الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

(كَلَّا) ردعهم عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن ذكر البعث والحساب ، ونبههم على أنه مما يجب أن يتاب عنه ويندم عليه ، ثم أتبعه وعيد الفجار على العموم. وكتاب الفجار : ما يكتب من أعمالهم. فإن قلت : قد أخبر الله عن كتاب الفجار بأنه في سجين ، وفسر سجينا بكتاب مرقوم ، فكأنه قيل : إن كتابهم في كتاب مرقوم ، فما معناه : قلت : (سِجِّينٍ) كتاب جامع هو ديوان الشر : دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والانس ، وهو كتاب مرقوم مسطور بين الكتابة. أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه ، فالمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان ، وسمى سجينا : فعيلا من السجن ، وهو الحبس والتضييق ، لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم ، أو لأنه مطروح ـ كما روى تحت الأرض السابعة في مكان وحش مظلم ، وهو مسكن إبليس وذرّيته استهانة به وإذالة (١) ، وليشهده الشياطين المدحورون ، كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقرّبون. فإن قلت : فما سجين ، أصفة هو أم اسم؟ قلت : بل هو اسم علم منقول من وصف كحاتم ، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)(١٧)

(الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ) مما وصف به للذم لا للبيان ، كقولك فعل ذلك فلان الفاسق الخبيث (كَلَّا) ردع للمعتدى الأثيم عن قوله (رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها : وهو أن يصر على الكبائر ويسوّف التوبة حتى يطبع على قلبه ، فلا يقبل الخير ولا يميل إليه. وعن الحسن : الذنب بعد الذنب حتى يسودّ القلب. يقال : ران عليه الذنب وغان عليه ، رينا وغينا ، والغين : الغيم ، ويقال : ران فيه النوم رسخ فيه ، ورانت به الخمر : ذهبت به. وقرئ بإدغام اللام في الراء وبالإظهار ، والإدغام أجود ، وأميلت الألف وفخمت (كَلَّا) ردع عن

__________________

(١) قوله «استهانة به وإذالة» أى : إهانة. كما في الصحاح. (ع)

٧٢١

الكسب الرائن على قلوبهم. وكونهم محجوبين عنه : تمثيل (١) للاستخفاف بهم (٢) وإهانتهم ، لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم ، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم. قال :

إذا اعتروا باب ذى عبية رجبوا

والنّاس من بين مرجوب ومحجوب (٣)

عن ابن عباس وقتادة وابن أبى مليكة : محجوبين عن رحمته. وعن ابن كيسان : عن كرامته :

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)(٢١)

(كَلَّا) ردع عن التكذيب. وكتاب الأبرار : ما كتب من أعمالهم. وعليون : علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين ، منقول من جمع «علىّ» فعيل من العلو كسجين من السجن ، سمى بذلك إمّا لأنه سبب الارتفاع إلى أعالى الدرجات في الجنة ، وإمّا لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون ، تكريما له وتعظيما. روى «إن الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقلونه ، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم إنكم الحفظة على عبدى وأنا الرقيب على ما في قلبه ، وأنه أخلص عمله فاجعلوه في عليين ، فقد غفرت له ، وإنها لتصعد بعمل العبد فيزكونه ، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم : أنتم الحفظة على

__________________

(١) قال محمود : «كونهم محجوبين عنه تمثيل ... الخ» قال أحمد : هذا عند أهل السنة على ظاهره من أدلة الرؤية ، فان الله تعالى لما خص الفجار بالحجاب دل على أن المؤمنين الأبرار مرفوع عنهم الحجاب ، ولا معنى لرفع الحجاب إلا الإدراك بالعين ، وإلا فالحجاب على الله تعالى بغير هذا التفسير محال ، هذا هو الحق وما بعد الحق إلا الضلال ، وما أرى من جحد الرؤية المدلول عليها بقواطع الكتاب والسنة يحظي بها. والله المسئول في العصمة.

(٢) قوله «تمثيل للاستخفاف بهم» مبنى على مذهب المعتزلة : وهو عدم جواز الرؤية عليه تعالى. وذهب أهل السنة إلى جوازها. وفي النسفي : قال الزجاج : في الآية دليل على أن المؤمنين يرون ربهم ، وإلا لا يكون التخصيص مفيدا ، وقال الحسن بن الفصل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده ، حجبهم في العقبى عن رؤيته. وقال مالك بن أنس : لما حجب أعداءه فلم يروه ، تجلى لأوليائه حتى رأوه. وكذا في الخازن. وفيه أيضا : قال الشافعي : في الآية دلالة على أن أولياء الله يرون الله جل جلاله.

(٣) غزوا : قصدوا. وروى : اعتروا ، أى : نزلوا به وأصابوه. والعبية : الكبر والفخر. قال صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبية الجاهلية بالآباء» الناس رجلان : مؤمن تقى وكافر شقى». ورجبة الرجل : عظمته. يقول إنهم يلجون أبواب العظماء لا تمنعهم الحجاب ، بخلاف غيرهم فإنهم تارة وتارة.

٧٢٢

عبدى وأنا الرقيب على ما في قلبه. وإنه لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين (١)»

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)(٢٨)

(الْأَرائِكِ) الأسرة في الحجال (٢) (يَنْظُرُونَ) إلى ما شاءوا مدّ أعينهم إليه من مناظر الجنة ، وإلى ما أولاهم الله من النعمة والكرامة ، وإلى أعدائهم يعذبون في النار ، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدراك (نَضْرَةَ النَّعِيمِ) بهجة التنعم وماءه ورونقه ، كما ترى في وجوه الأغنياء وأهل الترفه. وقرئ : تعرف ، على البناء للمفعول. ونضرة النعيم ـ بالرفع. الرحيق الشراب الخالص الذي لا غش فيه (مَخْتُومٍ) تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطينة. وقيل (خِتامُهُ مِسْكٌ) مقطعه رائحة مسك إذا شرب. وقيل : يمزج بالكافور ، ويختم مزاجه بالمسك. وقرئ : خاتمه ، بفتح التاء وكسرها ، أى : ما يختم به ويقطع (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) فليرتغب المرتغبون (تَسْنِيمٍ) علم لعين بعينها : سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه : إمّا لأنها أرفع شراب في الجنة وإمّا لأنها تأتيهم من فوق ، على ما روى أنها تجرى في الهواء متسنمة فتنصب في أوانيهم. و (عَيْناً) نصب على المدح. وقال الزجاج : نصب على الحال. وقيل : هي للمقربين ، يشربونها صرفا. وتمزج لسائر أهل الجنة.

