الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

أكبر ، وسبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله ، هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير» (١) وتأويله على هذا ، أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد ، وهي مفاتيح خير السماوات والأرض : من تكلم بها من المتقين أصابه ، والذين كفروا بآيات الله وكلمات توحيده وتمجيده ، أولئك هم الخاسرون.

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ)(٦٤)

(أَفَغَيْرَ اللهِ) منصوب بأعبد. و (تَأْمُرُونِّي) اعتراض. ومعناه ، أفغير الله أعبد بأمركم ، وذلك حين قال له المشركون : استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك. أو ينصب بما يدل عليه جملة قوله (تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) لأنه في معنى تعبدوننى وتقولون لي : اعبد ، والأصل : تأمروننى أن أعبد ، فحذف «أن» ورفع الفعل ، كما في قوله :

ألا أيهذا الزّاجرى أحضر الوغى (٢)

ألا تراك تقول : أفغير الله تقولون لي اعبده ، وأ فغير الله تقولون لي أعبد ، فكذلك أفغير الله تأمروننى أن أعبده. وأ فغير الله تأمروننى أن أعبد ، والدليل على صحة هذا الوجه : قراءة من قرأ (أَعْبُدُ) بالنصب. وقرئ : تأمروننى ، على الأصل. وتأمرونى ، على إدغام النون أو حذفها.

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(٦٦)

قرئ : ليحبطنّ عملك ، وليحبطنّ : على البناء للمفعول. ولنحبطنّ ، بالنون والياء ، أى : ليحبطنّ الله. أو الشرك. فإن قلت : الموحى إليهم جماعة ، فكيف قال (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) على التوحيد؟ قلت : معناه أوحى إليك لئن أشركت ليحبطنّ عملك ، وإلى الذين من قبلك مثله ، أو أوحى إليك وإلى كل واحد منهم : لئن أشركت كما تقول كسانا حلة ، أى : كل واحد منا : فإن قلت : ما الفرق بين اللامين؟ قلت : الأولى موطئة للقسم المحذوف ، والثانية لام الجواب ، وهذا الجواب سادّ مسدّ الجوابين ، أعنى : جوابي القسم والشرط. فإن قلت : كيف صح هذا

__________________

(١) أخرجه أبو يعلى وابن أبى حاتم والعقيلي والبيهقي في الأسماء والطبراني في الدعاء كلهم من رواية أغلب بنى تميم حدثنا مخلد أبو الهذيل عن عبد الرحيم. وعبد الرحمن بن عدى عن عبد الله بن عمر به ، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات من هذا الوجه. وله وجه آخر عند ابن مردويه. من طريق كلب بن وائل عن عمر ورواه ابن مردويه عن الطبراني بإسناد آخر إلى ابن عباس «أن عثمان ـ فذكره» وفيه سلام بن وهب الجندي عن أبيه ولا أعرفهما.

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ١٥٩ فراجعه إن شئت اه مصححه.

١٤١

الكلام مع علم الله تعالى أنّ رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؟ قلت : هو على سبيل الفرض ، والمحالات يصح فرضها لأغراض ، فكيف بما ليس بمحال. ألا ترى إلى قوله (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) يعنى على سبيل الإلجاء ، ولن يكون ذلك لامتناع الداعي إليه ووجود الصارف عنه. فإن قلت : ما معنى قوله (وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)؟ قلت : يحتمل ولتكونن من الخاسرين بسبب حبوط العمل. ويحتمل : ولتكونن في الآخرة من جملة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم إن مت على الردة. ويجوز أن يكون غضب الله على الرسول أشدّ ، فلا يمهله بعد الردة : ألا ترى إلى قوله تعالى (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) ، (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم ، كأنه قال : لا تعبد ما أمروك بعبادته ، بل إن كنت عاقلا فاعبد الله ، فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا منه (١) (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) على ما أنعم به عليك ، من أن جعلك سيد ولد آدم. وجوّز الفراء نصبه بفعل مضمر هذا معطوف عليه ، تقديره : بل الله أعبد فاعبد.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٦٧)

لما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حق تقديره عظمه حق تعظيمه قيل (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وقرئ بالتشديد على معنى : وما عظموه كنه تعظيمه ، ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريقة التخييل فقال (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير ، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين (٢)

__________________

(١) قال محمود : «أصل الكلام : إن كنت عابدا فاعبد الله ، فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا منه.

اه كلامه» قال أحمد : مقتضى كلام سيبويه في أمثال هذه الآية : أن الأصل فيه فاعبد الله ، ثم حذفوا الفعل الأول اختصارا ، فلما وقعت الفاء أولا استنكروا الابتداء بها ، ومن شأنها التوسط بين المعطوف والمعطوف عليه ، فقدموا المفعول وصارت متوسطة لفظا ودالة على أن ثم محذوفا اقتضى وجودها ، ولتعطف عليه ما بعدها وينضاف إلى هذه الغاية في التقديم فائدة الحصر ، كما تقدم من إشعار التقديم بالاختصاص.

(٢) قال محمود : «الغرض من هذا الكلام تصوير عظمته تعالى والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز ، وكذلك حكم ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن حبرا جاء إليه فقال : يا أبا القاسم ، إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع وسائر الخلق على أصبع ، ثم يهزهن فيقول : أنا الملك ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعجب مما قال الحبر ثم قرأ هذه الآية تصديقا له ، فإنما ضحك أفصح العرب لأنه لم يفهم منه إلا ما فهمه علماء البيان من غير تصوير إمساك ولا هز ولا شيء من ذلك ، ولكن فهمه وقع أول شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي ـ

١٤٢

إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز ، وكذلك حكم ما يروى أن جبريل (١) جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا أبا القاسم ، إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع وسائر الخلق على أصبع ، ثم يهزهنّ فيقول أنا الملك (٢) فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال ثم قرأ تصديقا له (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...) الآية وإنما ضحك أفصح العرب صلى الله عليه وسلم وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصوّر إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من ذلك ، ولكن فهمه وقع أوّل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة ، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأفهام والأذهان ولا تكتنهها الأوهام هينة عليه هوانا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه ، إلا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل ، ولا ترى بابا في علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب ، ولا أنفع وأعون على تعاطى تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء ، فإنّ أكثره وعليته (٣) تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديما ، وما أتى الزالون (٤) إلا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير ، حتى يعلموا أن في عداد العلوم الدقيقة علما لو قدروه حق قدره ، لما خفى عليهم أنّ العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه ، إذ لا يحل عقدها الموربة ولا يفك قيودها المكربة إلا هو ، وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول ، قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة (٥) والوجوه الرثة ، لأنّ من تأول ليس من هذا العلم في عير ولا نفير ، ولا يعرف قبيلا منه من دبير (٦). والمراد بالأرض : الأرضون السبع ، يشهد لذلك شاهدان : قوله (جَمِيعاً) وقوله

__________________

ـ هي الدلالة على القدرة الباهرة التي لا يوصل السامع إلى الوقوف عليها إلا إجراء العبارة على مثل هذه الطريقة من التخييل ، ثم قال : وأكثر كلام الأنبياء والكتب السماوية وعليتها تخييل قد زلت فيه الأقدام قديما. اه كلامه» قال أحمد : إنما عنى بما أجراه هاهنا من لفظ التخييل التمثيل ، وإنما العبارة موهمة منكرة في هذا المقام لا تليق به بوجه من الوجوه ، والله أعلم.

