الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم

خيلا تكرّ عليهم ورجالا (١)

يوقب على (عَلَيْهِمْ) ويبتدأ (هُمُ الْعَدُوُّ) أى الكاملون في العداوة : لأنّ أعدى الأعداء العدوّ المداجى (٢) ، الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوىّ (فَاحْذَرْهُمْ) ولا تغترر بظاهرهم. ويجوز أن يكون (هُمُ الْعَدُوُّ) المفعول الثاني ، كما لو طرحت الضمير. فإن قلت : فحقه أن يقال : هي العدوّ. قلت : منظور فيه إلى الخبر ، كما ذكر في (هذا رَبِّي) وأن يقدر مضاف محذوف على : يحسبون كل أهل صيحة (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم ، وطلب من ذاته أن يلعنهم ويخزيهم. أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يعدلون عن الحق تعجبا من جهلهم (٣) وضلالتهم.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٦)

(لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) عطفوها وأمالوها إعراضا عن ذلك واستكبارا. وقرئ بالتخفيف والتشديد للتكثير.

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٨)

روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين لقى بنى المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتل منهم : ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر يقود فرسه،

__________________

(١) للأخطل ، يقول : لا زلت يا جرير تظن كل شيء بعدهم ، أى : بعد خذلان قومك. ويجوز أن بعدهم بمعنى غيرهم ، خيلا تكر : أى ترجع بسرعة عليهم ورجالا لكثرة ما قام بقلبك من الخوف.

(٢) قوله «العدو المداجى الذي يكاشرك» أى المدارى. والكثر : التهسم تبدو منه الأسنان. والدوى ـ مقصور ـ المرض ، تقول : دوى الرجل ـ بالكسر : مرض ودوى صدره أيضا : ضغن. ودوىّ الريح : حفيفها ، كذا في الصحاح. (ع)

(٣) قوله «تعجبا من جهلهم» لعله تعجب ، بل لعله : تعجيب. (ع)

٥٤١

وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبىّ ، واقتتلا ، فصرخ جهجاه : يا للمهاجرين : وسنان : يا للأنصار ، فأعان جهجاها جعال من فقراء المهاجرين ولطم سنانا ، فقال عبد الله لجعال. وأنت هناك ، وقال : ما صحبنا محمدا إلا لنلطم ، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال : سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل ، عنى بالأعز : نفسه ، وبالأذل : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لقومه : ما ذا فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ، ولأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد ، فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث ، فقال : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ، ومحمد في عزّ من الرحمن وقوّة من المسلمين ، فقال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب ، فأخبر زيد رسول الله فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله ، فقال : إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب. قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجرى ، فأمر به أنصاريا فقال : فكيف إذا تحدّث الناس أنّ محمدا يقتل أصحابه ، وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله : أنت صاحب الكلام الذي بلغني؟ قال : والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك ، وإن زيدا لكاذب ، وهو قوله تعالى (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) فقال الحاضرون : يا رسول الله : شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام ، عسى أن يكون قد وهم. وروى أن رسول الله قال له : لعلك غضبت عليه ، قال : لا ، قال : فلعله أخطأ سمعك ، قال : لا ، قال : فلعله شبه عليك ، قال : لا. فلما نزلت : لحق رسول الله زيدا من خلفه فعرك أذنه وقال : وفت أذنك يا غلام ، إنّ الله قد صدقك وكذب المنافقين (١). ولما أراد عبد الله أن يدخل المدينة : اعترضه ابنه حباب ، وهو عبد الله بن عبد الله غير رسول الله اسمه ، وقال : إنّ حبابا اسم شيطان. وكان مخلصا وقال : وراءك ، والله ، لا تدخلها حتى تقول رسول الله الأعز وأنا الأذل ، فلم يزل حبيسا في يده حتى أمره رسول الله بتخليته (٢). وروى أنه قال له:

__________________

(١) هكذا ذكره الواقدي في المغازي بغير إسناد وعزاه إلى الثعلبي والواحدي ولأصحاب السير ، وأخرجه ابن إسحاق في السيرة : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد الله بن أبى بكر ومحمد بن يحيى بن حبان كل قد حدثني بعض حديث بنى المصطلق ـ فذكر للغزوة بطولها والقصة المذكورة باختلاف يسير. وكذا أخرجه الطبري من طريقه وأصل القصة في الصحيحين من طريق أبى إسحاق عن زيد بن أرقم قال «كنت مع عمى فسمعت عبد الله بن أبى يقول ـ الحديث ـ وأوله عندهما أيضا من طريق عمرو بن دينار عن جابر قال «كنا في غزوة بنى المصطلق فتبع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار» ورواه الترمذي والنسائي والحاكم من طريق أبى سعد الأودى حدثنا زيد بن أرقم قال «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء وكان الأعراب يسبقوننا فسبق أعرابى. فملأ الحوض» فذكر القصة بطولها. وفي سياقها اختلاف.

(٢) هكذا ذكره الثعلبي موصولا بالذي قبله ، وروى الزبيدي من طريق عمرو بن دينار عن جابر أصل القصة وقال بعد عمر : دعني أضرب عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» قال وقال ـ

٥٤٢

لئن لم تقرّ لله ورسوله بالعز لأضر بن عنقك ، فقال : ويحك ، أفاعل أنت؟ قال : نعم. فلما رأى منه الجدّ قال : أشهد أنّ العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فقال رسول الله لابنه : جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا (١) ، فلما بان كذب عبد الله قيل له : قد نزلت فيك آي شداد ، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك ، فلوى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أو من فآمنت ، وأمرتموني أن أزكى مالى فزكيت ، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد ، فنزلت (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) ولم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات (٢) (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) الاستغفار وعدمه ، لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعتدون به لكفرهم. أو لأن الله لا يغفر لهم. وقرئ : استغفرت ، على حذف حرف الاستفهام ؛ لأنّ «أم» المعادلة تدل عليه. وقرأ أبو جعفر : آستغفرت ، إشباعا لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان ، لا قلبا لهمزة الوصل ألفا ، كما في : آلسحر ، وآلله (يَنْفَضُّوا) يتفرقوا. وقرئ : ينفضوا ، من انفض القوم إذا فنيت أزوادهم. وحقيقته : حان لهم أن ينفضوا مزاودهم (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وبيده الأرزاق والقسم ، وفهو رازقهم منها ، وإن أبى أهل المدينة أن ينفقوا عليهم ، ولكن عبد الله وأضرابه جاهلون (لا يَفْقَهُونَ) ذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان. وقرئ : ليخرجنّ الأعز منها الأذل بفتح الياء. وليخرجنّ ، على البناء للمفعول. قرأ الحسن وابن أبى عبلة : لنخرجنّ ، بالنون ونصب الأعز والأذل. ومعناه : خروج الأذل. أو إخراج الأذل. أو مثل الأذل (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) الغلبة والقوّة ، ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين ، وهم الأخصاء بذلك ، كما أنّ المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين. وعن بعض الصالحات ـ وكانت في هيئة رثة ـ ألست على الإسلام؟ وهو العز الذي لا ذل معه ، والغنى الذي لا فقر معه. وعن الحسن بن على رضى الله عنهما : أنّ رجلا قال له. إنّ الناس يزعمون أنّ فيك تيها ، قال : ليس بتيه ، ولكنه عزة ، وتلا هذه الآية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٩)

__________________

غير عمر وقال له ابنه عبد الله بن عبد الله «والله لا تنفلت حتى تقول إنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز ففعل» قلت : وأصل حديث جابر في الصحيح.