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ)(٣٣)

هم مشركو مكة : أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم : كانوا يضحكون

__________________

(١) أخرجه ابن المبارك في الزهد : أخبرنا أبو بكر ابن أبى مريم عن حمزة بن حبيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره.

(٢) قوله «الأسرة في الحجال» في الصحاح : الحجلة ـ بالتحريك ـ : واحدة حجال العروس : وهي بيت يزين بالثياب والأسرة والستور. (ع)

٧٢٣

من عمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين ويستهزؤن بهم. وقيل : جاء على ابن أبى طالب رضى الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه ، فنزلت قبل أن يصل علىّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (يَتَغامَزُونَ) يغمز بعضهم بعضا ، ويشيرون بأعينهم (فَكِهِينَ) ملتذين بذكرهم والسخرية منهم ، أى : ينسبون المسلمين إلى الضلال (وَما أُرْسِلُوا) على المسلمين (حافِظِينَ) موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ، ويهيمنون على أعمالهم ، ويشهدون برشدهم وضلالهم ، وهداتهكم بهم. أو هو من جملة قول الكفار ، وإنهم إذا رأوا المسلمين قالوا : إنّ هؤلاء لضالون ، وإنهم لم يرسلوا عليهم حافظين إنكارا لصدّهم إياهم عن الشرك ، ودعائهم إلى الإسلام ، وجدّهم في ذلك.

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ)(٣٦)

(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) حال من (يَضْحَكُونَ) أى : يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر. ومن ألوان العذاب بعد النعيم والترفه : وهم على الأرائك آمنون. وقيل : يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم : اخرجوا إليها ، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم ، يفعل ذلك بهم مرارا ، فيضحك المؤمنون منهم. ثوّبه وأثابه : بمعنى ، إذا جازاه. قال أوس :

سأجزيك أو يجزيك عنّى مثوّب

وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي (١)

وقرئ بإدغام اللام في التاء.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة المطففين سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة (٢)».

__________________

(١) لأوس بن حجر. ويقال : ثوبه وأثابه : إذا جازاه. فالمثوب المجازى أى : سأجزيك يا فرسي بنفسي ، أو يجزيك بدلا عنى مجاز غيرى. أو مجازاة ناشئة عنى ، وكافيك من الناس أن يثنوا عليك ويحمدوك ، فعليك : نائب الفاعل. ويجوز أن يكون المثوب المنادى للحرب مشيرا بطرف ثوبه ، ليرى من بعيد فيغاث.

(٢) أخرجه ابن مردويه والثعلبي والواحدي سندهم إلى أبى بن كعب.

٧٢٤

سورة الانشقاق

مكية ، وآياتها ٢٥ [نزلت بعد الانفطار]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ)(٥)

حذف جواب إذا ليذهب المقدّر كل مذهب. أو اكتفاء بما علم في مثلها من سورتي التكوير والانفطار. وقيل : جوابها ما دلّ عليه (فَمُلاقِيهِ) أى إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه. ومعناه : إذا انشقت بالغمام ، كقوله تعالى (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) وعن على رضى الله عنه : تنشق من المجرّة. أذن له : استمع له (١). ومنه قوله عليه السلام : «ما أذن الله لشيء كاذنه لنبي يتغنى بالقرآن (٢). وقول جحاف بن حكيم :

أذنت لكم لمّا سمعت هريركم (٣)

والمعنى : أنها فعلت في انقيادها لله حين أراد انشقاقها فعل المطواع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المطاع أنصت له وأذعن ولم يأب ولم يمتنع ، كقوله (أَتَيْنا طائِعِينَ). (وَحُقَّتْ) من قولك هو محقوق بكذا وحقيق به ، يعنى : وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع. ومعناه الإيذان بأنّ القادر الذات (٤) يجب أن يتأتى له كل مقدور ويحق ذلك (مُدَّتْ) من مدّ الشيء فامتدّ :

__________________

(١) قال محمود : «معنى أذنت استمعت ... الخ» قال أحمد : نغص تفسير الآية بقوله : القادر بالذات وما باله لا يقول : القادر الذي عمت قدرته الكائنات ، حتى لا يكون إلا بقدرته : حقيق أن يسمع له ويطاع ، فيثبت لله صفة الكمال ، ويوحده حق توحيده : وهو خير من سلب صفة الكمال عن الله تعالى وإشراك مخلوقاته به ـ جل ربنا وعز ـ

(٢) متفق عليه ، وقد تقدم في سورة إبراهيم.

(٣) أذنت لكم لما سمعت هريركم

فأسمعتمونى بالخنا والفواحش

لجحاف بن حكيم. وأذنت : أصخت وأصغيت بأذنى لكلامكم حين سمعت صوتكم ، وضمن أسمعتمونى معنى : أعلتمونى ، فعداه بالباء. ويجوز أنها زائدة. والخنا : الزنا وتوابعه مما يتعلق بالنساء ، والفواحش : أعم من ذلك

(٤) قوله «الإيذان بأن القادر بالذات» هذا التعبير مبنى على مذهب المعتزلة من أنه تعالى قادر بذاته لا بقدرة زائدة على ذاته ، عالم بذاته لا بعلم زائد على ذاته. ومذهب أهل السنة : أنه قادر بقدوة زائدة : هل ذاته ، عالم بعلم زائد على ذاته وهكذا ، كما في الحوادث

٧٢٥

وهو أن تزال جبالها وآكامها وكل أمت فيها ، حتى تمتدّ وتنبسط ويستوي ظهرها ، كما قال تعالى (قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) وعن ابن عباس رضى الله عنهما : مدّت مدّ الأديم العكاظي ، لأن الأديم إذا مدّ زال كل انثناء فيه وأمت واستوى أو من مدّه بمعنى أمدّه ، أى : زيدت سعة وبسطة (وَأَلْقَتْ ما فِيها) ورمت بما في جوفها مما دفن فيها من الموتى والكنوز (وَتَخَلَّتْ) وخلت غاية الخلو حتى لم يبق شيء في باطنها ، كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو ، كما يقال : تكرم الكريم ، وترحم الرحيم : إذا بلغا جهدهما في الكرم والرحمة ، وتكلفا فوق ما في طبعهما (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) في إلقاء ما في بطنها وتخليها.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ)(١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً)(١٥)

