الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

المبايعة : دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده ، ثم غمسن أيديهن (١). وقيل صافحهن وكان على يده ثوب قطري (٢). وقيل كان عمر يصافحهن عنه (٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ)(١٣)

روى أنّ بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم (٤). فقيل لهم (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً) مغضوبا عليهم (قَدْ يَئِسُوا) من أن يكون لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يعلمون أنه الرسول المنعوت في التوراة (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ) من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء. وقيل (مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) بيان للكفار ، أى : كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة ، لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة (٥) ..

__________________

(١) أخرجه ابن سعد عن الواقدي عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب نحوه ، وله شاهد في الطبراني عن عروة بن مسعود ، وآخر في تاريخ أصبهان لأبى نعيم في حرف الحاء من حديث أسماء بنت يزيد.

(٢) رواه أبو داود في المراسيل عن الشعبي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بايع النساء أتى ببرد قطري فوضعه على يده. وقال : لا أصافح النساء» وروى عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن إبراهيم النخعي قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافح النساء على يده ثوب قطري».

(٣) أخرجه ابن حبان والطبراني والبزار وأبو يعلى والطبري وغيرهم من حديث أم عطية قالت «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أمر نساء الأنصار فجمعهن في بيت ثم أرسل إليهن عمر. فجاء عمر فسلم ـ فذكر القصة ـ وفيها : ثم مد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت.

(٤) قال محمود «كان طائفة من ضعفاء المسلمين قد والوا اليهود ليصيبوا من أثمارهم ، فنزلت هذه الآية ، والمراد بالكفار المشركون ... الخ» قال أحمد : قد كان الزمخشري ذكر في قوله (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) إلى قوله (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) أن آخر الآية استطراد ، وهو فن من فنون البيان مبوب عليه عند أهله ، وآية الممتحنة هذه ممكنة أن تكون من هذا الفن جدا ، فانه ذم اليهود واستطرد ذمهم بذم المشركين على نوع حسن من النسبة ، وهذا لا يمكن أن يوجد للفصحاء في الاستطراد أحسن ولا أمكن منه ، ومما صدروا هذا الفن به قوله :

إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه

فليس به بأس وإن كان من جرم

وقوله : إن كنت كاذبة التي حدثتني

فنجوت منجى الحرث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم

ونجا برأس طمرة ولجام

(٥) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب رضى الله عنه.

٥٢١

سورة الصف

مدنية ، وآياتها ١٤ [نزلت بعد التغابن]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)(٤)

(لِمَ) هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : بم ، وفيم ، ومم ، وعم ، وإلام ، وعلام. وإنما حذفت الألف ، لأنّ ما والحرف كشيء واحد ، ووقع استعمالهما كثيرا في كلام المستفهم ، وقد جاء استعمال الأصل قليلا والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان ، ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف ، كما سمع : ثلاثة ، أربعة : بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة ، وهذا الكلام يتناول الكذب وإخلاف الموعد. وروى أنّ المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ، فدلهم الله تعالى على الجهاد في سبيله ، فولوا يوم أحد فعيرهم. وقيل : لما أخبر الله بثواب شهداء بدر قالوا : لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا ، ففروا يوم أحد ولم يفوا. وقيل : كان الرجل يقول : قتلت ولم يقتل ، وطعنت ولم يطعن ، وضربت ولم يضرب ، وصبرت ولم يصبر. وقيل : كان قد أذى المسلمين رجل ونكى فيهم ، فقتله صهيب وانتحل قتله آخر ، فقال عمر لصهيب : أخبر النبي عليه السلام أنك قتلته ، فقال : إنما قتله لله ولرسوله ، فقال عمر : يا رسول الله قتله صهيب ، قال : كذلك يا أبا يحيى؟ قال : نعم ، فنزلت (١) في المنتحل. وعن الحسن : نزلت في المنافقين. ونداؤهم بالإيمان : تهكم بهم

__________________

(١) أخرجه الثعلبي من حديث صهيب قال «كان رجل يوم بدر قد آذى المسلمين ونكأ فيهم فقتله صهيب. فقال رجل : يا رسول الله قتلت فلانا. ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمرو بن عبد الرحمن لصهيب أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ـ الحديث»

٥٢٢

وبإيمانهم ، هذا من أفصح كلام وأبلغه (١) في معناه قصد في (كَبُرَ) التعجب من غير لفظه كقوله :

غلت ناب كليب بواؤها (٢)

ومعنى التعجب : تعظيم الأمر في قلوب السامعين ، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله ، وأسند إلى أن تقولوا. ونصب (مَقْتاً) على تفسيره ، دلالة على أنّ قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، لفرط تمكن المقت منه ، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه. ومنه قيل : نكاح المقت ، للعقد على الرابة (٣) ، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيرا ، حتى جعل أشده وأفحشه. و (عِنْدَ اللهِ) أبلغ من ذلك ، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته وانزاحت عنه الشكوك. وعن بعض السلف أنه قيل له : حدّثنا ، فسكت ثم قيل له حدثنا ، فقال : تأمروننى أن أقول ما لا أفعل فاستعجل مقت الله. في قوله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ) عقيب ذكر مقت المخلف : دليل (٤) على أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار فلم يفوا. وقرأ زيد بن على : يقاتلون بفتح التاء. وقرئ : يقتلون (صَفًّا) صافين أنفسهم أو مصفوفين (كَأَنَّهُمْ) في تراصهم من غير فرجة ولا خلل (بُنْيانٌ) رص بعضه إلى بعض ورصف. وقيل : يجوز أن يريد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. وعن بعضهم : فيه دليل على فضل القتال راجلا ، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. وقوله (صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ) حالان متداخلتان (٥).

__________________

(١) قال محمود : «هذا من أفصح الكلام وأبلغه ، في معناه قصد إلى التعجب بغير صيغة التعجب لتعظيم الأمر ... الخ» قال أحمد : وزائد على هذه الوجوه الأربعة وجه خامس : وهو تكراره لقوله (ما لا تَفْعَلُونَ) وهو لفظ واحد في كلام واحد ومن فوائد التكرار : التهويل والإعظام ، وإلا فقد كان الكلام مستقلا لو قيل : كبر مقتا عند الله ذلك ، فما إعادته إلا لمكان هذه الفائدة الثانية ، والله أعلم.

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة ٢٧٣ فراجعه إن شئت اه مصححة.

(٣) قوله «على الرابة» هي بتشديد الباء كالدابة. وفي الصحاح : نكاح المقت كان في الجاهلية : أن يتزوج الرجل امرأة أبيه اه. (ع)

(٤) قال محمود : «ذكره لهذا عقيب ذكر مقت المخلف دليل ... الخ» قال أحمد : صدق ، والأول كالبسطة العامة لهذه القصة الخاصة ، كقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) فالنهي العام ورد أولا ، والمقصود اندراج هذا الخاص فيه كما تقول للمقترف جرما معينا : لا تفعل ما يلصق العار بك ولا تشاتم زيدا ، وفائدة مثل هذا النظم : النهي عن الشيء الواحد مرتين مندرجا في العموم ومفردا بالخصوص ، وهو أولى من النهى عنه على الخصوص مرتين فان ذلك معدود في حين التكرار ، وهذا يتكرر مع ما في التعميم من التعظيم والتهويل ، والله أعلم.

