الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

ليلة إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد (تَنَزَّلُ) إلى السماء الدنيا ، وقيل : إلى الأرض (وَالرُّوحُ) جبريل. وقيل : خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أى تتنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل. وقرئ : من كل امرئ ، أى : من أجل كل إنسان. قيل : لا يلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة (سَلامٌ هِيَ) ما هي إلا سلامة ، أى : لا يقدر الله فيها إلا السلامة والخير ، ويقضى في غيرها بلاء وسلامة. أو : ما هي إلا سلام لكثرة ما يسلمون على المؤمنين. وقرئ : مطلع ، بفتح اللام وكسرها.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة القدر أعطى من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر (١)».

سورة البينة

مكية ، وقيل : مدنية ، وآياتها ٨ [نزلت بعد الطلاق]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بسندهم إلى أبى بن كعب.

٧٨١

آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)(٨)

كان الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأصنام يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم : لا ننفك مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعنى أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق : إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه : لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله الغنى ، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقا ، فيقول واعظه : لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر ، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار : يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما. وانفكاك الشيء من الشيء. أن يزايله بعد التحامه به ، كالعظم إذا انفك من مفصله ، والمعنى : أنهم متشبثون بدينهم لا يتركونه إلا عند مجيء البينة. و (الْبَيِّنَةُ) الحجة الواضحة (١). و (رَسُولٌ) بدل من البينة. وفي قراءة عبد الله : رسولا ، حالا من البينة (صُحُفاً) قراطيس (مُطَهَّرَةً) من الباطل (فِيها كُتُبٌ) مكتوبات (قَيِّمَةٌ) مستقيمة ناطقة بالحق والعدل ؛ والمراد بتفرقهم : تفرقهم عن الحق وانقشاعهم عنه. أو تفرقهم فرقا ، فمنهم من آمن ، ومنهم من أنكر وقال : ليس به ، ومنهم من عرف وعاند. فإن قلت : لم جمع بين أهل الكتاب والمشركين أوّلا ثم أفرد أهل الكتاب في قوله (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)؟ قلت : لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم ، فإذا وصفوا بالتفرق عنه كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف (وَما أُمِرُوا) يعنى في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي ، ولكنهم حرفوا وبدلوا (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أى دين الملة القيمة. وقرئ : وذلك الدين القيمة ، على تأويل الدين بالملة. فإن قلت : ما وجه قوله (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ)؟ قلت : معناه : وما أمروا بما في الكتابين إلا لأجل أن يعبدوا الله على هذه الصفة. وقرأ ابن مسعود : إلا أن يعبدوا ، بمعنى : بأن يعبدوا. قرأ نافع : البريئة

__________________

(١) قوله «والبينة الحجة الواضحة» في نسخة بدل «والبينة» : القرآن ، (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) ورسول من الله : جبريل صلوات الله عليه ، وهو التالي للصحف المطهرة المنتسخة من اللوح التي ذكرت في سورة عبس ، ولا بد من مضاف محذوف وهو الوحى. ويجوز أن يراد النبي صلى الله عليه وسلم. فان قلت : كيف نسبة تلاوة الصحف المطهرة إليه وهو أمى؟ قلت : إذا تلا مثل المذكور فيها كان تاليا لها .... (ع)

٧٨٢

بالهمز ، والقرّاء على التخفيف. والنبىّ ، والبرية : مما استمر الاستعمال على تخفيفه ورفض الأصل وقرئ : خيار البرية : جمع خير ، كجياد وطياب : في جمع جيد وطيب.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ لم يكن كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقبلا (١)».

سورة الزلزلة

مدنية وقيل مكية ، وآياتها ٨ [نزلت بعد النساء]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٨)

(زِلْزالَها) قرئ بكسر الزاى وفتحها ، فالمكسور مصدر ، والمفتوح : اسم ، وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف. فإن قلت : ما معنى زلزالها بالإضافة؟ قلت : معناه زلزالها الذي تستوجبه في الحكمة ومشيئة الله ، وهو الزلزال الشديد الذي ليس بعده. ونحوه قولك : أكرم التقىّ إكرامه ، وأهن الفاسق إهانته ، تريد : ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة أو زلزالها كله وجميع ما هو ممكن منه. الأثقال : جمع (٢) ثقل. وهو متاع البيت ، وتحمل أثقالكم جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالا لها (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) زلزلت هذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في بطنها ، وذلك عند النفخة الثانية حين تزلزل وتلفظ أمواتها أحياء ، فيقولون ذلك

__________________

(١) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بسندهم إلى أبى بن كعب.

(٢) قوله «جمع ثقل وهو متاع» في الصحاح «الثقل» : واحد الأثقال ، مثل حمل وأحمال. والثقل ـ بالتحريك متاع المسافر وحشمه. (ع)

٧٨٣

لما يبهرهم من الأمر الفظيع ، كما يقولون : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا). وقيل : هذا قول الكافر ، لأنه كان لا يؤمن بالبعث ، فأما المؤمن فيقول : هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون. فإن قلت : ما معنى تحديث الأرض والإيحاء لها؟ قلت : هو مجاز عن إحداث الله تعالى فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث بالنسيان ، حتى ينظر من يقول مالها إلى تلك الأحوال ، فيعلم لم زلزلت ولم لفظت الأموات؟ وأنّ هذا ما كانت الأنبياء ينذرونه ويحذرون منه. وقيل : ينطقها الله على الحقيقة. وتخبر بما عمل عليها من خير وشر. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد على كل أحد بما عمل على ظهرها (١). فإن قلت : (إِذا) ، و (يَوْمَئِذٍ) : ما ناصبهما؟ قلت : (يَوْمَئِذٍ) : بدل من (إِذا) ، وناصبهما (تُحَدِّثُ). ويجوز أن ينتصب (إِذا) بمضمر ، و (يَوْمَئِذٍ) بتحدث. فإن قلت : أين مفعولا (تُحَدِّثُ)؟ قلت : قد حذف أوّلهما ، والثاني أخبارها ، وأصله تحدث الخلق أخبارها ، إلا أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار لا ذكر الخلق تعظيما لليوم. فإن قلت : بم تعلقت الباء في قوله (بِأَنَّ رَبَّكَ)؟ قلت ، بتحدّث ، معناه : تحدّث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها ، وأمره إياها بالتحديث. ويجوز أن يكون المعنى : يومئذ تحدث بتحديث أنّ ربك أوحى لها أخبارها ، على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها : تحديث بأخبارها ، كما تقول:نصحتني كل نصيحة ، بأن نصحتني في الدين. ويجوز أن يكون (بِأَنَّ رَبَّكَ) بدلا من (أَخْبارَها) كأنه قيل : يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها ، لأنك تقول : حدثته كذا وحدثته بكذا. و (أَوْحى لَها) بمعنى أوحى إليها ، وهو مجاز كقوله (أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) قال :

