الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

الإنسان صحبة لها دوام ولزام ، لأنه كلما تذكر المتندّم عليه راجعه من الندام : وهو لزام الشريب ودوام صحبته. ومن مقلوباته : أدمن الأمر أدامه. ومدن بالمكان : أقام به. ومنه : المدينة وقد تراهم يجعلون الهم صاحبا ونجيا وسميرا وضجيعا ، وموصوفا بأنه لا يفارق صاحبه. الجملة المصدّرة بلو لا تكون كلاما مستأنفا ، لأدائه إلى تنافر النظم (١) ، ولكن متصلا بما قبله حالا من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع ، أو البارز المجرور. وكلاهما مذهب سديد. والمعنى : أن فيكم رسول الله على حالة يجب عليكم تغييرها. أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها : وهي أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم من رأى ، واستصواب فعل المطواع لغيره التابع له فيما يرتئيه ، المحتذى على أمثلته ، ولو فعل ذلك (لَعَنِتُّمْ) أى لوقعتم في العنت والهلاك. يقال : فلان يتعنت فلانا ، أى : يطلب ما يؤدّيه إلى الهلاك. وقد أعنت العظم : إذا هيض (٢) بعد الجبر. وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد. وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم ، وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدّهم في التقوى عن الجسارة على ذلك ، وهم الذين استثناهم بقوله تعالى (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) أى إلى بعضكم ، ولكنه أغنت عن ذكر البعض : صفتهم المفارقة لصفة غيرهم ، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة ، التي لا يفطن لها إلا الخواص. وعن بعض المفسرين : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. وقوله (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أى : أولئك المستثنون هم الراشدون يصدق ما قلته. فإن قلت : ما فائدة تقديم خبر إن على اسمها؟ قلت : القصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن الله منهم من استتباع رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم لآرائهم ، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه. فإن قلت : فلم قيل (يُطِيعُكُمْ) دون : أطاعكم؟ قلت : للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عمله على ما يستصوبونه. وأنه كلما عنّ لهم رأى في أمر كان

__________________

(١) قال محمود : «الجملة المصدرة بلو لا تكون مستأنفة ، لأدائه إلى تنافر النظم ... الخ» قال أحمد : من جملة هنات المعتزلة : ثلبهم على عثمان رضى الله عنه ووقوفهم عن الحكم بتعنيف قتلته ، فضم إلى هذا المعتقد غير معرج عليه : ما أورده الزمخشري في هذا الموضع من حكايات تولية عثمان لأخيه الوليد الفاعل تلك الفعلة الشنعاء عوضا عن سعد بن أبى وقاص أحد الصحابة ، وما عرض به من أن بعض الصحابة كان يصدر منهم هنات ، فمنها مطالبتهم النبي صلى الله عليه وسلم باتباع آرائهم التي من جملتها تصديق الوليد في الإيقاع ببني المصطلق ، فإذا ضممت هذه النبذة التي ذكرها إرسالا إلى ما علمت من معتقده : تبين لك من حال ـ أعنى الزمخشري ـ ما لا أطيق التصريح به ، لأنه لم يصرح وإنما سلكنا معه سبيل الانصاف ومحجة الانتصاف : نص بنص ، وتلويح بتلويح ، فنسأل الله العظيم ـ بعد الصلاة على نبيه محمد خاتم النبيين ـ أن يرضى عن أصحابه أجمعين ، وعنا بهم آمين.

(٢) قوله «إذا هيض بعد الجبر» في الصحاح : هاض العظم يهيضه هيضا : كسره بعد الجبر. وفيه أيضا : جبرت العظم جبرا ، وجبر العظم بنفسه جبورا ، أى : انجبر. (ع)

٣٦١

معمولا عليه ، بدليل قوله (فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) كقولك : فلان يقرى الضيف ويحمى الحريم ، تريد : أنه مما اعتاده ووجد منه مستمرّا. فإن قلت : كيف موقع (لكِنْ) وشريطتها مفقودة : من مخالفة ما بعدها لما قبلها نفيا وإثباتا؟ قلت : هي مفقودة من حيث اللفظ ، حاصلة من حيث المعنى ؛ لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدّم ذكرهم ، فوقعت ، لكنّ في حاق موقعها من الاستدراك. ومعنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والإمداد بالتوفاق (١) ، وسبيله الكناية كما سبق ، وكل ذى لب وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبى عليه أن الرجل لا يمدح بغير فعله ، وحمل الآية على ظاهرها يؤدّى إلى أن يثنى عليهم بفعل الله ، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) فإن قلت : فإنّ العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه ، وذلك فعل الله ، وهو مدح مقبول عند الناس غير مردود. قلت : الذي سوّغ ذلك لهم أنهم رأوا حسن الرواء (٢) وو سامة المنظر في الغالب ، يسفر عن مخبر مرضى وأخلاق محمودة ومن ثم قالوا : أحسن ما في الدميم وجهه (٣) ، فلم يجعلوه من صفات المدح لذاته ، ولكن لدلالته على غيره. على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به ، وقصر المدح على النعت بأمّهات الخير : وهي الفصاحة والشجاعة والعدل والعفة ، وما يتشعب منها ويرجع إليها ، وجعل الوصف بالجمال والثروة وكثرة الحفدة والأعضاد وغير ذلك مما ليس

__________________

(١) عاد كلامه. قال : «ومعنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والامداد بالتوفيق ... الخ» قال أحمد : تلجلج والحق أبلج ، وزاغ والسبيل منهج ، وقاس الخلق بالواحد الحق ، وجعل أفعالهم لهم من إيمان وكفر وخير وشر ، اغترارا بحال اعتقد اطراده في الشاهد ، وهو أن الإنسان لا يمدح بفعل غيره ، وقاس الغائب على الشاهد تحكما ، وتغلغل باتباع هوى معجما ، فجره ذلك بل جرأه على تأويل الآية وإبطال ما ذكرته من نسبة تحبيب الايمان إلى الله تعالى على حقيقته ، وجعله مجازا لأنه يعتقد أنها لو بقيت على ظاهرها لكان خلق الايمان مضافا إلى الله تعالى ، والعبد إذا ممدوح بما ليس من فعله. وهذا عنده محال ، فأتبع الآية رأيه الفاسد ، فإذا عرضت عليه الأدلة العقلية على الوحدانية ، والنقلية على أنه لا خالق إلا الله خالق كل شيء ، وطولب بابقاء الآية على ظاهرها المؤيد بالعقل والنقل ، فانه يتمسك في تأويلها بالحبال المذكورة في التحكم بقياس الغائب على الشاهد ، مما له إدلاء إلى تعويج كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فالذي نعتقده ـ ثبتنا الله على الحق ـ أن الله تعالى منح ومدح وأعطى وامتن ، فلا موجود إلا الله وصفاته وأفعاله ، غير أنه تعالى جعل أفعاله بعضها محلا لبعض ، فسمى المحل فاعلا والحال فعلا ، فهذا هو التوحيد الذي لا محيص عنه للمؤمن ولا محيد ، ولا بد أن أطارحه القول فأقول : أخبرنى عن ثناء الله على أنبيائه ورسله بما حاصله اصطفاؤه لهم لاختياره إياهم : هل بمكتسب أم بغير مكتسب ، فلا يسعه أن يقول إلا أنه أثنى عليهم بما لم يكتسبوه ، بل بما وهبه إياهم فاتهبوه. وإن عرج على القسم الآخر وهو دعوى أنهم أثنى عليهم بمكتسب لهم من رسالة أو نبوة ، فقد خرج عن أهل الملة ، وانحرف عن أهل القبلة ، وهذه البذة كفاية إن شاء الله تعالى.