الكدح : جهد النفس في العمل والكدّ فيه حتى يؤثر فيها ، من كدح جلده : إذا خدشه. ومعنى (كادِحٌ إِلى رَبِّكَ) جاهد إلى لقاء ربك ، وهو الموت وما بعده من الحال الممثلة باللقاء (فَمُلاقِيهِ) فملاق له لا مجالة لا مفرّ لك منه ، وقيل : الضمير في ملاقيه للكدح (يَسِيراً) سهلا هينا لا يناقش فيه ولا يعترض بما يسوءه ويشق عليه ، كما يناقش أصحاب الشمال. وعن عائشة رضى الله عنها : هو أن يعرّف ذنوبه ، ثم يتجاوز عنه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من يحاسب يعذب» فقيل يا رسول الله : فسوف يحاسب حسابا يسيرا. قال «ذلكم العرض ، من نوقش في الحساب عذب» (١) (إِلى أَهْلِهِ) إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين. أو إلى فريق المؤمنين. أو إلى أهله في الجنة من الحور العين (وَراءَ ظَهْرِهِ) قيل : تغل يمناه إلى عنقه ، وتجعل شماله وراء ظهره ، فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره. وقيل تخلع يده اليسرى من وراء ظهره. (يَدْعُوا ثُبُوراً) يقول : يا ثبوراه. والثبور : الهلاك. وقرئ : ويصلى سعيرا ، كقوله (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) ويصلى : بضم الياء والتخفيف ، كقوله (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ). (فِي أَهْلِهِ) فيما بين ظهرانيهم : أو معهم ، على أنهم كانوا جميعا مسرورين ، يعنى أنه كان في الدنيا مترفا بطرا مستبشرا كعادة

__________________

(١) متفق عليه من حديث عائشة.

٧٢٦

الفجار الذين لا يهمهم أمر الآخرة ولا يفكرون في العواقب ، ولم يكن كئيبا حزينا متفكرا كعادة الصلحاء والمتقين وحكاية الله عنهم (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ). (ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) لن يرجع إلى الله تعالى تكذيبا بالمعاد. يقال : لا يحور ولا يحول ، أى : لا يرجع ولا يتغير. قال لبيد :

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع (١)

وعن ابن عباس : ما كنت أدرى ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها : حورى ، أى : ارجعي (بَلى) إيجاب لما بعد النفي في (لَنْ يَحُورَ) أى : بلى ليحورنّ (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) وبأعماله لا ينساها ولا تخفى عليه ، فلا بدّ أن يرجعه ويجازيه عليها. وقيل : نزلت الآيتان في أبى سلمة بن عبد الأشدّ وأخيه الأسود بن عبد الأشد.

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ)(١٩)

الشفق : الحمرة التي ترى في المغرب بعد سقوط الشمس ، وبسقوطه يخرج وقت المغرب ويدخل وقت العتمة عند عامة العلماء ، إلا ما يروى عن أبى حنيفة رضى الله عنه في إحدى الروايتين : أنه البياض. وروى أسد بن عمرو : أنه رجع عنه ، سمى لرقته. ومنه الشفقة على الإنسان : رقة القلب عليه (وَما وَسَقَ) وما جمع وضم ، يقال : وسقه فاتسق واستوسق. قال :

مستوسقات لو يجدن سائقا (٢)

ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين : اتسع واستوسع. ومعناه : وما جمعه وستره وآوى إليه من الدواب وغيرها (إِذَا اتَّسَقَ) إذا اجتمع واستوى ليلة أربع عشرة. قرئ : لتركبن ، على خطاب الإنسان في (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) ولتركبن ، بالضم على خطاب الجنس ، لان النداء للجنس ، ولتركبن بالكسر على خطاب النفس ، وليركبن بالياء على : ليركبن

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الرابع صفحة ١٣ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٢) إن لنا قلائصا حقائقا

مستوسقات لو يجدن سائقا

القلائص : جمع قلوص وهي الفتية من الإبل. والحقائق : جمع حقة ، التي استحقت الحمل عليها ، أو استحقت ضراب الفحل. ويقال : وسقه فاتسق واستوسق ، أى : جمع عليه الأحمال فتحمل ، أو جمعه فاجتمع ومستوسقات : محملات أو مجتمعات ، وأو بمعنى إلى ، أى : واقفات إلى أن يجدن من يسوقهن فيسرن. ويروى : لو يجدن. وفيه معنى التمني. ويجوز أن جوابه مقدر ، أى : لأسرعن :

٧٢٧

الإنسان. والطبق : ما طابق غيره. يقال : ما هذا بطبق لذا ، أى : لا يطابقه. ومنه قيل للغطاء الطبق. وإطباق الثرى : ما تطابق منه ، ثم قيل للحال المطابقة لغيرها : طبق. ومنه قوله عز وعلا (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أى حالا بعد حال : كل واحدة مطابقة لأختها في الشدّة والهول : ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة ، من قولهم : هو على طبقات. ومنه: طبق الظهر لفقاره الواحدة : طبقة ، على معنى : لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدّة بعضها أرفع من بعض. وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها. فإن قلت : ما محل عن طبق؟ قلت : النصب على أنه صفة لطبقا ، أى : طبقا مجاوزا لطبق. أو حال من الضمير في لتركبن ، أى : لتركبن طبقا مجاوزين لطبق. أو مجاوزا. أو مجاوزة ، على حسب القراءة : وعن مكحول : كل عشرين عاما تجدون أمرا لم تكونوا عليه.

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)(٢٥)

(لا يَسْجُدُونَ) لا يستكينون ولا يخضعون. وقيل. قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفر (١) ، فنزلت. وبه احتج ابو حنيفة رضى الله عنه على وجوب السجدة. وعن ابن عباس ليس في المفصل سجدة. وعن أبى هريرة رضى الله عنه : أنه سجد فيها وقال : والله ما سجدت فيها إلا بعد أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد (٢) فيها. وعن أنس : صليت خلف أبى بكر وعمر وعثمان فسجدوا. وعن الحسن : هي غير واجبة (الَّذِينَ كَفَرُوا) إشارة إلى المذكورين (بِما يُوعُونَ) بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر والحسد والبغي والبغضاء. أو بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) استثناء منقطع.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة انشقت أعاذه الله أن يعطيه كتابه وراء ظهره» (٣).

__________________

(١) لم أجده.

(٢) متفق عليه بمعناه.

(٣) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بإسنادهم إلى أبى بن كعب.

