الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ)(١٨)

أسند الفعل إلى المصدر ، وحسن تذكيره للفصل. وقرأ أبو السمال نفخة واحدة بالنصب مسندا للفعل إلى الجار والمجرور. فإن قلت : هما نفختان ، فلم قيل : واحدة (١)؟ قلت معناه أنها لا تثنى في وقتها. فإن قلت : فأى النفختين هي؟ قلت الأولى لأن عندها فساد العالم ، وهكذا الرواية عن ابن عباس. وقد روى عنه أنها الثانية. فإن قلت : أما قال بعد (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) والعرض إنما هو عند النفخة الثانية؟ قلت : جعل اليوم اسما للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان والصعقة والنشور والوقوف والحساب ، فلذلك قيل (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) كما تقول : جئته عام كذا ، وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته (وَحُمِلَتِ) ورفعت من جهاتها بريح بلغت من قوّة عصفها أنها تحمل الأرض والجبال. أو بخلق من الملائكة. أو بقدرة الله من غير سبب. وقرئ : وحملت ، بحذف المحمل وهو أحد الثلاثة (فَدُكَّتا) فدكت الجملتان : جملة الأرضين وجملة الجبال ، فضرب بعضها ببعض حتى تندقّ وترجع كثيبا مهيلا وهباء منبثا. والدك أبلغ من الدق. وقيل : فبسطتا بسطة واحدة ، فصارتا أرضا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، من قولك : اندكّ السنام إذا انفرش. وبعير أدك وناقة دكاء. ومنه : الدكان (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) فحينئذ نزلت النازلة وهي القيامة (واهِيَةٌ) مسترخية ساقطة القوّة جدّا بعد ما كانت محكمة مستمسكة. يريد : والخلق الذي يقال له الملك ، وردّ إليه الضمير مجموعا في قوله (فَوْقَهُمْ) على المعنى : فإن قلت : ما الفرق بين قوله (وَالْمَلَكُ) ، وبين أن يقال والملائكة؟ قلت : الملك أعمّ من الملائكة ، ألا ترى أن قولك : ما من ملك إلا وهو شاهد ، أعم من قولك : ما من ملائكة (عَلى أَرْجائِها) على جوانبها : الواحد رجا مقصور ، يعنى : أنها تنشق ، وهي مسكن الملائكة ، فينضوون (٢) إلى أطرافها وما حولها من حافاتها (٣) (ثَمانِيَةٌ) أى : ثمانية

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت : لم قال واحدة وهما نفختان ... الخ»؟ قال أحمد : وأما فائدة الاشعار بعظم هذه للنفخة : أن المؤثر لدك الأرض والجبال وخراب العالم هي وحدها غير محتاجة إلى أخرى.

(٢) قوله «فينضوون إلى أطرافها» في الصحاح ضويت إليه : أويت إليه وانضممت. (ع)

(٣) قال محمود : «أى على حافتها لأنها تنشق تنضوى الملائكة الذين هي سكانها إلى أذيالها ... الخ» قال أحمد : كلاهما معرف تعريف الجنس ، فالواحد والجمع سواء في العموم.

٦٠١

منهم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «هم اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية (١)» وروى : ثمانية أملاك : أرجلهم في تخوم الأرض السابعة ، والعرش فوق رؤسهم ، وهم مطرقون مسبحون. وقيل : بعضهم على صورة الإنسان ، وبعضهم على صورة الأسد ، وبعضهم على صورة الثور ، وبعضهم على صورة النسر. وروى : ثمانية أملاك في خلق الأوعال ، ما بين أظلافها إلى ركبها : مسيرة سبعين عاما. وعن شهر بن حوشب : أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ، وأربعة يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على حلمك بعد علمك. وعن الحسن : الله أعلم كم هم ، أثمانية أم ثمانية آلاف؟ وعن الضحاك : ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلا الله. ويجوز أن تكون الثمانية من الروح ، أو من خلق آخر ، فهو القادر على كل خلق ، سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون. العرض : عبارة عن المحاسبة والمساءلة. شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرف أحواله. وروى أنّ في يوم القيامة ثلاثة عرضات ، فأما عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ ، وأما الثالثة ففيها تنشر الكتب فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله (خافِيَةٌ) سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا بستر الله عليكم.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) (٢٤)

(فَأَمَّا) تفصيل للعرض. ها : صوت يصوت به فيفهم منه معنى «خذ» كأف وحس ، وما أشبه ذلك (٢). و (كِتابِيَهْ) منصوب بهاؤم عند الكوفيين ، وعند البصريين باقرءوا ، لأنه أقرب العاملين. وأصله : هاؤم كتابي اقرؤا كتابي ، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه. ونظيره (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) قالوا : ولو كان العامل الأوّل لقيل : اقرؤه وأفرغه. والهاء للسكت في (كِتابِيَهْ) ، وكذلك في (حِسابِيَهْ) و (مالِيَهْ) و (سُلْطانِيَهْ) وحق هذه الهاءات أن

__________________

(١) أخرجه الطبري من طريق أبى إسحاق. قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ـ فذكره. وهو مذكور في الحديث الطويل الذي يرويه إسماعيل بن رافع عن زيد بن أبى زياد عن القرظي عن رجل عن أبى هريرة. رواه أبو يعلى وغيره وقد تقدم.

(٢) قوله «كأف وحس ، وما أشبه ذلك» يفهم من كل منهما معنى التضجر والتألم ، كما يفيده الصحاح. (ع)

٦٠٢

تثبت في الوقف وتسقط في الوصل ، (١) وقد استحب إيثار الوقف إيثارا لثباتها لثباتها في المصحف. وقيل : لا بأس بالوصل والإسقاط. وقرأ ابن محيصن بإسكان الياء بغير هاء. وقرأ جماعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف جميعا لاتباع المصحف (ظَنَنْتُ) علمت. وإنما أجرى الظن مجرى العلم ، لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام. ويقال : أظن ظنا كاليقين أنّ الأمر كيت وكيت (راضِيَةٍ) منسوبة إلى الرضا ، كالدارع والنابل. والنسبة نسبتان : نسبة بالحرف ، ونسبة بالصيغة. أو جعل الفعل لها مجازا وهو لصاحبها (عالِيَةٍ) مرتفعة المكان في السماء. أو رفيعة الدرجات. أو رفيعة المبانى والقصور والأشجار (دانِيَةٌ) ينالها القاعد والنائم. يقال لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) (٢) أكلا وشربا هنيئا. أو هنيتم هنيئا على المصدر (بِما أَسْلَفْتُمْ) بما قدمتم من الأعمال الصالحة (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) الماضية من أيام الدنيا. وعن مجاهد : أيام الصيام ، أى : كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله. وروى. يقول الله عز وجل : يا أوليائى طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة ، وغارت أعينكم ، وخمصت بطونكم ، فكونوا اليوم في نعيمكم ، وكلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ)(٢٩)