(٥) قال محمود : «قوله (صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) : حالان متداخلتان» قال أحمد : يريد أن معنى الأولى مشتمل على معنى الثانية ، لأن التراص هيئة للاصطفاف ، والله أعلم.

٥٢٣

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٥)

(وَإِذْ) منصوب بإضمار اذكر. أو : وحين قال لهم ما قال كان كذا وكذا (تُؤْذُونَنِي) كانوا يؤذونه بأنواع الأذى من انتقاصه وعيبه في نفسه ، وجحود آياته ، وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه ، وعبادتهم البقر ، وطلبهم رؤية الله جهرة ، والتكذيب الذي هو تضييع حق الله وحقه (وَقَدْ تَعْلَمُونَ) في موضع الحال ، أى : تؤذوننى عالمين علما يقينا (١) (أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) وقضية علمكم بذلك وموجبه تعظيمي وتوقيري ، لا أن تؤذوني وتستهينوا بى ، لأن من عرف الله وعظمته عظم رسوله ، علما بأن تعظيمه في تعظيم رسوله ، ولأن من آذاه كان وعيد الله لا حقا به (فَلَمَّا زاغُوا) عن الحق (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) بأن منع ألطافه عنهم (٢) (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) لا يلطف بهم لأنهم ليسوا من أهل اللطف. فإن قلت : ما معنى (قَدْ) في قوله (قَدْ تَعْلَمُونَ)؟ قلت : معناه التوكيد كأنه قال : وتعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه.

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٦)

__________________

(١) قال محمود : «بين أنهم على عكس الصواب حيث قال : تؤذوننى عالمين ... الخ» قال أحمد : أهل العربية تقول : إن «قد» تصحب الماضي لتقريبه من الحال. ومنه قول المؤذن : قد قامت الصلاة ، وتشتمل المصاحبة للماضي أيضا على معنى التوقع ، فلذلك قال سيبويه «قد فعل» جواب لما يفعل ، وقال الخليل : هذا الخبر لقوم ينتظرونه ، وأما مع المضارع فإنها تفيد التقليل مثل : ربما ، كقولهم : إن الكذوب قد يصدق ، فإذا كان معناها مع المضارع التقليل وقد دخلت في الآية على مضارع ، فالوجه ـ والله أعلم ـ أن يكون هذا من الكلام الذي يقصدون به الافراط فيما ينعكس عنه ، وتكون «قد» في هذا المعنى نظيرة «ربما» في قوله (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) فإنها في هذا الموضع أبلغ من كم في التكثير ، فلما أوردت «ربما» في التكثير على عكس معناها الأصلى في التقليل ، فكذلك إيراد «قد» هاهنا لتكثير علمهم ، أى : تحقيق تأكيده على عكس معناها الأصلى في تقليل الأصل ، وعليه : قد أترك القرن مصفرا أنامله وإنما مدح نفسه بكثرة هذا الفعل منه عكس ديدنه الأصلى ، ولا يقال : إن حملها في الآية على التكثير متعذر ، لأن العلم معلوم التعلق لا يتكثر ولا يتقلل ، لأنا نقول : يعبر عن تمكن الفعل وتحققه وتأكده وبلوغه الغاية في نوعه بما يعبر به عن التكثير ، وهو تعبير صحيح. ألا ترى أن قوله (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) هو من هذا القبيل ، فان المراد شدة ودهم لذلك وبلوغه أقصى منتهاه لا غير ، والله الموفق.

(٢) قوله «بأن منع ألطافه عنهم» فسر الازاغة بذلك بناء على مذهب المعتزلة : أنه تعالى لا يريد الشر. ومذهب أهل السنة : أنه تعالى يريد الشر والخير ، كما تقرر في محله. (ع)

٥٢٤

قيل : إنما قال : يا بنى إسرائيل ، ولم يقل : يا قوم كما قال موسى ، لأنه لا نسب له فيهم فيكونوا قومه (١). والمعنى : أرسلت إليكم في حال تصديقى ما تقدمني (مِنَ التَّوْراةِ) وفي حال تبشيرى (بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي) يعنى : أن دينى التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعا ممن تقدم وتأخر. وقرئ : من بعدي ، بسكون الياء وفتحها ، والخليل وسيبويه يختاران الفتح. وعن كعب : أن الحواريين قالوا لعيسى : يا روح الله ، هل بعدنا من أمّة؟ قال : نعم أمّة أحمد حكماء علماء أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى الله منهم باليسير من العمل. فإن قلت : بم انتصب مصدقا ومبشرا؟ أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم؟ قلت : بل بمعنى الإرسال ، لأن (إِلَيْكُمْ) صلة للرسول ، فلا يجوز أن تعمل شيئا لأن حروف الجرّ لا تعمل بأنفسها ، ولكن بما فيها من معنى الفعل ، فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل ، فمن أين تعمل؟ وقرئ : هذا ساحر مبين.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٧)

وأى الناس أشد ظلما ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي له فيه سعادة الدارين ، فيجعل مكان إجابته إليه افتراء الكذب على الله بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق : هذا سحر ، لأنّ السحر كذب وتمويه. وقرأ طلحة بن مصرف : وهو يدعى ، بمعنى يدعى. دعاه وادّعاه ، نحو : لمسه والتمسه. وعنه : يدّعى ، بمعنى يدعو ، وهو الله عز وجل.

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(٨)

أصله : يريدون أن يطفؤا كما جاء في سورة براءة ، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيدا له ، لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئتك لإكرامك ، كما زيدت اللام في : لا أبا لك ، تأكيدا لمعنى الإضافة في : لا أباك ، وإطفاء نور الله بأفواههم : تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن : هذا سحر ، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) أى متمّ الحق ومبلغه غايته. وقرئ بالإضافة.

__________________

(١) قال الزمخشري : «وإنما قال (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ولم يقل : يا قوم ، لأنه لم يكن له ـ صلوات الله على نبينا وعليه ـ نسب فيهم» قال أحمد : وهذا نظير قوله تعالى (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) لأن شعيبا لم يكن من قوم من أرسل إليهم.

