيد ، وأبدل عن قوله (لَكُمْ) قوله (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) وعقبه بقوله (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فلم يترك نوعا من التأكيد إلا جاء به.
__________________
(١) قوله «والمقت مقة» أى : محبة. (ع)
(٢) قوله «كرخال ورباب» في الصحاح : الرخل ـ بكسر الخاء ـ : الأنثى من أولاد الضأن ، والذكر حمل ، والجمع رخال ورخال أيضا بالضم. وفيه أيضا : «الربى» بالضم على فعلى : الشاة التي وضعت حديثا. وجمعها رباب بالضم. (ع)
(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٧)
ولما نزلت هذه الآيات : تشدّد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين ومقاطعتهم ، فلما رأى الله عز وجل منهم الجدّ والصبر على الوجه الشديد وطول التمني للسبب الذي يبيح لهم الموالاة والمواصلة : رحمهم فوعدهم تيسير ما تمنوه ، فلما يسر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم ، فأسلم قومهم ، وتمّ بينهم من التحاب والتصافي ما تمّ. وقيل: تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة ، فلانت عند ذلك عريكة أبى سفيان واسترخت شكيمته في العداوة ، وكانت أمّ حبيبة قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبد الله بن أبى جحش إلى الحبشة ، فتنصر وأرادها على النصرانية ، فأبت وصبرت على دينها ، ومات زوجها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها عليه (١) ، وساق عنه إليها مهرها أربعمائة دينار ، وبلغ ذلك أباها فقال : ذلك الفحل لا يقدع أنفه (٢). و (عَسَى) وعد من الله على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج : عسى أو لعل : فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك. أو قصد به إطماع المؤمنين ، والله قدير على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن أسلم من المشركين.
(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ
__________________
(١) هكذا ذكره الثعلبي بغير سند. ومجموعه مفرق في أحاديث. وروى أبو داود والحاكم من رواية الزهري عن عروة عن أم حبيبة «أنها كانت تحت عبد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة. فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف. وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة» وروى الحاكم عن الزهري قال «تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبى سفيان. وكانت قبله تحت عبد الله بن جحش الأسدى. وكان قد هاجر بها من مكة إلى الحبشة ثم افتتن وتنصر ومات نصرانيا وأثبت الله الإسلام لأم حبيبة حتى رجعت إلى المدينة فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه عثمان بن عفان» قال الزهري وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي فزوجها إياه وساق عنه أربعين أوقية» وروى الواقدي في المغازي ومن طريقه الحاكم من رواية جعفر بن محمد عن أبيه قال «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية إلى النجاشي خطب عليه أم حبيبة ، وأصدقها من عنده أربعمائة دينار» قال الواقدي : حدثني عبد الله بن جعفر عن عبد الواحد بن أبى عون قال : لما بلغ أبا سفيان بن حرب نكاح النبي صلى الله عليه وسلم ابنته قال : ذاك الفحل لا يقدع أنفه» وقال أبو نعيم في الدلائل «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان وأصدقها عنه أربعمائة دينار ، وبعث بها إليه ، وقال : وكان ذلك في سنة ست من الهجرة بعد رجوعه من خيبر ولا أعلم في ذلك خلافا».
(٢) قوله «ذلك الفحل لا يقدع أنفه» اى لا يضرب أنفه ولا يكف وذلك لكونه كريما. أفاده الصحاح. (ع)
أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٩)
(أَنْ تَبَرُّوهُمْ) بدل من الذين لم يقاتلوكم. وكذلك (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) من الذين قاتلوكم : والمعنى : لا ينهاكم عن مبرّه هؤلاء ، وإنما ينهاكم عن تولى هؤلاء. وهذا أيضا رحمة لهم لتشدّدهم وجدّهم في العداوة متقدّمة لرحمته بتيسير إسلام قومهم ، حيث رخص لهم في صلة من لم يجاهر منهم بقتال المؤمنين وإخراجهم من ديارهم. وقيل : أراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه. وعن مجاهد : هم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا. وقيل : هم النساء والصبيان. وقيل قدمت على أسماء بنت أبى بكر أمّها قتيلة بنت عبد العزى وهي مشركة بهدايا فلم تقبلها ولم تأذن لها في الدخول ، فنزلت ، فأمرها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها (١). وعن قتادة : نسختها آية القتال (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم. وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين به ويتحاموا ظلمهم ، مترجمة عن حال مسلم يجترئ على ظلم أخيه المسلم.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)(١١)
__________________
(١) أخرجه الحاكم من طريق المبارك عن مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده قال «قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما. وكان أبو بكر طلقها» فذكره وساقه أتم. ومن هذا الوجه أحمد والبزار وأبو داود وأبو يعلى والطبري والطبراني وابن أبى حاتم وغيرهم. وحديث أسماء في الصحيحين عن عروة عنها بغير هذا السياق.
(إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) سماهنّ مؤمنات لتصديقهنّ بألسنتهنّ ونطقهنّ بكلمة الشهادة ولم يظهر منهنّ ما ينافي ذلك. أو لأنهنّ مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان (فَامْتَحِنُوهُنَ) فابتلوهن بالحلف والنظر في الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للممتحنة : «بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج ، بالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، بالله ما خرجت التماس دنيا ، بالله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله» (١) (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) منكم لأنكم لا تكسبون فيه علما تطمئن معه نفوسكم ، وإن استحلفتموهن ورزتم أحوالهن ، وعند الله حقيقة العلم به (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) فلا تردّوهن إلى أزواجهن المشركين ، لأنه لأحل بين المؤمنة والمشرك (٢) (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) وأعطوا أزواجهنّ مثل ما دفعوا إليهنّ من المهور ، وذلك أن صلح الحديبية كان على أن من
__________________
(١) أخرجه الطبراني والطبري من رواية الأغر بن الصباح عن خليفة بن حصين عن أبى بهز الأسدى. قال سئل ابن عباس ـ فذكره أتم سياقا منه. قال البزار لا نعلمه عن ابن عباس إلا من هذا الوجه. ورواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مرسلا.
(٢) قال محمود : «معناه لأحل بين المؤمنة والمشرك» قال أحمد : هذه الآية مما استدل بها على خطاب الكفار بالفروع لأنه تعالى قال (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) والضمير الأول للمؤمنات ، والثاني الكفار ، والمراد به يحرمن على الكفار لأن قسيمه متفق على أن المراد به تحريم الكفار على المؤمنات ، فيكون كل من القبيلين المؤمنات والكفار مخاطبا بالحرمة ، ولما كان المذهب المعزى إلى أصحاب أبى حنيفة أن الكفار غير مخاطبين لك الزمخشري يتفسر الآية ما يوافق ذلك ، فحملها على أن المراد نفى الحل بين المؤمنة والكافر على الإجمال ، حتى لا يتمحض نسبة الحرمة إلى الكافر ، وهذا لا متخلص فيه ؛ فان الحل المنفي بين المؤمنة والكافر إلى الحرمة ، لا بد وأن يتعلق بفعل أحدهما أو كليهما ، إذ هو حكم فان تعلق بفعل كل واحد منهما أعنى التمكين من المرأة والفعل من الرجل : تحقق خطاب الكافر بالحرمة ، وتعليقه بفعل المرأة دون فعل الرجل : يأباه نظم الآية ، فانه نفى الحل من الجهتين جميعا ولو كان كذلك ، لكفى قوله (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) والتحقيق الممتحن على قواعد الأصول : هو ما نذكره إن شاء الله تعالى فنقول : كل من فعلى المؤمنة والكافر ينفى عنه الحل بالتفسير اللائق ، فأما فعل المؤمنة وهو التمكين فلا شك في تعلق الحرمة للشرع. باعتبار أنها مخاطبة بأن لا يحصل في الوجود على وجه لو حصل لكانت متوعدة على حصوله وأما فعل الكافر وهو الوطء مثلا ، فمنفى حله باعتبار أن الشرع قصد إلى أن لا يحصل الوطء ، لما يشتمل عليه من المفسدة ، وللشرع قصد في أن لا تقع المفاسد ، وليس الكافر موردا للخطاب ، ولكن الأئمة مثلا أو من يقوم مقامهم. مخاطبون بأن يمنعوا الكافر كى لا يقع هذا الفعل المنطوى على المفسدة في نظر الشرع ، فكلا الفعلين إذا من جانب المرأة والرجل غرض في أن لا يقع ، لكن مورد الخطاب المنطوى على السلامة من المفسدة في حق المرأة هي وفي حق الكافر الأئمة مثلا ، ويتفق المختلفون فيه في خطاب الكفار على أن للشرع غرضا في أن لا تحصل المفاسد في الوجود. ألا ترى أن الكافر إذا جهر بالفساد بين المسلمين يتفق على وجوب ردعه عن ذلك ومنعه عنه ، وما ذاك إلا لما فهم عن الشرع من طلب سلامة الوجود عن المفاسد ، ومورد الخطاب يردع الكافر كى لا يجهر بالفساد يعم الأئمة ، والله الموفق.