(١) قوله «أن جبريل جاء إلى رسول الله» قيل : الصواب أنه حبر من أحبار اليهود لا جبريل. ويدل عليه ما في البخاري ومسلم والترمذي ، كذا بهامش. ويؤيده أن «يا أبا القاسم» عادة اليهود في ندائه صلى الله عليه وسلم. (ع)

(٢) متفق عليه من حديث ابن مسعود. «تنبيه» وقع عنده أن جبريل وهو تصحيف. والذي في الصحيح «جاء حبر من اليهود» وفي رواية «أن يهوديا» وفي رواية «أن رجلا من أهل الكتاب».

(٣) قوله «وعليته» أى معظمه. (ع)

(٤) قوله «وما أتى الزالون» أى أجيبوا (ع)

(٥) قوله «بالتأويلات الغثة» في الصحاح «الغث» نبت يختبز حبه ويؤكل في الجوع ، وتكون خبزته غليظة شبيهة يخبز الملة. (ع)

(٦) قوله «قبيلا منه من دبير» في الصحاح «القبيل» : ما تقبل به المرأة من غزلها حين تفتله. وفيه «الدبير»: ما تدبره به المرأة من غزلها حين تفتله. ومنه قيل : فلان ما يعرف قبيلا من دبير. (ع)

١٤٣

(وَالسَّماواتُ) ولأنّ الموضع موضع تفخيم وتعظيم ، فهو مقتض للمبالغة ، ومع القصد إلى الجمع وتأكيده بالجميع أتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء الخبر ، ليعلم أوّل الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة ، ولكن عن الأراضى كلهن. والقبضة : المرة من القبض (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) والقبضة ـ بالضم ـ : المقدار المقبوض بالكف ، ويقال أيضا : أعطنى قبضة من كذا : تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر ، كما روى : (١) أنه نهى عن خطفة السبع ، (٢) وكلا المعنيين محتمل. والمعنى : والأرضون جميعا قبضته ، أى : ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة ، يعنى أنّ الأرضين مع عظمهن وبسطتهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته ، كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة ، كما تقول : الجزور أكلة لقمان ، والقلة جرعته ، أى : ذات أكلته وذات جرعته ، تريد : أنهما لا يفيان إلا بأكلة فذة من أكلاته ، وجرعة فردة من جرعاته. وإذا أريد معنى القبضة فظاهر ، لأن المعنى : أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة. فإن قلت. ما وجه قراءة من قرأ (قَبْضَتُهُ) بالنصب؟ قلت : جعلها ظرفا مشبها للمؤقت بالمبهم : (مَطْوِيَّاتٌ) من الطى الذي هو ضدّ النشر ، كما قال تعالى (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) وعادة طاوى السجل أن يطويه بيمينه. وقيل : قبضته : ملكه بلا مدافع ولا منازع ، وبيمينه : بقدرته. وقيل : مطويات بيمينه مفنيات بقسمه ، لأنه أقسم أن يفنيها ، ومن اشتم رائحة من علمنا هذا فليعرض عليه هذا التأويل ليتلهى بالتعجب منه ومن قائله ، ثم يبكى حمية لكلام الله المعجز بفصاحته ، وما منى (٣) به من أمثاله ، وأثقل منه على الروح ، وأصدع للكبد تدوين العلماء قوله ، واستحسانهم له ، وحكايته على فروع المنابر ، واستجلاب الاهتزاز به من السامعين. وقرئ : مطويات على نظم السماوات في حكم الأرض ، ودخولها تحت القبضة ، ونصب مطويات على الحال (سُبْحانَهُ وَتَعالى) ما أبعد من هذه قدرته وعظمته ، وما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)(٦٨)

__________________

(١) لم أجده هكذا. وروى أحمد وإسحاق وأبو يعلى من رواية سهل عن عبد الله بن يزيد عن شيخ لقيه سعيد ابن المسيب أنه سمع أبا الدرداء يقول «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل خطفة ونهبة والمجثمة وكل ذى ناب من السباع» ورواه أبو يعلى من رواية الإفريقي ورواه الدارمي والطبراني والنسائي في الكنى من رواية أبى أوس عن الزهري عن أبى إدريس عن أبى ثعلبة ، بلفظ «نهي عن الخطفة والمجثمة والنهبة ، وكل ذى ناب من السباع».

(٢) قوله «نهى عن خطفة السبع» أى : والمراد مخطوفه. (ع)

(٣) قوله «وما منى به» أى ابتلى. (ع)

١٤٤

فإن قلت : (أُخْرى) ما محلها من الإعراب؟ قلت : يحتمل الرفع والنصب : أما الرفع فعلى قوله (فَإِذا نُفِخَ) (١) (فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) وأما النصب فعلى قراءة من قرأ (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) والمعنى : ونفخ في الصور نفخة واحدة ، ثم نفخ فيه أخرى. وإنما حذفت لدلالة أخرى عليها ، ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان. وقرئ : قياما ينظرون : يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب. وقيل : ينظرون ما ذا يفعل بهم. ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجمود في مكان لتحيرهم.

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ)(٧٠)

قد استعار الله عز وجل النور للحق والقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل ، وهذا من ذاك. والمعنى (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ) بما يقيمه فيها من الحق والعدل ، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات ، وينادى عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه ، لأنه هو الحق العدل. وإضافة اسمه إلى الأرض ، لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله ، وينصب فيها موازين قسطه ، ويحكم بالحق بين أهلها ، ولا ترى أزين للبقاع من العدل ، ولا أعمر لها منه. وفي هذه الإضافة أن ربها وخالقها هو الذي يعدل فيها ، وإنما يجوز فيها غير ربها ، ثم ما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق وهو النور المذكور. وترى الناس يقولون للملك العادل : أشرقت الآفاق بعدلك ، وأضاءت الدنيا بقسطك ، كما تقول : أظلمت البلاد بجور فلان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الظلم ظلمات يوم القيامة» (٢) وكما فتح الآية بإثبات العدل ، ختمها بنفي الظلم. وقرئ : وأشرقت على البناء للمفعول ، من شرقت بالضوء تشرق : إذا امتلأت به واغتصت. وأشرقها الله ، كما تقول : ملأ الأرض عدلا وطبقها عدلا. و (الْكِتابُ) صحائف الأعمال ، ولكنه اكتفى باسم الجنس ، وقيل : اللوح المحفوظ (الشُّهَداءِ) الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخيار. وقيل : المستشهدون في سبيل الله