٧٢٨

سورة البروج

مكية ، وآياتها ٢٢ [نزلت بعد الشمس]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)(٣)

هي البروج الاثنا عشر ، وهي قصور السماء على التشبيه. وقيل : (الْبُرُوجِ) النجوم التي هي منازل القمر. وقيل : عظام الكواكب. سميت بروجا لظهورها. وقيل : أبواب السماء (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يوم القيامة (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) يعنى وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه. والمراد بالشاهد : من يشهد فيه من الخلائق كلهم ، وبالمشهود : ما في ذلك اليوم من عجائبه. وطريق تنكيرهما : إما ما ذكرته في قوله (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) كأنه قيل : وما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود. وإما الإبهام في الوصف ، كأنه قيل : وشاهد مشهود لا يكتنه وصفهما. وقد اضطربت أقاويل المفسرين فيهما ، فقيل : الشاهد والمشهود : محمد صلى الله عليه وسلم ، ويوم القيامة. وقيل : عيسى. وأمّته. لقوله (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) وقيل : أمّة محمد ، وسائر الأمم : وقيل : يوم التروية ، ويوم عرفة. وقيل : يوم عرفة ، ويوم الجمعة. وقيل. الحجر الأسود ، والحجيج. وقيل : الأيام والليالي ، وبنو آدم. وعن الحسن : ما من يوم إلا وينادى : إنى يوم جديد وإنى على ما يعمل فىّ شهيد ، فاغتمنى ، فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة : وقيل : الحفظة وبنو آدم. وقيل : الأنبياء ومحمد عليه السلام.

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(٨)

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(٩)

فإن قلت : أين جواب القسم؟ قلت : محذوف يدل عليه قوله (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون ، يعنى كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود ، وذلك

٧٢٩

أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة ، وتذكيرهم بما جرى على من تقدّمهم : من التعذيب على الإيمان. وإلحاق أنواع الأذى ، وصبرهم وثباتهم ، حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ، ويعلموا أن كفارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذبين المحرقين بالنار ، ملعونون أحقاء بأن يقال فيهم : قتلت قريش ، كما قيل : قتل أصحاب الأخدود وقتل : دعاء عليهم ، كقوله (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) وقرئ : قتل ، بالتشديد. والأخدود : الخدّ في الأرض وهو الشق ، ونحوهما بناء ومعنى : الخق والأخقوق. ومنه فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان (١). روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كان لبعض الملوك ساحر ، فلما كبر ضمّ إليه غلاما ليعلمه السحر ، وكان في طريق الغلام راهب : فسمع منه ، فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس. فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فاقتلها ، فقتلها ، فكان الغلام بعد ذلك يبرئ الأكمه والأبرص ، ويشفى من الأدواء ، وعمى جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله فقال : من ردّ عليك بصرك؟ فقال : ربى ، فغضب فعذبه. فدل على الغلام فعذبه ، فدل على الراهب ، فلم يرجع الراهب عن دينه ، فقدّ بالمنشار وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته ، فدعا فرجب بالقوم ، فطاحوا ونجا ، فذهب به إلى قرقور (٢) فلججوا به ليغرقوه ، فدعا فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا ونجا ، فقال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي وتقول : بسم الله رب الغلام ، ثم ترميني به. فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ، فقيل للملك. نزل بك ما كنت تحذر ، فأمر بأخاديد في أفواه السكك وأو قدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبى فتقاعست (٣) أن تقع فيها ، فقال الصبى : يا أماه ، اصبري فإنك على الحق ، فاقتحمت. وقيل : قال لها قعى ولا تنافقى. وقيل : قال لها ما هي إلا غميضة فصبرت (٤). وعن على رضى الله عنه : أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال : هم أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم ، وكانت الخمر قد أحلت لهم ، فتناولها بعض ملوكهم فسكر ، فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج ، فقالت له : المخرج أن تخطب الناس فتقول : يا أيها الناس ، إنّ الله أحل نكاح الأخوات ، ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول : إن الله حرّمه ، فخطب فلم يقبلوا منه

__________________

(١) قوله «جرذان» في الصحاح «الجرذ» : ضرب من الفأر والجمع : الجرذان. (ع)

(٢) قوله «قرقور» في الصحاح «القرقور» : السفينة الطويلة. (ع)

(٣) قوله «فتقاعست» في الصحاح «تقاعس» : إذا تأخر عن الأمر ولم يتقدم. (ع)

(٤) أخرجه مسلم. والترمذي والنسائي وابن حبان والطبري والطبراني وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والبزار كلهم من رواية ابن أبى ليلى من طرق وأقربها إلى لفظ الكتاب سياق الطبري. تفرد به ثابت البناني عن عبد الرحمن.

٧٣٠

فقالت له : ابسط فيهم السوط ، فلم يقبلوا ، فقالت له : ابسط فيهم السيف ، فلم يقبلوا ، فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها ، فهم الذين أرادهم الله بقوله (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) (١) وقيل : وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى عليه السلام ، فدعاهم فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير ، فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا ، فأحرق منهم اثنى عشر ألفا في الأخاديد. وقيل : سبعين ألفا (٢) ، وذكر أنّ طول الأخدود : أربعون ذراعا وعرضه اثنا عشر ذراعا (٣). وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوّذ من جهد البلاء (٤) (النَّارِ) بدل اشتمال من الأخدود (ذاتِ الْوَقُودِ) وصف لها بأنها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس ، وقرئ : الوقود ، بالضم (إِذْ) ظرف لقتل ، أى لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها. ومعنى (عَلَيْها) على ما يدنو منها من حافات الأخدود ، كقوله :

وبات على النّار النّدى والمحلّق (٥)

وكما تقول : مرت عليه ، تريد : مستعليا لمكان يدنو منه ، ومعنى شهادتهم على إحراق المؤمنين : أنهم وكلوا بذلك وجعلوا شهودا يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنّ أحدا منهم لم يفرط فيما أمر به وفوض إليه من التعذيب. ويجوز أن يراد : أنهم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين ، يؤدّون شهادتهم يوم القيامة (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ). (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) وما عابوا منهم وما أنكروا إلا الإيمان ، كقوله :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم (٦)

قال ابن الرقيات :

ما نقموا من بنى أميّة إلّا

أنّهم يحلمون إن غضبوا (٧)

__________________

(١) أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وأبو يعلى. والطبري والطبراني. وأحمد وإسحاق والبزار كلهم من رواية عبد الرحمن بن حميد والطبري من رواية جعفر بن أبى المغيرة عن عبد الرحمن بن أيزى قال «لما هزم المسلمون أهل الاسفيذيان انصرفوا فجاءهم يعنى عمر رضى الله عنه. فاجتمعوا فقالوا. أى شيء يجرى على المجوس من الأحكام؟ نهم ليسوا أهل كتاب. وليسوا من مشركي العرب. فقال : هم أهل الكتاب. فذكره. وسياق الطبري أتم منه

(٢) أخرجه ابن إسحاق في السيرة ، حدثني يزيد بن أبى زياد عن محمد بن كعب. فذره مطولا.