أوحى لها القرار فاستقرّت (٢)

وقرأ ابن مسعود : تنبئ أخبارها ، وسعيد بن جبير : تنبئ ، بالتخفيف. يصدرون عن مخارجهم من القبور إلى الموقف (أَشْتاتاً) بيض الوجوه آمنين ، وسود الوجوه فزعين. أو يصدرون عن الموقف أشتاتا يتفرق بهم طريقا الجنة والنار ، ليروا جزاء أعمالهم. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم : ليروا بالفتح. وقرأ ابن عباس وزيد بن على : يره ، بالضم. ويحكى أنّ أعرابيا أخر (خَيْراً يَرَهُ) فقيل له ، قدّمت وأخرت ، فقال :

__________________

(١) أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من رواية ابن أيوب عن يحيى عن أبى سليمان المنقري عن أبى هريرة. وسعيد ثقة. وخالفه رشدين بن سعد وهو ضعيف فقال : عن يحيى بن أبى سليمان عن أبى حازم بالسندين المذكورين عن أنس بن مالك. وأخرجه ابن مردويه.

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة ٧٥ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٧٨٤

خذا بطن هرشى أو قفاها فإنّه

كلا جانبي هرشى لهنّ طريق (١)

والذرّة : النملة الصغيرة ، وقيل «الذرّ» ما يرى في شعاع الشمس من الهباء. فإن قلت حسنات الكافر محبطة بالكفر ، وسيئات المؤمن معفوّة باجتناب الكبائر ، فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرّ من الخير والشر (٢)؟ قلت : المعنى فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا : من فريق السعداء. ومن يعمل مثقال ذرّة شرا : من فريق الأشقياء ، لأنه جاء بعد قوله (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) ،

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. «من قرأ سورة إذا زلزلت أربع مرات كان كمن قرأ القرآن كله» (٣).

__________________

(١) روى أن أعرابيا أخر قوله تعالى (خَيْراً يَرَهُ) عما بعده ، فقيل : قدمت وأخرت ، فضرب ذلك البيت مثلا. وهرشى ـ كسكرى : ثنية في طريق مكة عند الجحفة ، أى : اسلكا أما تلك الثنية أو خلفها ، فانه أى :

الحال والشأن كل من جانبيها طريق للإبل التي تطلبانها ، وتكرير لفظ «هرشى» لتقريرها في ذهن السامع خوف غفلته عنها ، والمقام كان مقام هداية ، فحسن فيه ذلك.

(٢) قال محمود : «إن قلت حسنات الكافر محبطة بالكفر ... الخ» قال أحمد : السؤال مبنى على قاعدتين ، إحداهما : أن حسنات الكافر محبطة بالكفر ، وهذه فيها نظر ، فان حسنات الكافر محبطة ، أى : لا يثاب عليها ولا ينعم. وأما تخفيف العذاب بسببها ، فغير منكر ، فقد وردت به الأحاديث الصحيحة. وقد ورد أن حاتما يخفف الله عنه لكرمه ومعروفه ، وورد ذلك في حق غيره كأبى طالب أيضا ، فحينئذ لحسنات الكافر أثر ما في تخفيف العذاب ، فيمكن أن يكون المرئي هو ذلك الأثر ، والله أعلم. وأما القاعدة الثانية : وهي القول بأن اجتناب الكبائر يوجب تمحيص الصغائر ويكفرها عن المؤمن ، فمردود عند أهل السنة ؛ فان الصغائر عندهم حكمها في التكفير في حكم الكبائر : تكفر بأحد أمرين : إما بالتوبة النصوح المقبولة ، وإما بالمشية لا غير ذلك. وأما اجتناب الكبيرة عندهم فلا يوجب التكفير للصغيرة ، فالسؤال المذكور إذا ساقط عن أهل السنة ، ولكن الزمخشري التزم الجواب عنه الزموه على قاعدته الفاسدة ، والله الموفق.

(٣) أخرجه الثعلبي من حديث على بإسناد أهل البيت ، لكنه من رواية أبى القاسم الطائي. وهو ساقط وشاهده عند ابن أبى شيبة والبزار من رواية سلمة بن وردان عن أنس مرفوعا : إذا زلزلت تعدل ربع القرآن» وأخرجه ابن مردويه والواحدي باسناديهما إلى أبى بن كعب بلفظ «من قرأ إذا زلزلت أعطى من الأجر كمن قرأ القرآن.

٧٨٥

سورة العاديات

مكية ، وقيل مدنية ، وآياتها ١١ [نزلت بعد العصر]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)(١١)

أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح. والضبح : صوت أنفاسها إذا عدون. وعن ابن عباس أنه حكاه فقال : أح أح. قال عنترة :

والخيل تكدح حين تضبح في حياض الموت ضبحا (١) وانتصاب ضبحا على : يضبحن ضبحا ، أو بالعاديات ، كأنه قيل : والضابحات ، لأن الضبح يكون مع العدو (٢). أو على الحال ، أى : ضابحات (فَالْمُورِياتِ) تورى نار الحباحب (٣)

__________________

(١) الكدح : الجد في العدو ، والضبح : إخراج النفس بصوت غير الصهيل والحمحمة. وحكاه ابن عباس في التفسير فقال : أح أح ، وشبه الموت بالسيل على طريق المكنية ، والحياض تخييل لذلك.