__________________

(١) قوله «أما الرفع فعلى قوله فإذا نفخ» أى في الحافة. وقوله «من قرأ» أى : هناك. وقوله «حذفت» أى هنا. (ع)

(٢) متفق عليه من حديث ابن عمر. ولمسلم عن جابر والنسائي وأبى داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص

١٤٥

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)(٧٢)

الزمر : الأفواج المتفرقة بعضها في أثر بعض ، وقد تزمروا (١) : قال :

حتّي احزألّت زمر بعد زمر (٢)

وقيل في زمر الذين اتقوا : هي الطبقات المختلفة : الشهداء ، والزهاد ، والعلماء ، والقرّاء وغيرهم وقرئ : نذر منكم. فإن قلت : لم أضيف إليهم اليوم؟ قلت : أرادوا لقاء وقتكم هذا ، وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة. وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضا في أوقات الشدّة (قالُوا بَلى) أتونا وتلوا علينا ، ولكن وجبت علينا كلمة الله لأملأنّ جهنم ، لسوء أعمالنا ، كما قالوا : غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين. فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب وهو الكفر والضلال. واللام في المتكبرين للجنس ، لأنّ (مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) فاعل بئس ، وبئس فاعلها : اسم معرف بلام الجنس. أو مضاف إلى مثله ، والمخصوص بالذم محذوف ، تقديره : فبئس مثوى المتكبرين جهنم.

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)(٧٤)

__________________

(١) قوله «وقد تزمروا» وفي نسخة أخرى : تزامروا. وفي الصحاح : احزألت الإبل في السير : ارتفعت. (ع)

(٢) إن العفاة بالسيوب قد غمر

حتى احزألت زمر بعد زمر

«السيوب» في الأصل : السيول ، استعيرت للعطايا الكثيرة على طريق التصريحية. والغمر : ترشيح ، أى : أن طلاب الرزق قد عمهم الممدوح بالعطايا. واحزألت : ارتفعت سائرة من عنده «زمر» : أى أفواج بعد أفواج. ويروى : زمرا ، على الحال ، أى : احزألت العفاة حال كونها أفواجا متتابعة. وعلى الأول ففيه إظهار في موضع الإضمار ، دلالة على التكثير.

١٤٦

(حَتَّى) هي التي تحكى بعدها الجمل والجملة المحكية بعدها هي الشرطية ، إلا أنّ جزاءها محذوف ، وإنما حذف لأنه صفة ثواب أهل الجنة ، فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف ، وحق موقعه ما بعد خالدين. وقيل : حتى إذا جاؤها ، جاؤها وفتحت أبوابها ، أى مع فتح أبوابها. وقيل : أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها. وأما أبواب الجنة فمتقدّم فتحها ، بدليل قوله (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) فلذلك جيء بالواو ، كأنه قيل : حتى إذا جاؤها وقد فتحت أبوابها. فإن قلت : كيف عبر عن الذهاب بالفريقين جميعا بلفظ السوق؟ قلت : المراد بسوق أهل النار : طردهم إليها بالهوان والعنف ، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل. والمراد بسوق أهل الجنة : سوق مراكبهم ، لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين ، وحثها إسراعا بهم إلى دار الكرامة والرضوان ، كما يفعل بمن يشرف ويكرّم من الوافدين على بعض الملوك ، فشتان ما بين السوقين (طِبْتُمْ) من دنس المعاصي ، وطهرتم من خبث الخطايا (فَادْخُلُوها) جعل دخول الجنة مسببا عن الطيب والطهارة ، فما هي إلا دار الطيبين ومثوى الطاهرين ، لأنها دار طهرها الله من كل دنس ، وطيبها من كل قذر ، فلا يدخلها إلا مناسب لها موصوف بصفتها ، فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة ، وما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة ، إلا أن يهب لنا الوهاب الكريم توبة نصوحا ، تنقى أنفسنا من درن الذنوب ، وتميط وضر هذه القلوب (خالِدِينَ) مقدرين الخلود (الْأَرْضَ) عبارة عن المكان الذي أقاموا فيه واتخذوه مقرا ومتبوّأ ، وقد أورثوها : أى ملكوها وجعلوا ملوكها ، وأطلق تصرفهم فيها كما يشاؤن ، تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه واتساعه فيه ، وذهابه في إنفاقه طولا وعرضا. فإن قلت : ما معنى قوله (حَيْثُ نَشاءُ) وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟ قلت : يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة ، فيتبوأ من جنته حيث يشاء ولا يحتاج إلى جنة غيره.

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٧٥)

(حَافِّينَ) محدقين من حوله (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) يقولون : سبحان الله والحمد لله ، متلذذين لا متعبدين. فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله (بَيْنَهُمْ)؟ قلت : يجوز أن يرجع إلى العباد كلهم ، وأن إدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة لا يكون إلا قضاء بينهم بالحق والعدل ، وأن يرجع إلى الملائكة ، على أن ثوابهم ـ وإن كانوا معصومين جميعا ـ لا يكون على سنن واحد ، ولكن يفاضل بين مراتبهم على حسب تفاضلهم في أعمالهم ، فهو القضاء بينهم بالحق. فإن قلت :

١٤٧

قوله (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ) من القائل ذلك؟ قلت : المقضى بينهم إما جميع العباد وإما الملائكة ، كأنه قيل : وقضى بينهم بالحق ، وقالوا الحمد لله على قضائه بيننا بالحق ، وإنزال كل منا منزلته التي هي حقه. عن عائشة رضى الله عنها : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ كل ليلة بنى إسرائيل والزمر (١)

سورة المؤمن

مكية. قال الحسن : إلا قوله وسبح بحمد ربك ، لأن الصلوات نزلت بالمدينة وقد قيل في الحواميم كلها : أنها مكيات : عن ابن عباس وابن الحنفية وهي خمس وثمانون آية ، وقيل ثنتان وثمانون [نزلت بعد الزمر]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(٣)

قرئ بإمالة ألف «حا» وتفخيمها ، وبتسكين الميم وفتحها. ووجه الفتح : التحريك لالتقاء الساكنين ، وإيثار أخف الحركات ، نحو أين وكيف أو النصب بإضمار اقرأ ومنع الصرف للتأنيث والتعريف أو للتعريف وأنها على زنة أعجمى نحو قابيل وهابيل. التوب والثوب والأوب : أخوات في معنى الرجوع والطول والفضل والزياد. يقال : لفلان على فلان طول ، والإفضال. يقال : طال عليه وتطوّل ، إذا تفضل. فإن قلت : كيف اختلفت هذه الصفات تعريفا وتنكيرا ، والموصوف معرفة يقتضى أن يكون مثله معارف؟ قلت : أمّا غافر الذنب وقابل التوب فمعرفتان ، لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين ، وأنه يغفر الذنب ويقبل التوب الآن. أو غدا حتى يكونا في

__________________

(١) أخرجه النسائي من رواية حماد بن زيد عن أبى أمامة عن عائشة في أثناء حديث ، وأخرجه أحمد وإسحاق وأبو يعلى والترمذي والحاكم والبيهقي في الشعب في التاسع عشر من هذا الوجه.