(٣) نقله الثعلبي عن الكلبي.

(٤) أخرجه ابن أبى شيبة عن أبى أسامة عن عوف عن الحسن بهذا.

(٥) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة ٥٣ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٦) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ١٤٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٧) لقيس الرقيات. ونقموا كرهوا : وحلم ـ كظرف ـ : صفح. يقول : إنهم جعلوا أحسن الأشياء وهو ـ

٧٣١

وقرأ أبو حيوة : نقموا ، بالكسر ، والفصيح : هو الفتح. وذكر الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به ويعبد ، وهو كونه عزيزا غالبا قادرا يخشى عقابه حميدا منعما. يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكل من فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له تقديرا ، لأن (ما نَقَمُوا مِنْهُمْ) هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغىّ ، وإن الناقمين أهل لانتقام الله منهم بعذاب لا يعدله عذاب (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) وعيد لهم ، يعنى أنه علم ما فعلوا ، وهو مجازيهم عليه.

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)(١١)

ويجوز أن يريد بالذين فتنوا : أصحاب الأخدود خاصة ، وبالذين آمنوا : المطروحين في الأخدود. ومعنى فتنوهم : عذبوهم بالنار وأحرقوهم (فَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابُ جَهَنَّمَ) بكفرهم (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق بإحراقهم المؤمنين. أو لهم عذاب جهنم في الآخرة ، ولهم عذاب الحريق في الدنيا ، لما روى أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم. ويجوز أن يريد : الذين فتنوا المؤمنين ، أى : بلوهم بالأذى على العموم ، والمؤمنين : المفتونين ، وأن للفاتنين عذابين في الآخرة : لكفرهم ، ولفتنتهم.

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ)(١٦)

البطش : الأخذ بالعنف ، فإذا وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم : وهو بطشه بالجبابرة والظلمة ، وأخذهم بالعذاب والانتقام (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أى يبدئ البطش ويعيده ، يعنى : يبطش بهم في الدنيا وفي الآخرة. أو دل باقتداره على الإبداء والاعادة على شدة بطشه. وأوعد الكفرة بأنه يعيدهم كما أبدأهم ليبطش بهم إذ لم يشكروا نعمة الإبداء وكذبوا بالاعادة.

__________________

ـ الحلم عند الغضب قبيحا. ويجوز أن فاعل الفعلين ضمير بنى أمية. ويجوز أن الأول لهم ، والثاني : الناقمين. وفيه استتباع المدح بما يشبه الذم للمبالغة في المدح ، حيث جعل الحلم عند الغضب ذما ، مع أنه غاية في المدح. ويروى ما نقم الناس ، وعليها فالصواب إسقاط «بين» لأجل الوزن.

٧٣٢

وقرئ : يبدأ (الْوَدُودُ) الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود : من إعطائهم ما أرادوا. وقرئ : ذى العرش ، صفة لربك. وقرئ : المجيد ، بالجر صفة للعرش. ومجد الله : عظمته. ومجد العرش : علوه وعظمته (فَعَّالٌ) خبر مبتدأ محذوف. وإنما قيل : فعال ، لأنّ ما يريد ويفعل في غاية الكثرة (١).

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(٢٢)

(فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) بدل من الجنود. وأراد بفرعون إياه وآله ، كما في قوله (مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) والمعنى : قد عرفت تكذيب تلك الجنود الرسل وما نزل بهم لتكذيبهم (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) من قومك (فِي تَكْذِيبٍ) أىّ : تكذيب واستيجاب للعذاب ، والله عالم بأحوالهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه. والاحاطة بهم من ورائهم : مثل لأنهم لا يفوتونه ، كما لا يفوت فائت الشيء المحيط به. ومعنى الاضراب : أن أمرهم أعجب من أمر أولئك ، لأنهم سمعوا بقصصهم وبما جرى عليهم ، ورأوا آثار هلاكهم ولم يعتبروا ، وكذبوا أشد من تكذيبهم (بَلْ هُوَ) أى بل هذا الذي كذبوا به (قُرْآنٌ مَجِيدٌ) شريف عالى الطبقة في الكتب وفي نظمه وإعجازه. وقرئ : قرآن مجيد ، بالاضافة ، أى : قرآن رب مجيد. وقرأ يحيى بن يعمر : في لوح. واللوح : الهواء (٢) ، يعنى : اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح (مَحْفُوظٍ) من وصول الشياطين إليه. وقرئ : محفوظ ، بالرفع صفة القرآن.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة البروج أعطاه الله بعدد كل يوم جمعة وكل يوم عرفة يكون في الدنيا عشر حسنات (٣)».

__________________

(١) قال محمود : «إنما يقال فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة» قال أحمد : ما قدر الله حق قدره ، هلا قال : إنه لا فاعل إلا هو ، وهل المخالف لذلك إلا مشرك ، وكم أراد الله تعالى على معتقد القدرية من فعل فلم يفعله ، وهب أنا طرحنا النظر في مقتضى مبالغة الصيغة ، أليس قد دل بقوله (لِما يُرِيدُ) على عموم فعله في جميع مراده ، فما رده إلى الخصوص إلا نكوص عن النصوص.

(٢) قوله «واللوح الهواء» في الصحاح «اللوح» بالضم : الهواء بين السماء والأرض. (ع)

(٣) أخرجه الواحدي والثعلبي وابن مردويه باسنادهم إلى بن كعب.