٥٢٥

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(٩)

(وَدِينِ الْحَقِ) الملة الحنيفية (لِيُظْهِرَهُ) ليعليه (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) على جميع الأديان المخالفة له ، ولعمري لقد فعل ، فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام. وعن مجاهد : إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام. وقرئ : أرسل نبيه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(١٣)

(تُنْجِيكُمْ) قرئ مخففا ومثقلا. و (تُؤْمِنُونَ) استئناف ، كأنهم قالوا : كيف : نعمل؟ فقال : تؤمنون (١) ، وهو خبر في معنى الأمر ، ولهذا أجيب بقوله (يَغْفِرْ لَكُمْ) وتدل عليه قراءة ابن مسعود : آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا. فإن قلت : لم جيء به على لفظ الخبر؟ قلت : للإيذان بوجوب الامتثال ، وكأنه امتثل فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين. ونظيره قول

__________________

(١) قال محمود : قوله (تُؤْمِنُونَ) استئناف كلام كأنه لما قال الكلام الأول قيل : كيف نفعل؟ فقيل : تؤمنون ... الخ» قال أحمد : إنما وجه إعراب الفراء بما ذكر ، لأنه لو جعله جوابا لقوله (هَلْ أَدُلُّكُمْ) فإنكم إن أدلكم على كذا وكذا أغفر لكم ، فتكون المغفرة حينئذ مترتبة على مجرد دلالته إياهم على الخير ، وليس كذلك ، إنما تترتب المغفرة على فعلهم لما دلهم عليه لا على نفس الدلالة ، فلذلك أول (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) بتأويل : هل تتجرون بالايمان والجهاد حتى تكون المغفرة مترتبة على فعل الايمان والجهاد لا على الدلالة ، وهذا التأويل غير محتاج إليه ، فان حاصل الكلام إذا صار إلى : هل أدلكم أغفر لكم ، التحق ذلك بأمثال قوله تعالى (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) فانه رتب فعل الصلاة على الأمر بها ، حتى كأنه قال ، فإنك إن تقل لهم أقيموا يقيموها. وللقائل أن يقول : قد قيل لبعضهم : أقم الصلاة فتركها؟ فالجواب عنه : أن الأمر الموجه على المؤمن الراسخ في الايمان لما كان مظنة لحصول الامتثال ، جعل كالمحقق وقوعه مرتبا عليه ، وكذلك هاهنا لما كانت دلالة الذين آمنوا على فعل الخير مظنة لامتثالهم. وامتثالهم سببا في المغفرة محققا : عومل معاملة تحقق الامتثال والمغفرة مرتبين على الدلالة ، والله أعلم.

٥٢٦

الداعي : غفر الله لك ، ويغفر الله لك : جعلت المغفرة لقوّة الرجاء ، كأنها كانت ووجدت. فإن قلت : هل لقول الفراء أنه جواب (هَلْ أَدُلُّكُمْ) وجه؟ قلت : وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة ، والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد ، فكأنه قيل : هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم؟ فإن قلت : فما وجه قراءة زيد بن على رضى الله عنهما (تُؤْمِنُونَ ... وَتُجاهِدُونَ)؟ قلت : وجهها أن تكون على إضمار لام الأمر ، كقوله :

محمّد تفد نفسك كلّ نفس

إذا ما خفت من أمر تبالا (١)

وعن ابن عباس أنهم قالوا : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه ، فنزلت هذه الآية ، فمكثوا ما شاء الله يقولون : ليتنا نعلم ما هي ، فدلهم الله عليها بقوله (تُؤْمِنُونَ) وهذا دليل على أن (تُؤْمِنُونَ) كلام مستأنف ، وعلى أنّ الأمر الوارد على النفوس بعد تشوّف وتطلع منها إليه : أوقع فيها وأقرب من قبولها له مما فوجئت به (ذلِكُمْ) يعنى ما ذكر من الإيمان والجهاد (خَيْرٌ لَكُمْ) من أموالكم وأنفسكم. فإن قلت : ما معنى قوله (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)؟ قلت : معناه إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرا لكم (٢) حينئذ ، لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أنفسكم وأموالكم ، فتخلصون وتفلحون (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم ، ثم فسرها بقوله (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أى عاجل وهو فتح مكة. وقال الحسن : فتح فارس والروم. وفي (تُحِبُّونَها) شيء من التوبيخ على محبة العاجل. فإن قلت : علام عطف قوله (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)؟ قلت : على (تُؤْمِنُونَ) لأنه في معنى الأمر ، كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم ، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك. فإن قلت : لم نصب من قرأ نصرا من

__________________

(١) لأبى طالب. وقيل : للأعشى ، يقول : يا رسول الله ، تفد ، أى لتفد ، فحذف لام الدعاء الجازمة للفعل لضرورة الشعر ، وسوغ حذفها قرينة مقام الطلب ، وإلا فحروف الجزم كحروف الجر لا تعمل وهي محذوفة إلا شذوذا ، كما صرح به السكاكي. هذا والحذف في نحو قوله تعالى (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) أسهل لأن قرينته لفظية ، وهي لفظ (قُلْ) الدال على الطلب. وقيل : هو خبر بمعنى الدعاء ، وخفف بحذف الياء ، وقيل : إن ذلك في غير الفواصل والقوا في غير سديد ، أى : فدى الله نفسك بكل نفس إذا خفت تبالا من شيء. والتبال : هو الوبال ، قلبت واوه تاء. ويروى بالجر ، على أنه صفة أمر وليس بجيد.

(٢) قال محمود : «معناه : إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرا لكم ... الخ» قال أحمد : كأنه يجرى الشرط على حقيقته وليس بالظاهر ، لأن علمهم لذلك محقق. إذ الخطاب مع المؤمنين ، والظاهر أنه من وادى قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) والمقصود بهذا الشرط : التنبيه على المعنى الذي يقتضى الامتثال وإلهاب الحمية للطاعة ، كما تقول لمن تأمره بالانتصاف من عدوه : إن كنت حرا فانتصر ، تريد أن تثير منه حمية الانتصار لا غير ، والله أعلم.

٥٢٧

الله وفتحا قريبا؟ قلت : يجوز أن ينصب على الاختصاص. أو على تنصرون نصرا ، ويفتح لكم فتحا. أو على : يغفر لكم ويدخلكم جنات ، ويؤتكم أخرى نصرا من الله وفتحا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ)(١٤)

قرئ : كونوا أنصار الله وأنصارا لله. وقرأ ابن مسعود : كونوا أنتم أنصار الله. وفيه زيادة حتم للنصرة عليهم. فإن قلت : ما وجه صحة التشبيه ـ وظاهره تشبيه كونهم أنصارا بقول عيسى صلوات الله عليه : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) (١)؟ قلت : التشبيه محمول على المعنى ، وعليه يصح. والمراد : كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ). فإن قلت : ما معنى قوله (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ)؟ قلت : يجب أن يكون معناه مطابقا لجواب الحواريين (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) والذي يطابقه أن يكون المعنى : من جندي متوجها إلى نصرة الله ، وإضافة (أَنْصارِي) خلاف إضافة (أَنْصارَ اللهِ) فإنّ معنى (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) : نحن الذين ينصرون الله. ومعنى (مَنْ أَنْصارِي) من الأنصار الذين يختصون بى ويكونون معى في نصرة الله ، ولا يصح أن يكون معناه : من ينصرني مع الله ، لأنه لا يطابق الجواب. والدليل عليه : قراءة من قرأ : من أنصار الله. والحواريون أصفياؤه وهم أوّل من آمن به وكانوا اثنى عشر رجلا ، وحوارى الرجل : صفيه وخلصانه (٢) من الحور وهو البياض الخالص. والحوّارى : الدرمك. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «الزبير ابن عمّى وحواريي من أمتى» (٣) وقيل :كانوا قصارين يحوّرون الثياب يبيضونها. ونظير الحوارى في زنته : الحوالى : الكثير الحيل (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ) منهم بعيسى (وَكَفَرَتْ) به (طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا) مؤمنيهم على كفارهم ، فظهروا

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت ما وجه التشبيه وظاهره تشبيه كونهم أنصارا ... الخ» قال أحمد : كلام حسن وتمام على الذي أحسن : أن يميز بين الاضافتين المذكورتين : بأن الأولى محضة والثانية غير محضة ، فتنبه لها ، والله الموفق.