(٢) قال محمود : «أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح والضبح صوت أنفاسها ... الخ» قال أحمد : ولم يذكر حكمة الإتيان بالفعل معطوفا على الاسم ، فنقول : إنما عطف (فَأَثَرْنَ) على الاسم الذي هو (الْعادِياتِ) وما بعده لأنها أسماء فاعلين ، تعطى معنى الفعل. وحكمة مجيء هذا المعطوف فعلا عن اسم فاعل : تصوير هذه الأفعال في النفس ، فان التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الاسم ، لما بينهما من التخالف : وهو أبلغ من التصوير بالأسماء المتناسقة ، وكذلك التصوير بالمضارع بعد الماضي ، وقد تقدمت له شواهد أقربها قول ابن معديكرب :

بأنى لقيت الغول تهوى

بسهب كالصحيفة صحصحان

فاضربها بلا دهش فخرت

صريعا اليدين والجران

(٣) قوله «توري نار الحباحب» الحباحب : اسم رجل بخيل كان لا يوقد إلا نارا ضعيفة مخافة الضيفان ، فضربوا به المثل حتى قالوا : نار الحباحب : لما تقدحه الخيل بحوافرها. اه من الصحاح. (ع)

٧٨٦

وهي ما ينقدح من حوافرها (قَدْحاً) قادحات صاكات بحوافرها الحجارة. والقدح. الصك. والإيراء. إخراج النار. تقول. قدح فأورى ، وقدح فأصلد (١) ، وانتصب قدحا بما انتصب به ضبحا (فَالْمُغِيراتِ) تغير على العدو (صُبْحاً) في وقت الصبح (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) فهيجن بذلك الوقت غبارا (فَوَسَطْنَ بِهِ) بذلك الوقت ، أو بالنقع ، أى وسطن النقع الجمع. أو فوسطن ملتبسات به (جَمْعاً) من جموع الأعداء ، ووسطه بمعنى توسطه. وقيل : الضمير لمكان الغارة. وقيل : للعدو الذي دلّ عليه (وَالْعادِياتِ) ويجوز أن يراد بالنقع : الصياح ، من قوله عليه السلام «ما لم يكن نقع ولا لقلقة (٢)» وقول لبيد:

فمتى ينقع صراخ صادق (٣)

أى : فهيجن في المغار عليهم صياحا وجلبة (٤). وقرأ أبو حيوة : فأثرن بالتشديد ، بمعنى : فأظهرن به غبارا ، لأن التأثير فيه معنى الإظهار. أو قلب ثورن إلى وثرن ، وقلب الواو همزة. وقرئ : فوسطن بالتشديد للتعدية. والباء مزيدة للتوكيد ، كقوله (وَأُتُوا بِهِ) وهي مبالغة في وسطن. وعن ابن عباس : كنت جالسا في الحجر فجاء رجل فسألنى عن (الْعادِياتِ ضَبْحاً) ففسرتها بالخيل ، فذهب إلى علىّ وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت ، فقال : ادعه لي ، فلما وقفت على رأسه قال : تفتي الناس بما لا علم لك به ، والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر ،

__________________

(١) قوله «فأصلد» في الصحاح : صلد الزند ، إذا صوت ولم يخرج ثارا ، وأصلد الرجل : أى صلد زنده اه. (ع)

(٢) لم أجده مرفوعا. وإنما ذكره البخاري في الجنائز تعليقا عن عمر. قال «دعهن يبكين على أبى سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة» قال : والنقع التراب على الرأس واللقلقة الصوت. ووصله عبد الرزاق والحاكم وابن سعد وأبو عبيد والحربي في الغريب كلهم من طريق الأعمش عن أبى وائل قال «وقيل لعمر : إن نسوة من بنى المغيرة قد اجتمعن في دار خالد بن الوليد يبكين عليه. وإنا نكره أن يؤذينك. فلو نهيتهن فقال : ما عليهن أن يهرقن من دموعهن على أبى سليمان ـ سجلا أو سجلين ما لم يكن نقع أو لقلقة» وفي رواية ابن سعد قال : وكيع : النقع الشق. واللقلقة الصوت. وقال بعضهم : رفع التراب على الرأس وشق الجيوب. وأما اللقلقة فهي شدة الصوت.

ولم أسمع فيه خلافا. وقال الحربي عن الأصمعي. النقع الصياح. وعن أبى سلمة هو وضع التراب على الرأس.

(٣) فمتى ينقع صراخ صادق

جلبوه ذات جرس وزجل

للبيد بن ربيعة. وجلب على فرسه وأجلب : إذا صاح به وحثه على السبق. وجلب بالتشديد ـ : صوت. والجرس الصوت الخفي. والزجل : صوت كدوي النحل. يقول : فمنى يرتفع صراخ للحرب صادق صرخوه ذات جرس ، أى : كتيبة ذات جرس ، وهو بدل من فاعل جلبوه. أو جاء على لغة أكلونى البراغيث. والمعنى : أن الصوت المنخفض ملازم لها ، بخلاف المرتفع. ويجوز أن «جلبوه» جواب الشرط. ويجوز أنه صفة صراخ ، وجواب الشرط فيما بعده ، وهو أقرب من الأول.

(٤) قوله «صباحا وجلبة» في الصحاح : الجلب والجلبة : الأصوات. (ع)

٧٨٧

وما كان معنا إلا فرسان : فرس للزبير وفرس للمقداد (الْعادِياتِ ضَبْحاً) الإبل من عرفة إلى المزدلفة ، ومن المزدلفة إلى منى (١) ، فإن صحت الرواية فقد استعير الضبح للإبل ، كما استعير المشافر والحافر للإنسان ، والشفتان للمهر ، والثفر للثورة (٢) وما أشبه ذلك. وقيل الضبح لا يكون إلا للفرس والكلب والثعلب. وقيل : الضبح بمعنى الضبع ، يقال : ضبحت الإبل وضبعت : إذا مدت أضباعها في السير ، وليس بثبت. وجمع : هو المزدلفة. فإن قلت: علام عطف (فَأَثَرْنَ)؟ قلت : على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه ، لأنّ المعنى: واللاتي عدون فأورين ، فأغرن فأثرن. الكنود : الكفور. وكند النعمة كنودا. ومنه سمى : كندة ، لأنه كند أباه ففارقه. وعن الكلبي : الكنود بلسان كندة : العاصي ، وبلسان بنى مالك : البخيل ، وبلسان مضر وربيعة : الكفور ، يعنى : أنه لنعمة ربه خصوصا لشديد الكفران ، لأن تفريطه في شكر نعمة غير الله تفريط قريب لمقاربة النعمة ، لأن أجلّ ما أنعم به على الإنسان من مثله نعمة أبويه ، ثم إن عظماها في جنب أدنى نعمة الله قليلة ضئيلة (وَإِنَّهُ) وإنّ الإنسان (عَلى ذلِكَ) على كنوده (لَشَهِيدٌ) يشهد على نفسه ولا يقدر أن يجحده لظهور أمره. وقيل : وإنّ الله على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد (الْخَيْرِ) المال من قوله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) والشديد : البخيل الممسك. يقال : فلان شديد ومتشدّد. قال طرفة :

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى

عقيلة مال الفاحش المتشدد (٣)

يعنى : وإنه لأجل حب المال وأن إنفاقه يثقل عليه : لبخيل ممسك. أو أراد بالشديد : القوى ، وأنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوى مطيق ، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس. تقول : هو شديد لهذا الأمر ، وقوىّ له : إذا كان مطيقا له ضابطا. أو أراد : أنه لحب الخيرات غير هش منبسط ، ولكنه شديد منقبض (بُعْثِرَ) بعث. وقرئ: بحثر ، وبحث. وبحثر ، وحصل : على بنائهما للفاعل. وحصل : بالتخفيف. ومعنى (حُصِّلَ) جمع في

__________________

(١) أخرجه الطبري والحاكم من رواية أبى صخر عن أبى معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وأخرجه الثعلبي وابن مردويه من هذا الوجه.