الضمير في (يا لَيْتَها) للموتة : يقول : يا ليت الموتة التي متها (كانَتِ الْقاضِيَةَ) أى القاطعة

__________________

(١) قال محمود : «وحق هذه الهاءات يعنى في كتابيه وحسابيه وماليه وسلطانيه ... الخ» قال أحمد : تعليل القراءة باتباع المصحف عجيب مع أن المعتقد الحق أن القراآت السبع بتفاصيلها منقولة تواترا عن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ، فالذي أثبت الهاء في الوصل إنما أثبتها من التواتر عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم : آيها كذلك قبل أن تكتب في المصحف ، وما نفس هؤلاء إلا إدخال الاجتهاد في القراآت المستفيضة ، واعتقاد أن فيها ما أخذ بالاختيار النظري وهذا خطأ لا ينبغي فتح بابه ، فانه ذريعة إلى ما هو أكبر منه ، ولقد جرت بيني وبين الشيخ أبى عمرو رحمه الله مفاوضة في قوله (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ) على قراءة حفص ، انتهت إلى أن ألزم الرد على من أثبت الهاء في الوصل في كلمات سورة الحاقة. لأنى حججته بإثبات القراء المشاهير لها كذلك ، ففهمت من رده لذلك ما فهمه من كلام الزمخشري هاهنا ولم أقبله منه رحمه الله ، فتراجع عنه ، وكانت هذه المفاوضة بمكاتبة بيني وبينه ، وهي آخر ما كتب من العلوم على ما أخبرنى به خاصته ، وذلك صحيح لأنها كانت في أوائل مرضه رحمه الله ، والله أعلم.

(٢) قوله «كلوا واشربوا هنيئا» في الصحاح : هنؤ الطعام وهنيء ، أى : صار هنيئا. وهنأنى الطعام يهنئني ويهنؤنى ، ولا نظير له في المهموز هنأ وهناء. وهنئت الطعام ، أى : تهنأت به ، وكلوه هنيئا مريئا. (ع)

٦٠٣

لأمرى ، فلم أبعث بعدها ، ولم ألق ما ألقى. أو للحالة ، أى : ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت علىّ ، لأنه رأى تلك الحالة أبشع وأمر مما ذاقه من مرارة الموت وشدته ، فتمناه عندها (ما أَغْنى) نفى أو استفهام على وجه الإنكار ، أى : أىّ شيء أغنى عنى ما كان لي من اليسار (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) ملكي وتسلطي على الناس ، وبقيت فقيرا ذليلا. وعن ابن عباس : أنها نزلت في الأسود بن عبد الأشد. وعن فناخسرة الملقب بالعضد ، أنه لما قال :

عضد الدّولة وابن ركنها

ملك الأملاك غلّاب القدر (١)

لم يفلح بعده وجنّ فكان لا ينطق لسانه إلا بهذه الآية. وقال ابن عباس : ضلت عنى حجتي. ومعناه : بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا.

(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ)(٣٧)

(ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) ثم لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظمى ، لأنه كان سلطانا يتعظم على الناس. يقال : صلى النار وصلاه النار. سلكه في السلسلة : أن تلوى على جسده حتى تلتف

__________________

(١) ليس شرب الكأس إلا في المطر

وغناء من جوار في سحر

غانيات سالبات النهى

ناعمات في تضاعيف الوتر

مبردات الكأس من مطلعها

ساقيات الكأس من فاق البشر

عضد الدولة وابن ركنها

ملك الأملاك غلاب القدر

الحسن بن على الطوسي. وقيل لعضد الدولة نفسه ، يقول : ليس شرب الخمر الكامل اللذة إلا في حال المطر ، وفي حال غناء الجواري في السحر ، غانيات : جميلات مقيمات في العيون عذرات ، سالبات : ناهبات للنهى : جمع نهية وهي العقل ، ناعمات : أى متنعمات. وفي تضاعيف الوتر : متعلق بغناء. ويروى : ناغمات ، بالمعجمة ، أى : محسنات لأصواتهن في أثناء صوت الوتر ، وهو الخيط المشدود في آلة اللهو. والراح : الخمر. وعضد الدولة : بدل من الموصول المفعول بساقيات. والعضد في الأصل : استعارة للممدوح ؛ لأن به قوتها. كالعضد للإنسان. والركن كذلك استعارة لأبيه يجامع التقوية أيضا ، وهو أقرب من تشبيه الدولة بالإنسان تارة وبالبناء أخرى ، على طريق المكنية ، ولكنهما الآن لقبان للممدوح وأبيه ، وذكر الضمير وإعادته على الدولة مع أنها جزء العلم في المحلين للمح الأصل كالاستعارة. والقدر : ما قدره الله وقضاه. وفي وصف ممدوحه بأنه غلاب القدر من فجور النساء ما لا يخفى ، ولذلك روى أنه جن وحبس لسانه حتى مات : وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «أغيظ الناس رجلا على الله يوم القيامة وأخبثهم : رجل تسمى ملك الأملاك ، ولا ملك إلا الله».

٦٠٤

عليه أثناؤها ، وهو فيما بينها مرهق مضيق عليه لا يقدر على حركة ، وجعلها سبعين ذراعا إرادة الوصف بالطول ، كما قال : إن تستغفر لهم سبعين مرة ، يريد : مرات كثيرة ، لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد. والمعنى في تقديم السلسلة على السلك : مثله في تقديم الجحيم على النصلية. أى : لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة ، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم. ومعنى (ثُمَ) الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية بالجحيم ، وما بينها وبين السلك في السلسلة ، لا على تراخى المدة (إِنَّهُ) تعليل على طريق الاستئناف ، وهو أبلغ ، كأنه قيل : ما له يعذب هذا العذاب الشديد؟ فأجيب بذلك. وفي قوله (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المسكين ، أحدهما : عطفه على الكفر ، وجعله قرينة له. والثاني : ذكر الحض دون الفعل ، ليعلم أنّ تارك الحض بهذه المنزلة ، فكيف بتارك الفعل ، وما أحسن قول القائل :

إذا نزل الأضياف كان عذوّرا

على الحىّ حتّى تستقلّ مراجله (١)

يريد حضهم على القرى واستعجلهم وتشاكس عليهم (٢). وعن أبى الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ، وكان يقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان ، أفلا نخلع نصفها الآخر؟ وقيل : هو منع الكفار. وقولهم : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) والمعنى على بذل طعام المسكين (حَمِيمٌ) قريب يدفع عنه ويحزن عليه ، لأنهم يتحامونه ويفرون منه ،