(٢) قوله «وخلصانه» أى خالصته ، يستوي فيه الواحد والكثير ، كذا في الصحاح. وفيه : الدرمك : دقيق الحوارى. وفيه أيضا : والحوارى ما حور من الطعام ، أى بيض. وهذا دقيق حوارى ، وكل هذه بالضم كما أفاده الصحاح. (ع)

(٣) أخرجه النسائي من حديث جابر. وهو في الصحيحين بلفظ «لكل نبى حوارى وحواريي الزبير».

٥٢٨

عليهم. وعن زيد بن على : كان ظهورهم بالحجة.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الصف كان عيسى مصليا عليه مستغفرا له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه» (١).

سورة الجمعة

مدنية ، وآياتها ١١ [نزلت بعد الصف]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٤)

قرئت صفات الله عزّ وعلا بالرفع على المدح ، كأنه قيل : هو الملك القدوس ، ولو قرئت منصوبة لكان وجها ، كقول العرب : الحمد لله أهل الحمد. الأمى : منسوب إلى أمّة العرب ، لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤن من بين الأمم. وقيل : بدأت الكتابة بالطائف ، أخذوها من أهل الحيرة ، وأهل الحيرة من أهل الأنبار. ومعنى (بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) بعث رجلا أميا في قوم أميين ، كما جاء في حديث شعياء : أنى أبعث أعمى في عميان ، وأمّيا في أميين (٢) وقيل منهم ، كقوله تعالى (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) يعلمون نسبه وأحواله. وقرئ : في الأمين ، بحذف ياءى النسب

__________________

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.

(٢) أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق عبد الصمد بن معقل ، سمعت وهب بن منبه يقول «أوحى الله إلى نبى من أنبياء بنى إسرائيل يقال له شعياء فذكره مطولا.

٥٢٩

(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) يقرؤها عليهم مع كونه أمّيا مثلهم لم تعهد منه قراءة ولم يعرف بتعلم ، وقراءة أمى بغير تعلم آية بينة (وَيُزَكِّيهِمْ) ويطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) القرآن والسنة. وإن في (وَإِنْ كانُوا) هي المخففة من الثقيلة واللام دليل عليها ، أى : كانوا في ضلال لا ترى ضلالا أعظم منه (وَآخَرِينَ) مجرور عطف على الأميين ، يعنى : أنه بعثه في الأميين الذين على عهده ، وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون بهم ، وهم الذين بعد الصحابة رضى الله عنهم. وقيل : لما نزلت قيل : من هم يا رسول الله ، فوضع يده على سلمان ثم قال : «لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من هؤلاء» وقيل : هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم القيامة ، ويجوز أن ينتصب عطفا على المنصوب في (وَيُعَلِّمُهُمُ) أى : يعلمهم ويعلم آخرين ؛ لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندا إلى أوّله ، فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في تمكينه رجلا أمّيا من ذلك الأمر العظيم ، وتأييده عليه ، واختياره إياه من بين كافة البشر (ذلِكَ) الفضل الذي أعطاه محمدا وهو أن يكون نبى أبناء عصره ، ونبى أبناء العصور الغوابر ، هو (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) إعطاءه وتقتضيه حكمته.

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٥)

شبه اليهود ـ في أنهم حملة التوراة وقرّاؤها وحفاظ ما فيها ، ثم إنهم غير عاملين بها ولا منتفعين بآياتها ، وذلك أنّ فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به ولم يؤمنوا به ـ بالحمار حمل أسفارا ، أى كتبا كبارا من كتب العلم ، فهو يمشى بها ولا يدرى منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب. وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله ، وبئس المثل (بِئْسَ) مثلا (مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى (حُمِّلُوا التَّوْراةَ) : كلفوا علمها والعمل بها ، (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) ثم لم يعملوا بها ، فكأنهم لم يحملوها. وقرئ : حملوا التوراة ، أى حملوها ثم لم يحملوها في الحقيقة لفقد العمل. وقرئ : يحمل الأسفار. فإن قلت : (يَحْمِلُ) ما محله؟ قلت : النصب على الحال (١) ، أو الجر على الوصف ، لأنّ الحمار كاللئيم في قوله :

ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّنى (٢)

__________________

(١) قال محمود : «إما أن يكون قوله (يَحْمِلُ) حالا ، كقوله : ولقد أمر على اللئيم يسبني قال أحمد : يريد أن المراد فيها الجنس ، فتعريفه وتنكيره سواء.

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ١٦ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٥٣٠

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٨)

هاد يهود : إذا تهود (١) (أَوْلِياءُ لِلَّهِ) كانوا يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه ، أى : إن كان قولكم حقا وكنتم على ثقة (فَتَمَنَّوُا) على الله أن يميتكم وينقلكم سريعا إلى دار كرامته التي أعدّها لأوليائه ، ثم قال (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) بسبب ما قدّموا من الكفر ، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه» فلولا أنهم كانوا موقنين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لتمنوا ، ولكنهم علموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد ، فما تمالك أحد منهم أن يتمنى ، وهي إحدى المعجزات. وقرئ : فتمنوا الموت ، بكسر الواو ، تشبيها بلو استطعنا. ولا فرق بين «لا» و «لن» في أن كل واحدة منهما نفى للمستقبل ، إلا أن في «لن» تأكيدا وتشديدا ليس في «لا» فأتى مرّة بلفظ التأكيد (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) ومرّة بغير لفظه (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ) ثم قيل لهم : (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم ؛ لا تفوتونه وهو ملاقيكم لا محالة (ثُمَّ تُرَدُّونَ) إلى الله فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب. وقرأ زيد بن على رضى الله عنه : إنه ملاقيكم. وفي قراءة ابن مسعود : تفرون منه ملاقيكم ، وهي ظاهرة. وأما التي بالفاء ، فلتضمن الذي معنى الشرط ، وقد جعل (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) كلاما برأسه في قراءة زيد ، أى : إنّ الموت هو الشيء الذي تفرّون منه ، ثم استؤنف : إنه ملاقيكم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١٠)

__________________

(١) قوله «هاد يهود إذا تهود» في الصحاح : هاد يهود : تاب ورجع إلى الحق ، وهاد وتهود : إذا صار يهوديا. (ع)