(٢) قوله «للمهر والثفر الثورة» الثفر السباع كالحياء للناقة ، وربما استعير بغيرها. والثورة : تأنيث الثور. قال الأخطل :

جزى الله عنا الأعورين ملاحة

وفروة ثفر الثور المتضاجم

وفروة : اسم رجل. والمتضاجم : المعوج الفم اه من هامش. (ع)

(٣) لطرفة بن العبد في معلقته. واعتام يعتام اعتياما : اختار اختيارا. والعقيلة من كل شيء : أكرمه. يقول : أرى الموت يختار الكرام فيأخذها ، ويصطفى أعز مال البخيل الشديد الإمساك فيبقيه. وقيل : فيأخذه أيضا.

٧٨٨

الصحف ، أى : أظهر محصلا مجموعا. وقيل : ميز بين خيره وشره. ومنه قيل للمنخل : المحصل. ومعنى علمه بهم يوم القيامة : مجازاته لهم على مقادير أعمالهم ، لأنّ ذلك أثر خبره بهم. وقرأ أبو السمال : إنّ ربهم بهم يومئذ خبير.

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «من قرأ سورة والعاديات أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعا» (١).

سورة القارعة

مكية ، وآياتها ١١ [نزلت بعد قريش]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ)(١١)

الظرف نصب بمضمر دلت عليه القارعة ، أى : تقرع (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة ، والتطاير إلى الداعي من كل جانب ، كما يتطاير الفراش إلى النار. قال جرير :

إنّ الفرزدق ما علمت وقومه

مثل الفراش غشين نار المصطلى (٢)

__________________

(١) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بسندهم إلى أبى بن كعب.

(٢) لجرير. وما علمت : أى مدة علمى ، أو في علمى. وهذا من الانصاف في المحاورة. والفراش : ما يتطاير إلى السراج ، وربما مات فيه لحمقه. والمصطلى : المتدفئ بالنار : شبههم به في الذل والجهل والتطفل على الغير ، كما يغشى الفراش رأس المصطلى ويحوم حولها. وربما ألقى بنفسه إلى النار ، مهم مثله.

٧٨٩

وفي أمثالهم : أضعف من فراشة وأذل وأجهل. وسمى فراشا : لتفرّشه وانتشاره. وشبه الجبال بالعهن وهو الصوف المصبغ ألوانا ، لأنها ألوان ، وبالمنفوش منه ، لتفرق أجزائها. وقرأ ابن مسعود : كالصوف. الموازين : جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله. أو جمع ميزان. وثقلها : رجحانها. ومنه حديث أبى بكر لعمر رضى الله عنهما في وصيته له : «وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقلها في الدنيا ، وحق لميزان لا توضع فيه إلا الحسنات أن يثقل ، وإنما خفت موازين من خفت موازينه لاتباعهم الباطل وخفتها في الدنيا ، وحق لميزان لا توضع فيه إلا السيئات أن يخف (١)» (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة (٢) : هوت أمّه ، لأنه إذا هوى أى سقط وهلك ، فقد هوت أمّه ثكلا وحزنا قال :

هوت أمّه ما يبعث الصّبح غاديا

وما ذا يردّ اللّيل حين يئوب (٣)

فكأنه قيل. وأما من خفت موازينه فقد هلك. وقيل (هاوِيَةٌ) من أسماء النار ، وكأنها النار العميقة لهوى أهل النار فيها مهوى بعيدا ، كما روى «يهوى فيها سبعين خريفا (٤)» أى فمأواه النار. وقيل للمأوى : أمّ ، على التشبيه ، لأنّ الأمّ مأوى الولد ومفزعه. وعن قتادة : فأمّه هاوية ، أى فأمّ رأسه هاوية في قعر جهنم ، لأنه يطرح فيها منكوسا (هِيَهْ) ضمير الداهية التي

__________________

(١) وهذا منقطع مع ضعف ليث. وهو ابن أبى سليم. وأخرجه ابن أبى شيبة وأبو نعيم في الحلية في ترجمة أبى بكر من رواية إسماعيل بن أبى خالد عن زيد بن الحرث «أن أبا بكر لما حضره الموت أرسل إلى عمر. فلما اتى قال له : إنى موصيك بوصية ، إن لله حقا في الليل لا يقبله في النهار وحقا بالنهار لا يقبله في الليل. وإنه ليس لأحدنا نافلة حتى يؤدى الفريضة. إنه إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم. وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يثقل ـ الحديث».

(٢) قال محمود : «إذا دعوا على الرجل بالهلكة قالوا : هوت أمه ... الخ» قال أحمد : والأول أظهر ، لأنه مثل معروف كقولهم ، لأمه الهبل.

(٣) لكعب في مرثية أخيه. وهوت أمه دعاء لا يراد به الوقوع بل التعجب. وما مبتدأ ، وما بعده خبر. والمعنى : أى شيء يبعثه الصبح منه ، وأى شيء يرده الليل ، كما روى : وما ذا يرد الليل ، يعنى : أنه شيء عظيم. ومنه تجريد مقدر فيه ، يعنى : أنه كان يغدو في طلب الغارة ويرجع في الليل ظافرا. وما في الموضعين من الاستفهام ، معناه التعجب والاستعظام. وإسناد الفعل الصبح والليل مجاز.

(٤) هذا طرف من حديث أخرجه الترمذي في صفة جهنم من رواية الحسن عن عتبة بن غزوان «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال. إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين عاما ما تقضى إلى قعرها» وقال غريب لا نعرف الحسن سماعا. من عتبة وهذا منقطع. وقد رواه مسلم من حديث عتبة بلفظ «وذكر لنا» وهو في حكم المرفوع «وروى الحاكم من طريق عيسى بن طلحة عن أبى هريرة مرفوعا «إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوى بها في النار سبعين خريفا» وأصله في البخاري من رواية أبى صالح عن أبى هريرة بلفظ «يهوى بها في جهنم» حسب. وروى البزار من طريق مجالد عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود رفعه ، يؤتى بالقاضي يوم القيامة فيوقف على شفير جهنم فان أمر به فدفع فهوى فيها سبعين خريفا».