١٤٨

تقدير الانفصال ، فتكون إضافتهما غير حقيقية ، وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه ، فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش. وأما شديد العقاب فأمره مشكل ، لأنه في تقدير : شديد عقابه لا ينفك من هذا التقدير ، وقد جعله الزجاج بدلا. وفي كونه بدلا وحده بين الصفات نبوّ ظاهر. والوجه أن يقال : لما صودف بين هؤلاء المعارف هذه النكرة الواحدة ، فقد آذنت بأنّ كلها أبدال غير أوصاف ، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن ، فهي محكوم عليها بأنها من بحر الرجز ، فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل (١) ولقائل أن يقول : هي صفات ، وإنما حذف الألف واللام من شديد العقاب ليزاوج ما قبله وما بعده لفظا ، فقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج ، حتى قالوا : ما يعرف سحادليه من عنادليه ، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع ، على أنّ الخليل قال في قولهم ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك ، وما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل أنه على نية الألف واللام كما كان الجماء الغفير على نية طرح الألف واللام ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف. ويجوز أن يقال : قد تعمد تنكيره ، وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار. ويجوز أن يقال : هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال. فإن قلت : ما بال الواو في قوله (وَقابِلِ التَّوْبِ)؟ قلت : فيها نكتة جليلة ، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين : بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات. وأن يجعلها محاءة للذنوب ، كأن لم يذنب ، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول. وروى أنّ عمر رضى الله عنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام ، فقيل له : تتابع في هذا الشراب ، فقال عمر لكاتبه : اكتب ، من عمر إلى فلان : سلام عليك ، وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو : بسم الله الرحمن الرحيم : حم إلى قوله إليه المصير. وختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة. فلما أتته الصحيفة

__________________

(١) قال محمود : «فان قلت لما اختلفت هذه الصفات تعريفا وتنكيرا والموصوف معرفة يقتضى أن يكون مثله معارف؟ وأجاب بأن غافر الذنب وقابل التوب معرفان ، لأنهما صفتان لازمتان ، وليستا لحدوث الفعل حتى يكونا حالا أو استقبالا ، بل إضافتهما حقيقة. وأما شديد العقاب فلا شك في أن إضافته غير حقيقية ، يريد : لأنه من الصفات المشبهة ، ولا تكون إضافتها محضة أبدا. عاد كلامه قال : وجعله الزجاج بدلا وحده ، وانفراد البدل من بين الصفات فيه نبو ظاهر. والوجه أن يقال : إن جميعها أبدال غير أوصاف ، لوقوع هذه النكرة التي لا يصح أن تكون صفة كما لو جاءت قصيدة تفاعيلها كلها على مستفعل ، قضى عليها بأنها من بحر الرجز ، فان وقع فيها جزء واحد على متفاعلن : كانت من الكامل» قال أحمد : وهذا لأن دخول مستفعلن في الكامل يمكن ، لأن متفاعلن يصير بالاضمار إلى مستفعلن ، وليس وقوع متفاعلن في الرجز ممكنا ، إذ لا يصبر إليه مستفعلن البتة ، فما يفضى إلى الجمع بينهما فانه يتعين ، وهذا كما يقضى الفقهاء بالخاص على العام لأنه الطريق في الجمع بين الدليلين.

١٤٩

جعل يقرؤها ويقول : قد وعدني الله أن يغفر لي ، وحذرني عقابه ، فلم يبرح يردّدها حتى بكى ، ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته ، فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا ، إذا رأيتم أخاكم قد زلّ زلة فسدّدوه ووقفوه ، وادعوا له الله أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه (١).

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ)(٤)

سجل على المجادلين في آيات الله بالكفر : والمراد : الجدال بالباطل ، من الطعن فيها ، والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله ، وقد دلّ على ذلك (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ، ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها ورد أهل الزيغ بها وعنها ، فأعظم جهاد في سبيل الله ، وقوله صلى الله عليه وسلم : «إنّ جدالا في القرآن كفر» (٢) وإيراده منكرا ، وإن لم يقل : إنّ الجدال ، تمييز منه بين جدال وجدال. فإن قلت : من أين تسبب لقوله (فَلا يَغْرُرْكَ) ما قبله؟ قلت : من حيث إنهم لما كانوا مشهودا عليهم من قبل الله بالكفر ، والكافر لا أحد أشقى منه عند الله : وجب على من تحقق ذلك أن لا نرجح أحوالهم في عينه ، ولا يغره إقبالهم في دنياهم وتقلبهم في البلاد بالتجارات النافقة والمكاسب المربحة ، وكانت قريش كذلك يتقلبون في بلاد الشام واليمن ، ولهم الأموال يتجرون فيها ويتربحون ، فانّ مصير ذلك وعاقبته إلى الزوال ، ووراءه شقاوة الأبد. ثم ضرب لتكذيبهم وعداوتهم للرسل وجدالهم بالباطل وما ادّخر لهم من سوء العاقبة مثلا : ما كان من نحو ذلك من الأمم ، وما أخذهم به من عقابه وأحله بساحتهم من انتقامه. وقرئ : فلا يغرّك.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ)(٥)

(الْأَحْزابُ) الذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم وهم عاد وثمود وفرعون وغيرهم (وَهَمَّتْ

__________________

(١) أخرجه أبو نعيم في ترجمة يزيد الأصم من روآية كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن يزيد الأصم «أن رجلا كان ذا بأس ـ فذكره بتمامه» ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن كثير بن هشام باختصار. وكذا ابن أبى حاتم والثعلبي.