__________________

(١) تركنا فتى قد أيقن الجوع أنه

إذا ما ثوى في أرحل القوم قاتله

فتى قد قد السيف لا متضائل

ولا رهل لباته وأباجله

إذا نزل الأضياف كان عذورا

على الحي حتى تستقل مراجله

قيل : إنه للعجير السلولي. وقيل : لزينب بنت الطثرية ترثى أخاها يزيد. واللبن الطائر والخاثر : بمعنى. شبه الجوع بإنسان عدو للقوم على سبيل المكنية ، وإثبات الإيقان له تخييل ، وكذلك قتله ، وهذا مبالغة في وصف يزيد بالكرم ، وأنه مانع للجوع من دخوله بيوت القوم ولحوقه بهم ، حتى كأن الجوع يخافه ويتيقن أنه إذا دخل بيوت القوم قتله يزيد. ويجوز أن فاعل ثوى : ضمير يزيد ، لكن الأول أبلغ ، لأنه يفيد أن الجوع لم يدخل على القوم لخوفه من يزيد ، وقد : فعل مبنى للمجهول ، وقد السيف : مفعول مطلق ، أى خلق على شكل السيف في المضي في المكان وتنفيذ العزائم. والمتضائل المتضاعف المتخاشع ، والرهل ـ كتعب ـ : الاسترخاء. والرهل ـ كحذر ـ : وصف منه ، وجمع اللبة باعتبار ما حولها. والأباجل : جمع أبجل ، وهو عرق غليظ في الفخذ والساق وفرس وهن الأباجل سريع الجري ، والعذور ـ بالعين المهملة وتشديد الواو ـ : سيئ الخلق قليل الصبر عن مطلوبه ، كأنه يحتاج إلى الاعتذار عن سوء خلقه. والمراجل : القدور العظام يقول : تركنا في المعركة فتى كريما جوادا سريعا في قرى الضيفان ، إذا نزلوا به كان سيئ الخلق على أهله ، حتى ترتفع قدوره الأثافى ، فيحسن خلقه كما كان.

(٢) قوله «وتشاكس عليهم» في الصحاح : رجل شكس ، أى : صعب الخلق. (ع)

٦٠٥

كقوله (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً). والغسلين : غسالة أهل النار وما يسيل من أبدانهم من الصديد والدم ، فعلين من الغسل (الْخاطِؤُنَ) الآثمون أصحاب الخطايا. وخطئ الرجل : إذا تعمد الذنب (١) ، وهم المشركون : عن ابن عباس : وقرئ : الخاطيون ، بإبدال الهمزة ياء ، والخاطون بطرحها. وعن ابن عباس : ما الخاطون؟ كلنا نخطو. وروى عنه أبو الأسود الدؤلي : ما الخاطون؟ إنما هو الخاطئون ، ما الصابون؟ إنما هو الصابئون : ويجوز أن يراد : الذين يتخطون الحق إلى الباطل ، ويتعدّون حدود الله.

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٤٣)

هو إقسام بالأشياء كلها على الشمول والإحاطة ، لأنها لا تخرج من قسمين : مبصر وغير مبصر. وقيل : الدنيا والآخرة ، والأجسام والأرواح ، والإنس والجنّ ، والخلق والخالق ، والنعم الظاهرة والباطنة ، إن هذا القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أى يقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند الله (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) ولا كاهن كما تدعون والقلة في معنى العدم. أى : لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتة. والمعنى : ما أكفركم وما أغفلكم (تَنْزِيلٌ) هو تنزيل ، بيانا لأنه قول رسول نزل عليه (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) وقرأ أبو السمال : تنزيلا ، أى : نزل تنزيلا. وقيل «الرسول الكريم» جبريل عليه السلام ، وقوله (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) دليل على أنه محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنّ المعنى على إثبات أنه رسول ، لا شاعر ولا كاهن.

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(٥٢)

__________________

(١) قوله «وخطئ الرجل إذا تعمد الذنب» في الصحاح : قال الأموى ، المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره. والخاطئ : من تعمد لما لا ينبغي. (ع)

٦٠٦

التقوّل : افتعال القول (١) ، كأن فيه تكلفا من المفتعل. وسمى الأقوال المتقولة «أقاويل» تصغيرا بها وتحقيرا ، كقولك : الأعاجيب والأضاحيك ، كأنها جمع أفعولة من القول. والمعنى : ولو ادعى علينا شيئا لم نقله لقتلناه صبرا ، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام ، فصوّر قتل الصبر بصورته ليكون أهول : وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته. وخص اليمين عن اليسار لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف ، وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه. ومعنى (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) لأخذنا بيمينه ، كما أن قوله (لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) لقطعنا وتينه ، وهذا بين. والوتين : نياط القلب وهو حبل الوريد : إذا قطع مات صاحبه. وقرئ : ولو تقول على البناء للمفعول. قيل (حاجِزِينَ) في وصف أحد ، لأنه في معنى الجماعة ، وهو اسم يقع في النفي العام مستويا فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. ومنه قوله تعالى (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) ، (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) والضمير في عنه للقتل ، أى : لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه. أو لرسول الله ، أى : لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل وتحولوا بينه وبينه ، والخطاب للناس ، وكذلك في قوله تعالى (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) وهو إيعاد على التكذيب. وقيل الخطاب للمسلمين. والمعنى : أن منهم ناسا سيكفرون بالقرآن (وَإِنَّهُ) الضمير للقرآن (لَحَسْرَةٌ) على الكافرين به المكذبين له إذا رأوا ثواب المصدقين به. أو للتكذيب ، وأن القرآن اليقين حق اليقين ، كقولك : هو العالم حق العالم ، وجدّ العالم. والمعنى : لعين اليقين ، ومحض اليقين (فَسَبِّحْ) الله بذكر اسمه العظيم وهو قوله : سبحان الله ، واعبده شكرا على ما أهلك له من إيحائه إليك.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حسابا يسيرا»(٢).

__________________

(١) قال محمود : «التقول : افتعال من القول ، لأن فيه تكلفا ... الخ» قال أحمد : وبناء أقعولة من القول ، وهو معتل ، كما ترى غيب عن القياس التصريفى. ويحتمل أن تكون الأقاويل جمع الجمع ، كالأناعيم : جمع أقوال وأنعام ، وهو الظاهر ، والله أعلم.

(٢) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.