٧٩٠

دلّ عليها قوله (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) في التفسير الأوّل. أو ضمير هاوية والهاء للسكت ، وإذا وصل القارئ حذفها. وقيل : حقه أن لا يدرج لئلا يسقطها الإدراج ، لأنها ثابتة في المصحف. وقد أجيز إثباتها مع الوصل.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة القارعة ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة (١)»

سورة التكاثر

مكية ، وآياتها ٨ «نزلت بعد الكوثر»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)(٨)

ألهاه عن كذا وأقهاه : إذا شغله (٢). و (التَّكاثُرُ) التبارى في الكثرة والتباهي بها ، وأن يقول هؤلاء : نحن أكثر ، وهؤلاء : نحن أكثر. روى أن بنى عبد مناف وبنى سهم تفاخروا أيهم أكثر عددا ، فكثرهم بنو عبد مناف فقالت بنوسهم : إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادّونا بالأحياء والأموات ، فكثرتهم بنوسهم. والمعنى : أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى إذا استوعبتم عددهم صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات : عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكما بهم : وقيل كانوا يزورون المقابر فيقولون : هذا قبر فلان وهذا قبر فلان عند تفاخرهم. والمعنى : ألهاكم ذلك ـ وهو مما لا يعنيكم ولا يجدى عليكم في دنياكم وآخرتكم ـ عما يعنيكم من أمر الدين الذي هو أهم وأعنى من كل مهم. أو أراد ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن

__________________

(١) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بسندهم إلى أبى بن كعب.

(٢) قوله «وأقهاه إذا شغله» مضروب عليه بخط المصنف في نسخة اه من هامش. وفي الصحاح : أقهى الرجل من الطعام إذا احتواه. والقهوة : الخمر. يقال : سميت بذلك لأنها تقهى ، أى تذهب بشهوة الطعام. (ع)

٧٩١

متم وقبرتم ، منفقين أعماركم في طلب الدنيا والاستباق إليها والتهالك عليها ، إلى أن أتاكم الموت لا همّ لكم غيرها ، عما هو أولى بكم من السعى لعاقبتكم والعمل لآخرتكم. وزيارة القبور : عبارة عن الموت. قال :

لن يخلص العام خليل عشرا

ذاق الضّماد أو يزور القبرا (١)

وقال : زار القبور أبو مالك

فأصبح الأمّ زوّارها (٢)

وقرأ ابن عباس : أألهاكم؟ على الاستفهام الذي معناه التقرير (كَلَّا) ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي الناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بدينه (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) إنذار ليخافوا فينتبهوا عن غفلتهم. والتكرير : تأكيد للردع والإنذار عليهم. و (ثُمَ) دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأوّل وأشد ، كما تقول للمنصوح : أقول لك ثم أقول لك : لا تفعل. والمعنى : سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدّامكم من هول لقاء الله ، وإنّ هذا التنبيه نصيحة لكم ورحمة عليكم. ثم كرّر التنبيه أيضا وقال (لَوْ تَعْلَمُونَ) محذوف الجواب ، يعنى : لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين ، أى : كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور التي وكلتم بعلمها هممكم : لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه ، ولكنكم ضلال جهلة ، ثم قال (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) فبين لهم ما أنذرهم منه وأوعدهم به ، وقد مرّ ما في إيضاح الشيء بعد إبهامه من تفخيمه وتعظيمه ، وهو جواب قسم محذوف ، والقسم لتوكيد الوعيد ، وأن ما أوعدوا به مالا مدخل فيه للريب ، وكرره معطوفا بثم تغليظا في التهديد وزيادة في التهويل. وقرئ : لترؤن بالهمز ، وهي مستكرهة. فإن قلت : لم استكرهت والواو المضمومة قبلها همزة قياس مطرد؟ قلت : ذاك في الواو التي ضمتها لازمة ، وهذه عارضة لالتقاء الساكنين. وقرئ : لترون ، ولترونها : على البناء للمفعول (عَيْنَ الْيَقِينِ) أى الرؤية التي هي نفس اليقين وخالصته. ويجوز أن يراد بالرؤية :

__________________

(١) إنى رأيت الضمد هيئا نكرا

لن يخلص العام حليل عشرا

ذاق الضماد أو يزور القبرا

للأخطل. وضمد رأسه : عصبه. وضمد جرحه : ألصق عليه الدواء. والضمد والضماد : الحقد ، لكتمه في القلب والتزوج لضم المرأة إلى الرجل. والنكر : المنكر ، ولن يخلص : بيان لوجه إنكار الضمد أى التزوج. والعام :

نصب على الظرفية. ويروى ، حليل بالمهملة وبالمعجمة. وعشرا ـ بالكسر : أى معاشرة ، وبفتحها : أى عشر ليال. وذاق الضماد : صفة حليل ، فصلت عنه بالمفعول. وشبه الضماد بالمطعوم المكروه بحسب ما رأى على طريق الكناية ، والذوق تخييل. وزيارة القبر : كناية عن الموت ، أى : لن يخلص إلى أن يموت ، ولا ينافيه التقييد بالعام لإمكان الموت فيه ، ولعله كان جدبا.

(٢) زار القبور ، أى : مات. وفيه نوع تهكم به حيث كنى عن الموت المكروه عادة بالزيارة المحبوبة ، وألأم : أفعل تفضيل من اللؤم ، أى : الحسة. والزوار : جمع زائر ، أى : كان ألأم الأحياء ، فأصبح ألأم الأموات.

٧٩٢

العلم والإبصار (عَنِ النَّعِيمِ) عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه. فإن قلت : ما النعيم الذي يسئل عنه الإنسان ويعاتب عليه؟ فما من أحد إلا وله نعيم؟ قلت : هو نعيم من عكف همته على استيفاء اللذات ، ولم يعش إلا ليأكل الطيب ويلبس اللين ، ويقطع أوقاته باللهو والطرب ، لا يعبأ بالعلم والعمل ، ولا يحمل نفسه مشاقهما ، فأما من تمتع بنعمة الله وأرزاقه التي لم يخلقها إلا لعباده ، وتقوّى بها على دراسة العلم والقيام بالعمل ، وكان ناهضا بالشكر : فهو من ذاك بمعزل ، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى : أنه أكل هو وأصحابه تمرا وشربوا عليه ماء فقال : «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين» (١).