(٢) أخرجه الطيالسي. ومن طريقه البيهقي في الشعب في التاسع عشر من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما بلفظ «لا تجادلوا في القرآن فان جدالا فيه كفر» وفي الباب عن أبى هريرة بلفظ «مراه في القرآن كفر» في الصحيح والسنن

١٥٠

كُلُّ أُمَّةٍ) من هذه الأمم التي هي قوم نوح والأحزاب (بِرَسُولِهِمْ) وقرئ برسولها (لِيَأْخُذُوهُ) ليتمكنوا منه ، ومن الإيقاع به وإصابته بما أرادوا من تعذيب أو قتل. ويقال للأسير : أخيذ (فَأَخَذْتُهُمْ) يعنى أنهم قصدوا أخذه ، فجعلت جزاءهم على إرادة أخذه أن أخذتهم (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) فإنكم تمرون على بلادهم ومساكنهم فتعاينون أثر ذلك. وهذا تقرير فيه معنى التعجيب

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ)(٦)

(أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) في محل الرفع بدل من (كَلِمَةُ رَبِّكَ) أى مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار. ومعناه : كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل ، كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة ، أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل. والذين كفروا : قريش ، ومعناه. كما وجب إهلاك أولئك الأمم ، كذلك وجب إهلاك هؤلاء ، لأن علة واحدة تجمعهم أنهم من أصحاب النار. قرئ: كلمات.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٩)

روى أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة» (١) فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل : زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى ، وقد مرق رأسه من سبع سماوات ، وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع (٢). وفي الحديث : إن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا

__________________

(١) أخرجه الثعلبي. وروى شهر بن حوشب : أن ابن عباس رفعه بهذا تعليقا ، وهو في كتاب العظمة لأبى الفتح.

(٢) قوله «كأنه الوصع» طائر أصغر من العصفور. (ع)

١٥١

ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة (١). وقيل : خلق الله العرش من جوهرة خضراء ، وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام. وقيل حول العرش سبعون ألف صنف من الملائكة ، يطوفون به مهللين مكبرين ، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام ، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ، ومن ورائهم مائه ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ، ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وقرأ ابن عباس : العرش بضم العين. فإن قلت : ما فائدة قوله (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ولا يخفى على أحد أنّ حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمد ربهم مؤمنون؟ (٢) قلت : فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله ، والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك ، وكما عقب أعمال الخير بقوله تعالى (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) فأبان بذلك فضل الإيمان. وفائدة أخرى : وهي التنبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة (٣) ، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين ، ولما وصفوا بالإيمان ، لأنه إنما يوصف بالإيمان : الغائب ، فلما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم ، علم أنّ إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء : في أنّ إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير ، إلا هذا ، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا ، وأنه منزه عن صفات الأجرام. وقد روعي التناسب في قوله (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) كأنه قيل : ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم. وفيه تنبيه على أنّ الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة ، وأبعثه على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن. فإنه

__________________

(١) لم أجده.

(٢) قال محمود : «إن قلت. ما قائدة قوله (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة مؤمنون بالله تعالى ... الخ» قال أحمد : كلام حسن إلا استدلاله بقوله (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) على أنهم ليسوا مشاهدين ، فهذا لا يدل ، لأن الايمان هو التصديق غير مشروط فيه غيبة المصدق به ، بدليل صحة إطلاق الايمان بالآيات مع أنها مشاهدة ، كانشقاق القمر وقلب العصاحية. وإنما نقب الزمخشري بهذا التكلف عما في قلبه من مرض ، لكنه طاح بعيدا عن الغرض ، فقرر أن حملة العرش غير مشاهدين ، بدليل قوله تعالى (وَيُؤْمِنُونَ) لأن معنى الايمان عنده التصديق بالغائب. ثم يأخذ من كونهم غير مشاهدين : أن الباري عز وجل لو صحت رؤيته لرأوه ، فحيث لم يروه لزم أن تكون رؤيته تعالى مما لا يصححه العقل ، وقد أبطلنا ما ادعاه من أن الايمان مستلزم عدم الرؤية ، ولو سلمناه فلا نسلم أنه يلزم من كون حملة العرش غير مشاهدين له تعالى أن تكون رؤيته غير صحيحة ، وقوله : ولو كانت صحيحة لرأوه : شرطية عقيمة الانتاج ، لأن الرؤية عبارة عن إدراك : يخلق الله تعالى هذا الإدراك لحملة العرش ، إلا أن يذهب بالزمخشرى الوهم إلى أن مصححى الرؤية يعتقدون الجسمية والاستقرار على العرش ، فيلزمهم رؤية حملة العرش له تعالى الله عن ذلك ، وحاشى أهل السنة ومصححى الرؤية من ذلك.

(٣) قوله «كما تقول المجسمة» يريد أهل السنة ، لأنهم لما جوزوا رؤيته تعالى معاينة : لزمهم القول بأنه تعالى جسم ، ولكن الرؤية لا تستلزم الجسمية ، خلافا للمعتزلة ، كما بين في علم التوحيد. (ع)

١٥٢

لا تجانس بين ملك وإنسان ، ولا بين سماوي وأرضى قط ، ثم لما جاء جامع الإيمان جاء معه التجانس الكلى والتناسب الحقيقي ، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض. قال الله تعالى (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ). أى يقولون (رَبَّنا) وهذا المضمر يحتمل أن يكون بيانا ليستغفرون مرفوع المحل مثله ، وأن يكون حالا. فإن قلت : تعالى الله عن المكان ، فكيف صحّ أن يقال : وسع كل شيء؟ قلت : الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى. والأصل : وسع كل شيء رحمتك وعلمك ، ولكن أزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم ، وأخرجا منصوبين على التمييز للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم ، كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء. فإن قلت : قد ذكر الرحمة والعلم فوجب أن يكون ما بعد الفاء مشتملا على حديثهما جميعا ، وما ذكر إلا الغفران وحده؟ قلت : معناه فاغفر للذين علمت منهم التسوية واتباع سبيلك (١). وسبيل الله : سبيل الحق التي نهجها (٢) لعباده ودعا إليها (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أى الملك الذي لا يغلب : وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئا إلا بداعي الحكمة وموجب حكمتك أن تفي بوعدك (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أى العقوبات. أو جزاء السيئات. فحذف المضاف على أن السيئات هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها. والوقاية منها : التكفير أو قبول التوبة : فإن قلت : ما الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون موعودون المغفرة والله لا يخلف الميعاد؟ قلت : هذا بمنزلة الشفاعة ، وفائدته زيادة الكرامة والثواب. وقرئ : جنة عدن. وصلح ، بضم اللام ، والفتح أفصح. يقال : صلح فهو صالح ، وصلح فهو صليح ، وذريتهم.