٦٠٧

سورة المعارج

مكية ، وآياتها ٤٤ [نزلت بعد الحاقة]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ)(٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى)(١٨)

ضمن (سَأَلَ) معنى دعا ، فعدّى تعديته ، كأنه قيل : دعا داع (بِعَذابٍ واقِعٍ) من قولك : دعا بكذا. إذا استدعى وطلبه. ومنه قوله تعالى (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) وعن ابن عباس رضى الله عنهما : هو النضر بن الحرث : قال إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استعجل بعذاب للكافرين. وقرئ. سال سائل ، وهو على وجهين : إما أن يكون من السؤال وهي لغة قريش ، يقولون : سلت تسأل ، وهما يتسايلان ، وأن يكون من السيلان. ويؤيده قراءة ابن عباس : سال سيل ، والسيل : مصدر في معنى السائل ، كالغور بمعنى الغائر. والمعنى : اندفع عليهم وادى عذاب فذهب بهم وأهلكهم. وعن قتادة : سأل سائل عن عذاب الله على من ينزل وبمن يقع؟ فنزلت ، وسأل على هذا الوجه مضمن معنى: عنى واهتم. فإن قلت : بم يتصل

٦٠٨

قوله (لِلْكافِرينَ)؟ قلت : هو على القول الأوّل متصل بعذاب صفة له ، أى : بعذاب واقع كائن للكافرين ، أو بالفعل ، أى : دعا للكافرين بعذاب واقع. أو بواقع ، ؛ أى : بعذاب نازل لأجلهم ، وعلى الثاني : هو كلام مبتدأ جواب للسائل ، أى : هو للكافرين. فإن قلت : فقوله (مِنَ اللهِ) بم يتصل؟ قلت : يتصل بواقع ، أى واقع من عنده ، أو بدافع ، بمعنى : ليس له دافع من جهته إذا جاء وقته وأوجبت الحكمة وقوعه (ذِي الْمَعارِجِ) ذى المصاعد جمع معرج ، ثم وصف المصاعد وبعد مداها في العلو والارتفاع فقال: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) إلى عرشه وحيث تهبط منه أوامره (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ) كمقدار مدة (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) مما يعد الناس. والروح. جبريل عليه السلام ، أفرده لتميزه بفضله. وقيل : الروح خلق هم حفظة على الملائكة ، كما أنّ الملائكة حفظة على الناس. فإن قلت. بم يتعلق قوله (فَاصْبِرْ)؟ قلت : بسأل سائل ، لأنّ استعجال النصر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم والتكذيب بالوحي ، وكان ذلك مما يضجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بالصبر عليه ، وكذلك من سأل عن العذاب لمن هو ، فإنما سأل على طريق التعنت ، وكان من كفار مكة. ومن قرأ : سال سائل ، أو سيل ، فمعناه : جاء العذاب لقرب وقوعه ، فاصبر فقد شارفت الانتقام ، وقد جعل (فِي يَوْمٍ) من صلة (واقِعٍ) أى : يقع في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من سنيكم ، وهو يوم القيامة : إما أن يكون استطالة له لشدّته على الكفار ، وإما لأنه على الحقيقة كذلك. قيل : فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة ، وما قدر ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر. الضمير في (يَرَوْنَهُ) للعذاب الواقع ، أو ليوم القيامة فيمن علق (فِي يَوْمٍ) بواقع ، أى : يستبعدونه على جهة الإحالة (وَ) نحن (نَراهُ قَرِيباً) هينا في قدرتنا غير بعيد علينا ولا متعذر ، فالمراد بالبعيد : البعيد من الإمكان ، وبالقريب : القريب منه. نصب (يَوْمَ تَكُونُ) بقريبا ، أى : يمكن ولا يتعذر في ذلك اليوم. أو بإضمار يقع ، لدلالة (واقِعٍ) عليه. أو يوم تكون السماء كالمهل. كان كيت وكيت. أو هو بدل عن (فِي يَوْمٍ) فيمن علقه بواقع (كَالْمُهْلِ) كدردىّ الزيت. وعن ابن مسعود : كالفضة المذابة في تلوّنها (كَالْعِهْنِ) كالصوف المصبوغ ألوانا ، لأنّ الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ، فإذا بست وطيرت في الجو : أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أى لا يسأله بكيف حالك ولا يكلمه ، لأن بكل أحد ما يشغله عن المساءلة (يُبَصَّرُونَهُمْ) أى يبصر الأحماء الأحماء ، فلا يخفون عليهم ، (١) فما يمنعهم من المساءلة أنّ

__________________

(١) قال محمود : «معناه يبصر الأصدقاء أصدقاءهم فيعرفونهم ... الخ» قال أحمد : وفيه دليل على أن الفاعل والمفعول الواقعين في سياق النفي يعم ، كما التزم في : والله لا أشرب ماء من إداوة : أنه عام في المياه والأدوات ، خلافا لبعضهم في الأدوات.

٦٠٩

بعضهم لا يبصر بعضا ، وإنما يمنعهم التشاغل : وقرئ : يبصرونهم. وقرئ : ولا يسئل ، على البناء للمفعول ، أى : لا يقال الحميم أين حميمك ولا يطلب منه ، لأنهم يبصرونهم فلا يحتاجون إلى السؤال والطلب. فإن قلت : ما موقع يبصرونهم؟ قلت : هو كلام مستأنف ، كأنه لما قال (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) قيل : لعله لا يبصره ، فقيل : يبصرونهم ، ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تساؤلهم. فإن قلت : لم جمع الضميران في (يُبَصَّرُونَهُمْ) وهما للحميمين؟ قلت : المعنى على العموم لكل حميمين لا لحميمين اثنين. ويجوز أن يكون (يُبَصَّرُونَهُمْ) صفة ، أى : حميما مبصرين معرّفين إياهم. قرئ : يومئذ ، بالجرّ والفتح على البناء للإضافة إلى غير متمكن ، ومن عذاب يومئذ ، بتنوين (عَذابِ) ونصب (يَوْمِئِذٍ) وانتصابه بعذاب ، لأنه في معنى تعذيب (وَفَصِيلَتِهِ) عشيرته الأدنون الذين فصل عنهم (تُؤْوِيهِ) تضمه انتماء إليها ، أو لياذا بها في النوائب (يُنْجِيهِ) عطف على يفتدى ، أى : يودّ لو يفتدى ، ثم لو ينجيه الافتداء. أو من في الأرض. وثم : لاستبعاد الإنجاء ، يعنى : تمنى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ، ثم ينجيه ذلك وهيهات أن ينجيه (كَلَّا) ردّ للمجرم عن الودادة ، وتنبيه على أنه لا ينفعه الافتداء ولا ينجيه من العذاب ، ثم قال (إِنَّها) والضمير للنار ، ولم يجر لها ذكر ، لأنّ ذكر العذاب دل عليها. ويجوز أن يكون ضميرا مبهما ترجم عنه الخبر ، أو ضمير القصة. و (لَظى) علم للنار ، منقول من اللظى : بمعنى اللهب. ويجوز أن يراد اللهب. و (نَزَّاعَةً) خبر بعد خبر لأنّ ، أو خبر للظى إن كانت الهاء ضمير القصة ، أو صفة له إن أردت اللهب ، والتأنيث لأنه في معنى النار. أو رفع على التهويل ، أى : هي نزاعة. وقرئ نزاعة ، بالنصب على الحال المؤكدة ، أو على أنها متلظية نزاعة ، أو على الاختصاص للتهويل. والشوى : الأطراف. أو جمع شواة : وهي جلدة الرأس تنزعها نزعا فتبتكها (١) ثم تعاد (تَدْعُوا) مجاز عن إحضارهم ، كأنها تدعوهم فتحضرهم. ونحوه قول ذى الرمّة :