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ ألهاكم التكاثر لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا ، وأعطى من الأجر كأنما قرأ ألف آية» (٢).

سورة العصر

مكية ، وآياتها ٣ «نزلت بعد الشرح»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣)

أقسم بصلاة العصر لفضلها ، بدليل قوله تعالى : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) صلاة العصر ، في مصحف

__________________

(١) لم أجده هكذا. وفيه تخليط لعله من الناسخ. وهو يخرج من حديثين : أحدهما أخرجه النسائي وابن حبان والطبري وابن مردويه من حديث جابر قال «أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم رطبا وشربوا ماء. فقال : هذا من النعيم الذي تسألون عنه» وروى أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي من حديث أبى سعيد الخدري قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاما قال : الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين.

(٢) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب.

٧٩٣

حفصة. وقوله عليه الصلاة والسلام «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» (١) ولأنّ التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار ، واشتغالهم بمعايشهم. أو أقسم بالعشي كما أقسم بالضحى لما فيهما جميعا من دلائل القدرة. أو أقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب. والإنسان : للجنس. والخسر : الخسران ، كما قيل : الكفر في الكفران. والمعنى : أن الناس في خسران من تجارتهم إلا الصالحين وحدهم ، لأنهم اشتروا الآخرة بالدنيا ، فربحوا وسعدوا ، ومن عداهم تجروا خلاف تجارتهم ، فوقعوا في الخسارة والشقاوة (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ، وهو الخير كله : من توحيد الله وطاعته ، واتباع كتبه ورسله ، والزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) عن المعاصي وعلى الطاعات ، وعلى ما يبلو الله به عباده.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة والعصر غفر الله له وكان ممن تواصى بالحق وتواصى بالصبر» (٢).

سورة الهمزة

مكية ، وآياتها ٩ [نزلت بعد القيامة]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)(٩)

الهمز : الكسر ، كالهزم. واللمز : الطعن. يقال : لمزه ولهزه طعنه ، والمراد : الكسر من

__________________

(١) متفق عليه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما.

(٢) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.

٧٩٤

أعراض الناس والغض (١) منهم ، واغتيابهم ، والطعن فيهم (٢) وبناء «فعلة» يدل على أنّ ذلك عادة منه قد ضرى بها. ونحوهما : اللعنة والضحكة. قال :

وإن أغيّب فأنت الهامز اللّمزه (٣)

وقرئ : ويل للهمزة اللمزة. وقرئ : ويل لكل همزة لمزة ، بسكون الميم : وهو المسخرة الذي يأتى بالأوابد (٤) والأضاحيك فيضحك منه ويشتم. وقيل : نزلت في الأخنس بن شريق وكانت عادته الغيبة والوقيعة. وقيل : في أمية بن خلف. وقيل : في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغضه منه. ويجوز أن يكون السبب خاصا والوعيد عاما ، ليتناول كل من باشر ذلك القبيح ، وليكون جاريا مجرى التعريض بالوارد فيه ، فإنّ ذلك أزجر له وأنكى فيه (الَّذِي) بدل من كل. أو نصب على الذم. وقرئ : جمع بالتشديد ، وهو مطابق لعدده. وقيل (عَدَّدَهُ) جعله عدة لحوادث الدهر. وقرئ : وعدده أى جمع المال وضبط عدده وأحصاه. أو جمع ماله وقومه الذين ينصرونه ، من قولك : فلان ذو عدد وعدد : إذا كان له عدد وافر من الأنصار وما يصلحهم. وقيل (وَعَدَّدَهُ) معناه : وعدّه على فك الإدغام ، نحو : ضننوا (أَخْلَدَهُ) وخلده بمعنى ، أى طوّل المال أمله ، ومناه الأمانى البعيدة ، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أنّ المال تركه خالدا في الدنيا لا يموت. أو يعمل من تشييد البنيان الموثق بالصخر والآجر وغرس الأشجار وعمارة الأرض : عمل من يظن أن ماله أبقاه حيا. أو هو تعريض بالعمل الصالح. وأنه هو الذي أخلد صاحبه في النعيم ، فأما المال فما أخلد أحدا فيه. وروى أنه كان للأخنس أربعة آلاف دينار. وقيل : عشرة آلاف. وعن الحسن : أنه عاد موسرا

__________________

(١) قوله «أعراض الناس والغض منهم» في الصحاح : غض منه ، إذا وضعه ونقص من قدره. (ع)

(٢) قال محمود : «قال المراد بالهمزة المكثر من الطعن على الناس والقدح فيهم ... الخ» قال أحمد : وما أحسن مقابلة الهمزة اللمزة بالحطمة ، فانه لما وسمه بهذه السمة بصيغة أرشدت إلى أنها راسخة فيه ومتمكنة منه أتبع المبالغة بوعيده بالنار التي سماها بالحطمة لما يلقى فيها ، وسلك في تعيينها صيغة مبالغة على وزن الصيغة التي ضمنها الذنب ، حتى يحصل التعادل بين الذنب والجزاء ، فهذا الذي ضرى بالذنب جزاؤه هذه الحطمة التي هي ضارية بحطم كل ما يلقى إليها.

(٣) إذا لقيتك عن شحط تكاشرنى

وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة

لزياد الأعجم. والشحط ـ بالفتح : البعد. وكثر عن أسنانه : أبداها في الضحك وغيره ، لكن اشتهر في لسان العرب في الأول. والهمز : الكسر. واللمز : الطعن. روى أن أعرابيا سئل : أتهمز الفأرة؟ فقال : نعم تهمزها الهرة ، أى : تأكلها ، والهامز هنا : المغتاب الغياب ، الذي يملأ فمه بما يخرم عرض غيره. والهمزة : من اعتاد ذلك. واللامز : الرامي لغيره بالمسبة. واللمزة : من اعتاد ذلك. يقول : إذا لقيتك على بعد المسافة بيننا تضاحكنى ، وإذا غبت عنك كنت المغتاب المكثر من الطعن في عرضي. وروى : وإن أغيب فأنت الهامز ، على البناء للمجهول.