(٢) قوله «حسن الرواء» في الصحاح : الرواء ـ بالضم ـ : المنظر. (ع)

(٣) قوله «ما في الدميم وجهه» في الصحاح «الدميم» : القبيح. (ع)

٣٦٢

للإنسان فيه عمل غلطا ومخالفة عن المعقول و (الْكُفْرَ) تغطية نعم الله تعالى وغمطها بالجحود. و (الْفُسُوقَ) الخروج عن قصد الإيمان ومحجته بركوب الكبائر (وَالْعِصْيانَ) ترك الانقياد والمضي لما أمر به الشارع. والعرق العاصي : العانذ (١). واعتصت النواة : اشتدّت. والرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرشادة وهي الصخرة : قال أبو الوازع : كل صخرة رشادة. وأنشد :

وغير مقلّد وموشّمات

صلين الضّوء من صمّ الرّشاد (٢)

و (فَضْلاً) مفعول له ، أو مصدر من غير فعله (٣). فإن قلت : من أين جاز وقوعه مفعولا له ، والرشد فعل القوم ، والفضل فعل الله تعالى ، والشرط أن يتحد الفاعل. قلت : لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه ، مسندة إلى اسمه تقدست أسماؤه : صار الرشد كأنه فعله ، فجاز أن ينتصب عنه أو لا ينتصب عن الراشدون ، ولكن عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى ، والجملة التي هي (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) اعتراض. أو عن فعل مقدر ، كأنه قيل : جرى ذلك ، أو كان ذلك فضلا من الله. وأما كونه مصدرا من غير فعله ، فأن يوضع موضع رشدا ، لأنّ رشدهم فضل من الله لكونهم موفقين فيه ، والفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام (وَاللهُ عَلِيمٌ)

__________________

(١) قوله «والعرق العاصي : العانذ» في الصحاح : عنذ العرق : سال ولم يرقأ ، فهو عرق عانذ. (ع)

(٢) الظاهر أن الشاعر يصف الديار بأنها لم يبق فيها غير وتد الخباء المقلد بالحبل ، وغير الأثافى المغير لونها بالنار. والوشم والتوشيم : تغيير اللون ، أى : التي احترقت بضوءها أى حرها. ومن صم الرشاد : بيان لها. والصم : جمع صماء ، أى : صلبة. والرشاد الصخر. واحدة رشادة. وقيل : يصف مطايا بأنها مطبوعة على العمل غير محتاجة الزمام ، وأنها غيرها أثر السير قوية ، بحيث يظهر الشرر من شدة وقع خفافها على الصخر الصلب.

(٣) أعرب الزمخشري فضلا في الآية مفعولا لأجله ، منصبا عن قوله : الراشدون ... الخ. قال أحمد : أورد الاشكال بعد تقرير أن الرشد ليس من فعل الله تعالى ، وإنما هو فعلهم حقيقة على ما هو معتقده ، ونحن بنينا على ما بينا : أن الرشد من أفعال الله ومخلوقاته ، فقد وجد شرط انتصاب المفعول له ، وهو اتحاد فاعل الفعلين ، على أن الاشكال وارد نصا على تقريرنا على غير الحد الذي أورده عليه الزمخشري ، بل من جهة أن الله تعالى خاطب خلقه بلغتهم المعهودة عندهم. ومما يعهدونه أن الفاعل من نسب إليه الفعل ، وسواء كان ذلك حقيقة أو مجازا حتى يكون زبد فاعلا وانقض الحائط وأشباهه كذلك. وقد نسب الرشد إليهم على طريقة أنهم الفاعلون وإن كانت النسبة مجازية باعتبار المعتقد ، وإذا تقرر وروده على هذا الوجه فلك في الجواب عنه طريقان : إما جواب الزمخشري ، وإما أمكن منه وأبين : وهو أن الرشد هنا يستلزم كونه راشدا ، إذ هو مطاوعه ، لأن الله تعالى أرشدهم فرشدوا. وحينئذ يتحد الفاعل على طريقة الصناعة المطابقة للحقيقة وهو عكس قوله (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) فان الاشكال بعينه وارد فيها ، إذ الخوف والطمع فعلهم ، أى : منسوب إليهم على طريقة أنهم الخانفون الطامعون ، والفعل الأول لله تعالى ، لأنه مريهم ذلك ، والجواب عنه : أنهم مفعولون في معنى الفاعلين ، بواسطة استلزام المطاوعة ، لأنه إذا أراهم فقد رأوا. وقد سلف هذا الجواب مكانه ، فصححت الكلام هاهنا بتقدير المفعول فاعلا وعكسه آية الحجرات ، إذ تصحيح الكلام فيها بتقدير الفاعل مفعولا ، وهذا من دقائق العربية فتأمله ، والله الموفق.

٣٦٣

بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل (حَكِيمٌ) حين يفضل وينعم بالتوفيق على أفاضلهم.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(٩)

عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار ، فأمسك عبد الله ابن أبىّ بأنفه وقال : خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه. فقال عبد الله بن رواحة : والله إنّ بول حماره لأطيب من مسكك (١) وروى : حماره أفضل منك ، وبول حماره أطيب من مسكك (٢) ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا ، وجاء قوماهما وهما الأوس والخزرج ، فتجالدوا بالعصى ، وقيل بالأيدى والنعال والسعف ، فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم ، ونزلت. وعن مقاتل : قرأها عليهم فاصطلحوا. والبغي : الاستطالة والظلم وإباء الصلح. والفيء : الرجوع ، وقد سمى به الظل والغنيمة ، لأنّ الظل يرجع بعد نسخ الشمس ، والغنيمة : ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين ، وعن أبى عمرو : حتى تفي ، بغير همز ، ووجهه أنّ أبا عمرو خفف الأولى من الهمزتين الملتقيتين فلطفت على الراوي تلك الخلسة (٣) ، فظنه قد طرحها. فإن قلت : ما وجه قوله (اقْتَتَلُوا) والقياس اقتتلتا (٤) ، كما قرأ ابن أبى عبلة. أو اقتتلا ، كما قرأ عبيد بن عمير على تأويل الرهطين أو النفرين؟ قلت : هو مما حمل على المعنى دون اللفظ ، لأنّ الطائفتين في معنى القوم والناس. وفي قراءة عبد الله : حتى يفيئوا إلى أمر الله ، فإن فاءوا فخذوا بينهم بالقسط. وحكم الفئة الباغية : وجوب قتالها ما قاتلت. وعن ابن عمر : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدته

__________________

(١) لم أره عن ابن عباس. وهو في الصحيحين من حديث أنس. وفيه «فبلغنا أنها أنزلت (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...) الآية. دون بول الحمار. وقوله «والله إن بول حماره لأطيب من مسك» وليس فيه أيضا «وإنه صلى الله عليه وسلم مضى. ثم نزلت الآية.

(٢) لم أره هكذا وحديث أنس في الصحيحين «والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك».

(٣) قوله «تلك الخلسة» في الصحاح : خلست الشيء واختلسته ، إذا استلبته «والاسم الخلسة ـ بالضم. (ع)

(٤) قال محمود : «لم قال اقتتلوا عدولا ... الخ» قال أحمد : قد تقدم في مواضع إنكار النحاة الحمل على لفظ «من» ، بعد الحمل على معناها ، وفي هذه الآية حمل على المعنى بقوله (اقْتَتَلُوا) ثم على اللفظ بقوله (بَيْنَهُما) فلا يعتقد أن المقول في «مق» مطرد في هذا ، لأن المانع لزوم الإجمال والإبهام بعد التفسير ، وهاهنا لا يلزم ذلك ، إذ لا إبهام في الطائفة ، بل لفظها مفرد أبدا ، ومعناها جمع أبدا ، وكانت كذلك لاختلاف أحوالها من حيث المعنى مرة جمعا ومرة مقردا ، فتأمله ، والله الموفق.