أتاكم من أهل مكة ردّ إليهم ، ومن أتى منكم مكة لم يردّ إليكم ، وكتبوا بذلك كتابا وختموه ، فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، فأقبل زوجها مسافر المخزومي. وقيل صيفي بن الراهب فقال : يا محمد ، اردد علىّ امرأتى فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف ، فنزلت بيانا لأن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء (١). وعن الضحاك : كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد : أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا ، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن تردّ على زوجها الذي أنفق عليها ، وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك. وعن قتادة : ثم نسخ هذا الحكم وهذا العهد براءة ، فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفت ، فأعطى زوجها ما أنفق وتزوّجها عمر. فإن قلت : كيف سمى الظنّ علما في قوله (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَ)؟ قلت : إيذانا بأن الظن الغالب وما يفضى إليه الاجتهاد والقياس جار مجرى العلم ، وأن صاحبه غير داخل في قوله (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فإن قلت : فما فائدة قوله (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) وذلك معلوم لا شبهة فيه؟ قلت : فائدته بيان أن لا سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج به الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن ، فإنّ ذلك مما استأثر به علام الغيوب ، وأن ما يؤدى إليه الامتحان من العلم كاف في ذلك ، وأن تكليفكم لا يعدوه ، ثم نفى عنهم الجناح في تزوّج هؤلاء المهاجرات إذا آتوهنّ أجورهنّ أى مهورهنّ ، لأن المهر أجر البضع ، ولا يخلو إما أن يراد بها ما كان يدفع إليهنّ ليدفعنه إلى أزواجهنّ فيشترط في إباحة تزوجهنّ تقديم أدائه ، وإما أن يراد أن ذلك إذا دفع إليهنّ على سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكن به بأس ، وإما أن يبين لهم أن ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر وأنه لا بد من إصداق ، وبه احتج أبو حنيفة على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلما أو بذمة وبقي الآخر حربيا : وقعت الفرقة ، ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها إلا أن تكون حاملا (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) والعصمة ما يعتصم به من عقد وسبب ، يعنى : إياكم وإياهنّ ، ولا تكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجية. قال ابن عباس : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدنّ بها من نسائه ، لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه. وعن النخعي : هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر. وعن مجاهد : أمرهم بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) من مهور نسائهم المهاجرات. وقرئ : ولا تمسكوا بالتخفيف. ولا تمسكوا بالتثقيل. ولا تمسكوا ، أى : ولا تتمسكوا (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ) يعنى جميع ما ذكر في هذه الآية (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) كلام مستأنف. أو حال من حكم الله على
__________________
(١) هكذا ذكره البغوي عن ابن عباس بغير سند.