(١) هكذا أورده الثعلبي موصولا بالحديث الذي قبله.

(٢) ذكره الثعلبي موصولا بالذي قبله. وأخرجه الطبري من رواية إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن بشر بن مسلم «أنه قيل لعبد الله بن أبى : يا أبا الحباب : إنه أنزل آي شداد ، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فذكره أخصر منه.

٥٤٣

(لا تُلْهِكُمْ) لا تشغلكم (أَمْوالُكُمْ) والتصرف فيها : والسعى في تدبير أمرها : والتهالك على طلب النماء فيها بالتجارة والاغتلال ، وابتغاء النتاج والتلذذ بها ، والاستمتاع بمنافعها (وَلا أَوْلادُكُمْ) وسروركم بهم ، وشفقتكم عليهم ، والقيام بمؤنهم ، وتسوية ما يصلحهم من معايشهم في حياتكم وبعد مماتكم ، وقد عرفتم قدر منفعة الأموال والأولاد ، وأنه أهون شيء وأدونه في جنب ما عند الله (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) وإيثاره عليها (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) يريد الشغل بالدنيا عن الدين (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) في تجارتهم حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني. وقيل : ذكر الله الصلوات الخمس. وعن الحسن : جميع الفرائض ، كأنه قال : عن طاعة الله. وقيل : القرآن. وعن الكلبي : الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١١)

من في (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) للتبعيض ، والمراد : الإنفاق الواجب (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) من قبل أن يرى دلائل الموت ، ويعاين ما بيأس معه من الإمهال ، ويضيق به الخناق ، ويتعذر عليه الإنفاق ويفوت وقت القبول ، فيتحسر على المنع ، ويعضّ أنا مله على فقد ما كان متمكنا منه. وعن ابن عباس رضى الله عنه : تصدّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت ، فلا تقبل توبة ، ولا ينفع عمل. وعنه : ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكى ، وإذا أطاق الحج أن يحج من قبل أن يأتيه الموت ، فيسأل ربه الكرة فلا يعطاها. وعنه : أنها نزلت في ما نعى الزكاة ، وو الله لو رأى خيرا لما سأل الرجعة ، فقيل له : أما تتقى الله ، يسأل المؤمنون الكرة؟ قال : نعم ، أنا أقرأ عليكم به قرآنا ، يعنى : أنها نزلت في المؤمنين وهم المخاطبون بها ، وكذا عن الحسن : ما من أحد لم يزك ولم يصم ولم يحج إلا سأل الرجعة. وعن عكرمة أنها نزلت في أهل القبلة (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي). وقرئ : أخرتن ، يريد : هلا أخرت موتى (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) إلى زمان قليل (فَأَصَّدَّقَ) وقرأ أبىّ : فأتصدق على الأصل. وقرئ : وأكن ، عطفا على محل (فَأَصَّدَّقَ) كأنه قيل. إن أخرتنى أصدّق وأكن ومن قرأ : وأكون على النصب ، فعلى اللفظ. وقرأ عبيد بن عمير : وأكون ، على : وأنا أكون عدة منه بالصلاح (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ) نفى للتأخير على وجه التأكيد الذي معناه منافاة المنفي الحكمة. والمعنى : إنكم إذا علمتم أنّ تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه. وأنه هاجم لا محالة ، وأنّ الله عليم بأعمالكم فجاز

٥٤٤

عليها ، من منع واجب وغيره : لم تبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجبات والاستعداد للقاء الله. وقرئ : تعملون ، بالتاء والياء. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة المنافقين بريء من النفاق» (١).

سورة التغابن

مختلف فيها ، وهي ثمان عشرة آية [نزلت بعد التحريم]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٤)

قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل ، وذلك لأنّ الملك على الحقيقة له ، لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه ، والقائم به ، والمهيمن عليه ، وكذلك الحمد ، لأنّ أصول النعم وفروعها منه. وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء ، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) يعنى : فمنكم آت بالكفر وفاعل له (٢)

__________________

(١) أخرجه ابن مردويه والثعلبي والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.

(٢) قوله «فمنكم آت بالكفر وفاعل له» قد أول الآية بمذهب المعتزلة : من أن العبد هو الخالق لفعله الاختياري ، ومذهب أهل السنة : أن العبد ليس له في فعله إلا الكسب ، وخالقه في الحقيقة هو الله عز وجل ، بدليل قوله تعالى (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) خيرا كان أو شرا ، وكما أن خلق الكافر لا يستوجب الذم كما سيقول فخلق كفره لا يستوجب الذم لأنه لحكمة وإن خفيت علينا. (ع)

٥٤٥

ومنكم آت بالإيمان (١) وفاعل له ، كقوله تعالى (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) ، (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) والدليل عليه قوله تعالى (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أى عالم بكفركم وإيمانكم اللذين هما من عملكم. والمعنى : هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد عن العدم ، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح ، وتكونوا بأجمعكم عبادا شاكرين ، فما فعلتم مع تمكنكم ، بل تشعبتم شعبا ، وتفرقتم أمما ، فمنكم كافر ومنكم مؤمن ، وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم. وقيل : هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ، ومنكم مؤمن به. فإن قلت : نعم ، إن العباد هم الفاعلون للكفر ، ولكن قد سبق في علم الحكيم أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر ولم يختاروا غيره ، فما دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم؟ وهل خلق القبيح وخلق فاعل القبيح إلا واحد؟ وهل مثله إلا مثل من وهب سيفا باترا لمن شهر بقطع السبيل وقتل النفس المحرّمة فقتل به مؤمنا؟ أما يطبق العقلاء على ذم الواهب وتعنيفه والدق في فروته (٢) كما يذمون القاتل؟ بل إنحاؤهم باللوائم على الواهب أشد؟ قلت : قد علمنا أنّ الله حكيم عالم بقبح القبيح عالم بغناه عنه ، فقد علمنا أن أفعاله كلها حسنة ، وخلق فاعل القبيح فعله ، فوجب أن يكون حسنا ، وأن يكون له وجه حسن ، وخفاء وجه الحسن علينا لا يقدح في حسنه ، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته جهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها (بِالْحَقِ) بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، وهو أن جعلها مقارّ المكلفين ليعملوا فيجازيهم (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) وقرئ : صوركم بالكسر ، لتشكروا. وإليه مصيركم فجزاؤكم على الشكر والتفريط فيه. فإن قلت. كيف أحسن صورهم؟ قلت : جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه ، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور. ومن حسن صورته