٣٦٤

من أمر هذه الآية إن لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرنى الله عز وجل. قاله بعد أن اعتزل ، فإذا كافت وقبضت عن الحرب أيديها تركت ، وإذا تولت عمل بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «يا ابن أم عبد ، هل تدرى كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمّة؟ قال : الله ورسوله أعلم قال : لا يجهز على جريحها ، ولا يقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها» (١) ولا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما : إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا ، فالواجب في ذلك أن يمشى بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة ، فإن لم تتحاجزا ولم تصطلحا وأقامتا على البغي : صير إلى مقاتلتهما ، وإما أن يلتحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما ، وكلتاهما عند أنفسهما محقة ، فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة ، واطلاعهما على مراشد الحق. فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا من اتباع الحق بعد وضوحه لهما ، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين. وإما أن تكون إحداهما الباغية على الأخرى ، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب ، فإن فعلت أصلح بينهما وبين المبغى عليها بالقسط والعدل ، وفي ذلك تفاصيل : إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها : ضمنت بعد الفيئة ما جنت ، وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة ، لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله ، فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت. وأمّا قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها ، فما جنته ضمنته عند الجميع ، فمحمل الإصلاح بالعدل في قوله تعالى (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل ، وعلى قول غيره : وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد ، والذي ذكروا أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات : ليس بحسن الطباق للمأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط. فإن قلت : فلم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأوّل؟ قلت : لأنّ المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين معا أو راكبتى شبهة ، وأيتهما كانت ، فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما : إصلاح ذات البين ، وتسكين الدهماء (٢) بإراءة الحق والمواعظ الشافية ، ونفى الشبهة ، إلا إذا أصرتا ، فحينئذ تجب المقاتلة. وأما الضمان فلا يتجه ، وليس كذلك إذا بغت إحداهما ، فإنّ الضمان متجه على الوجهين المذكورين (وَأَقْسِطُوا) أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين ، والقول فيه مثله في

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك والبزار والحارث. وابن عدى من رواية كوثر بن حكيم النافع عن نافع عن ابن عمر. وكوثر متروك ، قال فيه أحمد : أحاديثه أباطيل.

(٢) قوله «الدهماء» اى الجماعة. (ع)

٣٦٥

الأمر باتقاء الله على عقب النهى عن التقديم بين يديه ، والقسط ـ بالفتح ـ : الجور من القسط : وهو اعوجاج في الرجلين (١). وعود قاسط : يابس. وأقسطته الرياح. وأمّا القسط بمعنى العدل ، فالفعل منه : أقسط ، وهمزته للسلب ، أى : أزال القسط وهو الجور.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(١٠)

هذا تقرير لما ألزمه من تولى الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين ، وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق : ما إن لم يفضل الأخوّة ولم يبرز عليها لم ينقص عنها ولم يتقاصر عن غايتها ، ثم قد جرت عادة الناس على أنه إذا نشب مثل ذلك بين اثنين من إخوة الولاد ، لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته ، ويركبوا الصعب والذلول مشيا بالصلح وبثا للسفراء (٢) بينهما ، إلى أن يصادف ما وهي من الوفاق من يرقعه ، وما استشن (٣) من الوصال من يبله ، فالأخوة في الدين أحق بذلك وبأشدّ منه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يعيبه ، ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ، ولا يؤذيه بقتار قدره» (٤) ثم قال «احفظوا ، ولا يحفظ منكم إلا قليل» (٥). فإن قلت : فلم خص الاثنان بالذكر دون الجمع؟ قلت : لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان ، فإذا لزمت المصالحة بين الأقل كانت بين الأكثر ألزم ، لأنّ الفساد في شقاق الجمع أكثر منه في شقاق الاثنين ، وقيل : المراد بالأخوين الأوس والخزرج ، وقرئ : بين إخوتكم وإخوانكم. والمعنى : ليس المؤمنون إلا إخوة ، وأنهم خلص لذلك متمحضون ، قد انزاحت عنهم شبهات الأجنبية ، وأبى لطف حالهم في التمازج والاتحاد أن يقدموا على ما يتولد منه التقاطع ، فبادروا قطع ما يقع من ذلك إن وقع واحسموه (وَاتَّقُوا اللهَ) فإنكم إن فعلتم لم تحملكم التقوى إلا على التواصل والائتلاف ، والمسارعة إلى إماطة ما يفرط منه ، وكان عند فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم ، واشتمال رأفته عليكم حقيقا بأن تعقدوا به رجاءكم.

__________________

(١) قوله «وهو اعوجاج في الرجلين» في الصحاح : القسط ـ بالتحريك ـ : انتصاب في رجلي الدابة ، وذلك عيب ، لأنه يستحب فيهما الانحناء والتوقير اه. (ع)

(٢) قوله «وبنا السفراء بينهما ... الخ» جمع سفير : وهو الرسول والمصلح بين القوم. (ع)

(٣) قوله «استشن» في الصحاح : تشنن الجلد يبس ، واستشن الرجل : هزل. (ع)

(٤) قوله «بقتار قدره» في الصحاح : «القتار» : ريح الشواء. (ع)

(٥) أخرجه الثعلبي من رواية إسماعيل بن رافع عن سعيد عن أبى هريرة به سواء وزاد فيه «ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له منها. ولا يشترى لبنيه الفاكهة ، فيخرجون بها إلى صبيان جاره ثم لا يطعمونهم منها» قلت : وإسناده ضعيف وأول الحديث في الصحيحين» من وجه آخر عن أبى هريرة : وسيأتى في آخر تفسير سورة الواقعة.

٣٦٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(١١)

القوم : الرجال خاصة ، لأنهم القوّام بأمور النساء. قال الله تعالى (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) وقال عليه الصلاة والسلام : «النساء لحم على وضم (١) إلا ما ذب (٢) عنه» والذابون هم الرجال ، وهو في الأصل جمع قائم ، كصوّم وزوّر : في جمع صائم وزائر. أو تسمية بالمصدر. عن بعض العرب : إذا أكلت طعاما أحببت نوما وأبغضت قوما. أى قياما ، واختصاص القوم بالرجال : صريح في الآية وفي قول زهير :

أقوم آل حصن أم نساء (٣)

وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد : هم الذكور والإناث ، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن ، وتنكير القوم والنساء

__________________

(١) قوله «على وضم» الوضم : ما يوضع تحت اللحم من خشب وغيره يوقى به من الأرض. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) لم أره عن على ، وأخرجه ابن المبارك في البر والصلة من قول عمر بن الخطاب ، وكذلك رواه أبو عبيد وابراهيم الحربي في الغريب.

(٣) وما أدرى وسوف إخال أدرى

أقوم آل حصن أم نساء

فان تكن النساء مخبآت

فحق لكل محصنة اهتداء

لزهير يهجو حصن بن حذيفة الفزاري. والقوم : الرجال فقط ، حتى قيل : إنه جمع قائم ، كصوم وزور ، في صائم وزائر. وقيل إنه في الأصل مصدر ، والهمزة لطلب التعيين ، ولكن الكلام من مجاهل العارف. ونساء : عطف على قوم الوقع خبرا من آل حصن ، أو خبرا لمبتدأ محذوف ، والعطف من عطف الجمل. ويجوز أن الهمزة التسوية كالواقعة بعد سواء ، كأنه. قال : ما أبالى منهم ، سواء أكانوا رجالا أو نساء ، فيتعين أنه من عطف الجمل لأجل التسوية ، ولكن المقام يؤيد الأول ، وفي البيت الاعتراض بين سوف ومدخلها بالفعل الملقى عند المفعول ، والاعتراض أيضا بين ما أدرى وبين الاستفهام بجملة التسويف ، لأن «أدرى» طالب لمفعولين وجملة «أقوم» سادة مسدهما ، وانظر كيف خطر بباله أن ينفى الدراية بحال الآل. ثم قبل أن يكمل ذلك خطر بباله الجزم بأنه سوف يدرى ، ثم قبل أن يكمل ذلك قال : إن حصول الدراية في المستقبل على سبيل التخيل والظن ، فحكى حال النفس عند ترددها في شأنه ، فلله در العرب ما ألطفهم في حكاية الحال بأبلغ مقال. وروى لست بدل سوف. وفيه نظر ، واسم تكن ضمير القوم ، والنساء خبرها ومخبآت حال ، أى : فان كن محصنات فحق لهن أن يهدين إلى أزواجهن ، وهدى المرأة إلى زوجها وأهداها إليه إهداء ، بمعنى.