٧٣٣

سورة الطارق

مكية ، وآياتها ١٧ [نزلت بعد البلد]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ)(٣)

(النَّجْمُ الثَّاقِبُ) المضيء ، كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه ، كما قيل : درّىء ، لأنه يدرؤه ، أى : يدفعه. ووصف بالطارق ، لأنه يبدو بالليل ، كما يقال للآتى ليلا : طارق : أو لأنه يطرق الجنى ، أى يصكه. والمراد : جنس النجوم ، أو جنس الشهب التي يرجم بها. فإن قلت : ما يشبه قوله (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ : النَّجْمُ الثَّاقِبُ) إلا ترجمة كلمة بأخرى ، فبين لي أى فائدة تحته؟ قلت : أراد الله عز من قائل : أن يقسم بالنجم الثاقب تعظيما له ، لما عرف فيه من عجيب القدرة ولطيف الحكمة ، وأن ينبه على ذلك فجاء بما هو صفة مشتركة بينه وبين غيره ، وهو الطارق ، ثم قال : (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟) ثم فسره بقوله (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) كل هذا إظهار لفخامة شأنه ، كما قال (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) روى أنّ أبا طالب كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانحط نجم ، فامتلأ ما ثم نورا. فجزع أبو طالب وقال : أى شيء هذا؟ فقال عليه السلام : هذا نجم رمى به ، وهو آية من آيات الله ، فعجب أبو طالب (١) ، فنزلت.

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ)(٤)

فإن قلت : ما جواب القسم؟ قلت (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) لأنّ «إن» لا تخلو فيمن قرأ لما مشددة ، بمعنى : إلا أن تكون نافية. وفيمن قرأها مخففة على أن «ما» صلة تكون مخففة من الثقيلة ، وأيتهما كانت فهي مما يتلقى به القسم ، حافظ مهيمن عليها رقيب ، وهو الله عز وجل (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) ، (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) وقيل : ملك يحفظ عملها ويحصى عليها ما تكسب من خير وشر. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب. ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين (٢)».

__________________

(١) هكذا ذكره الثعلبي والواحدي بغير إسناد.

(٢) أخرجه الطبراني من رواية عفير بن معدان عن سليم بن عامر عن أبى أمامة به وأتم منه. وعفير ضعيف.

٧٣٤

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ)(٧)

فإن قلت : ما وجه اتصال قوله (فَلْيَنْظُرِ) بما قبله؟ قلت : وجه اتصاله به أنه لما ذكر أن على كل نفس حافظا ، أتبعه توصية الإنسان بالنظر في أوّل أمره ونشأته الأولى ، حتى يعلم أنّ من أنشأه قادر على إعادته وجزائه ، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ، ولا يملى على حافظه إلا ما يسره في عاقبته ، و (مِمَّ خُلِقَ) استفهام جوابه (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) والدفق : صبّ فيه دفع. ومعنى دافق : النسبة إلى الدفق الذي هو مصدر دفق ، كاللابن والتامر. أو الاسناد المجازى. والدفق في الحقيقة لصاحبه ، ولم يقل ماءين لامتزاجهما في الرحم ، واتحادهما حين ابتدئ في خلقه (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) من بين صلب الرجل وترائب المرأة : وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة. وقرئ : الصلب ـ بفتحتين ، والصلب بضمتين. وفيه أربع لغات : صلب ، وصلب ،

وصلب وصالب. قال العجاج :

في صلب مثل العنان المؤدم (١)

وقيل : العظم والعصب من الرجل ، واللحم والدم من المرأة.

(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) (١٠)

(إِنَّهُ) الضمير للخالق ، لدلالة خلق عليه. ومعناه : إنّ ذلك الذي خلق الإنسان ابتداء من نطفة (عَلى رَجْعِهِ) على إعادته خصوصا (لَقادِرٌ) لبين القدرة لا يلتاث (٢) عليه ولا يعجز عنه. كقوله : إننى لفقير (٣) (يَوْمَ تُبْلَى) منصوب برجعه ، ومن جعل الضمير في (رَجْعِهِ) للماء

__________________

(١) ريا العظام فخمة المخدم

في صلب مثل العنان المؤدم

العجاج. والريا : تأنيث الريان ، أى : لينة العظام ، سمينة محل الخدام وهو الخلخال. والمخدم ـ بالتشديد ـ على اسم المفعول. والصلب ـ بضمتين ، وبفتحتين ، وبضم فسكون ـ : عظام الظهر ، والمراد هنا : الخصر. وفي بمعنى مع ، أى : وصفت بهذه الصفات ، مع أن لها خصرا رقيقا لينا ، مثل العنان المؤدم ، على اسم المفعول ، أى : المؤلف بالفتل ، يقال : أدم بينهما ـ بقصر الهمزة وبمدها ـ : بمعنى ألف وأصلح. أو المجعول له أدمة. أو لين الأدمة ـ بفتحتين ، وهي الجلدة المدبوغة المصلحة ، من أدمه بالمد : جعل له أدمة. والفخمة بالضم : الضخامة واسترخاء الرجلين. والفخمة ـ بالفتح ـ : وصف منه.

(٢) قوله «لا يلتاث عليه» في الصحاح «التاث في عمله» : أى أبطأ. (ع)

(٣) قوله «كقوله إننى لفقير» أى الشاعر ، حيث قال :

لئن كان يهدى برد أنيابها العلى

لأفقر منى إننى لفقير (ع)

وقد تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة ٢٣ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٧٣٥

وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب أو الإحليل. أو إلى الحالة الاولى نصب الظرف بمضمر (السَّرائِرُ) ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها ، وما أخفى من الأعمال. وبلاؤها. تعرّفها وتصفحها ، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث. وعن الحسن أنه سمع رجلا ينشد :

سيبقى لها في مضمر القلب والحشا

سريرة ودّ يوم تبلى السّرائر (١)

فقال : ما أغفله عما في (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ)؟ (فَما لَهُ) فما للإنسان (مِنْ قُوَّةٍ) من منعة في نفسه يمتنع بها (وَلا ناصِرٍ) ولا مانع يمنعه.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ)(١٤)

سمى المطر رجعا ، كما سمى أوبا. قال :

ربّاء شمّاء لا يأوى لقلتها

إلّا السّحاب وإلّا الأوب والسّبل (٢)

تسمية بمصدرى : رجع ، وآب ، وذلك أنّ العرب كانوا يزعمون أنّ السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ، ثم يرجعه إلى الأرض. أو أرادوا التفاؤل فسموه رجعا. وأوبا ، ليرجع ويؤب. وقيل : لأنّ الله يرجعه وقتا فوقتا. قالت الخنساء : كالرجع في المدجنة السارية. والصدع : ما يتصدّع عنه الأرض من النبات (إِنَّهُ) الضمير للقرآن (فَصْلٌ) فاصل بين