__________________

(١) قال محمود : «معناه : فمنكم آت بالكفر وفاعل له ومنكم آت بالايمان ... الخ» قال أحمد : لقه ركب عمياء وخبط خبط عشواء ، واقتحم وعرا : السالك فيه هالك ، والغابر فيه عاثر ، وإنما ينصب إلى مهاوي الأراك ، ويحوم حول مراتع الاشراك ، ويبحث ولكن على حتفه بظلفه ، ويتحذق وما هو إلا يتشدق ، ويتحقق وما هو إلا يتفسق ، وهب أنه أعرض عن الأدلة العقلية والنصوص النقلية المتظافرة على أن الله تعالى خالق كل شيء ، واطرد له في الشاهد ما ادعاه. ومن مذهبه قياس الغائب على الشاهد ، قد التجأ إلى الاعتراف بأن الله خالق العبد الفاعل للقبيح ، وأن خلق العبد الفاعل للقبيح بمثابة إعطاء السيف الباتر للرجل الفاجر ، وأن هذا قبيح شاهدا ، ولا يلزم أن يكون مثله قبيحا في خلق الله تعالى ، أفلا يجوز أن يكون منطويا على حكمة استأثر الله تعالى بعلمها ، فما يؤمنه من دعوى أن أفعال العبد وإن استقبحها العقلاء مخلوقة لله تعالى ، وفي خلقها حكمة استأثر الله بعلمها ، وهل الفرق إذا إلا عين التحكم ، ونفس اتباع الهوى. هذا ودون تمكنه من اتباع هذه القواعد : أن يمكن من القتاد اختراط ، ومن الجمل أن يلج في سم الخياط.

(٢) قوله «والدق في فروته» في الصحاح «الفروة» : جلدة الرأس. والفروة : قطعة نبات مجتمعة يابسة اه. (ع)

٥٤٦

أنه خلق منتصبا غير منكب ، كما قال عز وجل (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ). فإن قلت : فكم من دميم مشوّه الصورة سمج الخلقة تقتحمه العيون؟ قلت : لا سماجة ثم ولكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب ، فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطا بينا وإضافتها إلى الموفى (١) عليها لا تستملح ، وإلا فهي داخلة في حيز الحسن غير خارجة عن حدّه. ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا ترى الدنيا بها ، ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن منها فينبو عن الأولى طرفك ، وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها. وقالت الحكماء : شيئان لا غاية لهما : الجمال ، والبيان. نبه بعلمه ما في السماوات والأرض ، ثم بعلمه ما يسره العباد ويعلنونه ، ثم بعلمه ذوات الصدور : أنّ شيئا من الكليات والجزئيات غير خاف عليه ولا عازب عنه ، فحقه أن يتقى ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه. وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد ، وكل ما ذكره بعد قوله تعالى (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) كما ترى في معنى الوعيد على الكفر ، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق (٢) ويجعله من جملته ، والخلق : أعظم نعمة من الله على عباده ، والكفر : أعظم كفران من العباد لربهم.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٦)

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ) الخطاب لكفار مكة. و (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من الوبال الذي ذاقوه في الدنيا وما أعدّلهم من العذاب في الآخرة (بِأَنَّهُ) بأنّ الشأن والحديث (كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ ...... أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أنكروا أن تكون الرسل بشرا ، ولم ينكروا أن يكون الله حجرا (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أطلق ليتناول كل شيء ، ومن جملته إيمانهم وطاعتهم. فإن قلت : قوله (وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ) يوهم وجود التولي والاستغناء معا (٣) ، والله تعالى لم يزل غنيا. قلت : معناه : وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك.

__________________

(١) قوله «وإضافتها إلى الموفى عليها» يعنى إلى المتفوق عليها من الصور. (ع)

(٢) قوله «فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق» يريد أهل السنة ، حيث يقولون أنه تعالى هو الخالق لأعمال العباد حتى الكفر وغيره من المعاصي ، ولا وجه لتجهيلهم مع استنادهم إلى قوله تعالى «والله خلقكم وما تعملون. (ع)

(٣) قال محمود : «أطلقه ليتناول كل شيء ثم قال فان قلت كان التولي فيهم ... الخ» قال أحمد : إنما الحق أنه لم يخلق لهم إيمانا ولا قدرة عليه ، فكان قادرا أن يخلق لهم الايمان والقدرة عليه ، وإنما حرفها الزمخشري إلى قاعدته.

٥٤٧

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(٨)

الزعم : ادعاء العلم : ومنه قوله عليه السلام «زعموا مطية الكذب» (١) وعن شريح: الكل شيء كنية وكنية الكذب «زعموا» ويتعدّى إلى المفعولين تعدّى العلم. قال :

... ولم أزعمك عن ذاك معزلا (٢)

وإن مع ما في حيزه قائم مقامهما. والذين كفروا. أهل مكة. و (بَلى) إثبات لما بعد لن ، وهو البعث (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أى لا يصرفه عنه صارف. وعنى برسوله والنور : محمدا صلى الله عليه وسلم والقرآن.

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٠)

وقرئ : نجمعكم. ونكفر. وندخله ، بالياء والنون. فإن قلت : بم انتصب الظرف؟ قلت بقوله : لتنبؤن ، أو بخبير ، لما فيه من معنى الوعيد ، كأنه قيل : والله معاقبكم يوم يجمعكم. أو بإضمار «اذكر» (لِيَوْمِ الْجَمْعِ) ليوم يجمع فيه الأوّلون والآخرون. التغابن : مستعار من تغابن القوم في التجارة ، وهو أن يغبن بعضهم بعضا ، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء. وفيه تهكم بالأشقياء ، لأنّ نزولهم ليس بغبن. وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ، ليزداد شكرا. وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من

__________________

(١) لم أجده مرفوعا بهذا اللفظ وقد تقدم في أوائل البقرة بلفظ «بئس مطية الرجل إلى الكذب زعمواه وقد تقدم عن شريح «زعموا كنية الكذب».