٣٦٧

يحتمل معنيين : أن يراد : لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات (١) من بعض ؛ وأن تقصد إفادة الشياع ، وأن تصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية ، وإنما لم يقل : رجل من رجل ، ولا امرأة من امرأة على التوحيد ، (٢) إعلاما بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية ، واستفظاعا للشأن الذي كانوا عليه ، ولأنّ مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممن يتلهى ويستضحك على قوله ، ولا يأتى ما عليه من النهى (٣) والإنكار ، فيكون شريك الساخر وتلوه في تحمل الوزر ، وكذلك كل من يطرق سمعه فيستطيبه ويضحك به ، فيؤدى ذلك ـ وإن أوجده واحد ـ إلى تكثر السخرة وانقلاب الواحد جماعة وقوما. وقوله تعالى (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) كلام مستأنف قد ورد مورد جواب المستخبر (٤) عن العلة الموجبة لما جاء النهى (٥) عنه ، وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء. والمعنى وجوب أن يعتقد كل أحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيرا من الساخر ، لأنّ الناس لا يطلعون إلا على ظواهر الأحوال ولا علم لهم بالخفيات ، وإنما الذي يزن (٦) عند الله : خلوص الضمائر وتقوى القلوب ، وعلمهم من ذلك بمعزل ، فينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال ، أو ذا عاهة في بدنه ، أو غير لبيق في محادثته ، فلعله أخلص ضميرا وأتقى قلبا ممن هو على ضدّ صفته ، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله والاستهانة بمن عظمه الله ، ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرجيل : لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه : خشيت أن أصنع مثل الذي صنعه (٧). وعن عبد الله بن مسعود : البلاء موكل بالقول ، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبا (٨). وفي قراءة عبد الله : عسوا أن يكونوا ، وعسين

__________________

(١) قال محمود : «لم يقل لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات ... الخ» قال أحمد : ولو عرف فقال : لا يسخر المؤمنون بعضهم من بعض : لكانت كل جماعة منهم منهية ضرورة شمول النهى ، ولكن أورد الزمخشري هذا ، وإنما أراد أن في التنكير فائدة : أن كل جماعة منهية على التفصيل في الجماعات والتعرض بالنهى لكل جماعة على الخصوص ، ومع التعريف تحصيل النهي ، لكن لا على التفصيل بل على الشمول ، والنهى على التفصيل أبلغ وأوقع.

(٢) عاد كلامه. قال : «وإنما لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة للاشعار ... الخ» قال أحمد : وهو في غاية الحسن لا مزيد عليه.

(٣) قوله «ولا يأتى ما عليه من النهى» أى يتلهى ولا يفعل ما عليه من نهى الساخر والإنكار عليه. (ع)

(٤) قال محمود : «وقوله عسى أن يكونوا خيرا منهم جواب للمستخبر عن علة النهى ... الخ» قال أحمد : وهو من الطراز الأول.

(٥) قوله «لما جاء النهى عنه» لعل ما مصدرية ، ولفظ عنه مزيد من ناسخ الأصل ، أى : لمجيء النهى ، وإلا : أى وإلا يكن مستأنفا. (ع)

(٦) قوله «وإنما الذي يزن عند الله» لعله يزين. (ع)

(٧) لم أره عنه ، وفي ابن أبى شيبة عن أبى موسى من قوله نحوه.

(٨) أخرجه ابن أبى شيبة في الأدب المفرد من رواية إبراهيم عن ابن مسعود بهذا.

٣٦٨

أن يكن ، فعسى على هذه القراءة هي ذات الخبر كالتي في قوله تعالى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) وعلى الأولى التي لا خبر لها كقوله تعالى (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً). واللمز : الطعن والضرب باللسان. وقرئ : ولا تلمزوا ـ بالضم. والمعنى : وخصوا أيها المؤمنون أنفسكم بالانتهاء عن عيبها والطعن فيها ، ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم ، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اذكروا الفاجر بما فيه كى يحذره الناس» (١) وعن الحسن رضى الله عنه في ذكر الحجاج : أخرج إلى بنانا قصيرة قلما عرقت فيها الأعنة في سبيل الله ثم جعل يطبطب شعيرات له ويقول : يا أبا سعيد يا أبا سعيد ، وقال لما مات : اللهم أنت أمته فاقطع سنته ، فإنه أتانا أخيفش أعيمش (٢) يخطر في مشيته ويصعد المنبر حتى تفوته الصلاة ، لا من الله يتقى ولا من الناس يستحى : فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون ، لا يقول له قائل : الصلاة أيها الرجل الصلاة أيها الرجل ، هيهات دون ذلك السيف والسوط. وقيل : معناه لا يعب بعضكم بعضا ، لأنّ المؤمنين كنفس واحدة ، فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه. وقيل : معناه لا تفعلوا ما تلمزون به ، لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة. والتنابز بالألقاب : التداعي بها : تفاعل من نبزه ، وبنو فلان يتنابزون ويتنازبون ويقال : النبز (٣) والنزب : لقب السوء والتلقيب المنهي عنه ، وهو ما يتداخل المدعوّ به كراهة لكونه تقصيرا به وذمّا له وشينا ، فأما ما يحبه مما يزينه وينوّه به فلا بأس به. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم : «من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه إليه» (٤) ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن.

__________________

(١) أخرجه أبو يعلى والترمذي الحكيم في النوادر في الثامن والستين والعقيلي وابن عدى وابن حبان كلهم من رواية الجارود بن يزيد عن بهز بن حكيم. عن أبيه عن جده مرفوعا أترعوون عن ذكر الفاجر؟ اذكره بما فيه ، كى يحذره الناس» واتفقوا على أن الجارود غير ثقة ، وقال الدارقطني : هو من وضع الجارود ثم سرقه منه جماعة منهم عمرو بن الأزهر ، وسليمان بن عيسى عن الثوري عن بهز وسليمان وعمرو كذا بان وقد رواه العلاء بن بشر عن ابن عيينة عن بهز : قال الدارقطني : وابن عيينة لم يسمع من بهز وغير لفظه فقال : «ليس للفاسق غيبة» انتهى وهذا أورده البيهقي في الشعب عن الحاكم بسنده إلى العلاء وقال : قال الحاكم : هذا غير صحيح ولا معتمد. وقال ابن طاهر : روى عن معمر عن بهز أيضا أخرجه عبد الوهاب أخو عبد الرزاق. وعبد الوهاب كذاب وأخرجه الطبراني في الأوسط وقال لم يروه عن معمر غيره ، قال : وله طريق أخرى عن عمر بن الخطاب رواه يوسف بن أبان حدثنا الأبرد بن حاتم أخبرنى منهال السراج عن عمر.