__________________

(١) إذا رمت عنها سلوة قال شافع

من الحب ميعاد السلو المقابر

سيقى لها في مضمر القلب والحشا

سريرة ود يوم تبلى السرائر

لمجنون بنى عامر صاحب ليلى العامرية. وسلا عنه سلوة وسلوا : صد عنه وأعرض ، وشبه بعث الحب إياه وحمله على دوام المودة بقول القائل على طريق التصريحية ، وتسمية الحب شافعا : ترشيح. ومن بيانية. ويحتمل أنها تجريدية دلالة على أن الحب بلغ نهاية اللذة حتى حمل على دوام المودة فانتزع منه غيره وأسند له الفعل. ويجوز أنها تبعيضية دالة على أن بعضه يكفى في الشفاعة. وقوله «المقابر» أى دخولها ، كناية عن الموت. والمراد : التأبيد ، بدليل ما بعده. ومضمر القلب : المضمر في القلب. أو مضمر هو القلب. وتبلى : مبنى للفاعل ، أى : تفنى. ويحتمل بناءه للمفعول ، أى : تختبر. والحشا ـ بالفتح ـ : عطف على القلب أعم منه ، دلالة على أن الحب في غير قلبه أيضا.

(٢) للمنتخل الهذلي يرثى ابنه. وقيل : يصف رجلا بأنه رباء ، أى طلاع من ربأ وارتبأ : إذا طلع لينظر إلى أمر. ومنه الربيئة ، وإضافته إلى شماء من إضافة الوصف لمفعوله : وهي القلعة المرتفعة من الشمم وهو الارتفاع. وقلة الجبل وقنته : رأسه وأعلاه. والأوب : النحل ، لأنه يذهب ويؤوب إلى بيته. أو المطر ، لأن أصله من بحار الأرض على زعم العرب ، ثم يؤوب إليها. والسبيل ـ بالتحريك ـ : المطر من أسبلت الستر إذا أرسلته وأرخيته ، وعلى أن الأوب بمعنى النحل لا مناسبة بينه قرينية ، وعلى أنه بمعنى المطر ، فالسبل مرادف له.

٧٣٦

الحق والباطل ، كما قيل له فرقان (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) يعنى أنه جدّ كله لا هوادة فيه. ومن حقه ـ وقد وصفه الله بذلك ـ أن يكون مهيبا في الصدور ، معظما في القلوب ، يترفع به قارئه وسامعه وأن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح ، وأن يلقى ذهنه إلى أنّ جبار السماوات يخاطبه فيأمره وينهاه ، ويعده وبوعده ، حتى إن لم يستفزه الخوف ولم تتبالغ فيه الخشية ، فأدنى أمره أن يكون جادّا غير هازل ، فقد نعى الله ذلك على المشركين في قوله (وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) ، (وَالْغَوْا فِيهِ).

(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (١٧)

(إِنَّهُمْ) يعنى أهل مكة يعملون المكايد في إبطال أمر الله وإطفاء نور الحق ، وأنا أقابلهم بكيدى : من استدراجى لهم وانتظاري بهم الميقات الذي وقته للانتصار منهم (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) يعنى لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) أى إمهالا يسيرا ، وكرّر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين منه والتصبير. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الطارق أعطاه الله بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات» (١).

سورة الأعلى

مكية ، وآياتها ١٩ [نزلت بعد التكوير]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى)(٥)

تسبيح اسمه عز وعلا : تنزيهه عما لا يصح فيه من المعاني التي هي إلحاد في أسمائه ، كالجبر

__________________

(١) أخرجه الواحدي والثعلبي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.

٧٣٧

والتشبيه ونحو ذلك ، مثل أن يفسر الأعلى بمعنى العلو الذي هو القهر والاقتدار ، لا بمعنى العلوّ في المكان والاستواء على العرش حقيقة ، وأن يصان عن الابتذال والذكر ، لا على وجه الخشوع والتعظيم. ويجوز أن يكون (الْأَعْلَى) صفة للرب ، والاسم ، وقرأ على رضى الله عنه : سبحان ربى الأعلى. وفي الحديث لما نزلت : فسبح باسم ربك العظيم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اجعلوها في ركوعكم» فلما نزل سبح اسم ربك الأعلى قال : «اجعلوها في سجودكم» (١) وكانوا يقولون في الركوع : اللهم لك ركعت ، وفي السجود : اللهم لك سجدت (خَلَقَ فَسَوَّى) أى خلق كل شيء فسوّى خلقه تسوية ، ولم يأت به متفاوتا غير ملتئم ، ولكن على إحكام واتساق ، ودلالة على أنه صادر عن عالم ، وأنه صنعة حكيم (قَدَّرَ فَهَدى) قدّر لكل حيوان ما يصلحه ، فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به. يحكى أنّ الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت ، وقد ألهمها الله أنّ مسح العين بورق الرازيانج الغض يرد إليها بصرها ، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام فتطوى تلك المسافة على طولها وعلى عماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها ، فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن الله. وهدايات الله للإنسان إلى مالا يحدّ من مصالحه وما لا يحصر من حوائجه في أغذيته وأدويته ، وفي أبواب دنياه ودينه ، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض : باب واسع ، وشوط بطين (٢) ، لا يحيط به وصف واصف ، فسبحان ربى الأعلى. وقرئ : قدر ، بالتخفيف (أَحْوى) صفة لغثاء ، أى (أَخْرَجَ الْمَرْعى) أنبته (فَجَعَلَهُ) بعد خضرته ورفيفه (غُثاءً أَحْوى) دربنا (٣) أسود. ويجوز أن يكون (أَحْوى) حالا من المرعى ، أى : أخرجه أحوى أسود من شدّة الخضرة والري ، فجعله غثاء بعد حوّيه.

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى)(٧)

بشره الله بإعطاء آية بينة ، وهي : أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحى وهو أمى لا يكتب ولا يقرأ ، فيحفظه ولا ينساه (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فذهب به عن حفظه برفع حكمه وتلاوته ، كقوله (أَوْ نُنْسِها) وقيل : كان يعجل بالقراءة إذا لقنه جبريل ، فقيل : لا تعجل ، فإنّ جبريل مأمور بأن يقرأه عليك قراءة مكررة إلى أن تحفظه ، ثم لا تنساه إلا ما شاء الله ، ثم تذكره بعد النسيان. أو قال : إلا ما شاء الله ، يعنى : القلة والندرة ، كما روى أنه أسقط آية في

__________________

(١) أخرجه أبو داود وابن ماجة وابن حبان وأحمد من رواية إياس بن عامر عن عقبة بن عامر به.