...... تدعو أنفه الرّبب (٢)

__________________

(١) قوله «فتبتكها» أى : تقطعها. (ع)

(٢) أمسى بوهبين مجتازا لمرتعه

من ذى الفوارس تدعو أنفه الربب

لدى الرمة يصف ثورا وحشيا. ووهبين : اسم موضع ، وكذلك ذو الفوارس. والربب ـ بموحدتين ـ : جمع ربة وهي أول ما ينبت من الكلا. والدعاء : الطلب ، وهو هنا مجاز عن التسبب في الأمر ، لأن النبات الصغير سبب في وصول أنفه للأرض ، ليرعاه. ويجوز تشبيه الربب بالداعي ، والدعاء تخييل ، ثم يحتمل أن مرتعه من ذى الفوارس ويحتمل أنه سار من ذى الفوارس إلى وهبين. ويروى : مختارا ، أى : متخيرا ومتطلبا خير المراتع.

٦١٠

وقوله :

ليالي اللهو يطبينى فأتبعه (١)

وقول أبى النجم :

تقول للرّائد أعشبت أنزل (٢)

وقيل : تقول لهم : إلىّ إلىّ يا كافر يا منافق. وقيل : تدعو المنافقين والكافرين بلسان فصيح. ثم تلتقطهم التقاط الحب ، فيجوز أن يخلق الله فيها كلاما كما يخلقه في جلودهم وأيديهم وأرجلهم ، وكما خلقه في الشجرة (٣) ويجوز أن يكون دعاء الزبانية. وقيل : تدعو تهلك ، من قول العرب : دعاك الله ، أى : أهلكك. قال

دعاك الله من رجل بأفعى (٤)

(مَنْ أَدْبَرَ) عن الحق (وَتَوَلَّى) عنه (وَجَمَعَ) المال فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤدّ الزكاة والحقوق الواجبة فيه ، وتشاغل به عن الدين ، وزهى باقتنائه وتكبر.

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة ١٩١ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ١٦٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٣) قوله «وكما خلقه في الشجرة» على زعم المعتزلة أنه تكليم الله موسى ، كأنه كذلك. وعند أهل السنة أنه أطلعه على كلامه القديم القائم بذاته تعالى. (ع)

(٤) دعاك الله من رجل بأفعي

ضئيل تنفث السم الذعافا

دعاك ، أى : أهلك الله بأفعى ؛ يقال : دعاه الله بالمكروه : أنزله به ، ومن رجل : ؛ بيان واقع موقع الحال ، أو تمييز مقترن بمن. لأن ما قبله فيه معنى التعجب ، فيحتاج لتمييز جهة التعجب. وقال بعض النحاة : قد يجيء التمييز لمجرد التوكيد ، فيكون هذا منه ، بأفعى بالتنوين : اسم للحية. وقيل ممنوع من الصرف ، لأنه صفة للحية الشديدة السم ، والذعاف : أى الشديد القاتل ، ضئيل : ضعيفة مهزولة. والنفث : إخراج النفس مع بلل ، وهو هنا إخراج السم الذعاف كغراب : المسرع القتل. ويحتمل أن «دعاك الله» من باب المجاز ، كأن الله دعاه؟؟؟ لقتله بالأفعى. أو طلبه بأفعى أرسلها إليه لتحضره بإهلاكه. وخص المهزولة لأنها أشد إيذاء من غيرها ، وقال ضئيل ، مع أن موصوفه مؤنث على حد : إن رحمة الله قريب ، والمذكر : أفعوان. ويروى «ينفث» على أن الأفعى واحد من الجنس فهو مذكر.

٦١١

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)(٣٥)

أريد بالإنسان الناس ، فلذلك استثنى منه إلا المصلين. والهلع : سرعة الجزع عند مسّ المكروه وسرعة المنع عند مسّ الخير ، من قولهم : ناقة هلواع سريعة السير. وعن أحمد بن يحيى قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر : ما الهلع؟ فقلت : قد فسره الله ، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدّة الجزع ، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس. والخير : المال والغنى ، والشرّ : الفقر. أو الصحة والمرض : إذا صحّ الغنى منع المعروف وشحّ بماله ، وإذا مرض جزع وأخذ يوصى. والمعنى : إن الإنسان لإيثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه ورسوخهما فيه ، كأنه مجبول عليهما مطبوع (١) ، وكأنه أمر خلقي وضروري غير اختيارى ، كقوله تعالى (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) والدليل عليه أنه حين كان في البطن والمهد لم يكن به هلع ، ولأنه ذمّ والله لا يذمّ فعله ، والدليل عليه : استثناء المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم وحملوها على المكاره وظلّفوها عن الشهوات ، (٢) حتى لم يكونوا جازعين ولا مانعين. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «شرّ ما أعطى ابن آدم شحّ هالع وجبن (٣) خالع» فإن قلت : كيف قال (عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) ثم على صلاتهم يحافظون؟ قلت : معنى دوامهم عليها أن يواظبوا على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل ، كما روى عن النبي صلى الله عليه

__________________

(١) قال محمود : «المعنى أن الإنسان لايثاره الجزع والمنع ورسوبهما فيه كأنه ... الخ» قال أحمد : هو يشرك باطنا وينزه ظاهرا ، فينفى كون الهلع الذي هو موجود للآدمي مخلوقا لله تعالى تنزيها له عن ذلك ، ويثبت خالقا مع الله ، ويتغافل عن اقتضاء نظم الآية لذلك ، فإنك إذا قلت : بريت القلم رقيقا ، فقد نسبت إليك الحال وهو ترقيقه ، كما نسب إليك البرى ، وكذلك الآية. وأما قوله : والله لا يذم خلقه ، فالله تعالى له الحمد على كل حال ، وإنما المذموم العبد بحجة أنه جعل فيه اختيارا يفرق بالضرورة بين الاختياريات والقسريات ألا لله الحجة البالغة والله أعلم.