(٢) وإن الذي قد عاش يا أم مالك

يموت ولم أزعمك عن ذاك معزلا

يقول : وإن كل حي وإن طال عمره يموت ، ولم أظنك يا أم مالك معزالا عن ذلك الحكم أو الموت. والمعزل : مكان العزلة والانفراد ، أى : لم أظنك في معزل عنه أو ذات معزل أو معتزلة. أو نفس المقول مبالغة.

٥٤٨

الجنة لو أحسن ، ليزداد حسرة» (١) ومعنى (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) ـ وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم ـ : استعظام له وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة ، لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت (صالِحاً) صفة للمصدر ، أى : عملا صالحا.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١١)

(إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) إلا بتقديره ومشيئته ، كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه (يَهْدِ قَلْبَهُ) يلطف به ويشرحه للازدياد من الطاعة والخير. وقيل : هو الاسترجاع عند المصيبة. وعن الضحاك : يهد قلبه حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطنه. وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وعن مجاهد : إن ابتلى صبر ، وإن أعطى شكر ، وإن ظلم غفر. وقرئ. يهد قلبه ، على البناء للمفعول ، والقلب : مرفوع أو منصوب. ووجه النصب : أن يكون مثل سفه نفسه ، أى : يهد في قلبه. ويجوز أن يكون المعنى : أنّ الكافر ضال عن قلبه بعيد منه ، والمؤمن واجد له مهتد إليه ، كقوله تعالى (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) وقرئ : نهد قلبه ، بالنون. ويهد قلبه ، بمعنى : يهتد. ويهدأ قلبه : يطمئن. ويهد. ويهدا على التخفيف (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم ما يؤثر فيه اللطف من القلوب مما لا يؤثر فيه فيمنحه ويمنعه.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٣)

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) فلا عليه إذا توليتم ، لأنه لم يكتب عليه طاعتكم ، إنما كتب عليه أن يبلغ ويبين فحسب (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) بعث لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على التوكل عليه والتقوّى به في أمره ، حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(١٥)

__________________

(١) رواه البخاري من رواية الأعرج عن أبى هريرة : وفي المتفق عليه من حديث أنس في قصة المؤمن ، فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة. قال نبى الله : فيراهما جميعا ، ولها عن ابن عمر «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى ـ الحديث».

٥٤٩

إنّ من الأزواج أزواجا يعادين بعولتهنّ ويخاصمنهم ويجلبن عليهم ، ومن الأولاد أولادا يعادون آباءهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأذى (فَاحْذَرُوهُمْ) الضمير للعدوّ أو للأزواج والأولاد جميعا. أى : لما علمتم أن هؤلاء لا يخلون من عدوّ ، فكونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم (وَإِنْ تَعْفُوا) عنهم إذا اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها ، فإن الله يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم. وقيل : إنّ ناسا أرادوا الهجرة عن مكة ، فثبطهم أزواجهم وأولادهم وقالوا : تنطلقون وتضيعوننا فرقوا لهم ووقفوا ، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين : أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم ، فزين لهم العفو. وقيل : قالوا لهم : أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم ، فغضبوا عليهم وقالوا : لئن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير ، فلما هاجروا منعوهم الخير ، فحثوا أن يعفوا عنهم ويردّوا إليهم البر والصلة. وقيل : كان عوف بن مالك الأشجعى ذا أهل وولد ، فإذا أراد أن يغزو تعلقوا به وبكوا إليه ورققوه ، فكأنه همّ بأذاهم ، فنزلت (فِتْنَةٌ) بلاء ومحنة ، لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة ، ولا بلاء أعظم منهما ، ألا ترى إلى قوله (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) وفي الحديث «يؤتى برجل يوم القيامة فيقال : أكل عياله حسناته» (١) وعن بعض السلف : العيال سوس الطاعات. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب ، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان ، فنزل إليهما فأخذهما (٢) ووضعهما في حجره على المنبر فقال : «صدق الله (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما» ثم أخذ في خطبته. وقيل : إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتننكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما.

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١٦)

(مَا اسْتَطَعْتُمْ) جهدكم ووسعكم ، أى : ابذلوا فيها استطاعتكم (وَاسْمَعُوا) ما توعظون به (وَأَطِيعُوا) فيما تأمرون به وتنهون عنه (وَأَنْفِقُوا) في الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها

__________________

(١) لم أره مرفوعا : وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة سفيان الثوري من قوله. وروى على بن معبد في الطاعة والمعصية عن إسحاق بن أبى يحيى عن عبد الملك عن بكير قال «ينادى مناد يوم القيامة : أين الذين أكلت عيالهم حسناتهم قوموا فان قبلكم الانبعاث».

(٢) أخرجه أصحاب السنن وابن جبان والحاكم وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار من روايه حسين بن واقد عن ابن بريدة عن أبيه. قال البزار لا نعلم له طريقا إلا هذا.

٥٥٠

(خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) نصب بمحذوف ، تقديره : ائتوا خيرا لأنفسكم ، وافعلوا ما هو خير لها وأنفع ، وهذا تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر ، وبيان لأنّ هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وما أنتم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا.

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١٨)

وذكر القرض : تلطف في الاستدعاء (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) يكتب لكم بالواحدة عشرا وأو سبعمائة إلى ما شاء من الزيادة. وقرئ : يضعفه (شَكُورٌ) مجاز ، أى : يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب ، وكذلك (حَلِيمٌ) يفعل بكم ما يفعل من يحلم عن المسيء ، فلا يعاجلكم بالعقاب مع كثرة ذنوبكم.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة»(١).

سورة الطلاق

مدنية ، وهي إحدى عشرة ، أو اثنتا عشرة ، أو ثلاث عشرة آية

[نزلت بعد الإنسان]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ

__________________

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب رضى الله عنه.

٥٥١

بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)(٣)

خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب (١) ، لأنّ النبي إمام أمّته وقدوتهم ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت ، إظهارا لتقدّمه واعتبارا لترؤسه ، وأنه مدرة قومه (٢) ولسانهم ، والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدّون بأمر دونه ، فكان هو وحده في حكم كلهم ، وسادّا مسدّ جميعهم. ومعنى (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) إذا أردتم تطليقهنّ وهممتم به على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة الشارع فيه : كقوله عليه السلام «من قتل قتيلا فله سلبه» (٣) ومنه كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المصلى (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) فطلقوهن مستقبلات لعدتهن (٤) ، كقولك : أتيته لليلة بقيت من المحرم ، أى : مستقبلا لها. وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم : في قبل عدّتهنّ ، وإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأوّل من أقرائها ، فقد طلقت مستقبلة لعدتها. والمراد : أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه (٥) ، ثم يخلين حتى تنقضي عدّتهنّ ، وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعده

__________________

(١) قال محمود : «خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب ... الخ» قال أحمد : وعلى هذا الفرق جرى قوله تعالى حكاية عن فرعون : (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) فأفرد موسى عليه السلام بالنداء ، لأنه كان أجل الاثنين عليهما السلام وعمهما بالخطاب. وقد تقدم فيه وجه آخر.