(٢) قوله «فانه أتانا أخيفش أعيمش» في الصحاح «الخفش» : صغر في العين ، وضعف في البصر خلقة والرجل أخفش. وفيه : العمش في العين : ضعف الرؤية مع سيلان الدمع. والرجل أعمش اه. وأخيفش وأعيمش تصغير : أخفش وأعمش. (ع)

(٣) قوله «ويقال النبز» في الصحاح «النبز» بالتحريك : اللقب ، وبالتسكين : المصدر. (ع)

(٤) لم أجده هكذا ، وروى البيهقي في الشعب في الحادي والستين عن عثمان بن طلحة الحجى رفعه قال «ثلاث مصفين لك ود أخيك : تسلم عليه إذا لقيته ، وتوسع له في المجلس ، وتدعوه بأحب أسمائه إليه» وفيه موسى بن

٣٦٩

قال عمر رضى الله عنه : أشيعوا الكي فإنها منبهة. ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصدّيق ، وعمر بالفاروق ، وحمزة بأسد الله ، وخالد بسيف الله. وقلّ من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب ، ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجرى في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. روى عن الضحاك أن قوما من بنى تميم استهزؤا ببلال وخباب وعمار وصهيب وأبى ذرّ وسالم مولى حذيفة ، فنزلت. وعن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة. وعن ابن عباس أن أمّ سلمة ربطت حقويها بسبيبة ، (١) وسدلت طرفها خلفها وكانت تجرّه ، فقالت عائشة لحفصة : انظري ما تجرّ خلفها كأنه لسان كلب. وعن أنس : عيرت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ سلمة بالقصر. وعن عكرمة عن ابن عباس أن صفية بنت حيّى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن النساء يعيرننى ويقلن يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هلا قلت إن أبى هرون وإن عمى موسى وإن زوجي محمد» (٢) وروى أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر ، وكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع ، فأتى يوما وهو يقول : تفسحوا لي ، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ، فقال لرجل : تنح ، فلم يفعل ، فقال : من هذا؟ فقال الرجل. أنا فلان ، فقال : بل أنت ابن فلانة ، يريد : أمّا كان يعير بها في الجاهلية ، فخجل الرجل فنزلت ، فقال ثابت : لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبدا (٣) (الِاسْمُ) هاهنا بمعنى الذكر ، من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم ، كما يقال : طار ثناؤه وصيته. وحقيقته : ما سما من ذكره وارتفع بين الناس. ألا ترى إلى قولهم : أشاد بذكره ، كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين (٤) بسبب ارتكاب

__________________

ـ عبد الملك بن عمير وهو ضعيف. وروى أبو يعلى والطبراني من حديث ذيال بن عبيد بن حنظلة حدثني جدي حنظلة بن جذيم قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدعى الرجل بأحب الأسماء إليه».

(١) قوله «حقويها بسبيبة» في الصحاح «السب» : شقة كتان : والسبيبة : مثله. (ع)

(٢) ذكره الثعلبي عن عكرمة ، عن ابن عباس بغير إسناد وفي الترمذي من رواية هاشم بن سعيد الكوفي : حدثنا كنانة حدثتنا صفية بنت حيي قالت «دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وقد بلغني عن عائشة وحفصة كلام. فذكرت ذلك له فقال : ألا قلت : وكيف تكونا خيرا منى وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم وأبى هارون وعمى موسى عليهما الصلاة والسلام. وكان الذي بلغها أنهن قلن نحن أكرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وخير منها نحن أزواجه وبنات عمه» وقال : غريب. وليس إسناده بذاك. وروى الترمذي وابن حبان وأحمد والطبراني من رواية معمر عن ثابت عن أنس قال. «بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودى فبكت ... فذكر معناه.

(٣) ذكره الثعلبي ، ومن تبعه عن ابن عباس بغير سند.

(٤) قال محمود : «الاسم هاهنا الذكر ، من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم. كأنه قال : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين ... الخ» قال أحمد : أقرب الوجوه الثلاثة ملائمة لقاعدة أهل السنة وأولاها : هو أولها ، ولكن بعد

٣٧٠

هذه الجرائر (١) أن يذكروا بالفسق. وفي قوله (بَعْدَ الْإِيمانِ) ثلاثة أوجه : أحدها استقباح الجمع بين الايمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره ، كما تقول : بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة (٢). والثاني : أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود : يا يهودى يا فاسق ، فنهوا عنه ، وقيل لهم : بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه ، والجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهى عن التنابز. والثالث : أن يجعل من فسق غير مؤمن ، كما تقول للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة : بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)(١٢)

يقال : جنبه الشر إذا أبعده عنه ، وحقيقته : جعله منه في جانب ، فيعدى إلى مفعولين. قال الله عز وجل (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ثم يقال في مطاوعه : اجتنب الشر فتقص المطاوعة مفعولا ، والمأمور باجتنابه هو بعض الظن ، وذلك البعض موصوف بالكثرة : ألا ترى إلى قوله (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)؟ فإن قلت : بين الفصل بين (كَثِيراً) ، حيث جاء نكرة وبينه لو جاء معرفة. قلت : مجيئه نكرة يفيد معنى البعضية ، وإنّ في الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تبيين لذلك ولا تعيين ، لئلا يجترئ أحد على ظنّ إلا بعد نظر وتأمّل ، وتمييز بين حقه وباطله بأمارة بينة ، مع استشعار للتقوى والحذر ، ولو عرف لكان الأمر باجتناب الظنّ منوطا بما يكثر منه دون ما يقل ، ووجب أن يكون كل ظنّ متصف بالكثرة مجتنبا ، وما اتصف منه بالقلة مرخصا في تظننه. والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها : أنّ كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر : كان حراما واجب الاجتناب ، وذلك إذا كان المظنون

__________________

ـ صرف الذم إلى نفس الفسق ، وهو مستقيم لأن الاسم هو المسمى. ولكن الزمخشري لم يستطع ذلك : انحرافا إلى قاعدة : يصرف الذم إلى ارتفاع ذكر الفسق من المؤمن ، تحوما على أن الاسم التسمية ، ولا شك أن صرف الذم إلى نفس الفسق أولى. وأما الوجه الثاني ، فأدخله ليتم له حمل الاسم على التسمية صريحا. وأما الثالث فليتم له أن الفاسق غير مؤمن ، وكلا القاعدتين مخالف للسنة فاحذرهما ، وبالله التوفيق. ولقد كشف الله لي عن مقاصده ، حتى ما تنقلب له كلمة متحيزة إلى فئة البدعة إلا إذا أدركها الحق فكلمها ، ولله الحمد.

(١) قوله «هذه الجرائر» جمع جريرة ، وهي الجناية. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) قوله «بعد الكبرة الصبوة» الكبرة ـ بالفتح ـ : اسم للكبر في السن. والصبوة : الميل إلى الجهل والفتوة. أفاده الصحاح. (ع)

٣٧١

به ممن شوهد منه الستر والصلاح ، وأونست منه الأمانة في الظاهر ، فظنّ الفساد والخيانة به محرّم ، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث. عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى حرّم من المسلم دمه وعرضه وأن يظنّ به ظنّ السوء» (١) وعن الحسن : كنا في زمان الظن بالناس حرام ، وأنت اليوم في زمان اعمل واسكت ، وظنّ بالناس ما شئت. وعنه : لا حرمة لفاجر. وعنه : إن الفاسق إذا أظهر فسقه وهتك ستره هتكه الله ، وإذا استتر لم يظهر الله عليه لعله أن يتوب. وقد روى : من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له (٢). والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب. ومنه قيل لعقوبته : الأثام ، فعال منه : كالنكال والعذاب والوبال. قال :

لقد فعلت هذى النّوى بى فعلة

أصاب النّوى قبل الممات أثامها (٣)