٥٣١

يوم الجمعة : يوم الفوج المجموع ، كقولهم : ضحكة ، للمضحوك منه. ويوم الجمعة ، بفتح الميم : يوم الوقت الجامع ، كقولهم : ضحكة ، ولعنة ، ولعبة ؛ ويوم الجمعة تثقيل للجمعة ، كما قيل : عسرة في عسر. وقرئ بهنّ جميعا. فإن قلت : من في قوله (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) ما هي؟ قلت : هي بيان لإذا وتفسير له. والنداء : الأذان. وقالوا : المراد به الأذان عند قعود الإمام على المنبر ، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد ، فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد ، فإذا نزل أقام للصلاة (١) ، ثم كان أبو بكر وعمر رضى الله عنهما على ذلك ، حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذنا آخر ، فأمر بالتأذين الأوّل على داره التي تسمى زوراء ، فإذا جلس على المنبر : أذن المؤذن الثاني ، فإذا نزل أقام للصلاة ، فلم يعب ذلك عليه. وقيل : أول من سماها «جمعة» كعب بن لؤي ، وكان يقال لها : العروبة. وقيل : إنّ الأنصار قالوا : لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام ، وللنصارى مثل ذلك ، فهلموا نجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله فيه ونصلى. فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم ، فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه ، فأنزل الله آية الجمعة ، فهي أوّل جمعة ، كانت في الإسلام (٢) وأما أوّل جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهي : أنه لما قدم المدينة مهاجرا نزل قباء على بنى عمرو بن عوف ، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بنى سالم بن عوف في بطن واد لهم ، فخطب وصلى الجمعة (٣). وعن بعضهم : قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث : افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه ، فكذبهم في قوله (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم بالحمار يحمل أسفارا ، وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أهبط إلى الأرض ، وفيه تقوم الساعة ، وهو عند الله يوم المزيد. وعنه عليه السلام : «أتانى جبريل وفي كفه مرآة بيضاء وقال : هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيدا ولأمّتك من بعدك ، وهو سيد الأيام عندنا ، ونحن

__________________

(١) متفق عليه من حديث السائب بن يزيد بغير هذا السياق ، وليس فيه على باب المسجد.

(٢) أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين بهذا مطولا. وأخرجه الثعلبي من طريقه. وروى الطبراني من حديث كعب بن مالك نحوه باختصار.

(٣) أخرجه ابن إسحاق في المغازي عن محمد بن جعفر عن عروة بن عبد الرحمن بن عويم أخبرنى بعض قومي قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين. ذكر ذلك مطولا. ومن طريقه البيهقي في الدلائل. وذكره ابن هشام في مختصره عن ابن إسحاق بغير إسناد

٥٣٢

ندعوه إلى الآخرة يوم المزيد» (١). وعنه صلى الله عليه وسلم : «إنّ لله تعالى في كل جمعة ستمائة ألف عتيق من النار (٢). وعن كعب : إنّ الله فضل من البلدان : مكة ، ومن الشهور : رمضان ، ومن الأيام : الجمعة. وقال عليه الصلاة والسلام «من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ، ووقى فتنة القبر» (٣) وفي الحديث : «إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد (٤) بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب ، يكتبون الأوّل فالأوّل على مراتبهم» (٥) وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج.

__________________

(١) متفق عليه دون قوله «وهو عند الله يوم المزيد» البزار والطبري من طريق جهضم بن عبد الله بن الطفيل عن أبى طيبة عن عثمان بن عمير عن أنس بهذا مطولا. ولفظه «ونحن ندعوه في الآخرة» وهو الصواب وفي رواية الطبري في تفسير في حدثنا جهضم بن عبد الله بن الطفيل عن أبى طيبة عن عثمان بن عمير عن أنس بهذا مطولا ولفظه «ونحن ندعوه في الآخرة» وهو الصواب. وفي رواية الطبري في تفسير ق حدثني أبو طيبة عن معاوية العبسي عن عثمان. ورواه ابن مردويه من رواية على بن الحكم البناني وعنبسة بن سعيد ، كلاهما عن عثمان بن عمير عن أنس به. وطريق على بن الحكم عن أبى يعلى وأخرجه ابن أبى شيبة وإسحاق من رواية ليث بن أبى سليم عن عثمان ابن عمير به. ورواه الشافعي بإسناد واه قال : أخبرنى إبراهيم بن أبى يحيى حدثني موسى بن عبيدة حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك نحوه. وله طريق أخرى عن أنس أخرجه الطبراني في الأوسط. من رواية ثابت بن ثوبان عن سالم بن عبد الله عن أنس. وقال إسحاق بن راهويه. أخبرنا محمد بن شعيب حدثني عمر مولى عمرة عن أنس. وله شاهد من حديث حذيفة أخرجه البزار من رواية القاسم بن مطيب عن الأعمش عن أبى وائل عنه.

(٢) أخرجه أبو يعلى والبيهقي في الشعب وابن عدى وابن حبان من رواية أزور بن غالب عن سليمان التيمي عن ثابت عن أنس والأزور. قال الدارقطني : متروك. رواه أبو يعلى من رواية المعتمر بن نافع عن عبد الله العمرى عن ثابت حدثني أنس ، وأخرجه البخاري وفي التاريخ في ترجمة المعتمر. وأخرجه الدارقطني في الأفراد من رواية عبد الواحد بن زيد بن ثابت.

(٣) قال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن رجل عن ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقى فتنة القبر وكتب له أجر شهيد» وقال أبو مرة في السنن : ذكر ابن جريج أخبرنى سفيان عن ربيعة بن سيف عن عبد الله بن عمرو مرفوعا مثله. ومن طريق ربيعة أخرجه الترمذي ولم يذكر الشهادة وقال : غريب وليس لربيعة سماع من عبد الله بن عمرو انتهى. وقد وصله الطبراني وأبو يعلى من حديث ربيعة عن عياض عن قبة العزى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما. وله طريق أخرى أخرجها أحمد وإسحاق والطبراني من رواية بقية : حدثني معاوية عن سعيد سمعت أبا قبيل سمعت عبد الله بن عمرو نحوه. ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة ابن المنكدر من طريق عمر بن موسى بن الوجيه عن جابر ، بلفظ «من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة أجير من عذاب القبر ، وجاء يوم القيامة عليه طابع الشهداء».

(٤) قوله «على أبواب المسجد» لعله «المساجد». وفي الخازن : إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المساجد ملائكة يكتبون ... الخ». (ع)

(٥) أخرجه ابن مردويه من طريق عمرو بن سمرة عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن على وإسناده ضعيف جدا. وهو في الصحيح من حديث أبى هريرة دون قوله بأيديهم صحاف من فضة وأقلام من ذهب».