(٢) قوله «وأنه مدرة قومه» في الصحاح العرب تسمى القرية مدرة اه ، فالمعنى أنه بمنزلة القرية لقومه. (ع)

(٣) متفق عليه. وقد تقدم في أوائل البقرة.

(٤) قال محمود : «ومعنى فطلقوهن مستقبلات لعدتهن ... الخ» قال أحمد : حمل القراءتين المستفيضة والشاذة على أن وقت الطلاق هو الوقت الذي تكون العدة مستقبلة بالنسبة إليه ، وادعى أن ذلك معنى المستقبل فيها ، ونظر اللام فيها باللام في قولك مؤرخا الليلة. الليلة بقيت من المحرم ، وإنما يعنى أن العدة بالحيض : كل ذلك تحامل لمذهب أبى حنيفة في أن الأقراء الحيض ، ولا يتم له ذلك ، فقد استدل أصحابنا بالقراءة المستفيضة ، وأكدوا الدلالة بالشاذة على أن الأقراء الأطهار. ووجه الاستدلال لها على ذلك : أن الله تعالى جعلى العدة ـ وإن كانت في الأصل مصدرا ـ ظرفا الطلاق المأمور به. وكثيرا ما تستعمل العرب المصادر ظرفا ، مثل خفوق النجم ومقدم الحاج. وإذا كانت العدة ظرفا للطلاق المأمور به ، وزمانه هو الطهر وفاقا ، فالطهر عدة إذا. ونظير اللام هنا على التحقيق : اللام في قوله (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) وإنما تمنى أن لو عمل عملا في حياته ، وقراءته عليه السلام : في قبل عدتهن ، تحقق ذلك. فان قيل. الشيء جزء منه وداخل فيه وفي صفة مسح الرأس فأقبل بهما وأدبر ، أى مسح قبل الرأس وهو مقدمها ، فحينئذ قبل العدة جزء منها وهو الطهر.

(٥) قال محمود : «والمراد أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه ... الخ» قال أحمد : الأمر كما نقله ، وضابط

٥٥٢

من الندم ، ويدل عليه ما روى عن إبراهيم النخعي أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة ، ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدّة ، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثا في ثلاثة أطهار. وقال مالك بن أنس رضى الله عنه : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة ، وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو متفرقة. وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد ، فأما مفرقا في الأطهار فلا ، لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض : ما هكذا أمرك الله ، إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا ، وتطلقها لكل قرء تطليقة (١) وروى أنه قال لعمر : مر ابنك فليراجعها ، ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ، ثم ليطلقها إن شاء ، فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء (٢). وعند الشافعي رضى الله عنه : لا بأس بإرسال الثلاث ، وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح. فما لك تراعى في طلاق السنة الواحدة والوقت ، وأبو حنيفة يراعى التفريق والوقت ، والشافعي يراعى الوقت وحده. فإن قلت : هل يقع الطلاق المخالف للسنة؟ قلت : نعم ، وهو آثم ، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ رجلا طلق امرأته ثلاثا بين يديه ، فقال ، أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم (٣). وفي حديث ابن عمر أنه قال : يا رسول الله ، أرأيت لو طلقتها ثلاثا ، فقال له : إذن عصيت وبانت منك امرأتك (٤). وعن عمر رضى الله عنه أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته

__________________

ـ السنة عند مالك : أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه واحدة وهي غير معتدة. والآية تدل لمذهبه على تأويل المتقدمين جميعا ، أما على تأويل الزمخشري وتفسيره المقيد بالاستقبال ، فلأن الطلاق المأمور به أى المأذون فيه في الآية : مقيد بوقت تكون العدة مستقبلة بالنسبة إليه ، وهذا يأبى وقوع الطلاق في أثناء العدة الماضي بعضها. وأما على تأويلنا فلأنه مقيد بزمان يكون أولا للعدة وقبلا لها ، وهذا يأبى من وقوعه مرادفا في الطهر الثاني والثالث ، غير أن البدعة عند مالك تتفاوت ، فلا جرم قال إن طلقها في الحيض أجبر على الرجعة ، فإن أبى ارتجع عليه الحاكم ، وإن طلقها في طهر مسها فيه أو أردف الطلاق لم يجبره ،

(١) أخرجه الدارقطني من رواية عطاء الخراساني عن الحسن عن ابن عمر به ، وأتم منه.

(٢) متفق عليه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما.

(٣) لم أره هكذا. وإنما رواه النسائي من رواية مخرمة بن بكير عن أبيه عن محمود بن لبيد «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا. فقام غضبان ثم قال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال : يا رسول الله ، ألا نقتله؟».

(٤) هو في آخر الحديث الثاني عند الدارقطني ولفظه «فقلت : يا رسول الله ، أفرأيت لو طلقتها أثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال : لا. كانت تبين منك ، وكانت معصية» واللفظ الذي في الكتاب موقوف. في الصحيح على ابن عمر رضى الله عنهما.

٥٥٣

ثلاثا إلا أوجعه ضربا. وأجاز ذلك عليه (١). وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين : أنّ من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلث لم يقع ، وشبهوه بمن وكل غيره بطلاق السنة فخالف. فإن قلت : كيف تطلق للسنة التي لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل وغير المدخول بها؟ قلت : الصغيرة والآيسة والحامل كلهن عند أبى حنيفة وأبى يوسف يفرق عليهن الثلاث في الأشهر ، وخالفهما محمد وزفر في الحامل فقالا : لا تطلق للسنة إلا واحدة. وأما غير المدخول بها فلا تطلق للسنة إلا واحدة ، ولا يراعى الوقت. فإن قلت : هل يكره أن تطلق المدخول بها واحدة بائنة؟ قلت : اختلفت الرواية فيه عن أصحابنا. والظاهر الكراهة. فإن قلت : قوله إذا طلقتم النساء عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء والآيسات والصغائر والحوامل ، فكيف صحّ تخصيصه بذوات الأقراء المدخول بهن؟ قلت : لا عموم ثم ولا خصوص ، ولكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس ، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن ، فجاز أن يراد بالنساء هذا وذاك ، فلما قيل (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) علم أنه أطلق على بعضهنّ وهنّ المدخول بهن من المعتدات بالحيض (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) واضبطوها بالحفظ وأكملوها ثلاثة أقراء مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن (٢) (لا تُخْرِجُوهُنَ) حتى تنقضي عدتهنّ (مِنْ بُيُوتِهِنَ) من مساكنهنّ التي يسكنها قبل العدة ، وهي بيوت الأزواج ، وأضيفت إليهنّ لاختصاصها بهنّ من حيث السكنى. فإن قلت : ما معنى الجمع بين إخراجهم أو خروجهن (٣)؟ قلت : معنى الإخراج (٤) : أن لا يخرجهن البعولة غضبا عليهن وكراهة لمساكنتهن ، أو لحاجة لهم إلى المساكن ، وأن لا يأذنوا لهنّ في الخروج إذا طلبن ذلك ، إيذانا بأنّ إذنهم لا أثر له في رفع الحظر ، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ذلك (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قرئ بفتح الياء وكسرها. قيل : هي الزنا ، يعنى إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن وقيل : إلا أن يطلقن على النشوز ، والنشوز يسقط حقهنّ في السكنى. وقيل : إلا أن يبذون (٥)

__________________

(١) أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من رواية شقيق بن عبد الله عن أنس قال : كان عمر رضى الله عنه إذا أتى برجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس أوجعه ضربا. وفرق بينهما».