والهمزة فيه عن الواو ، كأنه يثم الأعمال : أى يكسرها بإحباطه. وقرئ : ولا تحسسوا بالحاء والمعنيان متقاربان. يقال : تجسس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه : تفعل من الجس ، كما أن التلمس بمعنى التطلب من اللمس ، لما في اللمس من الطلب. وقد جاء بمعنى الطلب في قوله تعالى (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) والتحسس : التعرّف من الحس ، ولتقاربهما قيل لمشاعر الإنسان : الحواس بالحاء والجيم ، والمراد النهى عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه. وعن مجاهد. خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهنّ. قال : يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ، لا تتبعوا عورات المسلمين : فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة. من حديث ابن عمر بإسناد فيه لين ، ولفظه «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة وهو يقول : ما أطيبك وأطيب ريحك ، ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك : ماله ودمه وأن يظن به إلا خيرا» وروى ابن أبى شيبة من طريق مجالد عن الشعبي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى الكعبة فقال «ما أعظمك وأعظم حرمتك والمسلم أعظم حرمة منك. حرم الله دمه وماله وعرضه ، وأن يظن به ظن السوء. وروى البيهقي في الشعب من طريق مجاهد عن ابن عباس نحوه. وفيه حفص بن عبد الرحمن.

(٢) أخرجه البيهقي في الشعب في التاسع والستين والقضاعي في مسند الشهاب من طريق رواه بن الجراح عن أبى سعد الساعدي عن أنس وإسناده ضعيف. وأخرجه ابن عدى من رواية الربيع بن بدر عن أبان عن أنس وإسناده أضعف من الأول.

(٣) النوى : نية المسافر من قرب أو بعد ، فهي مؤنثة ، وتستعمل اسم جمع نية ، فيذكر : أى لقد فعلت في هذه النية فعلة مسيئة ، فهي بمعنى في ، ثم دعا عليها بقوله : أصاب النوى التي أذتنى أثامها ، أى : جزاء تلك الفعلة. أو جزاء النوى التي تستحقه. وقد يسمى الذنب إثما وأثاما ، من إطلاق المسبب على السبب ، وقال قبل الممات ، أى : قبل موته ليتشفى فيها ، فكأنه شبهها بعدو ، ثم دعا عليها.

٣٧٢

ولو في جوف بيته (١). وعن زيد بن وهب : قلنا لا بن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة ابن أبى معيط تقطر لحيته خمرا؟ فقال ابن مسعود : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به (٢). غابه واغتابه : كغاله واغتاله. والغيبة من الاغتياب ، كالغيلة من (٣) الاغتيال : وهي ذكر السوء في الغيبة. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال : «أن تذكر أخاك بما يكره ، فإن كان فيه فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته» (٤) وعن ابن عباس رضى الله عنهما : الغيبة إدام كلاب الناس (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ) تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه. وفيه مبالغات شتى : منها الاستفهام الذي معناه التقرير. ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة. ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك. ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان ، حتى جعل الإنسان أخا. ومنها أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعل ميتا. وعن قتادة : كما تكره إن وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها ، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حى. وانتصب (مَيْتاً) على الحال من اللحم. ويجوز أن ينتصب عن الأخ. وقرئ : ميتا. ولما قرّرهم عز وجل بأنّ أحدا منهم لا يحب أكل جيفة أخيه ، عقب ذلك بقوله تعالى (فَكَرِهْتُمُوهُ) معناه : فقد كرهتموه واستقرّ ذلك. وفيه معنى الشرط ، أى : إن صحّ هذا فكرهتموه ، وهي الفاء الفصيحة ،

__________________

(١) أخرجه الطبراني والعقيلي. وابن عدى من رواية قدامة بن محمد الأشجعى عن إسماعيل بن شبيب الطائفي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس بهذا وفي الباب عن ابن عمر رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه ولفظه «صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع : قال يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الايمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فانه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ، ولو في جوف رحله» وعن أبى بردة عند أبى داود وأحمد والطبراني وأبى يعلى وعن البراء بن عازب عند أبى يعلى والبيهقي في الشعب في التاسع والستين من رواية مصعب بن سلام عن أبى إسحاق عن البراء. وعن ثوبان عند أحمد بلفظ «لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم فانه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته» وعن بريدة عند الطبراني وابن مردويه ولفظه «صلينا الظهر خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلما انفتل أقبل علينا غضبان فنادى بصوت أسمع العواتق في جوف الخدور فذكر نحوه.

(٢) أخرجه أبو داود وابن أبى شيبة وعبد الرزاق والطبراني والبيهقي في الشعب في الثاني والخمسين من طرق عن الأعمش عن زيد بن وهب قال «أتى ابن مسعود قيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمرا» لفظ أبى داود والباقين نحوه. ورواه الحاكم والبزار من رواية أسباط عن الأعمش فقال فيه «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن التجسس» قال البزار تفرد به أسباط وقال ابن أبى حاتم عن أبى زرعة والترمذي عن البخاري : أخطأ فيه أسباط. والصحيح من رواية أبى معاوية وغيره عن الأعمش «إن الله نهانا»

(٣) قوله «كالغيلة من الاغتيال» كذا في الصحاح. وفيه يقال : قتله غيلة ، وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فيقتله فيه. (ع)

(٤) متفق عليه من حديث أبى هريرة.

٣٧٣

أى : فتحققت ـ بوجوب الإقرار عليكم وبأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره ، لإباء البشرية عليكم أن تجحدوه ـ كراهتكم له وتقذركم منه ، فليتحقق أيضا أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين. وقرئ : فكرهتموه. أى : جبلتم على كراهته. فإن قلت : هلا عدّى بإلى كما عدّى في قوله (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ) وأيهما القياس؟ قلت : القياس تعدّيه بنفسه ، لأنه ذو مفعول واحد قبل تثقيل حشوه ، تقول : كرهت الشيء ، فإذا ثقل استدعى زيادة مفعول. وأما تعدّيه بإلى ، فتأوّل وإجراء لكره مجرى بغض ، لأنّ بغض منقول من بغض إليه الشيء فهو بغيض إليه ، كقولك : حب إليه الشيء فهو حبيب إليه. والمبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده ، أو لأنه ما من ذنب يقترفه المقترف إلا كان معفوا عنه بالتوبة. أو لأنه بليغ في قبول التوبة ، منزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط ، لسعة كرمه. والمعنى : واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه ، فإنكم إن اتقيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين. وعن ابن عباس : أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّى لهما طعامهما ، فنام عن شأنه يوما ، فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغى لهما إداما ، وكان أسامة على طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندي شيء ، فأخبرهما سلمان بذلك ، فعند ذلك قالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : مالى أرى خضرة اللحم في أفواهكما ، فقالا : ما تناولنا لحما فقال : إنكما قد اغتبتما (١) فنزلت.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(١٣)

(مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) من آدم وحوّاء. وقيل : خلقنا كل واحد منكم من أب وأمّ ، فما منكم أحد إلا وهو يدلى بمثل ما يدلى به الآخر سواء بسواء ، فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب. والشعب : الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب ، وهي : الشعب ، والقبيلة ، والعمارة ، والبطن ، والفخذ ، والفصيلة ، فالشعب يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع ، العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطن تجمع الأفخاذ ، والفخذ تجمع الفصائل : خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصى بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة. وسميت الشعوب ،

__________________

(١) هكذا ذكره الثعلبي وربيعة بغير سند ولا راو. وفي الترغيب لأبى القاسم الأصبهانى من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبى ليلة نحوه.