٥٣٣

وقيل : أوّل بدعة أحدثت في الإسلام : ترك البكور إلى الجمعة. وعن ابن مسعود : أنه بكر فرأى ثلاثة نفر سبقوه ، فاغتم وأخذ يعاتب نفسه يقول : أراك رابع أربعة وما رابع أربعة بسعيد (١). ولا تقام الجمعة عند أبى حنيفة رضى الله عنه إلا في مصر جامع ، لقوله عليه السلام : «لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع» (٢) والمصر الجامع : ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الأحكام ، ومن شروطها الإمام أو من يقوم مقامه ، لقوله عليه السلام «فمن تركها وله إمام عادل أو جائر ... الحديث» (٣) وقوله صلى الله عليه وسلم : «أربع إلى الولاة : الفيء ، والصدقات «والحدود ، والجمعات» (٤). فإن أمّ رجل بغير إذن الإمام أو من ولاه من قاض أو صاحب شرطة : لم يجز ، فإن لم يكن الاستئذان فاجتمعوا على واحد فصلى بهم : جاز ، وهي تنعقد بثلاثة سوى الإمام. وعند الشافعي بأربعين. ولا جمعة على المسافرين والعبيد والنساء والمرضى والزمنى ، ولا على الأعمى عند أبى حنيفة ، ولا على الشيخ الذي لا يمشى إلا بقائد. وقرأ عمر وابن عباس وابن مسعود وغيرهم : فامضوا. وعن عمر رضى الله عنه أنه سمع رجلا يقرأ : فاسعوا ، فقال : من أقرأك هذا؟ قال أبىّ بن كعب ، فقال : لا يزال يقرأ بالمنسوخ ، لو كانت (فَاسْعَوْا) لسعيت حتى يسقط ردائي. وقيل : المراد بالسعي القصد دون

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة والبزار من رواية الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال «خرجت مع عبد الله بن مسعود إلى الجمعة ، فوجد ثلاثة قد سبقوه ـ فذكره. وليس فيه فاغتم وأخذ يعاتب نفسه ، وزاد «إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس يجلسون من الله يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعات» واختلفا في الراوي عن الأعمش مع اتفاقهما على أنه من رواية عبد المجيد بن أبى رواد. ففي ابن ماجة بينهما معمر وفي البزار بينهما مروان بن سالم. وذكره ابن أبى حاتم في العلل روى عن عبد المجيد عن الثوري عن الأعمش. وهذا لا يصح عن الثوري.

(٢) لم أره مرفوعا ورواه ابن أبى شيبة عن على. وإسناده ضعيف.

(٣) أخرجه ابن ماجة من رواية عبد الله بن محمد العدوى عن على بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن جابر قال «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا ـ الحديث بطوله» وفيه هذا وغيره أخرجه ابن عدى. وروى عن وكيع أن العدوى كان يضع الحديث. وله طريق أخرى عند أبى يعلى من رواية فضيل بن مرزوق : أخبرنى الوليد بن بكير عن نمر بن على عن سعيد بن المسيب. وفي إسناده نظر. فقال : رواه الطبراني في الأوسط من رواية موسى بن عطية الباهلي عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبى سعيد. وقال : تفرد به يحيى بن حبيب عن موسى بن عطية. وقال : رواه أسد بن موسى وعبد الله بن صالح العجلى عن فضيل بن مرزوق عن الوليد بن بكير عن عبد الله بن محمد العدوى عن على بن زيد عن سعيد عن جابر. قلت : فرجعت الرواية الأخرى إلى العدوى وقال ابن حبان في الضعفاء : أخبرنا ابن خزيمة حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غزوان حدثنا حماد بن سلمة عن على بن زيد ، وقال محمد بن عبد الرحمن يروى العجائب. ورواه في الضعفاء أيضا من طريق خالد بن عبد الدائم حدثنا نافع بن يزيد عن زهرة بن معبد عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة وأهله بخالد بن عبد الدايم. وقال الدارقطني في العلل : اختلف زهرة وعلى في صحته. وكلاهما غير ثابت.

(٤) لم أره مرفوعا.

٥٣٤

العدو ، والسعى : التصرف في كل عمل. ومنه قوله تعالى (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) وعن الحسن : ليس السعى على الأقدام ، ولكنه على النيات والقلوب. وذكر محمد بن الحسن رحمه الله في موطنه : أن عمر سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي. قال محمد : وهذا لا بأس به ما لم يجهد نفسه (إِلى ذِكْرِ اللهِ) إلى الخطبة والصلاة ، ولتسمية الله الخطبة ذكرا له قال أبو حنيفة رحمه الله : إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكرا لله كقوله : الحمد لله ، سبحان الله : جاز (١). وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال : الحمد لله وأرتج عليه ، فقال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالا ، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوّال ، وستأتيكم (٢) الخطب ، ثم نزل ، وكان ذلك بحضرة الصحابة ولم ينكر عليه أحد. وعند صاحبيه والشافعي : لا بد من كلام يسمى خطبة. فإن قلت : كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها ذكر غير الله؟ (٣) قلت : ما كان من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله ، فأمّا ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم ، وهم أحقاء بعكس ذلك ، فمن ذكر الشيطان وهو من ذكر الله على مراحل ، وإذا قال المنصت للخطبة لصاحبه «صه» فقد لغا ، أفلا يكون الخطيب الغالي في ذلك لا غيا ، نعوذ بالله من غربة الإسلام ونكد الأيام. أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا ، وإنما خص البيع من بينها لأن يوم

__________________

(١) قال : محمود «استدل بذلك على مذهب أبى حنيفة رحمه الله ... الخ» قال أحمد : ولا دليل فيه ، فان العرب تسمى الشيء باسم بعض ما يشتمل عليه ، كما سميت الصلاة مرة قرآنا ومرة سجودا ومرة ركوعا ، لأنها مشتملة على ذلك ، فكذلك الخطبة لما كانت مشتملة على ذكر الله سميت به ، ولا يلزم أن يكون كذلك كل ما اشتملت عليه. لا سيما والمسمى خطبة عند العرب لا بد وأن يزيد على القدر الذي اكتفى به أبو حنيفة. قال بعض أصحاب مالك رحمه الله : أقلها حمد الله والصلاة على نبيه وتحذير وتبشير وقرآن.

(٢) أتبع الزمخشري الاستدلال على مذهب أبى حنيفة بالآية ، بأثر عن عثمان : وهو أنه صعد المنبر فقال إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال ، وستأتيكم الخطب ثم نزل وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكر عليه أحد» قال أحمد : سلمه بلا اشتباه ، فإن عثمان لم يصدر ذلك منه في خطبة الجمعة ، وإنما كان ذلك في ابتداء خلافته وصعوده المنبر للبيعة ، وكانت عادة العرب الخطب في المهمات. ألا ترى إلى قوله : وستأتيكم بعد ذلك الخطب ، فان ذلك يحقق أن مقالته هذه ليست بخطبة ، ولو كان في الجمعة لكان تاركا للخطبة بالكلية ، وهي منقولة في التاريخ أنه أرتج عليه فقال : سيجعل الله بعد عسر يسرا وبعد عي بيانا ، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال ، وستأتيكم الخطب.

(٣) قال محمود : «إن قلت : كيف فسر ذكر الله بالخطبة وفيه ذكر غير الله ، وأجاب بأن ذكر رسول الله والصحابة والخلفاء الراشدين ... الخ» قال أحمد : الدعاء السلطان الواجب الطاعة مشروع بكل حال. وقد نقل عن بعض السلف أنه دعا لسلطان ظالم فقيل له : أتدعو له وهو ظالم؟ فقال : إي والله أدعو ، له إن ما يدفع الله ببقائه أعظم مما يندفع بزواله ، لا سيما إذا ضمن ذلك الدعاء بصلاحه وسداده وتوفيقه ، والله الموفق.