حذف الضمير ، أى : يحكمه الله. أو جعل الحكم حاكما على المبالغة. روى أنها لما نزلت هذه الآية أدى المؤمنون ما أمروا به من أداء مهور المهاجرات إلى أزواجهنّ المشركين ، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين ، فنزل قوله (وَإِنْ فاتَكُمْ) وإن سبقكم وانفلت منكم (شَيْءٌ) من أزواجكم : أحد منهن إلى الكفار ، وهو في قراءة ابن مسعود : أحد. فإن قلت : هل لإيقاع شيء في هذا الموقع فائدة؟ قلت : نعم ، الفائدة فيه : أن لا يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر ، غير معوض منه تغليظا في هذا الحكم وتشديدا فيه (فَعاقَبْتُمْ) من العقبة وهي التوبة : شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره. ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر ، فآتوا من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة ، ولا تؤتوه زوجها الكافر ، وهكذا عن الزهري : يعطى من صداق من لحق بهم. وقرئ : فأعقبتم. فعقبتم بالتشديد. فعقبتم بالتخفيف ، بفتح القاف وكسرها ، فمعنى أعقبتم : دخلتم في العقبة ، وعقبتم : من عقبه إذا قفاه ، لأنّ كل واحد من المتعاقبين يقفى صاحبه ، وكذلك عقبتم بالتخفيف ، يقال : عقبه يعقبه. وعقبتم نحو تبعتم. وقال الزجاج : فعاقبتم فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم ، والذي ذهبت زوجته كان يعطى من الغنيمة المهر ، وفسر غيرها من القراآت فكانت العقبى لكم ، أى : فكانت الغلبة لكم حتى غنمتم. وقيل : جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعة عن الإسلام ست نسوة : أم الحكم بنت أبى سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة بنت أبى أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبد العزى بن نصلة وزوجها عمرو بن عبدودّ ، وهند بنت أبى جهل كانت تحت هشام بن العاص. وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر ، فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة (١).
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٢)
__________________
(١) هكذا ذكره الثعلبي ثم البغوي عن ابن عباس بلا إسناد.
(وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) وقرئ : يقتلن ، بالتشديد ، يريد : وأد البنات (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هو ولدى منك. كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذبا ، لأنّ بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين ، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) فيما تأمرهن به من المحسنات وتنهاهنّ عنه من المقبحات. وقيل : كل ما وافق طاعة الله فهو معروف. فإن قلت : لو اقتصر على قوله (وَلا يَعْصِينَكَ) فقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بمعروف؟ قلت : نبه بذلك على أنّ طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقي والاجتناب. وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال : أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا (١) وعمر بن الخطاب رضى الله عنه أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه ، وهند بنت عتبة امرأة أبى سفيان متقنعة متنكرة خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها (٢) فقال عليه الصلاة والسلام : «أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا فرفعت هند رأسها وقالت : والله لقد عبدنا الأصنام وإنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على الإسلام والجهاد ، فقال عليه الصلاة والسلام : و «لا يسرقن» (٣) فقالت : إنّ أبا سفيان رجل شحيح ، وإنى أصبت من ماله هنات ، فما أدرى ، أتحل لي أم لا. فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها : وإنّك لهند بنت عتبة؟ قالت : نعم فاعف عما سلف يا نبى الله عفا الله عنك ، فقال : «ولا يزنين» ، فقالت : أو تزنى الحرة؟ وفي رواية : ما زنت منهن امرأة قط ، فقال عليه الصلاة والسلام «ولا يقتلن أولادهن» فقالت : ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا فأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبى سفيان قد قتل يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى ، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «ولا يأتين ببهتان» فقالت : والله إنّ البهتان لأمر قبيح ، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ، فقال : «ولا يعصينك في معروف» فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء. وقيل في كيفية
__________________
(١) لم أره بسياقه لكن أخرجه الطبري بمعناه وأخص منه من طريق العوفى عن ابن عباس. وأخرجه ابن أبى حاتم من طريق مقاتل بن حيان. وفيه قول هند : ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا ، فضحك عمر بن الخطاب رضى الله عنه حتى استلقى.
(٢) قوله «خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها» لما صنعت بحمزة ، كذا في النسفي ، وذلك في غزوة أحد. (ع)
(٣) قوله «فقال عليه السلام ولا يسرقن» في النسفي قبل هذا : فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئا. (ع)