٣٧٤

لأنّ القبائل تشعبت منها. وقرئ : لتتعارفوا ، ولتعارفوا بالإدغام. ولتعرفوا ، أى لتعلموا كيف تتناسبون. ولتتعرفوا. والمعنى : أنّ الحكمة التي من أجلها رتبكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض ، فلا يعتزى إلى غير آبائه ، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد ، وتدعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب. ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله تعالى فقال : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) وقرئ : أنّ ، بالفتح ، كأنه قيل : لم لا يتفاخر بالأنساب؟ فقيل : لأنّ أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه طاف يوم فتح مكة ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية (١) الجاهلية وتكبرها ، يا أيها الناس ، إنما الناس رجلان : مؤمن تقى كريم على الله ، وفاجر شقىّ هين على الله» (٢) ثم قرأ الآية. وعنه عليه السلام : من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله (٣). وعن ابن عباس : كرم الدنيا الغنى ، وكرم الآخرة التقوى. وعن يزيد بن شجرة : مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول : من اشترانى فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فاشتراه رجل فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يراه عند كل صلاة ، ففقده يوما فسأل عنه صاحبه ، فقال : محموم ، فعاده ثم سأل عنه بعد ثلاثة أيام فقال : هو لما به ، فجاءه وهو في ذمائه (٤) ، فتولى غسله ودفنه ، فدخل على المهاجرين والأنصار أمر (٥) عظيم ، فنزلت.

__________________

(١) قوله «عبية الجاهلية» في الصحاح : رجل فيه عبية ، أى : كبر وتجبر. وعبية الجاهلية : نخوتها. (ع)

(٢) أخرجه الترمذي وابن حبان وأبو يعلى وابن أبى حاتم من رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر. وفي الباب عن أبى هريرة أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد والبزار وابن المبارك في البر والصلة من رواية سعيد بن أبى سعيد عن أبيه عنه نحوه. ومنهم من قال عن سعيد عن أبى هريرة : وعن عبد الملك بن قدامة الحاطبى. حدثني أبى أن النبي صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة. صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد يا أيها الناس» فذكر نحوه وأخرجه.

(٣) أخرجه الحاكم والبيهقي وأبو يعلى وإسحاق وعبد والطبراني وأبو نعيم في الحلية كلهم من طريق هشام ابن زياد أبى المقدام عن محمد بن كعب عن ابن عباس وأتم منه ، قال البيهقي في الزهد : تكلموا في هشام بسبب هذا الحديث ، وأنه كان يقول : حدثني عن محمد بن كعب ثم ادعى أنه سمعه من محمد ، ثم أخرجه البيهقي من طريق عبد الجبار بن محمد العطاردي والد أحمد عن عبد الرحمن الطيبي بن القاسم بن عروة عن محمد بن كعب عن ابن عباس يرفع الحديث نحوه.

(٤) قوله «وهو في ذمائه» في الصحاح «الدماء» : ممدود بقية الروح في المذبوح. (ع)

(٥) هكذا ذكره الثعلبي والواحدي بغير سند.

٣٧٥

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٤)

الإيمان : هو التصديق مع الثقة وطمأنينة النفس. والإسلام : الدخول في السلم. والخروج من أن يكون حربا للمؤمنين بإظهار الشهادتين. ألا ترى إلى قوله تعالى (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) فاعلم أنّ ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام ، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان. فإن قلت : ما وجه قوله تعالى (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) والذي يقتضيه نظم الكلام أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ، ولكن قولوا أسلمنا. أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم؟ قلت : أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أوّلا ، ودفع ما انتحلوه (١) ، فقيل : قل لم تؤمنوا. وروعي في هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرّح بلفظه ، فلم يقل : كذبتم ، ووضع (لَمْ تُؤْمِنُوا) الذي هو نفى ما ادعوا إثباته موضعه ، ثم نبه على ما فعل من وضعه موضع كذبتم في قوله في صفة المخلصين (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) تعريضا بأن هؤلاء هم الكاذبون ، ورب تعريض لا يقاومه التصريح ، واستغنى بالجملة التي هي (لَمْ تُؤْمِنُوا) عن أن يقال : لا تقولوا آمنا ، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤدّاه النهى عن القول بالإيمان ، ثم وصلت بها الجملة المصدّرة بكلمة الاستدراك محمولة على المعنى ، ولم يقل : ولكن أسلمتم ، ليكون خارجا مخرج الزعم والدعوى ، كما كان قولهم (آمَنَّا) كذلك ، ولو قيل : ولكن أسلمتم ، لكان خروجه في معرض التسليم لهم والاعتداد بقولهم وهو غير معتدّ به. فإن قلت : قوله (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) بعد قوله تعالى (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة. قلت : ليس كذلك ، فإن فائدة قوله (لَمْ تُؤْمِنُوا) هو تكذيب دعواهم ، وقوله (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) توقيت لما أمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) حين

__________________

(١) قال محمود : «وجه هذا النظم تكذيب دعواهم أولا الخ» قال أحمد : ونظير هذا النظم ومراعاة هذه اللطيفة قوله تعالى (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ثم قال : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) ولما كان مؤدى هذا تكذيب الله تعالى لهم في شهادتهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم قدم على ذلك مقدمة تلخص المقصود وتخلصه من حوادث الوهم ونوائبه ، فقال بين الكلامين ، (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) ، ثم قال بعد ذلك : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) فتلخص من ذلك أنهم كذبوا فيما ادعوه من شهادة قلوبهم الحق ، لأن ذلك حقيقة الشهادة ، لا أنهم كذبوا في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول من الله وكان المخلص من ذلك قوله جل وعلا (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ).

٣٧٦

لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم ، لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في (قُولُوا) وما في (لَمَّا) من معنى التوقع : دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد (لا يَلِتْكُمْ) لا ينقصكم ولا يظلمكم. يقال : ألته السلطان حقه أشدّ الألت ، وهي لغة غطفان. ولغة أسد وأهل الحجاز : لاته ليتا. وحكى الأصمعى عن أمّ هشام السلولية أنها قالت : الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ، ولا تصمه الأصوات (١). وقرئ باللغتين : لا يلتكم ، ولا يألتكم. ونحوه في المعنى (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً). ومعنى طاعة الله ورسوله : أن يتوبوا عما كانوا عليه من النفاق ويعقدوا قلوبهم على الإيمان ويعملوا بمقتضياته ، فان فعلوا ذلك تقبل الله توبتهم ، ووهب لهم مغفرته ، وأنعم عليهم بجزيل ثوابه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنّ نفرا من بنى أسد قدموا المدينة في سنة جدبة ، فأظهروا الشهادة ، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات ، وأغلوا أسعارها ، وهم يغدون ويروحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وجئناك بالأثقال والذراري ، يريدون الصدقة ويمنون عليه ، فنزلت.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(١٥)

ارتاب : مطاوع را به إذا أوقعه في الشك مع التهمة. والمعنى : أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ، ولا اتهام لمن صدّقوه واعترفوا بأنّ الحق منه. فإن قلت : ما معنى ثم هاهنا وهي التراخي وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارنا للإيمان لأنه وصف فيه ، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة والطمأنينة التي حقيقتها التيقن وانتفاء الريب؟ قلت : الجواب على طريقين ، أحدهما أنّ من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان أو بعض المضلين بعد ثلج الصدر فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه ، أو نظر هو نظرا غير سديد يسقط به على الشك ثم يستمرّ على ذلك راكبا رأسه لا يطلب له مخرجا ، فوصف المؤمنون حقا بالبعد عن هذه الموبقات. ونظيره قوله (ثُمَّ اسْتَقامُوا) والثاني : أنّ الإيقان وزوال الريب لما كان ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدّم الايمان ، تنبيها على مكانه ، وعطف على الإيمان بكلمة التراخي إشعارا باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضا جديدا (وَجاهَدُوا) يجوز أن يكون المجاهد منويا وهو العدوّ المحارب أو الشيطان أو الهوى ، وأن يكون جاهد مبالغة في جهد. ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس : الغزو ، وأن يتناول العبادات بأجمعها ، وبالمجاهدة بالمال : نحو

__________________

(١) قوله «ولا تصمه الأصوات» إن كان من الوصم فالمعنى : لا تصدعه الأصوات ولا تعيبه ، وإن كان من الصمم فالمعنى : لا تجد أصم. وفي الصحاح «الوصم» : الصدع والعيب. وفيه «أصممته» : وجدته أصم. (ع)

٣٧٧

ما صنع عثمان رضى الله عنه في جيش العسرة ، وأن يتناول الزكوات وكل ما يتعلق بالمال من أعمال البر التي يتحامل فيها الرجل على ماله لوجه الله تعالى (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الذين صدقوا في قولهم آمنا ، ولم يكذبوا كما كذب أعراب بنى أسد. أو هم الذين إيمانهم إيمان صدق وإيمان حق وجدّ وثبات.