٥٣٥

الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم وبواديهم ، وينصبون إلى المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم واغتصاص الأسواق بهم إذا انتفخ النهار (١) وتعالى الضحى ودنا وقت الظهيرة ، وحينئذ تحرّ التجارة ويتكاثر البيع والشراء ، فلما كان ذلك الوقت مظنة الذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد ، قيل لهم : بادروا تجارة الآخرة ، واتركوا تجارة الدنيا ، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح (وَذَرُوا الْبَيْعَ) الذي نفعه يسير وريحه مقارب. فإن قلت : فإذا كان البيع في هذا الوقت مأمورا بتركه محرما ، فهل هو فاسد؟ قلت: عامّة العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع. قالوا : لأنّ البيع لم يحرم لعينه ، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب ، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب ، والوضوء بماء مغصوب ، وعن بعض الناس : أنه فاسد. ثم أطلق لهم ما حظر عليهم بعد قضاء الصلاة من الانتشار وابتغاء الربح ، مع التوصية بإكثار الذكر ، وأن لا يلهيهم شيء من تجارة ولا غيرها عنه ، وأن تكون هممهم في جميع أحوالهم وأوقاتهم موكلة به لا يتفصون عنه ، لأنّ فلاحهم فيه وفوزهم منوط به : وعن ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا ، إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ في الله : وعن الحسن وسعيد بن المسيب : طلب العلم ، وقيل : صلاة التطوّع : وعن بعض السلف أنه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا نظرا في هذه الآية.

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(١١)

روى أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد ، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فقاموا إليه ، خشوا أن يسبقوا إليه ، فما بقي معه إلا يسير. قيل : ثمانية ، وأحد عشر ، واثنا عشر ، وأربعون ، فقال عليه السلام : «والذي نفس محمد بيده ، لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي (٢) نارا» وكانوا إذا

__________________

(١) قوله «إذا انتفخ النهار» أى علا. وقوله «تحر» أى تعطش أو يشتد حرها. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) هكذا ذكره الواحدي عن المفسرين. وذكره الثعلبي ثم البغوي عن الحسن بغير إسناد. ولفظ الحسن أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه قال «أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر. فقدمت عير والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب يوم الجمعة فسمعوا بها وخرجوا إليها والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب كما هو ، فأنزل الله تعالى (وَتَرَكُوكَ قائِماً) فقال : لو اتبع آخرهم أولهم لا لتهب الوادي عليهم نارا» وفي رواية أبى سفيان الآتية عند ابن حبان نحوه قال «والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال الوادي عليكم نارا : «نزلت هذه الآية» وتعيين دحية في قوله «خشوا أن يسبقوا إليه» رواه الطبري مختصرا من رواية السدى عن ابن مالك قال :

٥٣٦

أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق ، فهو المراد باللهو : وعن قتادة : فعلوا ذلك ثلاث مرات في كل مقدم عير. فإن قلت : فإن اتفق تفرق الناس عن الإمام في صلاة الجمعة كيف يصنع؟ قلت : إن بقي وحده أو مع أقل من ثلاثة ، فعند أبى حنيفة : يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع. وعند صاحبيه : إذا كبر وهم معه مضى فيها. وعند زفر : إذا نفروا قبل التشهد بطلت. فإن قلت : كيف قال (إِلَيْها) وقد ذكر شيئين؟ قلت : تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، أو لهوا انفضوا إليه : فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه ، وكذلك قراءة من قرأ : انفضوا إليه. وقراءة من قرأ : لهوا أو تجارة انفضوا إليها. وقرئ : إليهما.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الجمعة أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة وبعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين» (١).

__________________

قدم دحية بن خليفة بتجارة زبيب من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة. فلما رأوه قاموا خشية أن يسبقوا إليه فنزلت (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً ـ) الآية وروى البزار من طريق عكرمة عن ابن عباس قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فجاء دحية يبيع سلعة فما بقي في المسجد أحد إلا خرج ـ إلا نفر ـ والنبي صلى الله عليه وسلم قائم فنزلت. وأصل هذه القصة في الصحيحين من رواية حصين عن سالم بن أبى الجعد عن جابر قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائما يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس حتى لم يبق إلا اثنى عشر رجلا فأنزلت» وفي لفظ مسلم «منهم أبو بكر وعمر» وفي رواية له «أنا فيهم» وفي رواية البخاري «بينما نحن نصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير» قال البيهقي : المراد بقوله نصلى أى نسمع الخطبة ، جمعا بين الروايتين انتهى. وقد أخرجه ابن حبان من رواية أبى سفيان عن جابر كذلك. ولفظه «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة. فقدمت عير من الشام إلى المدينة فابتدرها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق معه إلا اثنى عشر رجلا ـ الحديث» ويؤيده حديث كعب بن عجرة عند مسلم «أنه أنكر على عبد الرحمن بن أم الحكم أن يخطب قاعدا. فقال : انظروا إلى هذا يخطب قاعدا. والله يقول : وتركوك قائما» ويدل أيضا على أنه كان في الخطبة ما رواه أبو داود في المراسيل من رواية بكر بن معروف عن مقاتل بن حيان قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى يوم الجمعة قبل الخطبة حتى إذا كان ذات يوم وهو يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل فقال : إن دحية قد قدم. وكان إذا قدم تلقوه بالدفاف فخرج الناس ، لم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء فأنزل الله الآية. فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة «وأخر الصلاة» «تنبيه» لم أقف على رواية أنهم كانوا ثمانية ولا أحد عشر ، وأما رواية اثنى عشر فهي المشهورة الصحيحة. ورواية الأربعين أخرجها الدارقطني من طريق على بن عاصم عن حصين : وقال : لم يقل أحد من أصحاب حصين أربعون إلا على بن عاصم. والكل قالوا : اثنى عشر رجلا. وكذلك قال أبو سفيان عن جابر كما تقدم عند ابن حبان.

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب رضى الله عنه.