(٤) قوله «الذي يأتى بالأوابد» في الصحاح : جاء فلان بآبدة ، أى : بداهية يبقى ذكرها على الأبد. (ع)

٧٩٥

فقال : ما تقول في ألوف لم أفتد بها من لئيم ، ولا تفضلت على كريم؟ قال : ولكن لما ذا؟ قال : لنبوة الزمان ، وجفوة السلطان ، ونوائب الدهر ، ومخافة الفقر. قال : إذن تدعه لمن لا يحمدك ، وترد على من لا يعذرك (كَلَّا) ردع له عن حسبانه. وقرئ : لينبذان ، أى : هو وماله. ولينبذن ، بضم الذال ، أى : هو وأنصاره. ولينبذنه (فِي الْحُطَمَةِ) في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها. ويقال للرجل الأكول : إنه الحطمة. وقرئ : الحاطمة ، يعنى أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم ، وهي أوساط القلوب ، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد ، ولا أشد تألما منه بأدنى أذى يمسه ، فكيف إذا اطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه. ويجوز أن يخص الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة والنيات الخبيثة. ومعنى اطلاع النار عليها : أنها تعلوها وتغلبها وتشتمل عليها. أو تطالع على سبيل المجاز معادن موجبها (مُؤْصَدَةٌ) مطبقا. قال :

تحنّ إلى أجبال مكّة ناقتي

ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة (١)

وقرئ : في عمد ، بضمتين. وعمد ، بسكون الميم. وعمد. بفتحتين. والمعنى : أنه يؤكد يأسهم من الخروج وتيقنهم بحبس الأبد ، فتؤصد عليهم الأبواب وتمدد على الأبواب العمد ، استيثاقا في استيثاق. ويجوز أن يكون المعنى : أنها عليهم مؤصدة ، موثقين في عمد ممدّدة مثل المقاطر (٢) التي تقطر فيها اللصوص. اللهم أجرنا من النار يا خير مستجار.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزا بمحمد وأصحابه» (٣).

__________________

(١) يقول : تحنّ ناقتي شوقا إلى أجبال مكة ، جمع جبلي ، كأسباب وسبب ، لأنها وطنها ، والحال أن أبواب صنعاء مدينة من اليمن ، مؤصدة : أى مغلقة أمامها ، والمراد : تحزنه وتشوقه إلى وطنه ، ونسبه الناقة مبالغة.

(٢) قوله «مثل المقاطر التي تقطر فيها» في الصحاح «المقطرة» : الفلق» وهي خشبة فيها خروق تدخل فيما أرجل المحبوسين. (ع)

(٣) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.

٧٩٦

سورة الفيل

مكية ، وآياتها ٥ «نزلت بعد الكافرون»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)(٥)

روى أنّ أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس (١) ، وأراد أن يصرف إليها الحاج ، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلا (٢) ، فأغضبه ذلك. وقيل : أججت رفقة من العرب نارا فحملتها الريح فأحرقتها ، فحلف ليهدمنّ الكعبة فخرج بالحبشة ومعه فيل له اسمه محمود ، وكان قويا عظيما ، واثنا عشر فيلا غيره. وقيل : ثمانية. وقيل : كان معه ألف فيل ، وكان وحده ، فلما بلغ المغمس خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع ، فأبى وعبأ جيشه وقدّم الفيل ، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول ، فأرسل الله طيرا سودا. وقيل خضرا وقيل : بيضا. مع كل طائر حجر في منقاره ، وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه رأى منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفاري ، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره ، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ، ففروا فهلكوا في كل طريق ومنهل ، ودوى أبرهة (٣) فتساقطت أنامله وآرابه ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه. وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائره يحلق فوقه ، حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة ، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتا بين يديه. وقيل : كان أبرهة جدّ

__________________

(١) قوله «وسماها القليس» بالتشديد ، مثل القبيط : بيعة كانت بصنعاء للحبشة : بناها أبرهة ، وهدمها حمير ، كذا في الصحاح. (ع)

(٢) قوله «فقعد فيها ليلا» كناية عن التغوط. وفي الخازن فتغوط فيها ولطخ قبلتها بالعذرة. (ع)

(٣) قوله «ودوى أبرهة» أى مرض. وآرابه ، أى : أعضاؤه. (ع)

٧٩٧

النجاشي الذي كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة ، وقيل : بثلاث وعشرين سنة (١). وعن عائشة رضى الله عنها : رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان. وفيه أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير ، فخرج إليه فيها ، فجهره (٢) وكان رجلا جسيما وسيما. وقيل : هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال ، فلما ذكر حاجته قال : سقطت من عينى ، جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك وعصمتكم وشرفكم في قديم الدهر ، فألهاك عنه ذود أخذ لك ، فقال أنا رب الإبل ، وللبيت رب سيمنعه ، ثم رجع وأتى باب البيت فأخذ بحلقته وهو يقول :

لاهمّ إنّ المرء يمنع

أهله فامنع حلالك

لا يغلبنّ صليبهم

ومحالهم عدوا محالك

إن كنت تاركهم وكعبتنا

فأمر ما بدا لك (٣)

__________________

(١) قوله «بأربعين سنة ، وقيل بثلاث وعشرين» لعله وكان قبله بأربعين سنة. وفي الخازن : اختلفوا في عام الفيل ، فقيل : كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة اه. (ع)

(٢) قوله «فجهره» في القاموس «جهر الرجل» : عظم في عينه وراعه جماله ، كأجهره انتهى. (ع)

(٣) لاهم إن المرء يمنع

أهله فامنع حلالك

وانصر على آل الصليب

وعابديه اليوم آلك

لا يغلبن صليبهم

ومحالهم عدوا محالك

جروا جميع بلادهم

والفيل كى يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم

جهلا وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكعبتنا

فأمر ما بدا لك

لعبد المطلب حين أراد أبرهة بن الصباح هدم الكعبة وأغار على مائتي بعير له ، فخرج إليه عبد المطلب في طلب الإبل ، وقد قيل لأبرهة : إنه سيد قريش ، يطعم الناس في السهل ، والوحوش في رءوس الجبال ، فلما طلب الإبل قال له : سقطت من عيني ، جئت لأهدم ـ شرفكم فألهاك عنه طلب المال ، فقال : أنا رب الإبل ، وللبيت رب يحميه ، ثم رجع وأخذ بحلقة الباب وقال ذلك. ولاهم : أصله اللهم ، فخفف. إن المرء يمنع ، أى : يحفظ أهله ، وأنت الله فاحفظ حلالك ، أى : سكان حرمك الذين حلوا فيه. يقال : حى حلال ، أى : نزول ، وفيهم كثرة. أو الذين هم في حل منك. ويجوز على بعد أنه أطلق الحلال على البيت ، أو أهله على سبيل المشاكلة التقديرية للأهل ، على أن معناه الزوجة. وروى : إن المرء يمنع حله فامنع حلالك. والحل والحلال : ما يحل التصرف فيه. وروى : إن العبد يمنع وحله فامنع وحالك ، وهو يؤيد الأول. والآل لا يضاف إلا لذي شرف ، فاضافته للصليب ليشاكل ما بعده. أو على زعمهم أنه ذو شرف. وعابديه : جمع مضاف الضمير إضافة الوصف لمفعوله. واليوم : ظرف النصر. والمحال : مصدر ماحله إذا كايده يمكروه. والعدو : العدوان والظلم : وهو نصب على التمييز. أو على المفعول المطلق. ويروى : غدوا ، أى : في الغد ، فهو ظرف. ويروى : أبدا. ويروى : جموع ، بدل جميع ، وكان معهم اثنا عشر فيلا فيها فيل جسيم عظيم اسمه محمود ، فمراده بالفيل : الجنس ، أو المعهود. والعيال : مفرده ـ