(٢) قال محمود : «معناه أكملوا العدة أقراء ثلاثة مستوفاة» قال أحمد : وقوله (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) توطئة لقوله (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) حتى كأنه نهى عن الإخراج مرتين : مندرجا في العموم ، ومفرد بالخصوص. وقد تقدمت أمثاله.

(٣) قوله «بين إخراجهم أو خروجهن» لعله : وخروجهن. (ع)

(٤) قوله «قلت : معنى الإخراج» الأولى : معنى الجمع بينهما ، وإلا فالأولى فيما يأتى ، ومعنى الخروج : أن لا يخرجن بأنفسهن. (ع)

(٥) قوله «وقيل إلا أن يبذون» في الصحاح : البذاءة ـ بالمد : الفحش ، تقول : بذوت على القوم وأبذيت ، وقد بذو الرجل. (ع)

٥٥٤

فيحل إخراجهنّ لبذائهنّ ، وتؤكده قراءة أبىّ : إلا أن يفحشن عليكم. وقيل : خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه. الأمر الذي يحدثه الله : أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها. ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها. والمعنى : فطلقوهنّ لعدتهن وأحصوا العدة ، لعلكم ترغبون وتندمون فتراجعون (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) وهو آخر العدة وشارفنه ، فأنتم بالخيار : إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف والإحسان ، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتقاء الضرار وهو أن يراجعها في آخر عدتها ثم يطلقها تطويلا للعدة عليها وتعذيبا لها (وَأَشْهِدُوا) يعنى عند الرجعة والفرقة جميعا. وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبى حنيفة كقوله (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وعند الشافعي : هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة. وقيل : فائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد ، وأن لا يتهم في إمساكها ، ولئلا يموت أحدهما فيدعى الباقي ثبوت الزوجية ليرث (مِنْكُمْ) قال الحسن : من المسلمين. وعن قتادة : من أحراركم (لِلَّهِ) لوجهه خالصا ، وذلك أن تقيموها لا للمشهود له ولا للمشهود عليه ، ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الظلم ، كقوله تعالى (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أى (ذلِكُمْ) الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ولأجل القيام بالقسط (يُوعَظُ بِهِ ...... وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) يجوز أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة ، وطريقه الأحسن والأبعد من الندم ، ويكون المعنى : ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد (يَجْعَلْ) الله (لَهُ مَخْرَجاً) مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق ، ويفرج عنه وينفس ويعطه الخلاص (وَيَرْزُقْهُ) من وجه لا يخطره بباله ولا يحتسبه إن أو في المهر وأدى الحقوق والنفقات وقل ماله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عمن طلق ثلاثا أو ألفا ، هل له من مخرج؟ فتلاها (١). وعن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال : لم تتق الله فلم يجعل لك مخرجا ، بانت منك بثلاث والزيادة إثم في عنقك. ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ) يعنى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ومخلصا من غموم الدنيا والآخرة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها فقال : مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد

__________________

(١) أخرجه الدارقطني والطبراني وابن مردويه من طريق عبيد الله بن الوليد وغيره عن إبراهيم بن عبد الله ابن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده. قال «طلق بعض آبائي امرأته ألفا فانطلق بنوه ، فقالوا : يا رسول الله إن أبانا طلق أمنا ألفا. فهل له مخرج. فقال : إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجا ـ الحديث» وفي إسناده جماعة من الضعفاء. رواه إسحاق في مسنده عن ابن إدريس عن عبيد الله بن الوليد عن داود بن إبراهيم عن عبادة بن الصامت كذا قال.

٥٥٥

يوم القيامة (١). وقال عليه السلام : إنى لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ ...) فما زال يقرؤها ويعيدها (٢). وروى أنّ عوف بن مالك الأشجعى أسر المشركون ابنا له يسمى سالما. فأتى رسول الله فقال : أسر ابني وشكا إليه الفاقة ، فقال : ما أمسى عند آل محمد إلا مدّ فاتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوّة إلا بالله ، ففعل فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفل عنها العدو فاستاقها ، فنزلت هذه الآية (٣) (بالِغُ أَمْرِهِ) أى يبلغ ما يريد لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب. وقرئ : بالغ أمره بالإضافة ، وبالغ أمره : بالرفع ، أى : نافذ أمره وقرأ المفضل : بالغا أمره ، على أنّ قوله (قَدْ جَعَلَ اللهُ) خبر إن ، وبالغا حال (قَدْراً) تقديرا وتوقيتا. وهذا بيان لوجوب التوكل على الله (٤) ، وتفويض الأمر إليه ، لأنه إذا علم أنّ كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته : لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل.

__________________

(١) أخرجه الثعلبي والواحدي من رواية سعيد بن راشد عن عبد الله بن سعيد بن أبى هند عن زيد بن أسلم عن عطاء عن ابن عباس به مرفوعا. ورواه أبو نعيم موقوفا على قتادة في ترجمته في الحلية.

(٢) أخرجه أحمد في الزهد وابن ماجة وابن حبان والحاكم من طريق ابن السلبل حزيب بن مغير عن أبى ذر مرفوعا

(٣) أخرجه الثعلبي من طريق الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال «جاء عوف بن مالك الأشجعى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكره نحوه. ولم يسم الابن ، لكن قال : أنه أحضر أربعة آلاف شاة ورواه البيهقي في الدلائل من طريق أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه نحوه. وفيه فلم يلبث الرجل أن رد الله عليه ابنه وإبله أو فر ما كانت. فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فقام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأمرهم بمسألة الله والرغبة إليه. وقرأ عليهم (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ ـ) الآية وروى الحاكم من طريق سالم بن الجعد عن جابر قال «نزلت هذه الآية في رجل من أشجع كان فقيرا خفيف ذات اليد كثير العيال ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله. فقال : اتق الله واصبر ، فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء ابن له بغنم كان العدو أصابها. فذكره مختصرا. وفيه عبيد بن كثير تركه الأزدى وعباد عن يعقوب. وهو رافضي.