(٢) قوله : «وظلفوها عن الشهوات» في الصحاح : ظلف نفسه عن الشيء ، أى : منعها من أن تفعله أو تأتيه. (ع)

(٣) أخرجه أبو داود وابن حبان وأحمد وإسحاق والبزار كلهم من طريق عبد العزيز بن مروان : سمعت أبا هريرة بهذا ، لكن قال «شر ما في الرجل»

٦١٢

وسلم «أفضل العمل أدومه وإن قلّ» (١) وقول عائشة : كان عمله ديمة (٢). ومحافظتهم عليها : أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها ويقيموا أركانها ويكملوها بسنتها وآدابها ، ويحفظوها من الإحباط (٣) باقتراف المآثم ، فالدوام يرجع إلى أنفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها (حَقٌّ مَعْلُومٌ) هو الزكاة ، لأنها مقدرة معلومة ، أو صدقة يوظفها الرجل على نفسه يؤديها في أوقات معلومة. السائل : الذي يسأل (وَالْمَحْرُومِ) الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنيا فيحرم (يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) تصديقا بأعمالهم واستعدادهم له ، ويشفقون من عذاب ربهم. واعترض بقوله (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أى لا ينبغي لأحد وان بالغ في الطاعة والاجتهاد أن يأمنه. وينبغي أن يكون مترجحا بين الخوف والرجاء. قرئ : بشهادتهم وبشهاداتهم. والشهادة من جملة الأمانات. وخصها من بينها إبانة لفضلها ، لأنّ في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها. وفي زيها : تضييعها وإبطالها.

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)(٤٤)

كان المشركون يحتفون حول النبي صلى الله عليه وسلم حلقا حلقا وفرقا فرقا ، يستمعون ويستهزءون بكلامه ، ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم ، فنزلت (مُهْطِعِينَ) مسرعين نحوك ، مادّى أعناقهم إليك ، مقبلين بأبصارهم عليك (عِزِينَ) فرقا

__________________

(١) متفق عليه من حديث عائشة.

(٢) متفق عليه من حديثها رضى الله عنها.

(٣) قال محمود : «أى لا يتركونها في وقت ولا يحبطونها ... الخ» قال أحمد : حفظها من الإحباط نص عند أهل السنة على حفظها من الكفر خاصة ، فلا يحبط ما سواء خلافا للقدرية ، وقد تقدمت أمثاله والله أعلم.

٦١٣

شتى جمع عزة ، وأصلها عزوة ، كأن كل فرقة تعتزى إلى غير من تعتزى إليه الأخرى ؛ فهم مفترقون. قال الكميت :

ونحن وجندل باغ تركنا

كتائب جندل شتّى عزينا (١)

وقيل : كان المستهزءون خمسة أرهط (كَلَّا) ردع لهم عن طمعهم في دخول الجنة ، ثم علل ذلك بقوله (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) إلى آخر السورة ، وهو كلام دال على إنكارهم البعث ، فكأنه قال : كلا إنهم منكرون للبعث والجزاء ، فمن أين يطمعون في دخول الجنة؟ فإن قلت : من أى وجه دل هذا الكلام على إنكار البعث؟ قلت : من حيث أنه احتجاج عليهم بالنشأة الأولى ، كالاحتجاج بها عليهم في مواضع من التنزيل ، وذلك قوله (خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أى من النطف ، وبالقدرة على أن يهلكهم ويبدل ناسا خيرا منهم ، وأنه ليس بمسبوق على ما يريد تكوينه لا يعجزه شيء ، والغرض أن من قدر على ذلك لم تعجزه الإعادة. ويجوز أن يراد : إنا خلقناهم مما يعلمون ، أى : من النطفة المذرة ، وهي منصبهم الذي لا منصب أوضع منه. ولذلك أبهم وأخفى : إشعارا بأنه منصب يستحيا من ذكره ، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم ويقولون : لندخلن الجنة قبلهم. وقيل : معناه إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بنى آدم كلهم ، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد منهم الجنة إلا بالإيمان والعمل الصالح ، فلم يطمع أن يدخلها من ليس له إيمان وعمل. وقرئ : برب المشرق والمغرب. ويخرجون ، ويخرجون. ومن الأجداث سراعا ، بالإظهار والإدغام. ونصب ، ونصب : وهو كل ما نصب فعبد من دون الله (يُوفِضُونَ) يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة سأل سائل أعطاه الله ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون» (٢).

__________________

(١) الكميت. والكتائب : جمع كتيبة وهي الجماعة. وشتى : جمع شتيت ، كمرضى ومريض ، وعزين : جمع عزة ، أصلها عزو ، فعوضت التاء عن الواو ، من عزاه إلى كذا ، أى : نسبه إليه ، لأن بعضها ينتسب إلى بعض. أو لأنها تنتسب إلى رئيسها. أو إلى أصلها الأعلى ، وهذا كناية عن قتله مع كثرة جيشه.

(٢) أخرجه الثعلبي والراحدى وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب ،

٦١٤

سورة نوح

مكية ، وهي ثمان وعشرون آية [نزلت بعد النحل]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٤)

(أَنْ أَنْذِرْ) أصله : بأن أنذر ، فحذف الجار وأوصل الفعل : وهي أن الناصبة للفعل ، والمعنى : أرسلناه بأن قلنا له أنذر ، أى : أرسلناه بالأمر بالإنظار. ويجوز أن تكون مفسّرة ، لأنّ الإرسال فيه معنى القول. وقرأ ابن مسعود : أنذر بغير «أن» على إرادة القول. و (أَنِ اعْبُدُوا) نحو (أَنْ أَنْذِرْ) في الوجهين. فإن قلت : كيف قال (وَيُؤَخِّرْكُمْ) مع إخباره بامتناع تأخير الأجل ، وهل هذا إلا تناقض؟ قلت : قضى الله مثلا أنّ قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة ، فقيل لهم : آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى ، أى : إلى وقت سماه الله وضربه أمدا تنتهون إليه لا تتجاوزونه ، وهو الوقت الأطول تمام الألف. ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ، ولم تكن لكم حيلة ، فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ

٦١٥

كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً)(٢٠)

(لَيْلاً وَنَهاراً) دائبا من غير فتور مستغرقا به الأوقات كلها (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي) جعل الدعاء فاعل زيادة الفرار. والمعنى على أنهم ازدادوا عنده فرارا ، لأنه سبب الزيادة. ونحوه (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) ، (فَزادَتْهُمْ إِيماناً)(لِتَغْفِرَ لَهُمْ) ليتوبوا عن كفرهم فتغفر لهم ، فذكر المسبب الذي هو حظهم خالصا ليكون أقبح لإعراضهم عنه. سدّوا مسامعهم عن استماع الدعوة (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) وتغطوا بها ، كأنهم طلبوا أن تغشاهم ثيابهم ، أو تغشيهم لئلا يبصروه كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله. وقيل : لئلا يعرفهم ، ويعضده قوله تعالى (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ). الإصرار : من أصر الحمار على العانة (١) إذا صرّ أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها : استعير للإقبال على المعاصي والإكباب عليها (وَاسْتَكْبَرُوا) وأخذتهم العزة من (٢) اتباع نوح وطاعته ، وذكر المصدر تأكيد ودلالة على فرط استقبالهم وعتوهم. فإن قلت : ذكر أنه دعاهم ليلا ونهارا ، ثم دعاهم جهارا ، ثم دعاهم في السرو العلن ، فيجب أن تكون ثلاث دعوات مختلفات حتى يصح العطف. قلت : قد فعل عليه الصلاة والسلام كما يفعل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر : في الابتداء بالأهون والترقي في الأشد فالأشد ، فافتتح بالمناصحة في السر ، فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة ، فلما لم تؤثر ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان. ومعنى (ثُمَ) الدلالة على تباعد الأحوال ، لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين ، أغلظ من إفراد أحدهما. و (جِهاراً)