٥٣٧

سورة المنافقون

مدنية ، وهي إحدى عشرة آية [نزلت بعد الحج]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ)(٣)

أرادوا بقولهم (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم (١). فقال الله عزّ وجلّ : قالوا ذلك (وَاللهُ يَعْلَمُ) أن الأمر كما يدل عليه قولهم : إنك لرسول الله ، والله يشهد إنهم لكاذبون في قولهم : نشهد ، وادعائهم فيه المواطأة. أو إنهم لكاذبون فيه ، لأنه إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة ، فهم كاذبون في تسميته شهادة. أو أراد : والله يشهد إنهم لكاذبون عند أنفسهم : لأنهم كانوا يعتقدون أنّ قولهم (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه. فإن قلت : أى فائدة في قوله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ)؟ قلت : لو قال : قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد إنهم الكاذبون ، لكان يوهم أنّ قولهم هذا كذب ، فوسط بينهما قوله (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) ليميط هذا الإيهام (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) يجوز أن يراد أنّ قولهم نشهد إنك لرسول الله يمين من أيمانهم الكاذبة ، لأنّ الشهادة تجرى مجرى الحلف فيما يراد به من التوكيد ، يقول الرجل : أشهد وأشهد بالله ، وأعزم وأعزم

__________________

(١) قال محمود : «إنما كذبهم لأنهم ادعوا أن شهادتهم بألسنتهم تواطئ لقلوبهم ... الخ» قال أحمد : ومثل هذا من نمطه المليح قوله (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) وقد كان المطابق لقوله (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أن يقال لهم : لا تقولوا آمنا ، ولكنه لما كان موهما للنهى عن قول الايمان عدل عنه على ما فيه من الطباق إلى ما سلم الكلام فيه من الوهم ، وذلك أجل وأعظم من فائدة المطابقة ، لا سيما في مخاطبة هؤلاء الذين كانوا يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة. ألا تراهم كيف غالطوا أنفسهم متغابين ، ولبسوا على ضعفهم متجاهلين عند ما أنزل قوله (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ).

٥٣٨

بالله في موضع أقسم وأولى. وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن «أشهد» يمين (١). ويجوز أن يكون وصفا للمنافقين في استجنانهم بالأيمان. وقرأ الحسن البصري : إيمانهم ، أى : ما أظهروه من الإيمان بألسنتهم. ويعضده قوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا). (ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من نفاقهم وصدهم الناس عن سبيل الله. وفي (ساءَ) معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين (ذلِكَ) إشارة إلى قوله (ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالا بسبب (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان ، أى : ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) فجسروا على كل عظيمة. فإن قلت : المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم ، (٢) فما معنى قوله (آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا)؟ قلت : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : آمنوا ، أى : نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ، ثم كفروا : ثم ظهر كفرهم بعد ذلك وتبين بما أطلع عليه من قولهم : إن كان ما يقوله محمد حقا فنحن حمير ، وقولهم في غزوة تبوك : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات. ونحوه قوله تعالى (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أى : وظهر كفرهم بعد أن أسلموا. ونحوه قوله تعالى (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) والثاني آمنوا : أى نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام ، كقوله تعالى (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله تعالى (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) والثالث : أن يراد أهل الردة منهم. وقرئ : فطبع على قلوبهم. وقرأ زيد بن على : فطبع الله.

__________________

(١) قال محمود : «استدل لأبى حنيفة على أن قول القائل «أشهد» يمين بقوله (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) ولم يصدر منهم إلا قولهم (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) فجعله يمينا» قال أحمد : أحد القولين عند مالك رحمه الله إذا قال أشهد وأحلف وأقسم ولم ينو بالله ولا بغيره ، كما نقل عن أبى حنيفة أنه يمين وليس بالمشهور. أما لو نوى بالله وإن لم بتلفظ فيمين بلا إشكال ، وليس فيما ذكره دليل على ما ذكره ، فان قوله (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) غايته أن ما ذكروه يسمى يمينا ، وليس الخلاف في تسميته يمينا ، وإنما الخلاف هل يكون يمينا منعقدة يلزم بالحنث فيها كفارة أم لا؟ وليس كل ما يسمى حلفا أو قسما يوجب حكما ، ألا ترى أنه لو قال : «أحلف» ولم يقل «بالله» ولا بغيره ، فهو من محال الخلاف في وجوب الكفارة به ، وإن كان حلفا لغة باتفاق ، لأنه فعل مشتق منه.

(٢) قال محمود : «المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم ... الخ. قال أحمد : ويحتمل وجها رابعا وهو أنهم آمنوا به قبل مبعثه على الصفة المذكورة في التوراة ، لأنهم كانوا يسمعونها من جيرانهم اليهود ، ثم كفروا به بعد مبعثه وموافقة الصفة ، ولعل في المنافقين يهودا ، وإن لم يكن فقد كان الايمان قبل مبعثه من الفريقين : اليهود وعبدة الأوثان من العرب ، إلى نزول قوله (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) كيف حكى الله تعالى عن الفريقين ما كانوا يقولونه. والبينة : النبي صلى الله عليه وسلم.

٥٣٩

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٤)

كان عبد الله بن أبىّ رجلا جسيما صبيحا ، فصيحا ، ذلق اللسان (١) وقوم من المنافقين في مثل صفته ، وهم رؤساء المدينة ، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستندون فيه ، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن (٢) ؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم. فإن قلت : ما معنى قوله (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ)؟ قلت : شبهوا في استنادهم ـ وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير ـ بالخشب المسندة إلى الحائط ؛ ولأنّ الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به أسند إلى الحائط ، فشبهوا به في عدم الانتفاع. ويجوز أن يراد بالخشب المسندة : الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان ، شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم ، والخطاب في (رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ) لرسول الله ، أو لكل من يخاطب. وقرئ : يسمع ، على البناء للمفعول ، وموضع (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ) رفع على : هم كأنهم خشب. أو هو كلام مستأنف لا محل له. وقرئ : خشب جمع خشبة ، كبدنة وبدن. وخشب ، كثمرة وثمر. وخشب ، كمدرة ومدر ، وهي في قراءة ابن عباس. وعن اليزيدي أنه قال في (خُشُبٌ) : جمع خشباء ، والخشباء :

الخشبة التي دعر جوفها (٣) : شبهوا بها في نفاقهم وفساد بواطنهم (عَلَيْهِمْ) ثانى مفعولي يحسبون (٤) ، أى : يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم ، لجبنهم وهلعهم وما في قلوبهم من الرعب : إذا نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة : ظنوه إيقاعا بهم. وقيل : كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم. ومنه أخذ الأخطل :

__________________

(١) قوله «فصيحا ذلق اللسان» أى طلق اللسان ، كذا في الصحاح. (ع)

(٢) قال محمود : «كانوا يجالسون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستندون في المجلس ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن ... الخ» : قال أحمد : وفيما قال اليزيدي نظر من حيث مقتضى العربية ، وإلا فهو متمكن المعنى ، وذلك أنها قرئت بضم الشين وسكونها قراءتين مستفيضتين ، ففيه دليل أن أصلها الضم ، والسكون إنما هو طارئ عليه تخفيفا ، وهذا يبعد كونها جمع خشباء على وزن فعلاء ، لأن قياس جمعه فعل بسكون العين كحمراء وحمر ، ولا يطرأ الضم ، فلو كان كما قال لم تضم شينها ، والله تعالى أعلم.

(٣) قوله «التي دعر جوفها» أى فسد. أفاده الصحاح. (ع)

(٤) قال محمود : «المفعول الثاني (عَلَيْهِمْ) تقديره : واقعة عليهم ... الخ» قال أحمد : وغلا المتنبي في المعنى فقال :

وضاقت الأرض حتى صار هاربهم

إذا رأى غير شيء ظنه رجلا

٥٤٠