(٤) قال محمود : «قوله (بالِغُ أَمْرِهِ) بيان لوجوب التوكل على الله ، وتفويض الأمر إليه ... الخ» قال أحمد : ليس بعشك فادرجى أيراه القدري ، وأين التسليم للقدر وليس هذا دينه ولا معتقده من تقسيم الحوادث ثلاثة أقسام : فمنها ما يريد الله تعالى وجوده وهو المأمورات ولا يقع أكثر مراده منها ، ومنها ما يريد عدمه وهو المنهيات فيوجد أكثرها على خلاف مراده ، ومنها ما لا يريد عدمه ولا وجوده فان وجد فبغير إرادته عز وجل وإن عدم فكذلك فيتحصل من هذا الهذيان الذي لا يتصور أن الكائنات إنما تتبع إرادة الخلق لأنها لا تقع إلا بها ، فان واقت إرادة الله تعالى فليس وقوعها تابعا لها ؛ لأنها وقعت بدونها ، وإن خالفت إرادة الله تعالى لم يكن لمخالفتها للارادة الربانية تأثير في منع وقوعها ، فمن يتوغل في أدغال هذا الضلال كيف له بالتوكل الذي يتوقف على اعتقاد أن الكائنات جميعها إنما تتوقف على إرادة الله عز وجل ، فمهما أراده وقع ، ومهما لم يرده لم يقع ، شاء العبد أو أبى ، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، والعبد مجرى لحدوث الكائنات الواقعة بقدرة الله تعالى وإرادته لا غير ، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه ، فما القدري من هذا المقام الشريف إلا على مراحل لا يقربه إليها إلا راحلة الانصاف وزاد التقوى ودليل التوفيق ، والله حسبنا ونعم الوكيل.

٥٥٦

(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً)(٥)

روى أنّ ناسا قالوا : قد عرفنا عدة ذوات الأقراء ، فما عدة اللائي لا يحضن ، فنزلت : فمعنى (إِنِ ارْتَبْتُمْ) : إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهنّ ، وقيل : إن ارتبتم في ذم البالغات مبلغ اليأس وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين ، أهو دم حيض أو استحاضة؟ (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها ، فغير المرتاب بها أولى بذلك (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) هن الصغائر. والمعنى : فعدتهن ثلاثة أشهر ، فحذف لدلالة المذكور عليه. اللفظ مطلق في أولات الأحمال ، فاشتمل على المطلقات والمتوفى عنهن. وكان ابن مسعود وأبىّ وأبو هريرة وغيرهم لا يفرقون. وعن على وابن عباس : عدة الحامل المتوفى عنها أبعد الأجلين (١). وعن عبد الله : من شاء لا عنته أنّ سورة النساء القصرى نزلت بعد التي في البقرة (٢) ، يعنى : أنّ هذا اللفظ مطلق في الحوامل. وروت أم سلمة أنّ سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بليال ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها : قد حللت فانكحي (٣) (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) ييسر له من أمره ويحلل له من عقده بسبب التقوى (ذلِكَ أَمْرُ اللهِ) يريد ما علم من حكم هؤلاء المعتدات. والمعنى : ومن يتق الله في العمل بما أنزل الله من هذه الأحكام وحافظ على الحقوق الواجبة عليه مما ذكر من الإسكان وترك الضرار والنفقة على الحوامل وإيتاء أجر المرضعات وغير ذلك : استوجب تكفير السيئات والأجر العظيم.

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ

__________________

(١) رواه البخاري في صحيحه قال : «جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة عنده. فقال : أفتنى في امرأة ولدت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة. فقال ابن عباس آخر الأجلين وفيه قصة سبيعة. وفيه مخالفة أبى هريرة له في ذلك رواه ابن أبى شيبة عن وكيع عن إسماعيل عن الشعبي قال قال عبد الله «أجل كل حامل حتى تضع» وكان على يقول «آخر الأجلين» وله طريق أخرى عنده موصولة من طريق عبيد بن الحسن عن عبد الرحمن بن معقل قال «شهدت عليا رضى الله عنه ... فذكره نحوه.

(٢) أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة من طريق مسروق لم يذكر البخاري أوله. وزاد عبد الرزاق أنه قال ذلك لما بلغه أن عليا قال «هي في آخر الأجلين».

(٣) متفق عليه وله طرق وألفاظ. وفي رواية البخاري «فوضعت بعد موته بأربعين ليلة».

٥٥٧

وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)(٧)

(أَسْكِنُوهُنَ) وما بعده : بيان لما شرط من التقوى في قوله (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) كأنه قيل : كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل : أسكنوهن. فإن قلت : من في (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) ما هي؟ قلت : هي من التبعيضية مبعضها محذوف (١) معناه : أسكنوهن مكانا من حيث سكنتم ، أى بعض مكان سكناكم ، كقوله تعالى (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) أى بعض أبصارهم. قال قتادة : إن لم يكن إلا بيت واحد ، فأسكنها في بعض جوانبه. فإن قلت : فقوله (مِنْ وُجْدِكُمْ)؟ (٢) قلت : هو عطف بيان لقوله (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) وتفسير له ، كأنه قيل : أسكنوهن مكانا من مسكنكم مما تطيقونه. والوجد : الوسع والطاقة. وقرئ بالحركات الثلاث. والكنى والنفقة : واجبتان لكل مطلقة. وعند مالك والشافعي : ليس للمبتوتة إلا السكنى ولا نفقة لها. وعن الحسن وحماد : لا نفقة لها ولا سكنى ، لحديث فاطمة بنت قيس : أن زوجها أبت طلاقها (٣) ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا سكنى لك ولا نفقه (٤). وعن عمر رضى الله عنه : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : «لها السكنى والنفقة» (٥) (وَلا تُضآرُّوهُنَ) ولا تستعملوا معهن الضرار (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) في المسكن ببعض الأسباب : من إنزال من لا يوافقهن ، أو يشغل مكانهن ، أو غير ، ذلك ، حتى تضطروهن إلى الخروج. وقيل : هو أن يراجعها إذا بقي من عدتها يومان ليضيق

__________________

(١) قوله «مبعضها محذوف معناه» قد يقال : مبعضها هو مدخولها ، وهو (حَيْثُ سَكَنْتُمْ) بمعنى مكان سكناهم فلا حذف ، إلا أن يراد بمبعضها البعض المدلول عليه بها. (ع)

(٢) قوله «فان قلت فقوله من وجدكم» لعل عقبه سقطا تقديره. ما موقعه؟ (ع)

(٣) قوله «أن زوجها أبت طلاقها» لعله «بت» كما في النسفي. (ع)

(٤) أخرجه مسلم من طرق عنها. وفي رواية «فلم يجعل لها سكنى ولا نفقة» وفي رواية «لا نفقة لك ولا سكنى» وفي رواية «طلقني زوجي ثلاثا».