__________________

(١) قوله «من أصر الحمار على العانة» هي القطيع من حمر الوحش ، والكدم : العض بأدنى الفم. أفاده الصحاح. وفيه : صر الفرس أذنيه ضمها إلى رأسه ، فإذا لم يوقعوا قالوا : أصر الفرس بالألف اه ، يعنى : إذا لم يجعلوا الفعل متعديا إلى مفعول. (ع)

(٢) قوله «وأخذتهم العزة من اتباع نوح» لعله : عن. (ع)

٦١٦

منصوب بدعوتهم ، نصب المصدر لأنّ الدعاء أحد نوعيه الجهار ، فنصب به نصب القرفصاء بقعد ، لكونها أحد أنواع القعود. أو لأنه أراد بدعوتهم جاهرتهم. ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا ، بمعنى دعاء جهارا ، أى : مجاهرا به. أو مصدرا في موضع الحال ، أى : مجاهرا. أمرهم بالاستغفار الذي هو التوبة عن الكفر والمعاصي ، وقدّم إليهم الموعد بما هو أوقع في نفوسهم وأحبّ إليهم من المنافع الحاضرة والفوائد العاجلة ، ترغيبا في الإيمان وبركاته والطاعة ونتائجها من خير الدارين ، كما قال (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ) ، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ) ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ) ، (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ) وقيل : لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة : حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة. وروى : سبعين. فوعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله تعالى الخصب ودفع عنهم ما كانوا فيه. وعن عمر رضى الله عنه : أنه خرج يستسقى ، فما زاد على الاستغفار ، فقيل له : ما رأيناك استسقيت! فقال : لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر (١). شبه الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطئ. وعن الحسن : أنّ رجلا شكا إليه الجدب فقال. استغفر الله ، وشكا إليه آخر الفقر ، وآخر قلة النسل ، وآخر قلة ريع أرضه ، فأمرهم كلهم بالاستغفار ، فقال له الربيع بن صبيح : أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا ، فأمرتهم كلهم بالاستغفار! فتلا له هذه الآية. والسماء : المظلة ؛ لأنّ المطر منها ينزل إلى السحاب ، ويجوز أن يراد السحاب أو المطر ، من قوله.

إذا نزل السّماء بأرض قوم (٢)

والمدرار : الكثير الدرور ، ومفعال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث ، كقولهم : رجل أو امرأة معطار ومتفال (جَنَّاتٍ) بساتين (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) لا تأملون له توقيرا أى تعظيما. والمعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب (٣) ، (لِلَّهِ) بيان للموقر ،

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق وابن أبى شيبة والطبراني في الدعاء والطبري وغيرهم من رواية الشعبي : أن عمر ... بهذا وزاد : ثم قرأ (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) ورجاله ثقات ، إلا أنه منقطع.

(٢) إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

تطلق السماء على المظلة ، وعلى السحاب ، وعلى المطر كما هنا ، لما فيه من السمو والارتفاع ، وتطلق على النبات مجازا ، لأن المطر سببه ، فلذلك قال : رعيناه ، ففي الكلام استخدام ، حيث أطلق السماء بمعنى ، وأعاد عليها الضمير بمعنى آخر ، والغضاب : جمع غضبان والمعنى : أننا شجعان دون غيرنا.

(٣) قال محمود : «ما لكم لا تكونون على حال يكون فيها تعظيم الله تعالى ... الخ» قال أحمد : وهذا التفسير يبقى الرجاء على بابه الخ.

٦١٧

ولو تأخر لكان صلة للوقار. وقوله (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) في موضع الحال ، كأنه قال : ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه وهي حال موجبة للإيمان به ، لأنه خلقكم أطوارا : أى تارات : خلقكم أوّلا ترابا ، ثم خلقكم نطفا ، ثم خلقكم علقا ، ثم خلقكم مضغا ، ثم خلقكم عظاما ولحما ، ثم أنشأكم خلقا آخر. أو لا تخافون لله حلما وترك معاجلة العقاب فتؤمنوا؟ وقيل : ما لكم لا تخافون لله عظمة؟ وعن ابن عباس : لا تخافون لله عاقبة ، لأن العاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب ، من «وقر» إذا ثبت واستقرّ. نبههم على النظر في أنفسهم أوّلا ، لأنها أقرب منظور فيه منهم ، ثم على النظر في العالم وما سوّى فيه من العجائب الشاهدة على الصانع الباهر قدرته وعلمه من السماوات والأرض والشمس والقمر (فِيهِنَ) في السماوات ، وهو في السماء الدنيا ، لأنّ بين السماوات ملابسة من حيث أنها طباق (١) فجاز أن يقال : فيهنّ كذا ، وإن لم يكن في جميعهنّ ، كما يقال : في المدينة كذا وهو في بعض نواحيها. وعن ابن عباس وابن عمر رضى الله عنهما : أنّ الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء وظهورهما مما يلي الأرض (٢) (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره ، والقمر ليس كذلك ، إنما هو نور لم يبلغ قوّة ضياء الشمس. ومثله قوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) والضياء : أقوى من النور. استعير الإنبات للإنشاء ، كما يقال : زرعك الله للخير ، وكانت هذه الاستعارة أدلّ على الحدوث (٣) ، لأنهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات : ومنه قيل للحشوية : النابتة والنوابت ، لحدوث مذهبهم في الإسلام من غير أوّلية لهم فيه (٤). ومنه قولهم : نجم فلان لبعض المارقة. والمعنى :

أنبتكم فنبتم نباتا. أو نصب بأنبتكم لتضمنه معنى نبتم (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) مقبورين ثم (يُخْرِجُكُمْ) يوم القيامة ، وأكده بالمصدر كأنه قال يخرجكم حقا ولا محالة. جعلها بساطا مبسوطة تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه (فِجاجاً) واسعة منفجة.