__________________

(١) قال محمود : «فان قلت قد ذكر أولا الرحمة والعلم ، ثم ذكر ما توجبه الرحمة وهو الغفران ، فأين موجب العلم؟ وأجاب بأن معناه فاغفر للذين علمت منهم التوبة واتباع سبيلك ... الخ» قال أحمد : كلامه هاهنا محشو بأنواع الاعتزال : منها اعتقاد وجوب مراعاة المصلحة ودواعي الحكم على الله تعالى. ومنها اعتقاد أن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر وجوبا وإن لم يكن توبة. ومنها اعتقاد امتناع غفران الله تعالى للكبائر التي لم يتب عنها. ومنها اعتقاد وجوب قبول التوبة على الله تعالى. ومنها جحد الشفاعة ، واعتقاد أهل السنة أن الله تعالى لا يجب عليه مراعاة المصلحة ، وأنه يجوز أن يعذب على الصغائر وإن اجتنب الكبائر ، وأنه يجوز أن يغفر الكبائر ما عدا الشرك وإن لم يتب منها ، وأن قبول التوبة بفضله ورحمته ، لا بالوجوب عليه ، وأنها تنال أهل الكبائر المصرين من الموحدين ، فهذه جواهر خمسة نسأل الله تعالى أن يقلد عقائل عقائدنا بها إلى الخاتمة ، وأن لا يحرمنا ألطافه ومراحمه آمين. وجميع ما يحتاج إلى تزييفه مما ذكره على قواعد الاعتزال في هذا الموضع قد تقدم ، غير أنه جدد هاهنا قوله : إن فائدة الاستغفار كفائدة الشفاعة ، وذلك مزيد الكرامة لا غير ، يريد : أن المغفرة للتائب واجبة على الله فلا تسئل ، وهذا الذي قاله مما يجعل لنفسه فيه الفضيحة ، زادت على بطلانه هذه الآية بالألسن الفصيحة ، كيف يجعل المسئول مزيدة الكرامة لا غير. ونص الآية : فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ، فهي ناطقة بأنهم يسألون من الله تعالى المغفرة للتائب ووقاية عذاب الجحيم ، وهو الذي أنكر الزمخشري كونه مسؤلا.

(٢) قوله «التي نهجها» أى : أبانها وأوضحها. أفاده الصحاح. (ع)

١٥٣

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ)(١٢)

أى ينادون يوم القيامة ، فيقال لهم : (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ) والتقدير : لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم ، فاستغنى بذكرها مرة. و (إِذْ تُدْعَوْنَ) منصوب بالمقت الأوّل. والمعنى : أنه يقال لهم يوم القيامة : كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر ، حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان ، فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر أشدّ مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار إذا أوقعتكم فيها باتباعكم هواهنّ. وعن الحسن : لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم ، فنودوا لمقت الله. وقيل : معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض ، كقوله تعالى (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) و (إِذْ تُدْعَوْنَ) : تعليل. والمقت : أشدّ البغض ، فوضع في موضع أبلغ الإنكار وأشدّه (اثْنَتَيْنِ) إماتتين وإحياءتين. أو موتتين وحياتين. وأراد بالإماتتين : خلقهم أمواتا أوّلا ، وإماتتهم عند انقضاء آجالهم ، وبالإحياءة الإحياءة الأولى وإحياءة البعث. وناهيك تفسيرا لذلك قوله تعالى (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) وكذا عن ابن عباس رضى الله عنهما. فإن قلت : كيف صح أن يسمى خلقهم أمواتا : إماتة؟ قلت : كما صح أن تقول : سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل! وقولك للحفار : ضيق فم الركية ووسع أسفلها ، وليس ثم نقل من كبر إلى صغر ولا من صغر إلى كبر ، ولا من ضيق إلى سعة ، ولا من سعة إلى ضيق. وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات ، والسبب في صحته أن الصغر والكبر جائزان معا على المصنوع الواحد ، من غير ترجح لأحدهما ، وكذلك الضيق والسعة. فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما (١) على السواء فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر ، فجعل صرفه عنه كنقله

__________________

(١) قال محمود : «إحدى الإماتتين خلقهم أمواتا أولا ، والأخرى إماتتهم عند انقضاء آجالهم ، ثم قال : فان قلت كيف سمى خلقه لهم أمواتا إماته ، وأجاب بأنه كما يقال : سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل ، وكما يقال للحفار : ضيق فم الركية ووسع أسفلها ، وليس ثم نقل من صغر إلى كبر ولا عكسه ، ولا من ضيق إلى سعة ولا عكسه. وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات. والسبب في صحته أن الكبر والصغر جائزان معا على المصنوع الواحد ، وكذلك الضيق والسعة ، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن من الآخر ، جعل صرفا عن الآخر وهو متمكن منه» قال أحمد : ما أسد كلامه هاهنا حيث صادق التمسك بأذيال نظر مالك رحمه الله في مسألة ما إذا باعه إحدى وزنتين معينتين على اللزوم لإحداهما والخيرة في عينها ، فانه منع من ذلك ، لأن المشترى لما كان ـ

١٥٤

منه ، ومن جعل الإماتتين التي بعد حياة حياة الدنيا والتي بعد حياة القبر لزمه إثبات ثلاث إحياآت ، وهو خلاف ما في القرآن ، إلا أن يتمحل فيجعل إحداها غير معتدّ بها. أو يزعم أن الله تعالى يحييهم في القبور ، وتستمرّ بهم تلك الحياة فلا يموتون بعدها ، ويعدّهم في المستثنين من الصعقة في قوله تعالى (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ). فإن قلت : كيف تسبب هذا لقوله تعالى (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا)؟ قلت : قد أنكروا البعث فكفروا ، وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى ، لأن من لم يخش العاقبة تخرق (١) في المعاصي ، فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرّرا عليهم ، علموا بأن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء ، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) أى إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء (مِنْ سَبِيلٍ) قط ، أم اليأس واقع دون ذلك ، فلا خروج ولا سبيل إليه. وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط. وإنما يقولون ذلك تعللا وتحيرا ، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك ، وهو قوله (ذلِكُمْ) أى ذلكم الذي أنتم فيه ، وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم بتوحيد الله وإيمانكم بالإشراك (٢) به (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد : وقوله (الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) دلالة على الكبرياء والعظمة ، وعلى أن عقاب مثله لا يكون إلا كذلك ، وهو الذي يطابق كبرياءه ويناسب جبروته. وقيل : كأن الحرورية (٣) أخذوا قولهم : لا حكم إلا لله ، من هذا.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤)

__________________

ـ متمكنا من تعيين كل واحدة منهما على سواء ، فإذا عين واحدة منهما بالاختيار نزل عدوله عن الأخرى ، وقد كان متمكنا منها منزلة اختيارها أولا ، ثم الانتقال عنها إلى هذه ، فإذا آل إلى بيع إحداهما بالأخرى غير معلومتى التماثل ، وهو الذي لخصه أصحابنا في قولهم : إن من خير بين شيئين فاختار أحدهما : عد متنقلا ، وقد سبقت هذه القاعدة لغير هذا الغرض فيما تقدم.

(١) قوله «تخرق في المعاصي» في الصحاح : يقال : هو يتخرق في السخاء ، إذا توسع فيه. (ع)

(٢) قال محمود : «أى إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء من سبيل قط ، أم اليأس واقع دون ذلك ، فلا خروج ولا سبيل إليه ، وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط ، وإنما يقولون ذلك تعللا وتحيرا ، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك ، وهو قوله (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) معناه : أن اعتياض السبيل إلى خروجكم من النار سببه كفركم بتوحيد الله تعالى ، وإيمانكم بالاشراك» قال أحمد : وعلى هذا النمط بنى الشعراء مثل قولهم:

هل إلى نجد وصول

وعلى الخيف نزول

وإنما قصدهم أن هذا أمر غالب فيه اليأس على الطمع.