(٢) قوله «وشوط بطين» أى بعيد أفاده الصحاح. (ع)

(٣) الدرين : حطام المرعى إذا قدم ، كذا في الصحاح. (ع)

٧٣٨

قراءته في الصلاة ، فحسب أبى أنها نسخت ، فسأله فقال : نسيتها (١). أو قال : إلا ما شاء الله ، الغرض نفى النسيان رأسا كما يقول الرجل لصاحبه أنت سهيمي فيما أملك إلا فيما شاء الله ولا يقصد استثناء شيء وهو من استعمال القلة في معنى النفي. وقيل : قوله (فَلا تَنْسى) على النهى ، والألف مزيدة للفاصلة ، كقوله (السَّبِيلَا) يعنى : فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه ، إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ) يعنى أنك تجهر بالقراءة مع قراءة جبريل عليه السلام مخافة التفلت ، والله يعلم جهرك معه وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر ، فلا تفعل ، فأنا أكفيك ما تخافه. أو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم ، وما ظهر وبطن من أحوالكم ، وما هو مصلحة لكم في دينكم ومفسدة فيه ، فينسى من الوحى ما يشاء ، ويترك محفوظا ما يشاء.

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى)(١٣)

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) معطوف على (سَنُقْرِئُكَ) وقوله (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) اعتراض ومعناه : ونوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل ، يعنى : حفظ الوحى(٢). وقيل للشريعة السمحة التي هي أيسر الشرائع وأسهلها مأخذا. وقيل : نوفقك لعمل الجنة. فإن قلت : كان الرسول صلى الله عليه وسلم مأمورا بالذكرى نفعت أو لم تنفع ، فما معنى اشتراط النفع؟ قلت : هو على وجهين ، أحدهما : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم ، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوّا وطغيانا ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلظى حسرة وتلهفا ، ويزداد جدا في تذكيرهم وحرصا عليه ، فقيل له (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) ، (أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) ، (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير. والثاني : أن يكون ظاهره شرطا ، ومعناه ذمّا للمذكرين ، وإخبارا عن حالهم ، واستبعادا لتأثير الذكرى فيهم ، وتسجيلا عليهم بالطبع على قلوبهم ، كما تقول للواعظ : عظ المكاسين إن سمعوا منك. قاصدا بهذا الشرط استبعاد ذلك ، وأنه لن يكون (سَيَذَّكَّرُ) فيقبل التذكرة

__________________

(١) أخرجه ابن أبى شيبة والنسائي والبخاري في جزء القراءة. والطبري من رواية زر عن سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى عن أبيه قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر فقرأ آية فذكر الحديث» وأخرجه أبو بشر الدولابي من هذا الوجه فقال : عن سعيد عن أبيه عن أبى بن كعب ... فذكره.

(٢) قوله «يعنى حفظ الوحي» لعله : يعنى في حفظ الوحي. (ع)

٧٣٩

وينتفع بها (مَنْ يَخْشى) الله وسوء العاقبة ، فينظر ويفكر حتى يقوده النظر إلى اتباع الحق: فأمّا هؤلاء فغير خاشين ولا ناظرين ، فلا تأمل أن يقبلوا منك (وَيَتَجَنَّبُهَا) ويتجنب الذكرى ويتحاماها (الْأَشْقَى) الكافر ، لأنه أشقى من الفاسق. أو الذي هو أشقى الكفرة لتوغله في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة (النَّارَ الْكُبْرى) السفلى من أطباق النار (١) وقيل (الْكُبْرى) نار جهنم. والصغرى : نار الدنيا. وقيل (ثُمَ) لأنّ الترجح بين الحياة والموت أفظع من الصلى ، فهو متراخ عنه في مراتب الشدّة : والمعنى : لا يموت فيستريح ، ولا يحيى حياة تنفعه.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى)(١٧)

(تَزَكَّى) تطهر من الشرك والمعاصي. أو تطهر للصلاة. أو تكثر من التقوى ، من الزكاء وهو النماء. أو تفعل من الزكاة ، كتصدق من الصدقة (فَصَلَّى) أى الصلوات الخمس ، نحو قوله (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) وعن ابن مسعود : رحم الله امرأ تصدق وصلى. وعن على رضى الله عنه أنه التصدق بصدقة الفطر وقال : لا أبالى أن لا أجد في كتابي غيرها (٢) ، لقوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أى أعطى زكاة الفطر ، فتوجه إلى المصلى ، فصلى صلاة العيد ، وذكر اسم ربه فكبر تكبيرة الافتتاح. وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح ، وعلى أنها ليست من الصلاة لأن الصلاة معطوفة عليها ، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز وجل. وعن ابن عباس رضى الله عنه : ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له. وعن الضحاك : وذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى صلاة العيد (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) فلا تفعلون ما تفلحون به. وقرئ :

__________________

(١) قال محمود : «الأشقى : الكافر ، لأنه أشقى من الفاسق. والبار الكبرى : السفلى من أطباق النار» قال أحمد : يشير إلى خلود الفاسق مع الكافر في أسافل النار ، والفاسق أعلى منه ، كما تقدم له التصريح بذلك كثيرا.

(٢) قال محمود : «وعن على أنه قال هو التصدق بصدقة الفطر وقال لا أبالى أن لا أجد في كتابي غيرها ... الخ» قال أحمد : في تلقى هذين الحكمين الأخيرين من الآية تكلف : أما الأول ، فلأن العطف وإن اقتضى المغايرة فيقال بموجبها : فنحن إن قلنا إن تكبيرة الإحرام جزء من الصلاة ، فالجزء مغاير للكل ، فلا غرو أن يعطف عليه ، والمغايرة مع الجزئية ثابتة والحالة هذه. وأما الثاني ، فلأن الاسم معرف بالاضافة ، وتعريف الاضافة عهدى عند محققي الفن ، حتى إن القائل إذا قال : جاءني غلام زيد ، ولزيد غلامان ، فإنما تفهم من قوله معينا منهم بسابق عهد بينك وبينه ، هذا مهيع تعريف الاضافة ، والمعهود في افتتاح الصلاة : ما استمر النبي صلى الله عليه وسلم على العمل به قولا وفعلا : وهو التكبير المعروف ، ولو تنزلنا على أنه في الآية مطلق ، فالحصر في قوله : تحريمها التكبير قيد إطلاقه.

٧٤٠