__________________

(١) قال محمود : «وإنما هو في السماء الدنيا لأن بين السماوات وبين السماء الدنيا مناسبة» قال أحمد : ويلاحظ (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ).

(٢) حديث ابن عباس موقوف ، أخرجه ابن مردويه في يونس من رواية حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عنه بهذا. بلفظ «وأقفيتهما إلى الأرض» وروى الحاكم منه ذكر القمر حسب. وحديث ابن عمر رضى الله عنهما مثله» أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : قال عبد الله بن عمر : فذكره موقوفا. وروى الطبري من طريق هشام الدستوائى عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمر. «تنبيه» وقع في الأصل ابن عمر مصحف. وإنما هو عمر ورضى الله عنهما.

(٣) قوله «أدل على الحدوث» لعله : أدل دليل على الحدوث. (ع)

(٤) قوله «من غير أولية لهم فيه» إن كان مراده بالحشوية أهل السنة ، فأوليتهم في مذهبهم : الكتاب والسنة.(ع)

٦١٨

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً)(٢٤)

(وَاتَّبَعُوا) رؤسهم المقدمين أصحاب الأموال والأولاد ، وارتسموا ما رسموا لهم من التمسك بعبادة الأصنام ، وجعل أموالهم وأولادهم التي لم تزدهم إلا وجاهة ومنفعة في الدنيا زائدة (خَساراً) في الآخرة ، وأجرى ذلك مجرى صفة لازمة لهم وسمة يعرفون بها ، تحقيقا له وتثبيتا ، وإبطالا لما سواه. وقرئ : وولده بضم الواو وكسرها (وَمَكَرُوا) معطوف على لم يزده ، وجمع الضمير وهو راجع إلى من ، لأنه في معنى الجمع والماكرون : هم الرؤساء. ومكرهم : احتيالهم في الدين وكيدهم لنوح ، وتحريش الناس على أذاه ، وصدّهم عن الميل إليه والاستماع منه. وقولهم لهم : لا تذرون آلهتكم إلى عبادة رب نوح (مَكْراً كُبَّاراً) قرئ بالتخفيف والتثقيل. والكبار : أكبر من الكبير. والكبار : أكبر من الكبار ، ونحوه : طوال وطوّال (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا) كأن هذه المسميات كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم ، فخصوها بعد قولهم (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى العرب ، فكان ودّ لكلب ، وسواع لهمدان ، ويغوث لمذحج ، ويعوق لمراد ، ونسر لحمير ، ولذلك سمت العرب بعبد ودّ وعبد يغوث. وقيل هي أسماء رجال صالحين. وقيل : من أولاد آدم ماتوا ، فقال إبليس لمن بعدهم : لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم ، ففعلوا ، فلما مات أولئك قال لمن بعدهم : إنهم كانوا يعبدونهم ، فعبدوهم. وقيل : كان ودّ على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر. وقرئ : ودّا ، بضم الواو. وقرأ الأعمش : ولا يغوثا ويعوقا ، بالصرف ، وهذه قراءة مشكلة ، لأنهما إن كانا عربيين أو عجميين ففيهما سببا منع الصرف : إما التعريف ووزن الفعل ، وإما التعريف والعجمة ، ولعله قصد الازدواج فصرفهما ، لمصادفته أخواتهما منصرفات ودا وسواعا ونسرا ، كما قرئ : وضحاها بالإمالة ، لوقوعه مع الممالات للازدواج (وَقَدْ أَضَلُّوا) الضمير للرؤساء. ومعناه : وقد أضلوا (كَثِيراً) قبل هؤلاء الموصين بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام ليسوا بأوّل من أضلوهم. أو وقد أضلوا بإضلالهم كثيرا ، يعنى أنّ هؤلاء المضلين فيهم كثرة. ويجوز أن يكون للأصنام ، كقوله تعالى (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ). فإن قلت : علام عطف قوله (وَلا تَزِدِ

٦١٩

الظَّالِمِينَ)؟ قلت : على قوله (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد (قالَ) وبعد الواو النائبة عنه : ومعناه : قال رب إنهم عصوني ، وقال : لا تزد الظالمين إلا ضلالا ، أى : قال هذين القولين وهما في محل النصب ، لأنهما مفعولا «قال» كقولك : قال زيد نودي للصلاة وصل في المسجد ، تحكى قوليه معطوفا أحدهما على صاحبه. فإن قلت : كيف جاز أن يريد لهم الضلال ويدعو الله بزيادته؟ قلت : المراد بالضلال : أن يخذلوا (١) ويمنعوا الألطاف (٢) ، لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم ، وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به ، بل لا يحسن الدعاء بخلافه. ويجوز أن يريد بالضلال : الضياع والهلاك ، لقوله تعالى (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً).

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً)(٢٧)

تقديم (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان ، فإدخالهم النار إلا من أجل خطيئاتهم ، وأكد هذا المعنى بزيادة «ما» وفي قراءة ابن مسعود : من خطيئاتهم ما أغرقوا ، بتأخير الصلة ، وكفى بها مزجرة لمرتكب الخطايا ، فإن كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم ، وإن كانت كبراهنّ. وقد نعيت عليهم سائر خطيئاتهم كما نعى عليهم كفرهم ، ولم يفرق بينه وبينهن في استيجاب العذاب ، لئلا يتكل المسلم الخاطئ على إسلامه ، ويعلم أنّ معه ما يستوجب به العذاب وإن خلا من الخطيئة الكبرى. وقرئ : خطيئاتهم بالهمزة. وخطياتهم بقلبها ياء وإدغامها. وخطاياهم. وخطيئتهم. بالتوحيد على إرادة الجنس. ويجوز أن يراد الكفر (فَأُدْخِلُوا ناراً) جعل دخولهم النار في الآخرة كأنه متعقب لإغراقهم ، لاقترابه ، ولأنه كائن لا محالة ، فكأنه قد كان. أو أريد عذاب القبر. ومن مات في ماء أو في نار أو أكلته السباع والطير : أصابه ما يصيب المقبور من العذاب. وعن الضحاك : كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب. وتنكير النار إما لتعظيمها ، أو لأن الله أعد لهم على حسب خطيئاتهم نوعا من النار (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله وأنها غير قادرة

__________________

(١) قوله «يخذلوا ويمنعوا مبنى على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يريد الشر ولا يفعله ، وأجيب : بأنه إنما دعا عليهم بذلك بعد أن أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون ، حيث قال له : إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن. وهذا على مذهب أهل السنة الذين أجازوا أنه تعالى يفعل الشر كخلق الضلال في القلب ، لأن فعله لا يخلو عن حكمة. (ع)

(٢) قال محمود : «كيف جاز أن يريد الضلال ، وأجاب بأن المراد به منع الألطاف» قلت : هذا على قاعدته.

٦٢٠