(٣) قوله «الحرورية» في الصحاح : أنها طائفة من الخوارج تنسب إلى «حرور» اسم قرية ، وكأنه يريد أهل السنة ، فإنهم الذين اشتهر عنهم هذا القول ، خلافا للمعتزلة في قولهم : إن الفعل قد يدرك الحكم قبل ورود الشرع ، كما بين في الأصول. (ع)

١٥٥

رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ)(١٦)

(يُرِيكُمْ آياتِهِ) من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها. والرزق : المطر ، لأنه سببه (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) وما يتعظ وما يعتبر بآيات الله إلا من يتوب من الشرك ويرجع إلى الله ، فإن المعاند لا سبيل إلى تذكره واتعاظه ، ثم قال للمنيبين (فَادْعُوا اللهَ) أى اعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من الشرك. وإن غاظ ذلك أعداءكم ممن ليس على دينكم. (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ) ثلاثة أخبار ، لقوله «هو» مترتبة على قوله (الَّذِي يُرِيكُمْ) أو أخبار مبتدإ محذوف ، وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا. وقرئ : رفيع الدرجات بالنصب على المدح. ورفيع الدرجات ، كقوله تعالى (ذِي الْمَعارِجِ) وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش ، وهي دليل على عزته وملكوته. وعن ابن جبير : سماء فوق سماء. والعرش فوقهن. ويجوز أن يكون عبارة عن رفعة شأنه وعلوّ سلطانه ، كما أنّ ذا العرش عبارة عن ملكه. وقيل : هي درجات ثوابه التي ينزلها أولياءه في الجنة (الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) الذي هو سبب الحياة من أمره ، يريد : الوحى الذي هو أمر بالخير وبعث عليه ، فاستعار له الروح ، كما قال تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)(لِيُنْذِرَ) الله. أو الملقى عليه : وهو الرسول أو الروح. وقرئ : لتنذر ، أى : لتنذر الروح لأنها تؤنث ، أو على خطاب الرسول. وقرئ : لينذر يوم التلاق ، على البناء للمفعول و (يَوْمَ التَّلاقِ) يوم القيامة ، لأن الخلائق تلتقي فيه. وقيل : يلتقى فيه أهل السماء وأهل الأرض. وقيل : المعبود والعابد (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء ، لأنّ الأرض بارزة قاع صفصف ، ولا عليهم ثياب ، إنما هم عراة مكشوفون ، كما جاء في الحديث «يحشرون عراة حفاة غرلا» (١) (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) أى من أعمالهم وأحوالهم. وعن ابن مسعود رضى الله عنه : لا يخفى عليه منهم شيء. فإن قلت : قوله (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) : بيان وتقرير لبروزهم ، والله تعالى لا يخفى عليه منهم شيء برزوا أو لم يبرزوا ، فما معناه؟ قلت : معناه أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب : أنّ الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم ، فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه. قال الله تعالى : ولكن ظننتم أنّ الله لا يعلم كثيرا مما تعملون. وقال تعالى : (يَسْتَخْفُونَ

__________________

(١) متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها.

١٥٦

مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) وذلك لعلمهم أنّ الناس يبصرونهم ، وظنهم أن الله لا يبصرهم ، وهو معنى قوله (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) حكاية لما يسئل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به. ومعناه : أنه ينادى مناد فيقول : لمن الملك اليوم؟ فيجيبه أهل المحشر : لله الواحد القهار. وقيل : يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط «فأوّل ما يتكلم به أن ينادى مناد : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ ...) الآية فهذا يقتضى أن يكون المنادى هو المجيب.

(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(١٧)

لما قرّر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم عدّد نتائج ذلك ، وهي أنّ كل نفس تجزى ما كسبت وأن الظلم مأمون ، لأن الله ليس بظلام للعبيد ، وأن الحساب لا يبطئ ، لأن الله لا يشغله حساب عن حساب ، فيحاسب الخلق كله في وقت واحد وهو أسرع الحاسبين. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : إذا أخذ في حسابهم لم يقل (١) أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها.

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ)(١٨)

الآزفة : القيامة ، سميت بذلك لأزوفها ، أى : لقربها. ويجوز أن يريد بيوم الآزفة : وقت الخطة الآزفة ، وهي مشارفتهم دخول النار ، فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارّها فتلصق بحناجرهم ، فلا هي تخرج فيموتوا ، ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروّحوا ، ولكنها معترضة كالشجا ، كما قال تعالى (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا). فإن قلت : (كاظِمِينَ) بم انتصب؟ قلت : هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى ، لأن المعنى : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها. ويجوز أن يكون حالا عن القلوب ، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر ، وإنما جمع الكاظم جمع السلامة ، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء ، كما قال تعالى (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) وقال (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) وتعضده قراءة من قرأ : كاظمون. ويجوز أن يكون حالا عن قوله : وأنذرهم ، أى : وأنذرهم مقدّرين أو مشارفين الكظم ، كقوله تعالى (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) الحميم : المحب المشفق. والمطاع : مجاز في المشفع ، لأن حقيقة الطاعة نحو حقيقة الأمر في أنها لا تكون إلا لمن فوقك. فإن قلت : ما معنى قوله تعالى :

__________________

(١) قوله «لم يقل أهل الجنة إلا فيها» من قال يقيل قيلولة. (ع)

١٥٧

(وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ)؟ قلت : يحتمل أن يتناول النفي الشفاعة والطاعة معا ، وأن يتناول الطاعة دون الشفاعة ، (١) كما تقول : ما عندي كتاب يباع ، فهو محتمل نفى البيع وحده ، وأن عندك كتابا إلا أنك لا تبيعه ، ونفيهما جميعا ، وأن لا كتاب عندك ، ولا كونه مبيعا. ونحوه :

ولا ترى الضّبّ بها ينجحر (٢)

يريد : نفى الضب وانجحاره. فإن قلت : فعلى أى الاحتمالين يجب حمله؟ قلت : على نفى الأمرين جميعا ، من قبل أن الشفعاء هم أولياء الله ، وأولياء الله لا يحبون ولا يرضون إلا من أحبه الله ورضيه ، وأن الله لا يحب الظالمين ، فلا يحبونهم ، وإذا لم يحبوهم لم ينصروهم ولم يشفعوا لهم. قال الله تعالى (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) وقال : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ولأن الشفاعة لا تكون إلا في زيادة التفضل ، (٣) وأهل التفضل وزيادته إنما هم أهل الثواب ، بدليل قوله تعالى (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) وعن الحسن رضى الله عنه : والله ما يكون لهم شفيع البتة ، فإن قلت : الغرض حاصل بذكر الشفيع ونفيه ، فما الفائدة في ذكر هذه الصفة ونفيها؟ قلت : في ذكرها فائدة جليلة ، وهي أنها ضمت إليه ، ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة ، لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها ، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف ، بيانه : أنك إذا عوتبت على القعود عن الغزو فقلت : ما لي فرس أركبه ، ولا معى سلاح أحارب به ، فقد جعلت عدم الفرس وفقد السلاح علة مانعة من الركوب والمحاربة ، كأنك تقول : كيف يتأتى منى الركوب والمحاربة ولا فرس لي ولا سلاح معى ، فكذلك قوله (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) معناه : كيف يتأتى التشفيع ولا شفيع ، فكان ذكر التشفيع والاستشهاد على عدم تأتيه بعدم الشفيع : وضعا لانتفاء الشفيع موضع الأمر المعروف (٤) غير المنكر الذي لا ينبغي أن يتوهم خلافه.