٧٩٨

يا ربّ أرجو لهم سوا كا

يا ربّ فامنع منهم حما كا (١)

فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن فقال : والله إنها لطير غريبة ما هي ببحرية ولا تهامية (٢). وفيه : أنّ أهل مكة قد احتووا على أموالهم ، وجمع عبد المطلب من جواهرهم وذهبهم الجور (٣) ، وكان سبب يساره. وعن أبى سعيد الخدري رضى الله عنه أنه سئل عن الطير فقال : حمام مكة منها. وقيل جاءت عشية ثم صبحتهم. وعن عكرمة : من أصابته جدّرته وهو أوّل جدري ظهر. وقرئ : ألم تر ، بسكون الراء للجد في إظهار أثر الجازم : والمعنى : أنك رأيت آثار فعل الله بالحبشة ، وسمعت الأخبار به متواترة ، فقامت لك مقام المشاهدة. و (كَيْفَ) في موضع نصب بفعل ربك ، لا بألم تر ، لما في (كَيْفَ) من معنى الاستفهام (فِي تَضْلِيلٍ) في تضييع وإبطال. يقال : ضلل كيده ، إذا جعله ضالا ضائعا. ومنه قوله تعالى (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) وقيل لامرئ القيس : الملك الضليل ، لأنه ضلل ملك أبيه ، أى. ضيعه ، يعنى : أنهم كادوا البيت أوّلا ببناء القليس ، وأرادوا أن ينسخوا أمره بصرف وجوه الحاج إليه ، فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه ، وكادوه ثانيا بإرادة هدمه ، فضلل بإرسال الطير عليهم (أَبابِيلَ) حزائق ، الواحدة : إبالة. وفي أمثالهم : ضغث على إبالة ، وهي : الحزمة الكبيرة ، شبهت الحزقة من الطير في تضامّها بالإبالة. وقيل : أبابيل مثل عباديد ، وشماطيط لا واحد لها وقرأ أبو حنيفة رحمه الله ، يرميهم ، أى الله تعالى أو الطير ، لأنه اسم جمع مذكر ، وإنما يؤنث على المعنى. وسجيل : كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار ، كما أن سجينا علم لديوان أعمالهم ، كأنه قيل : بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدوّن ، واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال ، لأنّ العذاب موصوف بذلك ، وأرسل عليهم طيرا ، فأرسلنا عليهم

__________________

ـ عيل ، وجمعه عيائل ، كجيد وجياد وجيائد ، من قوله وتتعهد شأنه عمدوا : قصدوا ، حماك ، أى : حرمك الذي حميته لجهلهم. أو جاهلين وما خافوا عظمتك ، إن كنت تاركهم مع كعبتنا يفعلون بها ما شاءوا فأمر عظيم ظهر لك منا الآن من معاصينا. أو أمر تعلمه أنت ولا نعلمه من الحكمة والمصلحة. وفيه تفويض إلى الله وتسليم إليه.

(١) يا رب لا أرجو لهم سوا كا

يا رب فامنع منهم حماكا

إن عدو البيت من عادا كا

امنعهم أن يخربوا فنا كا

لعبد المطلب أيضا ، أى : لا أرجو لمنع الأعداء عنا غيرك ، وألف القوافي للإطلاق ، وتكرير النداء للاستعطاف. والعدو : يطلق على الواحد والمتعدد ، أى : من كان عدوا لأهل بيتك فهو المعادى لك البالغ في العداوة. والفناء : رحبة البيت. وروى بدله «قرا كا» جمع قرية ، وبده المصراع الثاني بألف الوصل جائز ، لأنه محل ابتداء في الجملة ، كما نبه عليه الخليل.

(٢) قوله «ما هي ببحرية ولا تهامية» ببحرية : في أبى السعود : بنجدية. (ع)

(٣) قوله «وذهبهم الجور» لعله الجرب : جمع جراب ، مثل : كتب ، جمع كتاب. (ع)

٧٩٩

الطوفان. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : من طين مطبوخ كما يطبخ الآجر. وقيل : هو معرب من سنككل. وقيل : من شديد عذابه ، ورووا بيت ابن مقبل :

ضربا تواصت به الأبطال سجّيلا (١)

وإنما هو سجينا ، والقصيدة نونية مشهورة في ديوانه ، وشبهوا بورق الزرع إذا أكل ، أى : وقع فيه الأكال : وهو أن يأكله الدود. أو بتبن أكلته الدواب وراثته ، ولكنه جاء على ما عليه آداب القرآن ، كقوله (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) أو أريد : أكل حبه فبقى صفرا منه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الفيل أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ (٢)».

سورة قريش

مكية ، وآياتها ٤ «نزلت بعد التين»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)(٤)

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) متعلق بقوله (فَلْيَعْبُدُوا) أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين فإن قلت : فلم دخلت الفاء؟ قلت : لما في الكلام من معنى الشرط لأن المعنى : إما لا فليعبدوه لإيلافهم ،

__________________

(١) ورجلة يضربون البيض عن عرج

. ضربا تواصت به الأبطال سجيلا

لابن مقبل. والرجلة : جماعة الرجال. والبيض ـ بالكسر ـ : كناية عن السيوف ، أى : يضربون بها ، وإن قرئ بالفتح فهي المغافر على رؤس الفرسان. والعرج : الميل والاعوجاج. ويروى : عن عرض ، ولعله تحريف. والمراد : اختلاف أحوال الضرب. والبطل : لشجاع. والسجيل : الشديد ، ولكن الرواية بالنون ، لأن القصيدة نونية ، وسنذكر بعضها في أواخر حرف النون.

(٢) أخرجه ابن مردويه والثعلبي والواحدي بالسند إلى أبى بن كعب.

٨٠٠