(٥) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق أبى إسحاق قال «كنت مع الأسود ومعنا الشعبي في المسجد إذ حدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس. فأخذ الأسود كفا من حصا فحصبه به وقال : يا ويلك تحدث بمثل هذا؟ قال عمر : لا نترك كتاب ربنا وسغة نبينا لقول امرأة لعلها حفظت أو نسيت.

٥٥٨

عليها أمرها. وقيل : هو أن يلجئها إلى أن تفتدى منه. فإن قلت : فإذا كانت كل مطلقة عندكم تجب لها النفقة ، فما فائدة الشرط في قوله (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) (١) قلت : فائدته أن مدة الحمل ربما طالت فظن ظانّ أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحائل ، فنفى ذلك الوهم. فإن قلت : فما تقول في الحامل المتوفى عنها؟ قلت : مختلف فيها ، فأكثرهم على أنه لا نفقة لها ، لوقوع الإجماع على أنّ من أجبر الرجل على النفقة عليه من امرأة أو ولد صغير لا يجب أن ينفق عليه من ماله بعد موته ، فكذلك الحامل. وعن على وعبد الله وجماعة : أنهم أوجبوا نفقتها (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) يعنى هؤلاء المطلقات إن أرضعن لكم ولدا من غيرهنّ أو منهنّ بعد انقطاع عصمة الزوجية (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) حكمهنّ في ذلك حكم الأظآر (٢) ، ولا يجوز عند أبى حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبنّ. ويجوز عند الشافعي. الائتمار بمعنى التآمر ، كالاشتوار بمعنى التشاور. يقال : ائتمر القوم وتآمروا ، إذا أمر بعضهم بعضا. والمعنى : وليأمر بعضكم بعضا ، والخطاب للآباء والأمهات (بِمَعْرُوفٍ) بجميل وهو المسامحة ، وأن لا يماكس الأب ولا تعاسر الأم ، لأنه ولدهما معا ، وهما شريكان فيه وفي وجوب الإشفاق (٣) عليه (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) فستوجد ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه ، وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى : سيقضيها غيرك (٤) ، تريد : لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم ، وقوله (لَهُ) أى للأب ، أى : سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه (لِيُنْفِقْ) كل واحد من

__________________

(١) قوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) إلى قوله : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ ...) الآية.

قال أحمد : لا يخفى على المتأمل لهذه الأى أن المبتوتة غير الحامل لا نفقة لها ، لأن الآي سيقت لبيان الواجب ، فأوجب السكنى لكل معتدة تقدم ذكرها ولم يوجب سواها ، ثم استثنى الحوامل فخصهن بإيجاب النفقة لهن حتى يضعن حملهن ، وليس بعد هذا البيان بيان ، والقول بعد ذلك بوجوب النفقة لكل معتدة مبتوتة حاملا أو غير حامل لا يخفى منافرته لنظم الآية ، والزمخشري نصر مذهب أبى حنيفة فقال : فائدة تخصيص الحوامل بالذكر : أن الحمل ربما طال أمده فيتوهم متوهم أن النفقة لا تجب بطوله ، فخصت بالذكر تنبيها على قطع هذا الوهم ، وغرض الزمخشري بذلك أن يحمل التخصيص على هذه الفائدة ، كيلا يكون له مفهوم في إسقاط النفقة لغير الحوامل ، لأن أبا حنيفة يسوى بين الجميع في وجوب النفقة.

(٢) قوله «في ذلك حكم الأظآر» الظئر : المرضع لولد غيرها ، والجمع : ظؤار ، بالضم. وظئور وأظآر ، كما في الصحاح. (ع)

(٣) قوله «وفي وجوب الإشفاق» كذا عبارة النسفي. (ع)

(٤) قال محمود : «وفي قوله (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) معاتبة للأم على المعاسرة ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة ... الخ» قال أحمد : وخص الأم بالمعاتبة لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها ، وهو غير متمول ولا مضنون به في العرف ، وخصوصا في الأم على الولد ، ولا كذلك المبذول من جهة الأب ، فانه المال المضنون به عادة ، فالأم إذا أجدى باللوم وأحق بالعتب ، والله أعلم.

٥٥٩

الموسر والمعسر ما بلغه وسعه يريد : ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات ، كما قال (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) وقرئ لينفق بالنصب ، أى شرعنا ذلك لينفق. وقرأ ابن أبى عبلة : قدر (سَيَجْعَلُ اللهُ) موعد لفقراء ذلك الوقت بفتح أبواب الرزق عليهم ، أو لفقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه ولم يقصروا.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً)(١١)

(عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها) أعرضت عنه على وجه العتوّ والعناد (حِساباً شَدِيداً) بالاستقصاء والمناقشة (عَذاباً نُكْراً) وقرئ : نكرا منكرا عظيما ، والمراد : حساب الآخرة وعذابها ما يذوقون فيها من الوبال ويلقون من الخسر ، وجيء به على لفظ الماضي ، كقوله تعالى (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) ، (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ) ونحو ذلك ، لأنّ المنتظر من وعد الله ووعيده ملقى في الحقيقة ، وما هو كائن فكان قد. وقوله (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) تكرير للوعيد وبيان لكونه مترقبا» كأنه قال : أعد الله لهم هذا العذاب فليكن لكم ذلك (يا أُولِي الْأَلْبابِ) من المؤمنين لطفا في تقوى الله وحذر عقابه. ويجوز أن يراد إحصاء السيئات ، واستقصاؤها عليهم في الدنيا ، وإثباتها في صحائف الحفظة ، وما أصيبوا به من العذاب في العاجل ، وأن يكون (عَتَتْ) وما عطف عليه : صفة للقرية. وأعد الله لهم : جوابا لكأين (رَسُولاً) هو جبريل صلوات الله عليه : أبدل من ذكرا ، لأنه وصف بتلاوة آيات الله ، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر (١) فصح إبداله منه. أو أريد بالذكر : الشرف ، من قوله (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) فأبدل

__________________

(١) قوله تعالى (رَسُولاً) ذكر الزمخشري فيه ستة أوجه : إبدال الرسول عن الذكر لأن إنزاله في معنى إنزال الذكر ... الخ قال أحمد : وعلى هذين الوجهين الأخيرين يكون مفعولا ، إما بالفعل المحذوف أو بالمصدر. وعلى الأربعة المتقدمة بدلا. والله سبحانه وتعالى أعلم.

٥٦٠