__________________

(١) قال محمود : «يحتمل أن يكون المنفي الشفيع الذي هو الموصوف وصفته وهي الطاعة ، ويحتمل أن يكون المنفي الصفة وهي الطاعة والشفيع ثابت» قال أحمد : إنما جاء الاحتمال من حيث دخول النفي على مجموع الموصوف والصفة. ونفى المجموع ، كما يكون بنفي كل واحد من جزئيه ، وكذلك يكون بنفي أحدهما ، على أن المراد هنا ـ كما قال ـ : نفى الأمرين جميعا. قال : وفائدة ذكر الموصوف أنه كالدليل على نفى الصفة ، لأنه إذا انتفى الموصوف انتفت الصفة قطعا ، قلت : فكأنه نفى الصفة مرتين من وجهين مختلفين.

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٤٢٦ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٣) قوله «لا تكون إلا في زيادة التفضل» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فتكون في الخروج من النار أيضا ، كما تقرر في التوحيد. وحديث الشفاعة مشهور ، نعم الكفار لا خروج لهم من النار. (ع)

(٤) قوله «موضع الأمر المعروف» أى الذي يعرفه السامع ويسلمه ، كما هو شأن الشاهد على الدعوى ، وإذا كان انتفاء الشفيع معروفا فلا ينتفي أن يتوهم وجوده ، وبهذا يتبين قوله فيما سبق ، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف. (ع)

١٥٨

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ)(١٩)

الخائنة : صفة للنظرة. أو مصدر بمعنى الخيانة ، كالعافية بمعنى المعافاة ، والمراد : استراق النظر إلى ما لا يحل ، كما يفعل أهل الريب ، ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين ، لأن قوله (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) لا يساعد عليه (١). فإن قلت : بم اتصل قوله (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ)؟ قلت : هو خبر من أخبار هو في قوله (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ) مثل (يُلْقِي الرُّوحَ) ولكن (يُلْقِي الرُّوحَ) قد علل بقوله (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) ثم استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) فبعد لذلك عن أخواته.

(وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(٢٠)

(وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) يعنى : والذي هذه صفاته وأحواله لا يقضى إلا بالحق والعدل. لاستغنائه عن الظلم. وآلهتكم لا يقضون بشيء ، وهذا تهكم بهم ، لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه : يقضى ، أو لا يقضى (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) تقرير لقوله (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) ووعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون ، وأنه يعاقبهم عليه وتعريض بما يدعون من دون الله ، وأنها لا تسمع ولا تبصر. وقرئ : يدعون ، بالتاء والياء.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢٢)

(هُمْ) في (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ) فصل. فإن قلت : من حق الفصل أن لا يقع إلا بين معرفتين ، فما باله واقعا بين معرفة وغير معرفة؟ وهو أشدّ منهم. قلت : قد ضارع المعرفة في أنه لا تدخله الألف واللام ، فأجرى مجراها. وقرئ : منكم ، وهي في مصاحف أهل الشأم (وَآثاراً)

__________________

(١) قال محمود : «الخائنة إما صفة للنظرة وإما مصدر كالعافية» قال : «ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين» لأنه لا يساعد عليه قوله تعالى (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) قال أحمد : إنما لم يساعد عليه لأن خائنة الأعين على هذا التقدير معناه الأعين الخائنة ، وإنما يقابل الأعين الصدور ، لا ما تخفيه الصدور ، بخلاف التأويل الأول ، فان المراد به نظرات الأعين فيطابق خفيات الصدور.

١٥٩

يريد حصونهم وقصورهم وعددهم ، وما يوصف بالشدة من آثارهم. أو أرادوا : أكثر آثارا ، كقوله :

متقلدا سيفا ورمحا (١)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ)(٢٥)

(وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) وحجة ظاهرة وهي المعجزات ، فقالوا : هو ساحر كذاب ، فسموا السلطان المبين سحرا وكذابا (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِ) : بالنبوّة : فإن قلت : أما كان قتل الأبناء واستحياء النساء من قبل خيفة أن يولد المولود الذي أنذرته الكهنة بظهوره وزوال ملكه على يده؟ قلت : قد كان ذلك القتل حينئذ ، وهذا قتل آخر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله (قالُوا اقْتُلُوا) أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولا ، يريد أن هذا قتل غير القتل الأول (فِي ضَلالٍ) في ضياع وذهاب ، باطلا لم يجد عليهم ، يعنى. أنهم باشروا قتلهم أولا فما أغنى عنهم ، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه ، فما يغنى عنهم هذا القتل الثاني ، وكان فرعون قد كف عن قتل الولدان ، فلما بعث موسى وأحس بأنه قد وقع : أعاده عليهم غيظا وحنقا ، وظنا منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى ، وما علم أنّ كيده ضائع في الكرتين جميعا.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ)(٢٦)

(ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) كانوا إذا همّ بقتله كفوه بقولهم : ليس بالذي تخافه ، وهو أقل من ذلك وأضعف ، وما هو إلا بعض السحرة ، ومثله لا يقاوم إلا ساحرا مثله ، ويقولون : إذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس ، واعتقدوا أنك قد عجزت عن معارضته بالحجة ، والظاهر أنّ فرعون لعنه الله كان قد استيقن أنه نبىّ ، وأنّ ما جاء به آيات وما هو بسحر ، ولكن الرجل كان فيه خب وجربزة ، وكان قتالا سفاكا الدماء في أهون شيء ، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه ويهدم ملكه ، ولكنه كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك. وقوله

__________________

(١) ورأيت زوجك في الوغى

متقلدا سيفا ورمحا

الوغى : الحرب. ورمحا : نصب بمحذوف يناسبه ، أى : متقلدا سيفا وحاملا رمحا. وروى بدل الشطر الأول : يا ليت زوجك قد غدا أى ذهب إلى الحرب غدوة لابسا سلاحه.

١٦٠