(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١٦)

يقال : ما علمت بقدومك ، أى : ما شعرت به ولا أحطت به. ومنه قوله تعالى (أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) وفيه تجهيل لهم.

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١٨)

يقال : منّ عليه بيد أسداها إليه ، كقولك : أنعم عليه وأفضل عليه. والمنة : النعمة التي لا يستثيب مسديها من يزلها إليه (١) ، واشتقاقها من المنّ الذي هو القطع ، لأنه إنما يسديها إليه ليقطع بها حاجته لا غير ، من غير أن يعمد لطلب مثوبة. ثم يقال : منّ عليه صنعه ، إذا اعتده عليه منة وإنعاما. وسياق هذه الآية فيه لطف ورشاقة ، وذلك أنّ الكائن من الأعاريب قد سماه الله إسلاما ، ونفى أن يكون كما زعموا إيمانا ، فلما منوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان منهم قال الله سبحانه وتعالى لرسوله عليه السلام : إنّ هؤلاء يعتدّون عليك بما ليس جديرا بالاعتداد به من حدثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام ، فقل لهم : لا تعتدوّا علىّ إسلامكم ، أى حدثكم المسمى إسلاما عندي لا إيمانا. ثم قال : بل الله يعتدّ عليكم أن أمدّكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم وادعيتم أنكم أرشدتم إليه ووفقتم له إن صحّ زعمكم وصدقت دعواكم ، إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه. وفي إضافة الإسلام إليهم وإيراد الايمان غير مضاف : ما لا يخفى على المتأمل ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، تقديره : إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان ، فلله المنة عليكم. وقرئ : إن هداكم ، بكسر الهمزة.

__________________

(١) قوله «من يزلها إليه» في الصحاح : أزللت إليه نعمته ، أى : استديتها إليه. وفي الحديث «من أزلت إليه نعمة فليشكرها» وأزللت شيئا من حقه ، أى : أعطيت اه. (ع)

٣٧٨

وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه : إذ هداكم. وقرئ : تعلمون ، بالتاء والياء ، وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم ، يعنى أنه عزّ وجل يعلم كل مستتر في العالم ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم ، لا يخفى عليه منه شيء ، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم ولا يظهر على صدقكم وكذبكم ، وذلك أنّ خاله مع كل معلوم واحدة لا تختلف.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الحجرات أعطى من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه» (١).

سورة ق

مكية [إلا آية ٣٨ فمدنية]

وآياتها ٤٥ [نزلت بعد المرسلات]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ)(٣)

الكلام في (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا) نحوه في (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) سواء بسواء ، لالتقائهما في أسلوب واحد. والمجيد : ذو المجد والشرف على غيره من الكتب ، ومن أحاط علما بمعانيه وعمل بما فيه : مجد عند الله وعند الناس ، وهو بسبب من الله المجيد ، فجاز اتصافه بصفته. قوله بل عجبوا (أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب ، وهو أن ينذرهم بالمخوف رجل منهم قد عرفوا وساطته فيهم وعدالته وأمانته ، ومن كان على صفته لم يكن إلا ناصحا لقومه مترفرفا (٢) عليهم ، خائفا أن ينالهم سوء ويحل بهم مكروه ، وإذا علم أنّ مخوفا أظلهم ، لزمه أن

__________________

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من طرق عن أبى بن كعب به.

(٢) قوله «مترفرفا عليهم» في الصحاح : فلان يرفنا ، أى : يحوطنا ، ورفرف الطائر : إذا حرك جناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه. ورف لونه بالفاء رفا ورفيفا : برق وتلألأ. وثوب رفيف وشجر رفيف : إذا تدانت أوراقه. وفيه أيضا : ترقرق الشيء بالقاف : تلألأ. (ع)

٣٧٩

ينذرهم ويحذرهم ، فكيف بما هو غاية المخاوف ونهاية المحاذير ، وإنكار لتعجبهم مما أنذرهم به من البعث ، مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وعلى اختراع كل شيء وإبداعه ، وإقرارهم بالنشأة الأولى ، ومع شهادة العقل بأنه لا بدّ من الجزاء. ثم عوّل على أحد الإنكارين بقوله تعالى (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ، أَإِذا مِتْنا) دلالة على أن تعجبهم من البعث أدخل في الاستبعاد وأحق بالإنكار ، ووضع الكافرون موضع الضمير للشهادة على أنهم في قولهم هذا مقدمون على الكفر العظيم ، وهذا إشارة إلى الرجع ، وإذا منصوب بمضمر ، معناه : أحين نموت ونبلى نرجع؟ (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) مستبعد مستنكر ، كقولك : هذا قول بعيد. وقد أبعد فلان في قوله. ومعناه : بعيد من الوهم والعادة. ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع. وهو الجواب ، ويكون من كلام الله تعالى استبعادا لإنكارهم ما أنذروا به من البعث ، والوقف قبله على هذا التفسير حسن. وقرئ : إذا متنا ، على لفظ الخبر ، ومعناه : إذا متنا بعد أن نرجع ، والدال عليه (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ). فإن قلت : فما ناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع؟ قلت : ما دل عليه المنذر من المنذر به ، وهو البعث

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (٤)

(قَدْ عَلِمْنا) ردّ لاستبعادهم الرجع ، لأن من لطف علمه حتى تغلغل إلى ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم ، كان قادرا على رجعهم أحياء كما كانوا. عن النبي صلى الله عليه وسلم «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب» (١) وعن السدى (ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) ما يموت فيدفن في الأرض منهم (كِتابٌ حَفِيظٌ) محفوظ من الشياطين ومن التغير ، وهو اللوح المحفوظ. أو حافظ لما أودعه وكتب فيه.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)(٥)

(بَلْ كَذَّبُوا) إضراب أتبع الإضراب الأوّل ، للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم ، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوّة الثابتة بالمعجزات في أوّل وهلة من غير تفكر ولا تدبر (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) مضطرب. يقال : مرج الخاتم في أصبعه وجرج ، فيقولون تارة : شاعر ، وتارة : ساحر ، وتارة : كاهن ، لا يثبتون على شيء واحد : وقرئ : لما جاءهم ، بكسر اللام وما المصدرية ، واللام هي التي في قولهم لخمس خلون ، أى : عند مجيئه إياهم ، وقيل (بِالْحَقِ) : القرآن. وقيل : الإخبار بالبعث.

__________________

(١) متفق عليه من حديث أبى صالح عن أبى هريرة وأخرجه الحاكم من حديث أبى سعيد ، وزاد «قالوا : ما هو يا رسول الله؟ قال : هو مثل حبة الخردل ، منه ينبتون».

٣٨٠